ترجمة ابن المقفع

هذا ما اخترنا تلخيصه عن وفيات الأعيان في أمر صاحب هذه الرسالة، فهو عبد الله بن المقفع الكاتب المشهور بالبلاغة، صاحب الرسائل البديعة، وهو من أهل فارس، وكان مجوسيًّا فأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور العباسيَّيْن، ثم كتب له واختص به، ومن كلامه: «شربت الخطب ريًّا، ولم أضبط لها رويًّا، ففاضت بما فاضت، فلا هي نظامًا، وليست غيرها كلامًا.» قال الهيثم بن عدي: جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر، ثم حضر طعام عيسى عشية فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم١ على عادة المجوس، فقال له: أتُزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: كرهت أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده. وكان ابن المقفع مع فضله يُتَّهم بالزندقة، فحكى الجاحظ أن ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، كانوا يُتَّهمون في دينهم. قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه؟ وقال الأصمعي: قيل لابن المقفع: مَن أدَّبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإن رأيت قبيحًا أبيته. واجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد صاحب العَروض، فلمَّا افترقا قيل للخليل: كيف رأيتَه؟ قال: عِلمه أكثر من عَقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيتَ الخليل؟ فقال: عقله أكثر من علمه. ويقال إن ابن المقفَّع هو الذي وضع كتاب «كليلة ودمنة». وقيل إنه لم يضعه وإنما كان بالفارسية فنقله إلى العربية، وإن الكلام الذي في أول هذا الكتاب من كلامه. وقال الأصمعي: صنَّف ابن المقفع كثيرًا من المصنفات الحسان، منها الدرة اليتيمة التي لم يُصنَّف في فنِّها مثلها.

هذا وكان ابن المقفع يعبث بسفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، أمير البصرة، وينال من عِرضه، وكثر ذلك منه. وذكر الهيثم بن عدي أنه كان يستخف بسفيان كثيرًا، وكان أنف سفيان كبيرًا، فكان دخل عليه فقال: السلام عليكما. يعني نفسه وأنفه. وقال له يومًا: ما تقول في شخص مات وخلف زوجًا وزوجة؟ يسخر به. وقال سفيان يومًا: ما ندمت على سكوتٍ قطُّ. فقال ابن المقفع: الخرس زين لك، فكيف تندم عليه؟ فكان سفيان هذا شديد الحنق عليه يترقَّب فرصة لقتله. وكان عبد الله بن علي العباسي قد خرج على ابن أخيه المنصور؛ فأرسل إليه المنصور جيشًا مقدمه أبو مسلم الخرساني فانتصر عليه، وهرب عبد الله بن علي إلى أخويه سليمان وعيسى فاستتر عندهما، فتوسَّطا له عند المنصور فقَبِل شفاعتهما فيه، واتفقوا على أن يكتب له أمانًا، وهذه الواقعة مشهورة في التواريخ، فلما أن أتيا البصرة قالا لعبد الله بن المقفع اكتب أنت، وبالغ في التأكيد؛ كيلا يقتله المنصور، فكتب ابن المقفع الأمان وشدَّد فيه، حتى قال في جملة فصوله: «ومتى غدَر أمير المؤمنين بعمه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلٍّ من بيعه.» وكان ابن المقفع يتنوع في الشروط، فلما وقف عليه المنصور عظُم ذلك عليه وقال: مَن كتب هذا؟ فقالوا: رجل يقال له: عبد الله بن المقفع يَكتب لأعمامك، فكتب إلى سفيان مُتولِّي البصرة (المتقدم ذكره) يأمره بقتلِه، وكان صدْر سفيان موغرًا منه فقتله شر قتلة. واختلفت الروايات في كيفية قتله، فقيل: إنه أمَر بتنور فسُجر، ثم أمر به فقُطِعت أطرافه عضوًا عضوًا، وهو يُلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده. وقيل: ألقاه في بئر الخرج وردَم عليه الحجارة، وقيل: بل أدخله حمامًا، وأغلق عليه الباب فاختنق. وسأل سليمان وعيسى عنه، فقيل: إنه دخل دار سفيان سليمًا ولم يخرج منها، فخاصَماه إلى المنصور وأحضراه إليه مقيدًا، وحضَّروا الشهود الذين شهدوا، وقد دخل داره ولم يَخرُج، فأقاموا الشهادة عند المنصور، فقال لهم المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر. ثم قال: أرأيتم إن قَتلتُ سفيان به، ثم خرج المقفَّع من هذا البيت (وأشار إلى بابٍ خلفه)، وخاطبكم، ما تروني فاعلًا بكم؟ أفأقتُلُكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قَتله كان يُرضي المنصور. ويقال إنه عاش ستًّا وثلاثين سنة، وكان قتله سنة اثنتين وأربعين ومائة، وقيل سنة خمسٍ وأربعين سنة، وقيل إن سليمان بن علي العباسي تُوفِّي سنة اثنتين وأربعين، وعلى هذا تكون الرواية الأولى هي الصحيحة، ولابن المقفع شعرٌ مذكورٌ في كتاب الحماسة. والمقفع بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء وفتحها، واسمه دادويه، وكان الحجاج ولاه خراج فارس، فمد يده إلى الأموال، فعذبه فتقفَّعت يداه، فسُمِّي بذلك، وقيل بل ولاه خالد بن عبد الله القسري، وعذبه يوسف بن عبد الله بن عمر الثقفي لما تولى العراق بعد خالد. وقال ابن مكي في كتاب تثقيف اللسان: «ويقولون ابن المُقَفَّع، والصواب بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع ويبيعها، والقفاع بكسر القاف جمع قَفعة بفتح القاف: شيء يعمل من الخوص شبيه بالزنبيل لكنه بغير عروة.» والقول الأول هو المشهور بين العلماء (انتهى بتصرف).

شكيب أرسلان
١  الزمزمة: تراطن العلوج على أكلهم وهم صموت لا يستعملون لسانًا ولا شفةً، ولكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها، فيفهم بعضها عن بعض (القاموس).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤