مقدمة

ثلاثة قرون طويلة خضعت مصر فيها للحكم العثماني، وفي هذه القرون كانت بلدان الشرق الأدنى — ومن بينها مصر — تنعم بسُبات عميق، وفي إبان هذا السبات تأخرتْ نواحي حياتها الحربية والعلمية والصحية والاقتصادية.

وفي هذه القرون بالذات نهضت الدول الأوروبية نهضةً قويةً سريعة، انتقلتْ بها من ظلام العصور الوسطى وجهلها إلى نور العصور الحديثة وعلمها.

وكان من المُمكن أن تفيد مصر من هذه النهضة لو أنها حافظت على صِلاتها القديمة بالعالم الأوروبي، ولكنَّ هذا الحكم العثماني قَطع هذه الصِّلات، فلبثتْ مصر طول هذه القرون تعيش — كما كان يعيش صوفيُّوها ومُريدوهم في ذلك العصر — في زاوية، أو رباط، أو خانقاه من حدودها.

وفي السنة الأخيرة من القرن الثامن عشر وفَدتْ على مصر الحملة الفرنسية تحمل إليها كلَّ جديدٍ في الغرب، وكانت هزَّة عنيفة أيقظت الكنانة النائمة. ومنذ هذه السنة بدأت مصر تتَّصل بالغرب.

وقد آمن محمد علي منذ وُلِّي عرش مصر بأن سرَّ عظمة الغرب وتقدُّمه هو هذا العلم الجديد؛ ولهذا بذَل الجهد كلَّ الجهد لنقل هذا العلم إلى مصر والمصريين، فأنشأ المدارس، واستدعى الأساتذة الأوروبيين، وأوفَدَ البعوث إلى الخارج، وبدأ حركة الترجمة الواسعة لنقل العلوم الأوروبية إلى اللغة العربية.

ورفاعة رافع الطهطاوي هو أنبغ المصريين الذين بُعثوا إلى أوروبا، وقد كانت له بعد عودته جهود محمودة في حياة مصر الثقافية؛ ممَّا يجعله بحقٍّ زعيمًا لنهضتنا الفكرية في ذلك العصر.

وحياة رِفاعة تُوحي إلينا بأمورٍ كثيرة يجبُ أن نأخذ بها ونحن نستكمل نهضتنا الثقافية: أولها وأهمُّها أننا يجب ألا نأخذ شبابنا بإحدى الثقافتين — الشرقية والغربية — دون الأخرى، بل يجب أن نأخذه بالثقافتين معًا. وثانيهما: أننا يجب أن نُضاعِف العناية بالترجمة والنشر وألا نقصُر عنايتنا على التأليف وحده.

وهذا الكتاب — وإن كان أول كتاب يُكتَب عن رِفاعة — لازالت بعض فصوله — في رأيي — تحتاج إلى زيادة في البحث، واستيفاء في العرض، مما أرجو أن أُوفَّق إليه في المستقبل إن شاء الله.

وقد رجَعتُ عند وضع هذا الكتاب إلى كلِّ ما كُتِب عن رفاعة، وإلى مُعظم المصادر العربية والأجنبية التي أرَّخت لنهضتنا الحديثة، فهو نتيجة لجهدٍ علميٍّ شاقٍّ طويل. غير أنني آثرتُ أن أعرض هذا العرض المبسَّط، واكتفيتُ بذكر قائمة كاملة بالمراجع في نهايته ليرجع إليها من شاء الاستزادة.

كما أنني أرى من واجبي أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي الدكتور أحمد عزت عبد الكريم مدرس التاريخ الحديث بجامعة فؤاد الأول، فقد أفدت الكثير من كتابه القيِّم عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي، كما أنه تفضَّل وسمح لي بالاطِّلاع على كتابه — الذي لم يُطبَع بعدُ — عن تاريخ التعليم في عصور عباس وسعيد وإسماعيل.

جمال الدين الشيال
الإسكندرية
في شوال ١٣٦٤ﻫ/سبتمبر ١٩٤٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤