رفاعة

٤٤

أوشك الفجر أن يطلع، وأوى إلى المضاجع كل حي في الحارة حتى الفتوات والكلاب والقطط. واستقرَّ الظلام بالأركان كأنه لن يبرح أبدًا. وفي رعاية الصمت الشامل فُتِح باب ربع النصر بحي آل جبل في حذرٍ شديد، فتسلل منه شبحان، سارا في سكون نحو البيت الكبير، ثم تابعا سوره العالي إلى الخلاء. نقلا خطواتهما في حذر، وجعلا يتلفتان وراءهما من حين إلى حين؛ ليطمئنا إلى أن أحدًا لا يتبعهما، وأوغلا في الخلاء مهتدين بنور النجوم المتناثرة، حتى تبينا صخرة هند كقطعة من ظلام أشد كثافة مما حوله. كانا رجلًا في أواسط العمر وامرأة شابة حبلى، وكلاهما يحمل بقجةً مكتظة. وعند الصخرة تنهدت المرأة وقالت بإعياء: عم شافعي، تعبت.

فتوقف الرجل عن المسير وهو يقول في غيظ: استريحي، ربنا يتعب المتعب!

وضعت المرأة البقجة على الأرض وجلست عليها مفرجة ما بين فخذيها لتريح بطنها المنداحة، ووقف الرجل لحظة ينظر فيما حوله، ثم جلس على بقجة أيضًا. وهبَّت عليهما نسائم معبقة بأنفاس الفجر الرطيبة، لكن المرأة لم تغفل عما يشغلها فتساءلت: أين سألد يا ترى؟

فقال شافعي ساخطًا: أي مكان يا عبدة خير من حارتنا اللعينة.

ورفع عينيه إلى شبح الجبل الممتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وقال: سنذهب إلى سوق المقطم؛ إليه قصد جبل أيام محنته، وسأفتح دكان نجارة وأعمل كما كنت أعمل في الحارة، لي يدان تدرَّان الذهب، ومعي نقود للبدء لا بأس بها.

شدت المرأة خمارها حول رأسها ومنكبيها وقالت بحزن: سنعيش في غربة كمن لا أهل له، ونحن من آل جبل أسياد الحارة!

فبصق الرجل متأففًا وقال محنقًا: أسياد الحارة؟! ما نحن إلا عبيد أذلاء يا عبدة، ذهب جبل وعهده الحلو، وجاء زنفل، أجحمه الله، فتوتنا وهو علينا لا لنا، يلتهم أرزاقنا ويفتك بمن يشكو.

لم تنكر عبدة شيئًا من قوله. كأنها ما زالت تعيش في أيام المرارة وليالي الأحزان، لكنها حين ضمنت الابتعاد عن مكاره الحارة؛ حنَّ قلبها إلى ذكرياتها الطيبة فقالت متحسرة: لا توجد حارة كحارتنا لولا أشرارها، أين تجد بيتًا كبيت جدنا؟ أو جيرانًا كجيراننا؟ أين تسمع حكايات أدهم وجبل وصخرة هند؟ ألا لعنة الله على الأشرار!

فقال الرجل بصوتٍ مرير: والنبابيت تهوى لأتفه سبب، وأصحاب الوجوه المستكبرة يختالون بيننا كالقضاء والقدر!

وذكر زنفل اللعين وكيف أخذ بتلابيبه، وهزَّه بعنف حتى كاد يقتلع ضلوعه، ثم مرغه في التراب أمام الخلق، لا لشيء إلا لأنه جعل مرة من الوقف حديثه! وضرب الأرض بقدمه واستطرد قائلًا: المجرم الملعون خطف وليد سيدهم بياع لحمة الرأس، ثم لم يسمع عن الوليد بعد ذلك أبدًا، لم تأخذه رحمة بطفل في شهره الأول، وتتساءلين أين سألد، ستلدين بين أناس لا يقتلون الأطفال.

فتنهدت عبدة وقالت برقَّة، كأنما لتخفف من مضمون حديثها: ليتك رضيت بما رضي به الآخرون!

فقطب غاضبًا وراء قناع الظلمة وقال: ماذا جنيت يا عبدة؟ لا شيء، كنت أتساءل أين جبل، وعهد جبل؟ أين القوة العادلة؟ ماذا أرجع آل جبل إلى الفاقة والذل؟ فحطم المجرم الملعون دكاني وضربني وكاد يفتك بي لولا الجيران، ولو بقينا ببيتنا حتى تلدي لانقضَّ على الوليد كما فعل بوليد سيدهم.

فهزَّت رأسها في حزن وقالت: آه لو صبرت يا معلم شافعي! ألم تسمعهم يقولون إن الجبلاوي لا بد أن يخرج يومًا من عزلته لينقذ أحفاده من الظلم والهوان؟

فنفخ المعلم شافعي طويلًا وقال بسخرية: هكذا يقولون! طالما سمعتهم مذ كنت غلامًا، لكن الحقيقة أن جدنا في البيت اعتزل، وأن ناظر وقفه بريع الوقف استأثر، إلا ما يهبه للفتوات نظير حمايته. وزنفل فتوة آل جبل يتسلم نصيبهم ليدفنه في بطنه، كأن جبل لم يظهر في هذه الحارة، وكأنه لم يأخذ عين صديقه دعبس بعين المسكين كعبلها.

وسكتت المرأة لتسبح في أمواج الظلام، سيطلع عليها الصباح بين قوم غرباء؛ سيكون الغرباء جيرانها الجدد، وتستقبل أيديهم وليدها، وينمو الوليد في أرضٍ غريبة كغصنٍ مقطوع من شجرة. وما كانت إلا قانعة في آل جبل تحمل الطعام إلى زوجها في الدكان. وتجلس في الليل وراء النافذة لتسمع رباب عم جواد الشاعر الضرير. ما أحلى الرباب وما أحلى قصة جبل! ليلة التقى الجبلاوي في الظلام فقال له ألَّا تخف، حيَّاه بالعطف والتأييد حتى انتصر، وعاد إلى حارته مجبور الخاطر، وما أحلى العودة بعد الاغتراب!

وكان شافعي يقلب وجهه في السماء، في النجوم الساهرة، ويرنو إلى طلائع الضياء فوق الجبل كسحابةٍ بيضاء في أفق سماءٍ مكفهرة. وقال محذرًا: ينبغي أن نسير كي نبلغ السوق قبيل الشروق.

– ما زلتُ في حاجة إلى الراحة.

– الله يتعب المتعب!

ما أجمل الحياة لولا وجود زنفل! الحياة عامرة بالخيرات والهواء النقي والسماء المرصعة بالنجوم والمشاعر الطيبة، ولكن فيها أيضًا ناظر الوقف؛ إيهاب، والفتوات؛ بيومي وجابر وحندوسة وخالد وبطيخة وزنفل. وفي الإمكان أن يصير كل ربع كالبيت الكبير وأن ينقلب الأنين ألحانًا، ولكن المساكين ما زالوا يتمنون المحال كما تمناه أدهم من قبلُ. ومَن هم المساكين؟ إنهم أقفية متورِّمة من الصفع، وأدبار ملتهبة من الركل، وأعين يرعاها الذباب، ورءوس يعشش فيها القمل.

– لماذا نسيَنا الجبلاوي؟

غمغمت المرأة: الله يعلم بحاله.

فصاح الرجل في حسرة وغضب: يا جبلاوي!

فردد الصدى صوته. وقام وهو يقول: توكلي على الله.

قامت عبدة، تناول كفها في يده، وسارا نحو الجنوب، نحو سوق المقطم.

٤٥

قالت عبدة بفرح تألق في عينَيها وثغرها: ها هي ذي حارتنا، وها نحن أولاء نعود إليها بعد غربة، فالحمد الله رب العالمين.

فابتسم عم شافعي وهو يجفف جبينه بكُم عباءته وقال برزانة: حقًّا ما أبهج العودة!

وكان رفاعة يصغي إلى والديه، ووجهه الصافي الجميل يعكس دهشةً ممزوجة بالحزن. فقال كالمحتج: وهل يُنسى سوق المقطم وجيرانه؟!

ابتسمت الأم وهي تحبك طرف الملاءة حول شعرها الذي وَخَطَهُ المشيب. أدركت أن الفتى يحن إلى مولده كما تحن هي إلى مولدها، وأنه بما جُبل عليه من رقَّة ومودة لا يستطيع أن يسلو الصداقات. وأجابته: الأشياء الطيبة لا تُنسى أبدًا، ولكن هذه هي حارتك الأصلية، هنا أهلك، سادة الحارة، ستحبهم وسيحبونك، ما أجمل حي آل جبل بعد وفاة زنفل!

فهتف عم شافعي محذرًا: لن يكون خنفس خيرًا من زنفل.

– لكن خنفس لا يضمر لك عداوة.

– عداوات الفتوات تنشأ بسرعة نشوء الطين عقب المطر.

فقالت عبدة برجاء: لا تفكِّر هكذا يا معلم، عدنا لنعيش في سلام، ستفتح الدكان وسيجيء الرزق. ولا تنسَ أنك عشت تحت سيطرة فتوة بسوق المقطم، ففي كل مكان فتوة يخضع له الناس.

واصلت الأسرة مسيرها نحو الحارة، يتقدمها عم شافعي حاملًا جوالًا، وتبعته عبدة ورفاعة حاملًا بقجةً ضخمة. وبدا رفاعة بقامته الطويلة وعوده النحيل ووجهه الوضاء فتًى جذاب المنظر ينضح بالوداعة والرقة، غريبًا في الأرض التي يسير فوقها. وتأملت عيناه ما حوله في شغف حتى انجذبتا إلى البيت الكبير الذي يقف عند رأس الحارة منفردًا، ورءوس الأشجار تهتز من فوق سوره. رنا إليه طويلًا ثم تساءل: بيت جدنا؟

فقالت عبدة بابتهاج: نعم، أرأيت ما حدثتك عنه؟ فيه جدك، صاحب هذه الأرض كلها وما عليها، الخير خيره والفضل فضله، ولولا عزلته لملأ الحارة نورًا.

وأكمل عم شافعي ساخرًا: وباسمه ينهب ناظر الوقف إيهاب حارتنا، ويعتدي الفتوات علينا.

تقدموا نحو الحارة محاذين للسور الجنوبي للبيت الكبير. لم ترتد عينا رفاعة عن البيت المغلق. ثم تراءى لهم بيت ناظر الوقف إيهاب وبوابه المقتعد أريكة عند بابه المفتوح. وفي مقابله قام بيت فتوة الحارة بيومي الذي وقفت أمامه عربة كارو محملة بمقاطف الأرز وسلال الفاكهة، وقد مضى الخدم يحملونها للداخل تباعًا. وبدت الحارة ملعبًا للغلمان الحفاة، على حين افترشت أسر الأرض أو الحصر أمام مداخل البيوت لينقوا الفول أو يخرطوا الملوخية. وتبودلت أحاديث ونكات، وزجر ونهر، وتعالت ضحكات وصرخات. مالت أسرة عم شافعي إلى حيِّ آل جبل فصادفها في عرض الطريق شيخٌ ضرير، يتلمس طريقه بعصاه على مهل، فأنزل عم شافعي الجوال من فوق ظهره ومضى نحوه منبسط الأسارير، حتى وقف أمامه وهو يهتف: عم جواد الشاعر، السلام عليكم!

توقف الشاعر وهو يرهف أذنيه في انتباه، ثم هزَّ رأسه في حيرة قائلًا: وعليكم السلام! صوت غير غريب عليَّ!

– أنسيت صاحبك شافعي النجار؟

فتهلل وجه الرجل وصاح: عم شافعي ورب السموات!

وفتح ذراعَيه فتعانق الرجلان بشوق وحنان حتى تطلعت إليهما أنظار القريبين وحاكى عناقهما غلامان عابثان. وقال جواد وهو يشدَّ على يد صاحبه: هجرتنا عشرين عامًا أو يزيد، يا له من عمر، وكيف زوجك؟

فقالت عبدة: بخير يا عم جواد سألتْ عنك العافية، وها هو ذا ابننا رفاعة: قَبِّل يد عمك الشاعر.

واقترب رفاعة من الشاعر مبتهجًا فتناول يده فلثمها، وربت الرجل كتفه، وتحسس رأسه في استطلاع، وقسمات وجهه، وقال: بديع بديع، ما أشبهك بجدك!

فنوَّر الثناء وجه عبدة، وضحك عم شافعي قائلًا: لو رأيت جسده النحيل ما قلت ذلك.

– حسبه ما أخذ، إن الجبلاوي لا يتكرر. ماذا يعمل الفتى؟

– علمته النجارة، لكنه ابنٌ وحيدٌ مدلل، يمكث في دكاني قليلًا ويهيم على وجهه في الخلاء والجبل أكثر الوقت.

فقال الشاعر باسمًا: لا يستقر الرجل حتى يتزوج، وأين كنت يا معلم شافعي؟

– في سوق المقطم.

فضحك الرجل ضحكةً عالية وقال: كما فعل جبل، لكنه عاد حاويًا وتعود نجارًا كما ذهبت. على أي حال مات عدوك ولكن الخلف كالسلف.

فقالت عبدة بسرعة: كلهم كذلك، وما نطمع في شيء إلا أن نعيش كما يعيش المسالمون!

وعرف رجال شافعي فهرعوا إليه، ودار العناق وارتفعت الأصوات، وعاد رفاعة يتفحص ما حوله باهتمام وشغف، وأنفاس قومه تتردد من حوله، فتخفف كثيرًا من وحشة القلب التي غشيته مذ فارق سوق المقطم. ومضت عيناه في التجول حتى وقفتا عند نافذة في الربع الأول، تطل منها فتاة راحت تحملق في وجهه باهتمام، فلما التقت عيناهما رفعت ناظريها إلى الأفق. ولمح ذلك رجل من أصحاب والده فهمس قائلًا: عيشة بنت خنفس، نظرة إليها تسبب مذبحة!

فتورد وجه رفاعة وقالت أمه: ليس هو من هؤلاء الشبان، ولكنه يرى حارته لأول مرة.

ومن الربع الأول خرج رجل في متانة الثور، يرفل في جلبابٍ فضفاض، وينطلق من فوق فيه شاربٌ متحرش في وجه كثير الندوب والبقع فتهامس الناس: «خنفس .. خنفس!» وأخذ جواد عم شافعي من يده واتجه به نحو الربع وهو يقول: سلام الله على فتوة آل جبل، إليك أخانا المعلم شافعي النجار، عاد إلى حارته بعد غربة عشرين عامًا!

ألقى خنفس نظرةً جامدة على وجه شافعي، متجاهلًا يده الممدودة مليًّا، ثم مد له يده دون أن يلين وجهه، ثم تمتم في برود: أهلًا.

وتأمله رفاعة بامتعاض، فهمست أمه في أذنه أن يذهب للسلام عليه.

وذهب رفاعة متضايقًا فمدَّ له يده، وقال عم شافعي: ابني رفاعة.

ونظر خنفس إلى رفاعة نظرة استنكار وازدراء، أوَّلها الحاضرون بأنها احتقار لرقَّته غير المألوفة في الحارة. وصافحه بعدم اكتراث ثم التفت إلى أبيه متسائلًا: تُرى هل نسيت في غربتك سنة الحياة في حارتنا؟

فأدرك شافعي ما يرمي إليه، وقال مداريًا ضيقه: نحن في الخدمة دائمًا يا معلم.

فتفرَّس في وجهه بريبة وسأله: لماذا هاجرت من حارتك؟

فصمت شافعي ريثما يجد جوابًا مناسبًا، فقال خنفس: هربًا من زنفل؟

فقال جواد الشاعر مبادرًا: لم يكن ذلك لخطأ لا يغتفر.

فقال خنفس لشافعي محذرًا: لن تجد مني مهربًا عند الغضب.

فقالت عبدة برجاء: ستجدنا يا معلم من أطيب الناس.

ومضى شافعي وأسرته وسط الأصحاب إلى دهليز ربع النصر؛ ليتسلم مسكنًا خاليًا دله عليه عم جواد. وتراءت في نافذةٍ مطلة على الدهليز فتاةٌ حسناء ذات جمال وقح، وقفت تمشط شعرها أمام زجاج النافذة، فلما رأت القادمين تساءلت في دلال: مَن القادم كالعريس في الزفة؟

فتضاحك كثيرون، وقال رجل: جار لك جديد يا ياسمينة سيقيم في الدهليز أمامك.

فهتفت ضاحكة: ربنا يزيد في الرجال!

ومرت عيناها بعبدة دون اكتراث، لكنها وقفت على رفاعة باهتمام وإعجاب. ودهش رفاعة لنظرتها أكثر من دهشته لنظرة عيشة بنت خنفس. وتبع والديه إلى باب المسكن المقابل لمسكن ياسمينة على الجانب الآخر للدهليز، وصوت ياسمينة يُغني:

آه من جماله يامَّه!

٤٦

فتح عم شافعي دكان النجارة عند مدخل ربع النصر. ومع الصباح خرجت عبدة تتسوق، ومضى عم شافعي وابنه رفاعة إلى الدكان. وجلسا على عتبة الدكان ينتظران الرزق. وكان في حوزة الرجل مالٌ يكفيه شهرًا أو يزيد فلم يطرقه القلق، فراح ينظر إلى الدهليز المسقوف بالمساكن، المفضي إلى الحوش الكبير ويقول: هذا هو الدهليز المبارك الذي أغرق فيه جبل أعداءنا.

فتأمله رفاعة بعينَين حالمتَين وثغرٍ باسم، فعاد الرجل يقول: وفي هذه البقعة أقام أدهم كوخه وحدثت الأحداث، وفيها بارك الجبلاوي ابنه وعفا عنه.

فازداد الثغر الجميل ابتسامًا وأغرقت العينان في الحلم. الذكريات الجميلة كلها ولدت في هذا المكان. لولا الزمن لبقيت آثار أقدام الجبلاوي وأدهم، ولردَّد الهواء أنفاسهم. ومن هذه النوافذ انصبَّت المياه على الفتوات في الحفرة، من نافذة ياسمينة انصبت المياه على الأعداء. اليوم لا ينصبُّ منها إلا نظراتٌ مرعبة، ويعبث الزمان بكل جليل، أما جبل فانتظر داخل الحوش بين رجالٍ ضعفاء، لكنه انتصر.

– انتصر جبل يا أبي ولكن ما جدوى النصر؟

فتنهد الرجل قائلًا: تعاهدنا على ألا نفكر في ذلك، أرأيت خنفس؟

وعلا صوتٌ غَنِج مناديًا: يا عم يا نجار.

فتبادل الأب وابنه نظرة إنكار، ونهض الأب رافعًا رأسه فرأى ياسمينة تطل من النافذة وضفيرتاها الطويلتان تتدليان وتتأرجحان، فهتف: يا نعم.

فقالت بصوتٍ متهالك من العبث: ابعث صبيك ليأخذ ترابيزة لإصلاحها.

عاد الرجل إلى مجلسه وهو يقول لابنه: «توكل على الله». ووجد رفاعة باب المسكن مفتوحًا في انتظاره فغمغم قائلًا: «إحم»، فأذنت له بالدخول فدخل. وجدها في جلبابٍ بني ذي كلفةٍ بيضاء حول الطوق وفوق نهضة النهدين، وحافية وعارية الساقين وجدها أيضًا. ولبثت صامتة مليًّا كأنما لتمتحن أثر منظرها في نفسه، فلما رأت صفاء عينيه لا يتغير أشارت إلى ترابيزةٍ صغيرة قائمة على ثلاث أرجل في ركن الصالة وقالت: الرجل الرابعة تحت الكنبة، ركبها وحياتك وادهن الترابيزة من جديد.

فقال بصوتٍ ذي موقعٍ عذب: في الخدمة يا ست.

– والثمن؟

– سأسأل أبي.

فشهقت متسائلة: وأنت؟ ألا تعرف الثمن؟

– هو الذي يخاطَب فيه.

فتفرَّست في وجهه بقوة وسألته: ومن يصلحها؟

– أنا، ولكن بإشرافه ومعاونته.

فضحكت دون مبالاة وقالت: بطيخة؛ أصغر فتواتنا دونك في السن، لكنه يستطيع أن يدوخ زفة برمتها، وأنت لا تستطيع أن تركب رجل ترابيزة بمفردك؟!

فقال رفاعة بصوت من يروم إنهاء الكلام: المهم أنها ستعود إليك كأحسن ما يكون.

وتناول الرِّجل الرابعة من تحت الكنبة، وحمل الترابيزة على كتفه واتجه نحو الباب قائلًا: فُتِّك بعافية.

ولما وضعها أمام أبيه في الدكان قال الرجل بامتعاض وهو يتفحص الترابيزة: أقول الحق إني كنت أفضل أن يجيء أول رزق من ناحيةٍ أنظف.

فقال رفاعة في سذاجة: ليست قذرة بحال يا أبي، لكنها وحيدة فيما يبدو.

– ليس أخطر من امرأةٍ وحيدة!

– لعلها في حاجة إلى هداية!

فقال عم شافعي ساخرًا: حرفتنا النجارة لا الهداية، هات الغرا.

وعند المساء ذهب عم شافعي ورفاعة إلى قهوة جبل. كان الشاعر جواد متربعًا على أريكته يحسو قهوته. وجلس شلضم صاحب القهوة عند المدخل، على حين احتل خنفس مكان الصدارة وسط هالة من المعجبين. وقصد شافعي وابنه إلى الفتوة ليؤديا إليه تحية الخضوع ثم اتخذا مكانًا خاليًا جنب شلضم. وما لبث أن تناول عم شافعي الجوزة، وقدم لابنه قدح قرفة بالبندق. وبدا جو القهوة ناعسًا، تنعقد في سمائه سحب الدخان، وتنتشر في هوائه الساكن روائح المعسل والنعناع والقرنفل. أما الوجوه ذات الشوارب المستنفرة فلاحت شاحبةً ثقيلة الأجفان، وتلاقى السعال والنحنحة بالضحكات الغليظة والنكات الفاجرة، وترامى من بطن الحارة هتاف غلمان يترنمون:

يا ولاد حارتنا .. توت توت
انتو نصارى .. ولا يهود
تاكلوا إيه .. ناكل عجوة
تشربوا إيه .. نشرب قهوة.

وكانت عند مدخل القهوة هرة تتربص، فانقضَّت نحو أسفل أريكة، وندَّت وسوسة، ثم ظهرت راكضة نحو الحارة قابضة بأسنانها على فأرة. وردَّ رفاعة عن فيه قدح القرنفل متقززًا، ورفع عينيه فوقعتا على خنفس وهو يبصق، وصاح خنفس مخاطبًا الشاعر جواد: متي تبدأ يا رأس الدواهي؟

فابتسم جواد وهو يهزُّ رأسه، ثم تناول الرباب، وبعث من أوتارها أنغام الافتتاح. وبدأ بتحية للناظر إيهاب، فتحيةٌ ثانية لبيومي فتوة الحارة، والثالثة توجهت إلى خليفة جبل الفتوة خنفس، ومضى يقول: «وجلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، وكان ينظر في الدفتر حينما جاءه صوت الرجل الأخير يقول معلنًا عن اسمه: إدريس الجبلاوي.

فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفًا أمامه …»

وواصل الشاعر الحكاية في جو من الإنصات، وتابعه رفاعة بشغف. هذا هو الشاعر وهذه هي الحكايات. كم سمع أمه وهي تقول: «حارتنا حارة الحكايات»! وحقًّا كانت هذه الحكايات جديرة بالحب. لعل فيها عزاء عن ملاعب سوق المقطم وخلواته، وراحة لقلبه المحترق بهيامٍ غامض، غامض كهذا البيت الكبير المغلق، لا أثر فيه لحياة إلا رءوس أشجار الجميز والتوت والنخيل. وأي دليل على حياة الجبلاوي إلا الأشجار والحكايات؟ وأي دليل على أنه حفيده سوى الشبه الذي لمسه الشاعر جواد بيديه؟ وكان الليل يتقدم، وعم شافعي يدخن جوزة ثالثة، واختفت من الحارة نداءات الباعة وهتافات الغلمان، ولم يعد يبقى سوى أنغام الرباب ودقة دربكة آتية من بعيد، وصراخ امرأة ينهال عليها زوجها ضربًا. أما أدهم فقد جره إدريس إلى مصيره؛ إلى الخلاء تتبعه أميمة الباكية. كما خرجت أمي من الحارة وأنا في بطنها أضطرب. اللعنة على الفتوات، وعلى القطط حين تلفظ الفئران أنفاسها بين أسنانها، وعلى كل نظرةٍ ساخرة أو ضحكةٍ باردة، وعلى من يستقبل أخاه العائد بقوله: لا مهرب مني عند الغضب، وعلى صانعي الرعب وخالقي النفاق. أما أدهم فلم يبقَ له إلا الخلاء، وها هو ذا الشاعر يغني أغنية من أغاني إدريس المخمور. ومال إلى أذن أبيه وقال: أريد أن أزور المقاهي الأخرى.

فقال عم شافعي متعجبًا: قهوتنا خير قهوة في الحارة.

– ماذا يقول الشعراء هنالك؟

– الحكايات نفسها ولكنك تسمعها هنالك وكأنها غير الحكايات.

وترامى التهامس إلى شلضم فمال نحو رفاعة قائلًا: ليس أحد أكذب من أهل حارتنا، والشعراء أكذب الكاذبين، ستسمع في القهوة التالية أن جبل قال: إنه ابن الحارة، ووالله ما قال إلا أنه ابن حمدان.

فقال عم شافعي: الشاعر يريد إرضاء السامعين بأي ثمن.

فقال شلضم همسًا: بل يريد إرضاء الفتوة!

وغادر الأب والابن القهوة عند منتصف الليل، وكانت الظلمة كثيفة تكاد أن تتجسد، وهناك أصوات رجال كأنما تصدر عن لا شيء، وسيجارة تتوهج في يدٍ غير مرئية كأنها نجم تهاوى نحو الأرض. وتساءل الأب: أعجبتك الحكاية؟

– نعم، ما أجمل الحكايات!

فضحك الأب قائلًا: عم جواد يحبك، ماذا قال لك في الاستراحة؟

– دعاني إلى زيارته في بيته.

– ما أسرع أن تُحَب، ولكنك صبيٌّ بطيء التعلم.

فقال معتذرًا: لديَّ عمرٌ كامل للنجارة، ولكن يهمني الآن أن أزور المقاهي جميعًا.

وتلمسا طريقهما إلى الدهليز فترامت إليهما من بيت ياسمينة ضجةٌ مخمورة، وصوت يغني: يا بو الطاقية الشبيكة قل مين شغلها لك، شبكت قلبي إلهي ينشغل بالك. فهمس رفاعة في أذن أبيه: ليست وحيدة كما ظننت.

فتنهد الأب قائلًا: ما أكثر ما ضيعت من عمر في الخلوات!

وراحا يرقيان في السلم على مهل وحذر، وإذا برفاعة يقول: أبي، سأزور عم جواد الشاعر.

٤٧

طرق رفاعة باب جواد الشاعر بالربع الثالث بحي جبل. وكان يتصاعد من الحوش سبابٌ حاد تتبادله نسوة ممن اجتمعن للغسل والطهي؛ فأطلَّ من فوق درابزين الطرقة المستديرة المشرفة على فناء الربع. وكانت المعركة الأساسية تدور بين امرأتين، وقفت أولاهما وراء طشت غسيل تلوح بيدين مغطاتين برغوة الصابون، ووقفت الأخرى عند مدخل الدهليز مشمِّرة عن ساعديها ترد السبَّ بأفظع منه وترقِّص وسطها استهزاءً. أما النساء الأخريات فانقسمن إلى فرقتين، وتلاطمت الأصوات حتى تجاوبت جدران الربع بالشتائم المقذعة والقذف العاهر. وسرعان ما جفل مما يرى ويسمع فتحول عن موقفه إلى باب الشاعر متقزِّزًا. حتى النساء، حتى القطط، ودعك من الفتوات. في كل يد مخلب وفي كل لسان سم، وفي القلوب الخوف والضغائن. أما الهواء النقي ففي خلاء المقطم أو في البيت الكبير حيث ينعم الواقف بالسلام وحده! وفُتح الباب عن وجه الضرير المستطلع، فحيَّاه، فابتسمت أسارير الرجل، وأوسع له وهو يقول: أهلًا بابن أخي.

وتلقى رفاعة أول ما دخل شذى بخورٍ نافذ كأنه أنفاس ملاك. ومضى وراء الرجل إلى حجرةٍ صغيرةٍ مربعة، اصطفَّت بأضلاعها الشلت، وانبسطت فوق أرضها حصيرةٌ مزركشة، وبدا جوها خلف خصاص النوافذ المغلقة في سمرة الأصيل، وقد زين سقفها حول الفانوس المدلى بصور العصافير والحمام. تربع الشاعر على شلتة فجلس رفاعة إلى جانبه، وقال الرجل: كنا نعد القهوة.

ونادى زوجته فجاءت امرأةٌ حاملة صينية القهوة فقال جواد: تعالي يا أم بخاطرها، هذا رفاعة ابن عم شافعي.

فجلست المرأة إلى جانب زوجها من الناحية الأخرى، وراحت تصبُّ القهوة في الفناجيل وهي تقول: أهلًا بك يا بني.

بدت في منتصف الحلقة السادسة، مستقيمة العود، قوية البنية، تلفت النظر إليها بعينين نافذتين ووشم فوق الذقن. وأشار جواد ناحية الضيف وقال: إنه سمِّيع يا أم بخاطرها، شغوف بالحكايات، وبمثله يتحمس الشاعر ويرضى، أما الآخرون فسرعان ما يغلبهم نعاس المنزول والحشيش.

فقالت المرأة بدعابة: حكاياتك جديدة عليه، معادة عليهم.

فقال الشاعر بغيظ: هذا صوت عفريت من عفاريتك .. (ثم موجهًا الخطاب إلى رفاعة) .. الولية كودية زار.

فتطلع رفاعة نحو المرأة باهتمام، فالتقت أعينهما وهي تمد له يدها بفنجان القهوة. كم كانت تجذبه دقة الزار في سوق المقطم! وكان قلبه يتابعها راقصًا، فيقف في الطريق رافعًا رأسه نحو النوافذ، متطلعًا إلى البخور السابح في الفضاء والرءوس المترنحة. وسأله الشاعر: ألم تعرف في غربتك شيئًا عن حارتنا؟

– حدثني أبي عنها كما حدثتني أمي، ولكن قلبي كان هنالك، فلم أكترث كثيرًا للوقف ومشاكله، وعجبت من كثرة ضحاياه، فملت إلى رأي أمي في إيثارها الحب والسلام.

فتساءل جواد وهو يهز رأسه في حزن: وكيف يتسنى للحب والسلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات!

فلم يجبه رفاعة؛ لا لأنه لم يكن ثمة جواب، ولكن لأن عينيه رأتا لأول مرة صورةً غريبة فوق الجدار الأيمن للحجرة؛ صورةً مرسومة بالزيت على الجدار كالصور التي تزين جدران المقاهي، وتمثل رجلًا هائلًا تبدو إلى جانبه ربوع الحارة ضئيلة كلعب الأطفال؛ فتساءل الشاب: من صاحب هذه الصورة؟

فأجابت أم بخاطرها: الجبلاوي.

– هل رآه أحد؟

فقال جواد: كلا، لم يره أحد من جيلنا، حتى جبل لم يتبيَّنه في ظلمة الخلاء، ولكن المبيِّض رسمه على مثال ما يرد من أوصافه في الحكايات.

فتساءل رفاعة متنهدًا: لماذا أغلق أبوابه في وجه أحفاده؟

– يقولون الكبر، مَن يدري كيف تمضي به الأيام! والله لو فتح أبوابه ما بقي أحد من أهل حارتنا في داره القذرة.

– ألا تستطيع أن …

ولكن أم بخاطرها قاطعته قائلة: لا تشغل به نفسك، فإن أهل حارتنا إذا بدءوا بالكلام عن الواقف جرَّهم الكلام إلى الوقف ثم تقع المصائب أشكالًا وألوانًا.

فهزَّ رأسه في حيرة متسائلًا: وكيف لا تُشغَل النفس بمثل هذا الجد العزيز؟!

– لنفعل مثله، فإنه لا يشغل بنا نفسه.

فرفع رفاعة بصره إلى الصورة ثم قال: لكنه قابل جبل وكلمه.

– نعم، ولما مات جبل جاء زنفل ثم خنفس، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

فضحك جواد وقال لامرأته: إن الحارة في حاجة إلى مَن يخلصها من شياطينها كما تخلصين الممسوسين من عفاريتهم.

فابتسم رفاعة وقال: يا عمتي إن العفاريت حقًّا هم أولئك الناس، لو رأيتِ كيف كانت مقابلة خنفس لأبي!

– لا شأن لي بأولئك، عفاريتي الآخرون يذعنون لي كما كانت الثعابين تذعن لجبل، وعندي لهم جميع ما يحبون من بخورٍ سوداني وتعاويذَ حبشية وأغانٍ سلطانية.

فسألها رفاعة باهتمام: ومن أين أتتك هذه القدرة على العفاريت؟

فحدجته بنظرةٍ حذرة وقالت: هي حرفتي كما أن النجارة حرفة أبيك، جاءتني من وهاب المنن!

فأفرغ رفاعة ثمالة الفنجان في فيه وهمَّ بالكلام، غير أن صوت عم شافعي تصاعد من الحارة صائحًا: يا رفاعة، يا ولد يا كسول.

فقام رفاعة إلى النافذة ففتحها وأطل منها حتى التقت عيناه بعيني أبيه وهتف: أمهلني نصف ساعة يا أبي.

فرفع الرجل منكبيه فيما يشبه اليأس ورجع إلى دكانه. وعندما أخذ رفاعة يغلق النافذة رأى عيشة في موقفها بالنافذة كما رآها أول مرة، ترنو إليه باهتمام، خيِّل إليه أنها ابتسمت، أو أن عينيها تكلمتا، وتردد لحظة، لكنه أغلق النافذة وعاد إلى مجلسه. وإذا بجواد يضحك قائلًا: أبوك يريد لك النجارة، ولكن فيم ترغب أنت؟

فتفكر رفاعة مليًّا ثم قال: عليَّ أن أكون نجارًا كأبي، ولكني أحب الحكايات، وهذه الأسرار حول العفاريت، فحدثيني عنها يا عمتي.

فابتسمت المرأة وبدت كأنها سمحت بأن تهبه «قليلًا» من علمها فقالت: لكل إنسان عفريت هو سيده، ولكن ليس كل عفريت بشر يجب أن يخرج.

– وكيف نميز بين هذا وذاك؟

– عمله يدل عليه، أنت مثلًا ولد طيب فما يستحق سيدك إلا الجميل، وليس هكذا عفاريت بيومي وخنفس وبطيخة!

فقال ببراءة: وعفريت ياسمينة هل يجب أن يخرج؟

فضحكت أم بخاطرها وقالت: جارتكم؟ لكن رجال جبل يريدونها كما هي.

فقال باهتمام جدِّي: أريد أن أعرف هذه الأشياء فلا تبخلي عليَّ.

فقال جواد: من ذا الذي يبخل على الابن الطيب؟

وقالت أم بخاطرها: جميل أن تلازمني كلما سمح الوقت، ولكن على شرط ألا يغضب أبوك، وسيتساءل الناس: ما لهذا الولد الطيب والعفاريت؟! ولكن اعلم أن لا داء للناس إلا العفاريت.

وكان رفاعة يستمع وهو يرنو إلى صورة الجبلاوي.

٤٨

النجارة مهنته ومستقبله، لا مهرب منها فيما يبدو. إن تكن نفسه لا ترتاح إليها فأي شيء ترتاح إليه نفسه؟ إنها أفضل من السعي الكادح وراء عربات اليد، أو من حمل المقاطف والسلال. أما المهن الأخرى كالبلطجة والفتونة فما أبغضها وأمقتها! أم بخاطرها أثارت خياله كما لم يثره شيء من قبلُ اللهم إلا صورة الواقف المرسومة على جدار الحجرة في بيت جواد الشاعر. وحضَّ أباه يومًا على رسم صورة مثلها في بيتهم أو في الدكان، فقال له الرجل: نحن أولى بنفقاتها، وهي خيال، وما قيمة الخيال؟ فما كان منه إلا أن قال له: بودي لو أراه! فضحك الرجل ضحكةً عالية، وقال له معاتبًا: أليس الأفضل أن ترى عملك؟! لن أعيش لك إلى الأبد، وعليك أن تتأهب ليوم تحمل فيه وحدك أعباء أمك وزوجك وأطفالك.

لكنه لم يكن يفكر في شيء كما كان يفكر فيما تقول أو تفعل أم بخاطرها. بدت له أحاديثها عن العفاريت غاية في الأهمية، ولم تزايل وعيه حتى في الأوقات السعيدة التي تردد فيها على مقاهي الحارة واحدة بعد أخرى. حتى الحكايات نفسها لم ترسب في نفسه كما رسبت أحاديث أم بخاطرها. لكل إنسان عفريت هو سيده، وكما يكون السيد يكون العبد .. هكذا تردد أم بخاطرها. وكم من ليلة قضاها في حضرة الست، يتابع دقات الزار ويشهد ترويض العفاريت! ومن المرضى مَن يساق إلى البيت في حال خمول وإعياء، ومنهم من يُحمل مقيدًا في الأغلال اتقاءً لشره. ويُحرق البخور المناسب؛ إذ لكل حال بخورها، وتدق الدقة المطلوبة؛ إذ لكل عفريت دقة يطلبها، ثم تحدث الأعاجيب.

إذن عرفنا أن لكل عفريت دواءه، ولكن ما دواء ناظر الوقف وفتواته؟! هؤلاء الأشرار يسخرون من الزار ولعله لم يخلق إلا لهم! القتل هو الوسيلة إلى الخلاص منهم، أما العفريت فيستكين بالبخور الزكي والنغمة الطيبة. كيف يؤخذ العفريت الشرير بالجميل الطيب؟! ألا ما أجلَّ نتعلمه من الزار والعفاريت! وقال لأم بخاطرها إنه يرغب من أعماق قلبه في تلقي أسرار الزار، فسألته: أتطمع في المال الكثير؟ فأجابها بأنه في تطهير الحارة يرغب لا في المال الكثير. وضحكت المرأة قائلة: إنه أول رجل يرغب في هذا العمل، فماذا استهواه فيه؟ فأكد قائلًا: إن أحكم ما في عملك أنك تهزمين الشر بالطيب الجميل. ولما مضت تبيح له أسرارها طاب نفسًا.

وإعرابًا عن مسرته كان يصعد إلى سطح الربع في نشوة الفجر ليشهد يقظة النور، ولكن البيت الكبير يستأثر بلبِّه دون النجوم والسكون وصياح الديكة، ويرنو إلى البيت الراقد بين الأشجار طويلًا، ثم يتساءل: أين أنت يا جدي؟ لماذا لا تظهر ولو لحظة! لماذا لا تخرج ولو مرة؟ لماذا لا تتكلم ولو كلمة؟ ألا تدري أن كلمة منك تغير حارتنا من حال إلى حال؟ أم يرضيك ما يجري بها؟ وما أجمل الأشجار حول بيتك! إني أحبها لأنك تحبها، وأنظر إليها لألتقي نظراتك المطبوعة عليها.

وكلما أفضى بخواطره إلى أبيه سمع عتابًا وقال له: «وعملك يا كسلان؟! إن أمثالك من الشبان يجوبون الأحياء سعيًا وراء الرزق أو يهزون الحارة إذا رفعوا النبابيت!»

ويومًا كانت الأسرة مجتمعة عقب الغداء إذا بعبدة تقول لزوجها باسمة: قل له يا معلم.

أدرك رفاعة أنه المقصود بالكلام، فنظر إلى أبيه مستطلعًا لكن الرجل خاطب زوجته قائلًا: حدِّثيه أنت بما عندك أولًا.

فنظرت عبدة إلى ابنها بإعجاب وقالت: خبر سعيد يا رفاعة، زارتني ست زكية زوجة فتوتنا خنفس! ورددت لها الزيارة بطبيعة الحال فاستقبلتني بحفاوة وقدمت إليَّ ابنتها عيشة، بنتٌ جميلة كالقمر، ثم زارتني مرةً أخرى ومعها عيشة.

ولحظ عم شافعي ابنه بطرفٍ خفي، وهو يرفع فنجال القهوة إلى فيه؛ ليرى أثر الحكاية في نفسه، ثم هزَّ رأسه هزة من قدر الصعوبة التي تنتظره، وقال بتفخيم: هذا شرف لم يحظ بمثله بيت في حيِّ آل جبل، تصور أن زوجة خنفس وابنته تزوران بيتنا هذا!

رفع رفاعة عينيه إلى أمه حائرًا فقالت بحماس: ما أفخم مسكنهم، المقاعد الوثيرة، السجاد الفاخر، حتى الستائر تنسدل فوق النوافذ والأبواب.

فقال رفاعة ممتعضًا: كل هذا الخير من أموال آل جبل المغتصبة!

فدارى عم شافعي ابتسامة وهو يقول: تعاهدنا على ألَّا نتكلم في هذا الموضوع.

قالت عبدة باهتمام: فلنذكر فقط أن خنفس سيد آل جبل وأن صداقة أهله دعاءٌ مستجاب.

فقال رفاعة في ضجر: مباركة عليك هذه الصداقة!

فتبادلت الأم مع زوجها نظرةً ذات معنى، قالت على أثرها: إن مجيء عيشة مع أمها حدث له معنى!

فتساءل رفاعة وهو يشعر بانقباض: ما معناه يا أمي؟

فضحك شافعي وهو يلوح بيده يائسًا وقال مخاطبًا عبدة: كان ينبغي أن نقصَّ عليه كيف تم زواجنا!

فهتف رفاعة بضيق: كلا! كلا يا أبي!

– ماذا تعني؟ وما لك تبدو كالعذراء؟

وقالت عبدة بإغراء ورجاء: أنت الذي بيدك أن تدخلنا نظارة وقف آل جبل، سيرحبون بك إذا تقدمت، حتى خنفس سيرحب بك؛ إذ لولا ثقة المرأة في مكانتها عنده ما أقدمت على تلك الخطوة، أمامك جاه ستحسدك الحارة عليه من أولها إلى آخرها.

وقال الأب ضاحكًا: مَن يدري فلعلنا نراك يومًا ناظرًا لوقف جبل أو ترى أنت أحد أبنائك فيه.

– أنت الذي تقول ذلك يا أبي؟! أنسيت لماذا هاجرت من الحارة منذ عشرين عامًا؟

فرمش عم شافعي في شيء من الارتباك وقال: نحن نعيش اليوم كما يعيش غيرنا، فلا يجوز أن نهمل انتهاز فرصة تجيء بنفسها إلينا.

وتمتم رفاعة، وكأنه يحادث نفسه: كيف أصهر إلى عفريت وأنا لا همَّ لي اليوم إلا مطاردة العفاريت؟!

فصاح شافعي محتدًّا: ما طمعت يومًا في أن أجعل منك أكثر من نجار، ولكن الحظ يعرض عليك درجةً مرموقة في حارتنا، ولكنك تريد أن تكون كودية زار، يا للعار! أي عين أصابتك؟ قل إنك ستتزوجها ودعنا من الهزل!

– لن أتزوجها يا أبي.

فقال شافعي دون مبالاة: سأزور خنفس؛ لأطلب القرب منه.

فهتف رفاعة بحرارة: لا تفعل يا أبي!

فسأله أبوه في جزع: خبِّرني ما شأنك يا ولد؟!

وتوسلت عبدة إلى زوجها قائلة: لا تشتد عليه، أنت أعلم بحاله.

– يا سوء ما أعلم! حارتنا تعيرنا برقته.

– ترفق به حتى يفكر في الأمر.

– أقرانه آباء، والأرض تهتز عند وقع أقدامهم.

وحدجه بنظرةٍ مغيظة ثم استطرد محتدًّا: لماذا يهرب الدم من وجهك؟ إنك من صلب رجال!

وتنهد رفاعة. الصدر منقبض لحد البكاء. وشائج الأبوة يمزقها الغضب. والبيت يقسو حينًا فيرتد سجنًا كئيبًا. ومرادك ليس في هذا المكان ولا بين هؤلاء الناس. وقال بصوتٍ مبحوح: لا تعذبني يا أبي.

– أنت الذي تعذبني، كما عذبتني منذ ولدت.

وأحنى رفاعة رأسه حتى اختفى وجهه عن والديه، وأخفض الرجل من صوته وسكَّن ما استطاع غضبه، ثم سأله: هل تخاف الزواج؟ ألا تحب أن تتزوج؟ صارحني بما في نفسك، أم أذهب إلى أم بخاطرها فلعلها تعرف عنك ما لا نعرف!

فهتف بحدة: كلا!

وقام فجأة فغادر الحجرة.

٤٩

ونزل عم شافعي ليفتح الدكان فلم يجد رفاعة هناك كما توقع. لكنه لم ينادِ عليه وقال لنفسه: إنه من الحكمة أن يتظاهر بالبرود لغيابه. ومضى النهار يزحف رويدًا وضوء الشمس ينحسر عن أرض الحارة، والنشارة تتكاثف حول قدميَّ شافعي دون أن يظهر رفاعة. وأتى المساء فأغلق الرجل الدكان وهو في غاية من الضيق والغضب. وقصد كعادته قهوة شلضم واتخذ مجلسه، ولما رأى جواد الشاعر قادمًا وحده تولاه العجب وسأله: إذن أين رفاعة؟

فأجابه الرجل وهو يتلمس طريقه إلى أريكته: لم أره منذ أمس.

فقال شافعي بقلق: لم أره منذ تركنا بعد الغداء.

رفع جواد حاجبَيه الأشيبَين ثم تساءل وهو يتربع على الأريكة ويضع الرباب إلى جانبه: هل وقع بينكما شيء؟

ولم يجبه شافعي، وقام فجأة فغادر القهوة. وتعجب شلضم لقلق شافعي وقال ساخرًا: هذه طراوة لم تعرفها حارتنا مذ أقام إدريس كوخه في الخلاء. كنت أتغيب في صغري عن الحارة أيامًا فلا يسأل عني أحد، وعند عودتي يصيح بي أبي الله يرحمه: «ما الذي عاد بك يا ابن اللئيمة؟»

فعلق خنفس على كلامه من صدر القهوة قائلًا: أصله لم يكن على يقين من أنك ابنه.

وضجت القهوة بالضحك، وهنأ كثيرون خنفس على جميل دعابته! أما عم شافعي فمضى إلى بيته وسأل عبدة: هل عاد رفاعة؟ فاستحوذ القلق على المرأة، وقالت: إنها كانت تظنه بالدكان كعادته. واشتدَّ قلقها حين أخبرها أنه لم يذهب كذلك إلى بيت جواد الشاعر، وراحت المرأة تتساءل في قلق: إذن أين ذهب؟

وترامى إليهما صوت ياسمينة وهي تزعق منادية على بياع تين، فنظرت عبدة إلى شافعي نظرةً مريبة، فهزَّ الرجل رأسه برمًا وأطلق ضحكةً جافةً مقتضبةً ساخرة، ولكن المرأة قالت: فتاة مثلها تحل العُقَد!

وذهب الرجل إلى بيت ياسمينة مدفوعًا باليأس وحده. طرق الباب ففتحت ياسمينة بنفسها، ولما عرفته تراجع رأسها في دهش مقرون بالظفر وقالت: أنت؟! ياما تحت الساهي دواهي!

فغضَّ الرجل بصره أمام شفافية قميصها وقال بانكسار: رفاعة عندك؟

فازدادت دهشة وقالت: رفاعة! لِمه؟

فَعَلا الرجلَ الارتباك؟ فأشارت إلى الداخل وهي تقول: ابحث عنه بنفسك.

لكن الرجل استدار ليذهب فسألته ساخرة: هل أدركه البلوغ اليوم؟

وسمعها تخاطب شخصًا في الداخل قائلة: في هذا الزمان الفتى يخشى عليه أكثر من الفتاة.

ووجد عم شافعي عبدة تنتظره في الدهليز، فقالت له: سنذهب معًا إلى سوق المقطم.

فصاح الرجل بغضب: الله يتعبه، أهذا جزائي بعد يوم عمل شاق؟!

واستقلَّا عربة كارو إلى سوق المقطم، وسألا عنه عند جيرانهما الأقدمين، وعند المعارف فلم يعثرا له على أثر. أجل كان يتغيب ساعات في العصاري أو الأصائل في الخلوات أو الجبل، ولكن لا يتصور أحد أن يلبث حتى هذه الساعة من الليل في الخلاء. وعادا إلى الحارة كما ذهبا ولكن على حال من الجزع أشد. ولاكت الألسن اختفاءه وبخاصة بعد أن مضت عليه أيام. صار دعابة في القهوة وبيت ياسمينة وفي حي آل جبل تندَّر الجميع بفزع والديه. ولعل أم بخاطرها وعم جواد كانا الوحيدين اللذين شاركا والديه في حزنهما. وقال عم جواد: «أين ذهب الفتى؟ ليس هو من أولئك الشبان، لو كان على شاكلتهم ما جزعنا!» وصاح بطيخة مرة وهو سكران: «جدع تايه يا أولاد الحلال»، كأنما ينادي على طفل تائه، فضحكت الحارة وراح الغلمان يرددونها. ومرضت عبدة من الحزن. وعمل شافعي في دكانه بعقلٍ شارد وعينين محمرَّتين من الأرق. أما زكية زوجة خنفس فقد انقطعت عن زيارة عبدة وتجاهلتها في الطريق. ويومًا كان شافعي مكبًّا على نشر قطعة من الخشب إذ صاحت به ياسمينة وهي عائدة من مشوار: عم شافعي .. انظر.

وجدها تشير إلى نهاية الحارة عند الخلاء، فغادر الدكان والمنشار في يده؛ ليرى ما تشير إليه فرأى ابنه رفاعة يتقدم نحو الربع في استحياء. وترك الرجل المنشار أمام الدكان وهرع نحو ابنه وهو يتفحصه بدهشة، ثم قبض على عضديه هاتفًا: رفاعة! أين كنت؟ ألا تدري ما يعني غيابك لنا؟ لأمك المسكينة التي تكاد أن تموت جزعًا؟

ولم ينبس الشاب، ووضح للأب هزاله فسأله: هل كنت مريضًا؟

فأجاب في ارتباك: كلا، دعني أرَ أمي.

واقتربت ياسمينة منهما وسألت الشاب في ارتياب: ولكن أين كنت؟

فلم ينظر نحوها. وتجمَّع حوله الغلمان، فسار به أبوه إلى البيت. وسرعان ما تبعهما عم جواد وأم بخاطرها. ولما رأته أمه وثبت من الفراش وضمَّته إلى صدرها، وهي تقول بصوتٍ ضعيف: سامحك الله .. كيف هانت عليك أمك؟

فتناول راحتها بين يديه وأجلسها على الفراش وجلس إلى جانبها وهو يقول: إني آسف!

فرفع أبوه وجهًا متجهمًا نقيض الارتياح الساري في أعماقه كالغمامة السوداء المظِلَّة لوجه القمر وقال بعتاب: ليس الأمر إلا أننا قصدنا إسعادك!

فتساءلت عبدة بعينَين مغرورقتَين: توهمت أننا نجبرك على الزواج؟!

فقال بحزن: إني متعب.

فسأله أكثر من صوت: أين كنت؟

فتنهد قائلًا: ضقت بحياتي فذهبت إلى الخلاء، شعرت برغبة في الوحدة والخلاء. ولم أكن أتركه إلا لشراء الطعام.

فضرب الأب جبهته بيده وصاح: ما هكذا يفعل العقلاء!

وإذا بأم بخاطرها تقول في إشفاق: دعوه، أنا خبيرة بهذه الأحوال، ولا يصح أن يُفرض على مثله شيء يأباه.

فقالت عبدة وهي تشد على يده: كانت سعادته أملنا، ولكن ما قُدِّر كان، كم ضمرت يا بني!

وتساءل عم شافعي في غيظ: دلُّوني على شيء كهذا حصل من قبلُ في حارتنا!

فقالت أم بخاطرها في لوم: ليس حاله بالغريب عليَّ يا عم شافعي، صدقني، إنه شابٌّ نادر المثال!

فغمغم عم شافعي في حزن: صرنا أحدوثة في الحارة.

فقالت أم بخاطرها غاضبة: ليس في الحارة كلها فتًى مثله.

فقال عم شافعي: هذا موضع الأسى.

فصاحت أم بخاطرها: وحِّد الله يا رجل، أنت لا تدري ماذا تقول ولا تفهم ما يقال.

٥٠

أصبح للدكان منظر يوحي بالنشاط والنجاح. فعند طرف الطاولة وقف عم شافعي ينشر الخشب، وعند طرفها الآخر قبض رفاعة على القدوم وراح يدق المسامير، أما أسفل الطاولة فبدا إناء الغراء مغروسًا في ركام النشارة حتى منتصفه. وأسندت إلى الجدران ضلفات نوافذ ومصاريع أبواب، يتوسطها صف عمودي من الصناديق الجديدة بلون الخشب الباهت المصقول لا ينقصها إلَّا الدهان. وامتلأ الجو برائحةٍ خشبية وأصوات النشر والدقِّ والحكِّ وقرقرة الجوز يدخنها أربعة زبائن جلسوا عند مدخل الدكان يتحادثون. وقال حجازي مخاطبًا عم شافعي: سأجرب مهارتك في هذه الكنبة، وإن شاء الله سيكون العمل القادم جهاز البنت (ثم مخاطبًا أصحابه) .. وأعود فأقول لكم: إننا نعيش في أيام لو عاد إليها جبل لجُنَّ.

فهزوا رءوسهم في أسًى وهم يدخنون، أما برهوم التربي فسأل عم شافعي باسمًا: لماذا لا تريد أن تصنع لي تابوتًا؟ أليس كل شيء بثمنه؟

فكفَّ عم شافعي يده عن المنشار لحظة وقال ضاحكًا: يفتح الله، وجود التابوت في الدكان يهرِّب الزبائن.

فقال فرحات مؤمِّنًا على قوله: صدقت، قُطع الموت وسيرته.

فعاد حجازي يقول: عيبكم أنكم تخافون الموت أكثر مما ينبغي: لذلك سيطر عليكم خنفس، وتسلْطنَ بيومي، وصادر إيهاب أرزاقكم.

– وأنت ألا تخاف الموت مثلنا؟

فبصق ثم قال: العيب عيبنا جميعًا، كان جبل قويًّا، وبالقوة والعنف استخلص لنا حقنا الذي أضاعه الجبن.

وإذا برفاعة يتوقف عن الدق فيخرج المسامير من فيه ويقول: أراد جبل استخلاص حقنا بالحسنى، ولم يعمد إلى القوة إلا دفاعًا عن نفسه.

فضحك حجازي استهزاء وقال متسائلًا: خبِّرني يا بني هل تستطيع دق المسامير إلا بالقوة؟

فقال رفاعة باهتمامٍ جدي: ليس الإنسان كالخشب يا معلم.

وحدجه أبوه بنظرة فعاد إلى عمله. واستطرد حجازي قائلًا: الحق أن جبل كان فتوة من أشد الفتوات الذين عرفتْهم حارتنا، وكم حثَّ آل جبل على الفتونة.

فقال فرحات مصحِّحًا: أراد منهم أن يكونوا فتوات على الحارة لا على آل جبل.

– وما هم اليوم إلا فئران أو أرانب.

وتساءل عم شافعي وهو يجفف أنفه بظهر يده: وأي الألوان تفضل يا عم حجازي؟

– اختر لونًا لا يتوسخ بسرعة، فهذا أضمن للنظافة.

وواصل حديثه للأصحاب فقال: ويوم فقأ دعبس عين كعبلها فقأ جبل عينه، فبالجبروت أقام العدل!

وتنهد رفاعة بصوتٍ مسموع وقال: لا يعوزنا الجبروت، كل ساعة من نهار أو ليل نرى أناسًا يضربون ويجرحون ويقتلون، حتى النساء ينشبن الأظافر حتى تسيل الدماء، ولكن أين العدل؟ ألا ما أقبح هذا كله!

ووجم الجميع لحظة ثم قال حنورة، وكان يتكلم لأول مرة: هذا المعلم الصغير يحتقر حارتنا! إنه رقيق أكثر من اللازم وأنت السبب يا معلم شافعي.

– أنا؟!

– نعم، إنه شابٌّ مدلَّع.

والتفت حجازي نحو رفاعة وقال ضاحكًا: خير من هذا أن تجد لنفسك عروسًا!

وتعالى الضحك، فقطب عم شافعي، وتورَّد وجه رفاعة، وعاد حجازي يقول مؤكدًا: القوة .. القوة، بغيرها لا يسود العدل!

فقال رفاعة بإصرار على رغم نظرات أبيه إليه: الحق أن حارتنا في حاجة إلى الرحمة.

فضحك برهوم التُّربي قائلًا: أتريد أن تخرب بيتي؟

وضجوا بالضحك، وأعقب ذلك نوبات سعال، حتى قال حجازي وقد صارت عيناه في لون الغرا: قديمًا ذهب جبل إلى الأفندي يسأله العدل والرحمة، فأرسل إليه زقلط ورجاله، ولولا النبابيت — لا الرحمة — لهلك جبل وآله.

وهتف عم شافعي محذرًا: يا هوه! للحيطان آذان، ولو سمعوكم ما وجدتم مَن يسمِّي عليكم.

فقال حنورة: صدق الرجل، ما أنتم إلا حشاشون لا خير فيكم، ولو مرَّ أمامكم الآن خنفس لسجدتم بين يديه.

ثم قال وهو يلتفت نحو رفاعة: لا تؤاخذنا يا بني، فليس على الحشاش حرج، ألم تجرب الحشيش يا رفاعة؟

فقال عم شافعي ضاحكًا: لا يميل إلى مجالسه، وإن زاد على نفسين لهث أو نام.

فقال فرحات: ما ألطف هذا الشاب، يظنه البعض كودية زار لملازمته لأم بخاطرها، ويظنه آخرون شاعرًا لتعلقه بالحكايات.

فقال حجازي ضاحكًا: ويكره مجالس الحشيش كما يكره الزواج!

ونادى برهوم صبي القهوة ليأخذ الجوز، ثم قاموا مسلِّمين فانفضَّ المجلس. وترك عم شافعي المنشار لينظر إلى ابنه في عتاب، ثم قال: لا تحشر نفسك في أحاديث أولئك الناس.

وجاء غلمان ليلعبوا أمام الدكان فدار رفاعة حول الطاولة حتى وقف أمام أبيه، ثم تناول يده وتراجع به إلى ركن الدكان بعيدًا عن الآذان. بدا منفعلًا قلقًا لكن تطبَّقت شفتاه في تصميم، وشعَّ من عينَيه نورٌ عجيب حتى تساءلت عينا الرجل. وإذا برفاعة يقول: لن أستطيع السكوت بعد اليوم.

فتضايق الأب. يا له من متعب هذا الابن العزيز؛ ينفق وقته الغالي في بيت أم بخاطرها، ويخلو الساعات الطوال إلى نفسه عند صخرة هند، وإذا مكث في الدكان ساعة أثار المشاكل بمناقشاته!

– هل تجد تعبًا؟

فقال بهدوءٍ غريب حل محل القلق: لا يجوز أن أخفي عليك ما في نفسي.

– ماذا عندك؟

فاقترب منه أكثر وقال: أمس عقب خروجي من بيت الشاعر عند منتصف الليل شعرت برغبة في الانطلاق فقصدت الخلاء، مشيت في الظلام حتى تعبت، ثم اخترت مكانًا أسفل سور البيت الكبير المشرف على الخلاء فجلست مسندًا ظهري إلى السور.

فبدا الاهتمام في عيني الرجل، وحثه بنظرة على متابعة الحديث فقال: سمعت صوتًا غريبًا يتكلم، كأنما كان يحدث نفسه في الظلام، فدهمني شعورٌ مشرق بأنه صوت جدنا الجبلاوي.

فحملق الرجل في وجه ابنه وتمتم في ذهول: صوت الجبلاوي؟! ما الذي حملك على هذا الظن؟

فقال رفاعة بحرارة: ليس ظنًّا يا أبي، سيجيئك الدليل. وقد قمت حال سماعي الصوت فاستدرت نحو البيت وتراجعت إلى الوراء؛ لأتمكن من رؤيته ولكني لم أرَ إلَّا ظلامًا.

– الحمد لله!

– صبرًا يا أبي، سمعت الصوت وهو يقول: «أما جبل فقد قام بمهمته وكان عند حسن الظن به، ولكن الأمور ارتدَّت إلى أقبح مما كانت عليه»!

شعر شافعي بصدره يحترق وتفصَّد جبينه عرقًا، وقال بصوتٍ متهدج: ما أكثر الذين جلسوا مجلسك تحت السور فلم يسمعوا شيئًا.

– لكني أنا سمعت يا أبي.

– لعله أحدٌ كان راقدًا في الظلام!

فهزَّ رأسه بعزم وقال: بل جاء الصوت من البيت!

– كيف عرفت هذا؟

– هتفت قائلًا: «يا جدي، جبل مات، وخلفه آخرون، فمُدَّ إلينا يدك!»

فقال شافعي باضطراب: اللهَ أسأل ألا يكون أحد سمعك.

فقال رفاعة بعينَين مضيئتَين: جدي سمعني، وجاءني صوته قائلًا: «ما أقبح أن يطالب شابٌّ جدَّه العجوز بالعمل، والابن الحبيب من يعمل …» فسألته: «وما حيلتي حيال أولئك الفتوات أنا الضعيف؟» فأجابني: «الضعيف هو الغبي الذي لا يعرف سرَّ قوَّته وأنا لا أحب الأغبياء».

فتساءل عم شافعي في فزع: أتظن أن هذا الكلام دار بينك وبين الجبلاوي؟

– نعم ورب السموات!

فندَّ عن الرجل أنين، وقال متوجعًا: يا للأوهام خلاقة المصائب!

– صدقني يا أبي، ليس فيما أقول شك.

فقال الرجل متحسرًا: لا تقطع أملي في أن نجد فيه شكًّا.

فقال رفاعة بوجه يتألق نشوة كالنغمة الحلوة: وأعرف الآن ما يراد مني.

فضرب الرجل جبينه بغيظ وصاح متسائلًا: وهل أيضًا يراد منك شيء؟

– نعم، إني ضعيف ولكني لست غبيًّا، والابن الحبيب من يعمل!

فهتف شافعي وهو يشعر كأن المنشار ينشر صدره: سيكون عملك أسود، وسوف تهلك وتجرنا معك إلى الهلاك!

فقال رفاعة باسمًا: إنهم لا يقتلون إلا مَن يتطلع إلى الوقف!

– وهل تتطلع إلى شيء غير الوقف؟

فقال رفاعة بصوتٍ مليء بالثقة: كان أدهم ينشد الحياة الصافية الغنَّاء، كذلك جبل وهو لم يطالب بحقه في الوقف إلا سعيًا وراء الحياة الصافية الغنَّاء، لكن غلب عليه الظن بأن هذه الحياة لن تتيسر لأحد إلا إذا توزع الوقف على الجميع فنال كلٌّ حقه واستثمره حتى يغنيه عن الكد فتخلص له الحياة الصافية الغناء، ولكن ما أتفه الوقف إن أمكن بلوغ هذه الحياة بدونه! وهو أمر ممكن لمن يشاء، وبوسعنا أن نغنى منذ الساعة!

فتنهد عم شافعي في شيء من الارتياح، وتساءل: هل قال لك جدك ذلك؟

– قال: إنه لا يحب الغباء، وقال: إن الغبي هو الذي لا يعرف سر قوته، وإني آخر من يدعو إلى قتال في سبيل الوقف. الوقف لا شيء يا أبي، وسعادة الحياة الغنَّاء هي كل شيء، ولا يحول بيننا وبين السعادة إلا العفاريت الكامنة في أعماقنا، ولم يكن عبثًا أن أشغف بطب العفاريت وأن أحسنه، لعلها إرادة رب السموات هي التي دفعتني إليه.

ارتاح شافعي بعد عذاب، ولكن بعد أن استنفد العذاب قواه، فانحطَّ على منشاره، مادًّا ساقيه، مسندًا ظهره إلى ضلفة نافذة منتظرة دورها في الإصلاح، ثم ساءل ابنه في شيء من السخرية: وكيف لم نبلغ الحياة الغنَّاء وفينا أم بخاطرها من قبل أن تولد أنت؟

فقال رفاعة بالصوت المليء بالثقة: لأنها تنتظر حتى يجيء إليها المرضى الموسرون ولا تذهب بنفسها إلى المساكين.

فنظر عم شافعي في أركان دكانه وقال بارتياب: انظر إلى إقبال الرزق علينا فماذا يخبئ لنا الغد من تحت رأسك؟

فقال رفاعة بابتهاج: كل خير يا أبي، إن شفاء المرضى لن يقلق إلا العفاريت.

وتوهج ضياء في الدكان منبعث من مرآة صوان قرب الباب، عاكسًا شعاع الشمس المائلة.

٥١

وانتقل القلق ليلًا إلى بيت عم شافعي. ومع أن الحديث تناهى إلى عبدة في إطار من الطمأنينة، ومع أنها لم تعلم سوى أن رفاعة سمع صوت جده وهو يتكلم وأنه قرر بعد ذلك أن يزور المساكين ليطرد عنهم العفاريت، إلا أن القلق اجتاح نفسها ولبثت تقلب وجوه العواقب. كان رفاعة في الخارج، وكان في أقصى الحارة — بعيدًا عن حي آل جبل — عرس تترامى منه أصوات طبل وزمر وزغاريد. وأرادت المرأة أن تواجه الحقيقة فقالت بحزن: رفاعة لا يكذب.

فقال شافعي بامتعاض: ولكن الأوهام قد تخدعه، كلنا عرضة لذلك.

– وماذا ترى فيما سمع؟

– كيف لي بأن أجزم؟!

– لا محال في الأمر ما دام جدُّنا حيًّا.

– الويل لنا لو عُرف الخبر.

فقالت برجاء: فلنكتم الخبر ولنحمد الله على أنه ركز اهتمامه بالنفوس لا بالوقف، وما دام لا يؤذي أحدًا فلن يؤذيه أحد.

فقال شافعي بفتور: ما أكثر الذين يُؤذَوْن في حارتنا دون أن يؤذُوا أحدًا!

واختفت أنغام العرس وراء ضجة انفجرت في الدهليز. وأطلَّا من النافذة فرأيا الدهليز مزدحمًا بالرجال، وتبيَّنا على ضوء مصباح في يد أحدهم وجوه حجازي وبرهوم وفرحات وحنورة وآخرين، وكان كل لسان يتكلم أو يصرخ فاختلطت الأصوات وعمَّت الضوضاء. وعلا صوت هاتفًا: «شرف آل جبل في الميزان، ولن نسمح لأحد بتلويثه».

وهمست عبدة في أذن زوجها وهي ترتعد: سرُّ ابننا انكشف!

فتراجع عم شافعي عن النافذة متأوِّهًا وهو يقول: لم يكذبني قلبي قط.

واندفع الرجل خارج بيته غير مبالٍ بالخطر فتبعته زوجه على الأثر. وشق الرجل في الزحام سبيلًا متسائلًا بصوتٍ مرتفع: رفاعة .. أين أنت يا رفاعة؟

ولم يرَ الرجل ابنه في مجال ضوء المصباح، ولم يسمع صوته، ولكن حجازي اقترب منه وسأله بصوتٍ مرتفع ليسمعه على رغم الضوضاء: هل تاه ابنك مرةً أخرى؟

وصاح به فرحات: تعال اسمع ما يقال وانظر كيف يعبث العابثون بآل جبل على آخر الزمان!

فهتفت عبدة جزعًا: وحدوا الله، والمسامح كريم.

فتعالت أصوات الغضب، يهتف بعضها: «هذه المرأة مجنونة!»، ويهتف آخرون: «إنها لا تعرف معنى الشرف!» وامتلأ قلب شافعي رعبًا وسأل حجازي مستعطفًا: أين الولد؟

فشق حجازي سبيله حتى الباب وصاح بأعلى صوته: يا رفاعة .. تعال يا ولد كلم عم شافعي.

فاختلط الأمر على عم شافعي الذي كان يظن ابنه مقبوضًا عليه في ركن الدهليز، وإذا برفاعة يظهر في مجال الضوء فيجذبه أبوه من ذراعه ويتقهقر به إلى موقف عبدة. وسرعان ما تراءى فانوس في يد شلضم يسير به بين يدي خنفس الذي تقبَّض وجهه حنقًا وتجهمًا. واتجهت الأنظار نحو الفتوة وساد الصمت. وتساءل خنفس بصوتٍ غليظ: ماذا وراءكم؟

فأجابه أكثر من صوت في آن: ياسمينة لوثتنا!

فقال خنفس: فليتكلم الشاهد منكم!

فتقدم زيتونة — سائق عربة كارو — حتى وقف أمام خنفس وقال: منذ قليل رأيتها خارجة من باب بيت بيومي الخلفي، تبعتها إلى هنا ثم سألتها عما كانت تفعله في بيت الفتوة فتبين لي سكرها. كانت رائحة الخمر تخرج من فيها فتملأ الدهليز، أفلتت مني وأغلقت على نفسها الباب. والآن سلوا أنفسكم عما يمكن أن تفعله امرأةٌ سكرانة في بيت فتوة.

استرخت أعصاب شافعي وعبدة من ناحية، وتوترت أعصاب خنفس من ناحيةٍ أخرى. أدرك الرجل أن فتونته تتعرض لامتحان قاسٍ؛ فلو تهاون في معاقبة ياسمينة سيفقد كرامته أمام آل جبل، ولو ترك الغاضبين ليعتدوا عليها فسيدفع بنفسه إلى موقف التحدي أمام بيومي فتوة الحارة كلها. ما العمل؟ وكان رجال جبل يتوافدون من الربوع، ويحتشدون في الحوش، وفي الحارة أمام ربع النصر فازداد مركز خنفس حرجًا. وتتابعت الأصوات في غضب: اطردوها من حي آل جبل.

– يجب أن تُجلد قبل طردها.

– اقتلوها قتلًا.

وترامت صرخة ياسمينة التي كانت تنصت في الظلام وراء النافذة. وأحدقت الأعين بخنفس لكن رفاعة سمع وهو يسأل أباه: أليس الأولى بهم يا أبي أن يصبُّوا غضبهم على بيومي المعتدي؟

وغضب كثيرون من بينهم زيتونة الذي أجابه قائلًا: هي التي ذهبت إلى بيته بنفسها.

وصاح به آخر: وإذا لم يكن عندك كرامة فمن الخير أن تسكت.

وزجره أبوه بنظرة، لكن رفاعة قال بإصرار: لم يفعل بيومي إلا مثلما تفعلون.

فصرخ فيه زيتونة بجنون: هي من آل جبل؛ فليست للآخرين.

– هذا الولد سفيه وبلا كرامة.

فلكزه عم شافعي كي يسكت، على حين صاح برهوم: الكلمة الآن للمعلم!

وغلى الغيظ في قلب خنفس حتى كاد أن يختنق. وصرخت ياسمينة صرخات استغاثة. وانتشر الغضب فاتجهت الأنظار نحو بيت الفتاة وتوثب فيها الهجوم. وتتابعت صرخات ياسمينة حتى تقطع قلب رفاعة ولم يعد في وسعه الاحتمال، فأفلت من يد أبيه وشق طريقه إلى بيت ياسمينة وهتف برجاء: رحمة بضعفها وذعرها.

فصاح به زيتونة: أنت مرة!

وناداه شافعي بحرارة لكنه لم يبالِ وأجاب زيتونة: الله يسامحك. (ثم للجميع) ارحموها وافعلوا بي ما تشاءون، ألا تحرك الاستغاثات قلوبكم؟!

فعاد زيتونة يصيح: لا تلتفتوا لهذا الرقيع. (ثم مخاطبًا خنفس): الكلمة كلمتك يا معلم!

فتساءل رفاعة: هل يرضيكم أن أتزوج منها؟

فاختلط صراخ الغضب بصيحات الاستهزاء، وقال زيتونة: لا يهمنا إلا أن تنال جزاءها.

فاستقتل رفاعة قائلًا: سيكون العقاب من شأني أنا.

– بل هو من شأن الجميع.

ووجد خنفس في اقتراح رفاعة منقذًا له من ورطته. لم يكن في قلبه مقتنعًا به، ولكن لم يكن عنده خير منه. وغالى في تجهُّمه مداريًا ضعفه، وقال: الولد ارتبط أمامنا بزواجها فله ما يطلب.

زاغ بصر زيتونة وأعماه الغضب فصاح: ضيَّع الجبنُ الشرف!

وإذا بقبضة خنفس تحطم أرنبة أنفه، فتراجع مولوِلًا والدم يسيل من منخريه بغزارة. وأدرك الجميع أن خنفس سيغطي على موقفه الضعيف بإرهاب من يخالفه. وقلَّب عينَيه في الوجوه التي كشف ضوء الفانوس عن خوفها فلم تند من أحد منهم حركة عطف على محطَّم الأنف. بل وبخ فرحات زيتونة قائلًا: «عيبك في لسانك.» وقال برهوم لخنفس «لولاك ما اهتدينا إلى حل!» وقال له حنورة: «زعلك بالدنيا يا معلم.» وأخذوا في التفرق فلم يبقَ في النهاية إلا خنفس وشلضم وشافعي وعبدة ورفاعة. ومضى عم شافعي إلى خنفس ليحييه فمد له يده ولكن الآخر استشاط غضبًا وضرب يده بظاهر كفه فتأوَّه الرجل مقهقرًا. وهرع إليه ابنه وزوجته على حين غادر خنفس الدهليز وهو يسبُّ الرجال والنساء وآل جبل بل وجبل نفسه. ونسي عم شافعي في ألمه الورطة التي عثر فيها ابنه. ونقع الرجل يده في ماء ساخن وراحت عبدة تدلكها وهي تقول: ترى هل أوغرت زكية صدر زوجها علينا؟!

فقال عم شافعي متوجعًا: نسي الجبان أن ابننا الأحمق هو الذي أنقذه من نبوت بيومي!

٥٢

كان رفاعة معقد آمال والديه فشدَّ ما خابت الآمال؛ بزواجه من ياسمينة سينتهي الشاب إلى لا شيء، أما الأسرة فصارت مضغة للأفواه ولما يتم الزواج. وبكت عبدة خفية حتى أضر بها البكاء، وتجهم وجه شافعي إذ تجهمته الدنيا، لكنهما حيال الشاب انطويا على نفسيهما وتجنبا المغاضبة. ولعل ياسمينة هونت من الخطب بسلوكها عقب المظاهرة، إذ هرعت إلى بيت عم شافعي وجثت أمام الرجل وزوجه باكية وسكبت على قدميهما بعض ما فاض به قلبها من الامتنان، ثم أعلنت في حرارة وجِدٍّ توبتها. ولم يكن من الممكن العدول عن الزواج بعد أن ارتبط به الشاب جهارًا أمام آل جبل، فسلم عم شافعي وزوجه بالأمر ووطَّنا النفس على تقبُّله. وتنازع قلبَي الوالدين رغبتان، واحدة تود أن ترعى التقاليد في الاحتفال بعرس رفاعة وموكب زفَّته، والأخرى ترى الاقتصار على حفلٍ بيتي حتى لا يتعرض الموكب لسخرية آل جبل الذين باتوا يعرِّضون بالزواج في كل نادٍ. وقالت عبدة في حسرة معربة عن عواطفها المكبوتة: طالما منَّيت نفسي برؤية زفة رفاعة، ابني الوحيد، وهي تجوب الأحياء!

فقال عم شافعي بامتعاض: لن يرضى بالاشتراك فيها أحد من آل جبل.

فقطَّبت عبدة قائلة: العودة إلى سوق المقطم خير من البقاء بين أناس لا يحبوننا!

فقال رفاعة وهو يمدُّ ساقَيه تحت النافذة المفتوحة متشمسًا: لن نغادر الحارة يا أمي.

فصاح شافعي بحدة: ليتنا لم نعد! (ثم مخاطبًا ابنه) .. ألم تكن حزينًا يوم عدنا؟

فابتسم رفاعة قائلًا: اليوم غير الأمس. إذا ذهبنا فمن ذا الذي يخلص آل جبل من العفاريت؟

فقال شافعي محتدًّا: فلتركبهم العفاريت إلى الأبد!

ثم بعد تردد: أنت نفسك ستجيء إلى بيتنا ﺑ…

وقاطعه رفاعة: لن أجيء إلى بيتنا بأحد، سأذهب أنا إلى المسكن الآخر.

فهتفت الأم: لا يعني أبوك ذلك!

– لكني أعنيه يا أمي، ليس البيت الجديد بالبعيد، وفي وسعنا أن نتصافح كل صباح من النافذة!

وعلى رغم أحزان عم شافعي قرر الاحتفال بيوم الزفاف ولو في أضيق الحدود. أقام الزينات بالدهليز وفوق بابَي المسكنَين، وجاء بمغنٍّ وطباخ. ودعا جميع المعارف والأصدقاء، ولكن لم يلبِّ الدعوة إلا عم جواد وأم بخاطرها وعم حجازي وأسرته وبعض الفقراء الذين حرصوا على الطعام. وكان رفاعة أول فتًى يتزوج بلا زفة. وانتقلت الأسرة عبر الدهليز إلى بيت العروس. وغنى المطرب بفتور لقلة المدعوين. وفي أثناء تناول الطعام أثنى جواد الشاعر على شهامة رفاعة وخلقه وقال: إنه فتًى ذكيٌّ حكيم صافي السريرة، ولكنه في حارة لا تقيم لغير البلطجة والنبابيت وزنًا. وإذا بغلمان يقفون أمام الربع ويغنون معًا: «يا رفاعة يا وش القملة مين قال لك تعمل دي العملة»، ويختمون بالتهليل والعربدة. ونظر رفاعة في الأرض على حين اصفرَّ وجه شافعي، وغضب عم حجازي وقال: الكلاب أولاد الكلاب!

ولكن عم جواد قال: ما أكثر القاذورات في حارتنا ولكن الطيب لا يُنسى فيها أبدًا. كم من فتوة استكبر فيها؟ لكنها لا تذكر بالجميل إلا أدهم وجبل.

ثم حثَّ المطرب على الغناء؛ ليغطي غناؤه على الأصوات المعربدة. ومضى الحفل في مغالبة للوجوم حتى انصرف الجميع. ولم يبقَ في البيت إلا رفاعة وياسمينة. بدت الفتاة في ثوب العرس آية في الجمال، وإلى جانبها جلس رفاعة في جلبابٍ حريري مهفهف، وعلى الرأس لاسة مزركشة، وفي القدمَين مركوب فاقع الاصفرار. جلسا على كنبة، يقابلها في الناحية الأخرى الفراش المورد. وقد لاحت في مرآة الصوان صورة الطست والإبريق تحت الفراش. والظاهر أنها كانت تتوقع من جانبه هجومًا، أو في الأقل تمهيدًا للهجوم المنتظر، ولكنه لبث يردد البصر بين الفانوس المدلى من السقف والحصيرة الملونة.

ولما طال الانتظار أرادت أن تبدد كثافة الصمت المخيم فقالت برقَّة: لن أنسى فضلك؛ إني مدينة لك بحياتي.

فنظر نحوها في مودة، وقال بصوت مَن لا يود الرجوع إلى هذا الحديث: كلنا مدينون بحياتنا لغيرنا.

ما أطيبه! ليلة الحادث أبى أن يبيح لها يديه تقبلهما، وهو الآن لا يود تذكيره بالجميل الذي صنع. ليس كمثل طيبته إلا صبره. لكن فيم يفكر يا ترى؟ هل ساءه أن تدفعه طيبته إلى الزواج من مثلها؟

– لست شريرة بالدرجة التي يظنها الناس، أما هم فقد أحبوني واحتقروني لشيء واحد.

فقال مواسيًا: أعرف ذلك، ما أكثر الأخطاء بحارتنا!

فقالت بحنق: يفاخرون دائمًا بأنهم من صلب أدهم، وفي الوقت نفسه يباهون بالكبائر!

فقال في يقين: ما دام التخلص من العفاريت ميسورًا فما أقربنا من السعادة!

ولم تدرك مرماه ولكنها استشعرت فجأة مدى السخرية التي تحيط بها في مجلسها، فقالت ضاحكة: ما أعجبه من حديث في ليلة الزفاف!

ورفعت رأسها في شيء من الكبرياء، فبدا أنها تناست حال الامتنان، وأزاحت عن منكبيها الوشاح، ونظرت نحوه نظرة مفعمة بالدلال، فقال برجاء: ستكونين أول مَن يسعد في حارتنا.

فقالت ياسمينة: حقًّا؟! عندي شراب!

– شربت قليلًا مع العشاء، وفيه الكفاية.

فتفكرت قليلًا في حيرة، ثم قالت: عندي حشيش طيب!

– جرَّبته فوجدتني لا أطيقه.

فقالت في ارتياع: أبوك حشاش قارح، رأيته مرة خارجًا من غرزة شلضم وهو لا يميز بين الليل والنهار!

فابتسم دون أن ينبس، فردَّت عنه طرفها في انكسار، وتميزت غيظًا، وقامت فمضت حتى الباب ثم استدارت عائدة حتى وقفت تحت الفانوس. وشف ثوبها الرقيق عن جسدها البارع. وجعلت تنظر في عينَيه الهادئتَين حتى داخلها اليأس. وتساءلت: لماذا أنقذتني؟

– لا أطيق أن يتعذب إنسان.

فغلبها الغيظ، وقالت في حدة: من أجل هذا تزوجتني، من أجل هذا وحده؟!

فقال برجاء: لا تعودي إلى أيام الغضب!

فعضَّت شفتها فيما يشبه الندم، وقالت بصوتٍ منخفض: ظننتك أحببتني.

فقال في صدق وبساطة: إني أحبك يا ياسمينة.

فلاح التعجب في عينيها وغمغمت: حقًّا؟!

– نعم، ما من مخلوق في حارتنا إلا وأحبه!

فتنهدت في خيبة، ورمقته بريبة قائلة: فهمتك، ستبقى إلى جانبي أشهرًا ثم تطلقني.

فاتسعت عيناه وتمتم: لا تعودي إلى الأفكار الماضية!

– حيرتني! ماذا عندك لي؟

– السعادة الحقيقية.

فقالت بامتعاض: عرفتها أحيانًا من قبل أن أراك!

– لا سعادة بلا كرامة!

فقالت وهي تضحك على رغمها: ولكننا لا نسعد بالكرامة وحدها.

فقال بصوتٍ حزين: لم يعرف أحد من حيِّنا السعادة الحقيقية.

اتجهت بخطواتٍ ثقيلة نحو الفراش، وجلست على حافته في فتور. ورنا إليها بحنان وقال: إنكِ كجميع أهل حيِّنا لا تفكرين إلا في الوقف الضائع!

فلاح في وجهها السخط وقالت: ربنا يقدرني على حل ألغازك.

– ستحل نفسها بنفسها عندما تتخلصين من عفريتك.

فهتفت بحدة: إني راضية عن نفسي كما هي.

فقال رفاعة بأسًى: هكذا يقول خنفس والآخرون!

ونفخت في ضيق وتساءلت: هل نتكلم على هذا النحو حتى الصباح؟

– نامي، أسعد الله أحلامك!

وتزحزحت إلى الوراء ثم استلقت على ظهرها، ورددت عينيها بين الفراغ جنبها وبين عينيه، فقال: خذي راحتك، سأنام أنا على الكنبة.

وانتابتها نوبة ضحك، لكنها لم تستسلم لها طويلًا، وقالت ساخرة: أخاف أن تزورنا أمك غدًا؛ لتحذرك من الإفراط!

ونظرت نحوه لتتشفى برؤية الخجل في وجهه ولكنه طالعها بعينين هادئتين صافيتين، وقال: أود أن أخلصك من عفريتك!

فصاحت غاضبة: دع أعمال النساء للنساء.

وأدارت وجهها للحائط. وكان صدرها يحترق غيظًا وقلقًا. وقام رفاعة إلى الفانوس وأخفض ذبالته ثم نفخه فانطفأ وساد الظلام.

٥٣

وشهدت الأيام التالية للزواج حركةً دائبة في حياة رفاعة؛ انقطع عن الدكان أو كاد، ولولا حب أبيه وعطفه لما وجد ما يمسك به حياته، ومضى يدعو مَن يصادفه من آل جبل إلى أن يثق به كي يخلصه من عفريته، فيحقق بذلك سعادةً صافية لم يحلم بها من قبلُ. وتهامس آل جبل بأن رفاعة بن شافعي قد خفَّ عقله وأمسى من زمرة المجذوبين، وعلل البعض ذلك بما عرف عنه من غرابة أطوار، كما علله آخرون بزواجه من امرأة مثل ياسمينة. ودارت الأحاديث عن ذلك في القهوة والبيوت وحول عربات اليد وفي الغرز. وشدَّ ما دهشت أم بخاطرها حين مال رفاعة على أذنها وقال برقَّته المعهودة: هلا سمحتِ لي بأن أطهِّرك؟

فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت: مَن أدراك بأن عليَّ عفريتًا شريرًا؟! أهذا هو رأيك عن المرأة التي أحبتك كابنها؟!

فقال جادًّا: أنا لا أعرض خدماتي إلا على الذين أحبهم وأحترمهم، وأنت مصدر خير وبركة ولكنك لا تخلين من طمع يحملك على الاتجار بالمرضى، فلو تخلصت من سيدك لوهبت الخير بلا ثمن!

ولم تتمالك المرأة نفسها من الضحك وهي تقول: أتود خراب بيتي؟! الله يسامحك يا رفاعة.

وتناقل الناس حديث أم بخاطرها ضاحكين، حتى عم شافعي ضحك ضحكة بلا مسرة. ولكن رفاعة قال له: أنت نفسك يا أبي في حاجة إليَّ، ومن البر أن أبدأ بك.

فهزَّ الرجل رأسه في كمد، وراح يدق المسامير بين يديه بقوة وشَتْ بانفعاله، ثم قال: ربنا يصبرني.

وحاول الشاب إقناعه فتساءل الرجل متألمًا: أما كفاك أن جعلتنا أحدوثة الحي؟!

وانزوى رفاعة في ركن الدكان مكتئبًا فرمقه الرجل بريبة وسأله: أحقًّا دعوت زوجك إلى ما تدعونا إليه؟

فقال بأسف: وهي مثلكم لا ترغب في السعادة.

ومضى رفاعة إلى غرزة شلضم في الخرابة وراء القهوة فوجد حول المجمرة شلضم وحجازي وبرهوم وفرحات وحنورة وزيتونة. تطلعوا إليه بغرابة وقال شلضم: أهلًا بابن عم شافعي، ترى هل أقنعك الزواج بفائدة الغرز؟!

فوضع رفاعة على الطبلية لفة كنافة وقال وهو يتخذ مجلسه: جئتكم بهذه تحية للمجلس.

فقال شلضم وهو يدير الجوزة: مرحبًا بالكرم.

لكن برهوم ضحك فجأة وقال بلا هوادة: وسوف يعرض علينا بعد ذلك أن يقيم لنا حفلة زار ليطهرنا من العفاريت!

وهتف زيتونة حانقًا بصوته الأخنف وهو يلتهمه بنظرةٍ حاقدة: على زوجتك عفريت اسمه بيومي فخلِّصها منه إن استطعت.

وبهت الرجال ووضح في وجوههم الحرج فقال زيتونة وهو يشير إلى أنفه المحطم: بسببه فقدت أنفي.

وبدا أن رفاعة لم يغضب، فنظر فرحات نحوه بأسًى وقال: أبوك رجلٌ طيب ونجارٌ ماهر، ولكنك بسلوكك هذا تجرُّ عليه المتاعب والسخرية. لم يكد الرجل يفيق من زواجك حتى هجرتَ دكانه لتخلص الناس من العفاريت! شفاك الله يا بني.

– لست مريضًا ولكني أودُّ لكم السعادة.

فشدَّ زيتونة نفسًا طويلًا وهو يرمقه بقسوة ثم نفث الدخان متسائلًا: ومن أخبرك بأننا غير سعداء؟!

فقال الشاب: أراد جدنا لنا غير ما نحن عليه.

فقال فرحات ضاحكًا: دع جدك في حاله، من أدراك أنه لم ينسنا؟!

وحدجه زيتونة بنظرةٍ حانقةٍ حاقدة ولكن حجازي لكزه قائلًا في تحذير: ينبغي أن تحترم المجلس، فلا تفكر في الاعتداء!

وأراد الرجل أن يغير الجو فهزَّ رأسه وأشار إلى أصحابه إشارة خاصة فراحوا يغنون:

مركب حبيبي في الميه جاية،
راخية شعورها على المية.

وغادر المكان وبعضهم ينظر نحوه في رثاء. وعاد إلى بيته بفؤادٍ كسير فاستقبلته ياسمينة بابتسامةٍ هادئة. وكانت تلومه أول الأمر على سلوكه الذي جعل منه — ومنها بالتالي — نادرة. لكنها كفَّت عن لومه يائسة. وصبرت على تلك الحياة التي لم تدرِ على أي وجه ستنتهي، بل وعاملته بلطف ورقَّة. ودق الباب، وإذا بالقادم خنفس فتوة آل جبل. دخل الرجل دون استئذان فقام له رفاعة مُرحبًا فقبض الفتوة على منكبه بيدٍ شديدة كأنها فكَّا كلبٍ غاضب. وسأله دون مقدمات: ماذا قلت عن الواقف في غرزة شلضم؟

ارتاعت ياسمينة حتى هرب دمها، لكن رفاعة قال بهدوء على الرغم من أنه بدا كعصفور بين مخالب نسر: قلت: إن جدَّنا يود لنا السعادة!

فهزَّه هزةً عنيفة وسأله: مَن أدراك بذلك؟

– ورد ذلك ضمن أقواله لجبل.

فازدادت يده شدة على منكبه وقال: إنه كلم جبل عن الوقف.

فقال رفاعة وقد أنهكه تحمل الألم: لا يعنيني الوقف في شيء. السعادة التي لم أستطع أن أحققها بعدُ لأحد شيء غير الوقف، وغير الخمر، وغير الحشيش. قلت ذلك في كل مكان بحي جبل، وسمعني الجميع وأنا أقوله.

فهزَّه مرةً أخرى وقال: كان أبوك عاصيًا ثم تاب، احذر أن تعيد سيرته وإلا هرستك كما تهرس البقة!

ودفعه فهوى على ظهره فوق الكنبة، ثم ذهب. وهرعت ياسمينة إليه لتواسيه وتدلك منكبه الذي مال عليه رأسه من الوجع. وبدا في شبه غيبوبة، وغمغم كأنما يحادث نفسه.

– إنه صوت جدي الذي سمعته.

ونظرت في وجهه بإشفاق وذعر، وتساءلت: هل ضاع عقله حقًّا؟! ولم تعد عليه ما قال وساورها قلق لم تشعر به من قبلُ. ويومًا غادر الربع فاعترضت سبيله امرأة من غير آل جبل، وقالت له باستعطاف: صباح الخير يا معلم رفاعة.

ودهش لرنة الاحترام في صوتها وللقب الذي قرنته باسمه فسألها: ماذا تريدين؟

فقالت بضراعة: لي ابن ممسوس أرجو أن تخلصه!

وكان كآل جبل جميعًا يحتقر أهل الحارة، فاستنكف أن يضع نفسه في خدمة المرأة فيضاعف من ازدراء آله له، فقال لها: ألا توجد كودية في الحارة؟

فقالت المرأة بصوتٍ باكٍ: بلي ولكني امرأةٌ فقيرة.

ورقَّ لها قلبه كما أسره لجوءها إليه هو الذي لم يلقَ من آله إلا الهزء والاحتقار. ونظر إليها في تصميم وهو يقول: إني طوع أمرك.

٥٤

كانت ياسمينة تطل من النافذة على الحارة متسلية بالمنظر الجديد. وكان في أسفل الربع غلمان يلعبون، وبائعة دوم تنادي، على حين أمسك بطيخة بتلابيب رجل وراح يضرب وجهه بكفه والآخر يستعطفه دون جدوى. وسألها رفاعة وهو جالس على الكنبة يقصُّ أظافر قدميه: هل يعجبك بيتنا الجديد؟

فالتفتت نحوه قائلة: هنا تحتنا الحارة، أما هنالك فلم نكن نرى إلا الدهليز المعتم.

فقال رفاعة بأسًى: ليت الدهليز بقي لنا، إنه دهليزٌ مبارك؛ إذ فيه تقرر النصر لجبل على أعدائه، ولكن لم يكن في الإمكان مواصلة الإقامة بين أناس يستهزئون بنا في كل خطوة. أما هنا فالفقراء طيبون، والطيب هو السيد لا آل جبل.

فقالت ياسمينة باستهانة: وأنا كرهتهم مذ عزموا على طردي.

فسألها باسمًا: لماذا إذن تقولين للجيران إنك من آل جبل!

فضحكت ضحكة كشفت عن أسنانها اللؤلؤية وقالت في مباهاة: ليعلموا أني فوقهم جميعًا.

فوضع المقص على الكنبة وطرح ساقَيه على الحصيرة وهو يقول: ستكونين أجمل وأفضل عندما تقهرين الغرور. ليس آل جبل بخير حارتنا، خير الناس أطيبهم، وكنت مخطئًا مثلك فخصصت آل جبل باهتمامي، ولكن السعادة لا يستحقها إلا من ينشدها مخلصًا. انظري إلى الطيبين كيف يقبلون عليَّ وكيف يبرءون من العفاريت!

فقالت باحتجاج: لكن كل أحد هنا يعمل بأجر إلا أنت!

– لولاي ما وجد الفقراء مَن يشفيهم، إنهم يقدرون الشفاء لكنهم لا يملكون ثمنه، وأنا ما عرفت الأصدقاء حتى عرفتهم.

وأمسكت عن الجدل بوجهٍ ممتعض فقال رفاعة: آه لو تذعنين لي كما يذعنون! إذن لخلصتك مما يعكر صفو الحياة.

فتساءلت غاضبة: أتجدني مزعجة لهذا الحد؟

– من الناس من يعشق عفريتًا وهو لا يدري.

فهتفت بحدة: ما أبغض هذا الحديث إليَّ!

فقال باسمًا: إنك من آل جبل، وكلهم أبى أن يسلم لدوائي، حتى أبي نفسه!

وعندما دقَّ الباب أدركا أن زبونًا جديدًا قد قدم فتهيأ رفاعة لاستقباله.

والحق أن رفاعة لم يلقَ من عمره أسعد من هذه الأيام. كان يُدعى في الحي الجديد بالمعلم رفاعة، وكانوا يدعونه بها في إخلاص ومحبة. وعرف بأنه يخلص من العفاريت ويهب الصحة والسعادة لوجه الله وحده. وهذا سلوكٌ نقي لم يعرف عن أحد قبله، فلذلك أحبه الفقراء كما لم يحبوا أحدًا قط. وطبيعي أن بطيخة فتوة الحي الجديد لم يحبه، لسلوكه الطيب من ناحية، ولأنه لم يكن من القادرين على أداء أي إتاوة من ناحيةٍ أخرى، ولكنه في الوقت نفسه لم يجد مسوغًا للاعتداء عليه. أما الذين برئوا على يديه فكان لكلٍّ منهم قصة يرددها. فأم داود كانت إذا ركبتها النوبة العصبية عضت وليدها، وهي اليوم مثال للهدوء والاتزان. وسنارة الذي لم يكن له من هواية إلا الشجار والنقار أصبح وديعًا حليمًا كأنه تحية سلام. وطلبة النشال تاب توبةً صادقة واشتغل صبي مبيض نحاس. وعويس تزوج بعد الذي كان.

واصطفى رفاعة من مرضاه أربعة وهم زكي وحسين وعلي وكريم، اصطفاهم لصداقته فصاروا إخوة. لم يعرف أحد منهم الصداقة ولا الحب قبل أن يعرفه. كان زكي برمجيًّا، وكان حسين مدمن أفيون لا يفيق، وعلي يتدرب على الفتونة، وكريم قوادًا، فانقلبوا رجالًا ذوي قلوبٍ كبيرة. وكانوا يجتمعون عند صخرة هند حيث الخلاء والهواء النقي، فيتبادلون أحاديث المودة والصفاء، ويتطلعون إلى طبيبهم بأعين تفيض بالحب والإخلاص، ويحلمون جميعًا بسعادة ستُظل الحارة بأجنحتها البيضاء. ويومًا تساءل رفاعة وهم بمجلسهم ينظرون إلى حمرة الشفق في هدوء المغيب: لماذا نحن سعداء؟

فأجاب حسين بحماس: أنتَ .. أنتَ سر سعادتنا.

فابتسم ابتسامة شكر وقال: بل لأننا تخلصنا من العفاريت فتطهرنا من الحقد والطمع والكراهية وسائر الشرور التي تفتك بأهل حارتنا.

فقال علي مؤمنًا على قوله: سعداء بالرغم من أننا فقراء ضعفاء لا حظَّ لنا في الوقف أو الفتونة.

فهزَّ رفاعة رأسه أسفًا وقال: كم يتعذب الناس من أجل الوقف الضائع والقوة العمياء فالعنوا معي الوقف والفتونة!

فاستبقوا إلى لعنهما، وتناول علي طوبة فرماها بأقصى قوته صوب الجبل. وعاد رفاعة يقول: ومذ قال الشعراء إن الجبلاوي حثَّ جبل على أن يجعل من ربوع آل جبل بيوتًا تضارع البيت الكبير في جلاله وجماله، طمح الناس إلى قوة الجبلاوي وجاهه، وتناسوا مزاياه الأخريات؛ لذلك لم يستطع جبل أن يغير النفوس بنيله حقهم في الوقف، ولما رحل عن الدنيا انقلب الأقوياء مغتصبين والضعفاء حاقدين وأطبق الشقاء على الجميع، أما أنا فأفتح أبواب السعادة بلا وقف ولا قوة ولا جاه.

وهوى كريم بوجهه إليه فقبله، فمضى يقول: وغدًا عندما يلمس الأقوياء سعادة الضعفاء؛ سيدركون أن قوتهم وجاههم وأموالهم المغتصبة لا شيء.

وصدرت عن الأصدقاء كلمات الثناء والحب، وحمل الهواء غناء راعٍ في أقصى الخلاء.

وتجلى في السماء نجمٌ واحد. ونظر رفاعة في وجوه الأصحاب وقال: ولكني لا أكفي وحدي لعلاج أهل حارتنا، آن لكم أن تعملوا بأنفسكم، وأن تتعلموا الأسرار؛ لتخلصوا المرضى من العفاريت.

فبدت الغبطة في الوجوه وهتف زكي: ذلك أعزُّ أمانينا.

فابتسم إليهم قائلًا: ستكونون مفاتيح السعادة في حارتنا.

ولما عادوا إلى حيِّهم وجدوه يضيء بأنوار عرس في أحد الربوع. ورأى كثيرون رفاعة فأقبلوا عليه مصافحين. وتغيظ بطيخة فقام من مجلسه بالقهوة وهو يسب ويلعن، ويصفع هذا وذاك، ثم تحول إلى رفاعة متسائلًا في قحة: ماذا ترى في نفسك يا ولد؟

فقال رفاعة برقَّة: صديق المساكين يا معلم.

فصاح الرجل: إذن امشِ كما يمشي المساكين لا كعريس الزفة، أنسيت أنك طريد حي وزوج ياسمينة وكودية زار؟!

وبصق في تحرش. وتباعد الناس. وساد الوجوم. لكن زغاريد الفرح غطت على كل شيء.

٥٥

وقف بيومي فتوة الحارة وراء باب حديقته الخلفي الذي يفتح على الخلاء. كان الليل في أوله وكان الرجل ينتظر وهو يتنصَّت. وعندما طرق أصبع الباب بخفة فتح الباب؛ فتسللت إلى داخل الحديقة امرأة كأنها بملاءتها ونقابها قطعة من الليل. تناول يديها وسار بها في مماشي الحديقة متجنبًا الاقتراب من البيت حتى بلغ المنظرة فدفع الباب ودخل، وهي في أثره. وأشعل شمعة فأقامها على حافة نافذة، فبدت المنظرة في شبه مغيب، والكنبات مصطفَّة بأضلعها، وفي الوسط صينيةٌ كبيرةٌ محملة بالجوزة ولوازمها في دائرة من الشِّلَت. ونزعت المرأة عنها ملاءتها والنقاب، فضمَّها بيومي إليه بقوة نفذت إلى عظامها حتى رمقته بنظرة استرحام. وتخلَّصت منه برشاقة فضحك ضحكةً خافتة وجلس على شلتة. وراح يعبث بأصبعه في رماد المجمرة حتى تكشَّف عن جمر يومض. وجلست إلى جانبه وقبلت أذنه ثم أشارت إلى المجمرة وهي تقول: كدت أنسى رائحته.

فراح يمطر خدها وعنقها بالقبل، ثم قال وهو يرمي قطعة في حجرها: هذا الصنف لا يدخنه في حارتنا إلا الناظر والعبد لله!

وترامى من الحارة صوت معركة تحتدم، سبٌّ وارتطام عصيٍّ، وتحطُّم زجاج، ووقع أقدام جارية، وصوات امرأة، ثم نباح كلب .. ولاح تساؤلٌ منزعج في عينَي المرأة، ولكن الرجل راح يقطع الصنف في غير مبالاة، فقالت المرأة: كم يشقُّ عليَّ المجيء! فلكي آمَن العيون أسير من الحارة إلى الجمالية، ومن الجمالية إلى الدرَّاسة، ومن الدرَّاسة إلى الخلاء حتى بابك الخلفي.

فمال نحوها دون أن تكفَّ أصابعه عن العمل وتشمَّم إبطها في تلذذ وقال: لن أبالي أن أزورك في بيتك.

فابتسمت قائلة: لو فعلتَ ما تعرض لك أحد من الجبناء، حتى بطيخة سيفرش لك الرمل، ثم يصبُّون غضبهم عليَّ وحدي.

وعبثت بشاربه الغليظ وقالت في دعابة: لكنك تسللت إلى المنظرة في بيتك خوفًا من زوجتك.

فترك القطعة وطوقها بذراعه فضمها إليه بعنف حتى أنَّت، ثم همست: اللهم احفظنا من عشق الفتوات!

فأطلقها وهو يرفع رأسه ويبرز صدره كالديك الرومي وقال: لا يوجد إلا فتوةٌ واحد، أما الآخرون فصبيانه.

فلاعبت شعر صدره المحسور عنه طوق جلبابه وقالت: فتوة على الناس لا عليَّ أنا.

فقرصها في صدرها بخفة وقال: أنتِ تاج رأس الفتوة.

ومد يده إلى ما وراء الصينية فتناول إبريقًا وهو يقول: بوظة عجيبة!

فقالت آسفة: لها رائحةٌ قوية قد يشمها زوجي العزيز!

فتجرع من الإبريق حتى روي، ومضى يرصُّ الحجر وهو يقول مقطبًا: يا له من زوج! لمحته مرات وهو يهيم على وجهه كالمجنون، أول كودية زار من جنس الرجال في هذه الحارة العجيبة!

فتابعته وهو يدخن وقالت: إني مدينة له بحياتي، لذلك أتصبَّر على معاشرته، ولا ضرر منه؛ إذ ليس أيسر من خداعه.

وقدم إليها الجوزة فالتقمت فوهتها بشوق وشدت أنفاسًا بشراهة ثم زفرت الدخان مغمضة العينَين ثملة الحواس. وراح بدوره يدخن، فيأخذ أنفاسًا متقطعة وبين كل نفس وآخر يتكلم قائلًا: تتركينه .. يعبث .. بك .. عبث .. الأطفال …

فهزت منكبَيها هازئة وقالت: لا عمل لزوجي في هذه الدنيا إلا تخليص الفقراء من العفاريت!

– وأنت ألا تخلصينه من شيء؟

– مظلومة وحياتك! نظرةٌ واحدة إلى وجهه تغني عن الكلام.

– ولا مرة كل شهر!

– ولا كل سنة، إنه مشغول عن زوجته بعفاريت الناس!

– فلتركبه العفاريت! وأي فائدة يجنيها من وراء ذلك؟

فهزَّت رأسها في حيرة وقالت: لا يجني شيئًا، ولولا أبوه لهلكنا جوعًا، وهو يعتقد بأنه مكلَّف بإسعاد الفقراء وتطهيرهم.

– ومَن الذي كلفه؟

– يقول إن هذا ما يريده الواقف لأبنائه.

وتجلَّى الاهتمام في عينَي بيومي الضيقتَين فوضع الجوزة في الكوز وسألها: أقال إن الواقف يريد ذلك؟

– نعم.

– ومن أدراه بما يريد الواقف؟

وشعرت المرأة بضيق وانزعاج، وخافت أن يفسد الجو، أو أن تحدث أمورٌ خطيرة، فقالت: هكذا يؤوِّل أقواله التي يتغنى بها الشعراء.

ومضى يرصُّ حجرًا جديدًا وهو يقول: حارة بنت كلب، وحيُّ آل جبل أنجسها، فيهم ظهر أكبر دجال، وينشرون الأخبار الغريبة عن الوقف والشروط العشرة، كأن الواقف جدهم وحدهم؛ وبالأمس جاء دجالهم جبل بكذبة سرق بها الوقف، واليوم يؤوِّل هذا المعتوه كلامًا لا يقبل التأويل، وسيزعم أنه سمعه من الجبلاوي نفسه.

فقالت بقلق: إنه لا ينشد سوى تخليص الفقراء من العفاريت.

فشخر الفتوة هازئًا ثم تساءل: ومَن يدرينا فلعل في الوقف عفريتًا!

ثم بصوت ارتفع لدرجة لا تتفق وسرية الاجتماع: الواقف ميت أو في حكم ذلك يا أولاد الكلب.

وانزعجت ياسمينة، خافت أن تفلت الفرصة المتاحة وأن يتعكر الجو، ومدت يدها إلى الفستان لتنزعه رويدًا. وانبسطت أسارير الرجل بعد تجهُّم، ورنا إليها بعينَين متوثبتَين.

٥٦

بدا الناظر في عباءته ضئيلًا. وكان الاهتمام بارزًا في وجهه الأبيض المستدير بروز الذبول الذي اعتور جفنَيه والشيخوخة المبكرة الواضحة في نظرة عينيه وفي التجاعيد المرسومة تحتهما من أثر التهالك في الشهوات. أما وجه بيومي الممتلئ فلم يشِ بالارتياح الباطني الذي سرى فيه نتيجة لقلق سيده؛ ذلك القلق الذي يدل على خطورة الأنباء التي نقلها إليه، فيدل بالتالي على خطورة الدور الذي يؤديه للناظر وللوقف. كان يقول للناظر: على رغمي أزعجك بهذه الأخبار، ولكن لم يكن في وسعي أن أتصرف من دون الرجوع إليك في أمر يتعلق بالوقف، ومن ناحيةٍ أخرى فهذا المشاغب المعتوه من آل جبل، وعلينا عهد بألا يتعدى أحد منا على أحد منهم إلا بعد إذنك.

وتساءل الناظر إيهاب بوجهٍ مكفهرٍّ: وهل زعم حقًّا أنه اتصل بالواقف؟

– تأكد لديَّ ذلك من أكثر من مصدر. إن مرضاه يؤمنون بذلك ولو أنهم يتكتمون الأمر بحرصٍ شديد.

– لعله مجنون، كما كان جبل دجالًا، ولكن هذه الحارة القذرة تحب المجانين والدجالين. ماذا يريد آل جبل بعدما نهبوا الوقف بلا حق؟ لماذا لا يتصل الواقف بأحد غيرهم؟ لماذا لا يتصل بي وأنا أقرب الناس إليه؟ إنه قعيد حجرته، ولا يُفتح باب بيته إلا عندما تحمل إليه حوائجه، لا يراه أحد ولا يرى هو إلا جاريته، ولكن ما أيسر أن يقابله آل جبل أو أن يسمعوه!

فقال بيومي بحنق: لن يرتاح لهم بال حتى يستولوا على الوقف كله.

فاصفرَّ وجه الناظر غضبًا، وتوثب لإصدار الأوامر، ولكنه تراجع متسائلًا: أقال عن الوقف شيئًا، أم قصر نشاطه على إخراج العفاريت؟

فقال بيومي بحنق: مثل جبل كان نشاطه مقصورًا على إخراج الثعابين.

ثم في تهكم: ما للواقف والعفاريت؟!

فوقف إيهاب، وهو يقول بحدة: لا أريد أن تصيبني اللعنة التي أصابت الأفندي.

ودعا بيومي جابر وحندوسة وخالد وبطيخة إلى غرزته وقال لهم: إن عليهم أن يجدوا علاجًا لجنون رفاعة بن شافعي النجار.

وتساءل بطيخة في انزعاج: أمن أجل هذا دعوتنا يا معلم؟

فهزَّ بيومي رأسه بالإيجاب فضرب بطيخة كفًّا على كف وهتف: يا هوه! فتوات الحارة تجتمع من أجل مخلوق لا هو ذكر ولا هو أنثى؟!

فرماه بيومي بنظرة ازدراء وقال: مارس نشاطه تحت سمعك وبصرك فلم تدرك له خطرًا، وطبعًا لم تسمع عن مزاعمه عن الاتصال بالواقف.

وتبادلوا نظراتٍ نارية من خلال الدخان المنتشر وقال بطيخة بذهول: ابن الهرمة! ما للواقف والعفاريت؟! هل كان جدنا كودية زار؟

وشرعوا في الضحك ولكن سرعان ما عدلوا عنه لتجهُّم بيومي الذي قال: أنت شمام يا بطيخة، الفتوة يسكر ويحشش ولكن لا يليق به الشم!

فقال بطيخة مدافعًا عن نفسه: يا معلم أنا في زفة عنتر كنت الهدف لنبابيت عشرين رجلًا، فغطى الدم وجهي وعنقي ولكن نبوتي لم يسقط من يدي.

وهنا قال حندوسة في رجاء: فلندع له الأمر يعالجه بما يرى، وإلا فقد هيبته، وليته يجد طريقة غير الاعتداء على المعتوه، فإن الاعتداء على مثله مهين للفتوة!

ونامت الحارة ولا أحد يدري بما بُيِّت في غرزة بيومي. وفي صباح اليوم التالي غادر رفاعة الربع فرأى بطيخة في طريقه فحياه قائلًا: صباح الخير يا معلم بطيخة.

فرماه الرجل بنظرة مقت وصاح: صباح القطران يا ابن القديمة، عُد إلى بيتك ولا تخرج منه وإلا كسرت رأسك.

فتساءل رفاعة في دهش: ماذا أغضب فتوتنا؟

فصاح مزمجرًا: أنت تكلم الآن بطيخة لا الواقف، فاذهب بلا تردد.

وهمَّ رفاعة بالكلام فلطمه الفتوة لطمة دفعته إلى جدار الربع مترنحًا. ورأت امرأة الموقعة فصوَّتت حتى ملأ صواتها الحارة، وتبعها نسوةٌ أخريات. وارتفعت أصوات استغاثة من أجل رفاعة. وفي لمح البصر جرى نحو المكان كثيرون، من بينهم زكي وعلي وحسين وكريم، ثم جاء عم شافعي، كما جاء جواد الشاعر متلمسًا طريقه بعصاه، وما لبث أن ازدحم الموقع بمحبي رفاعة من الرجال والنساء. ودهش بطيخة الذي لم يتوقع شيئًا مما حدث، ورفع يده وهوى بها على وجه رفاعة، فتلقَّاها هذا دون دفاع ولكن الواقفين تصايحوا في انزعاج، واعتراهم انفعالٌ شديد، فتوسل البعض إلى بطيخة أن يتركه، وعدَّد آخرون حسنات رفاعة ومزاياه، وتساءل كثيرون عن أسباب الاعتداء، وتعالت احتجاجات، فاستشاط بطيخة غضبًا وصاح: أنسيتم من أكون؟!

والحق أن حب المتجمعين لرفاعة الذي دفعهم بغير وعي إلى التجمع هو الذي شجعهم على الرد على إنذار بطيخة، فقال أحد الواقفين في الصف الأول: فتوتنا وتاج رأسنا، وما جئنا إلا لنسألك العفو عن الرجل الطيب.

وصاح رجل من وسط المظاهرة متشجعًا بالزحام وبمكانه فيه: فتوتنا على العين والرأس، ولكن ماذا فعل رفاعة؟

وصاح ثالث في آخر المظاهرة مطمئنًا إلى تواريه عن متناول عين الفتوة: رفاعة بريء والويل لمَن يمدُّ له يدًا بسوء!

وثار غضب بطيخة فرفع نبوته فوق رأسه وهو يصيح: يا نسوان، سأجعلكم عبرة.

وإذا بصوات النساء يرتفع من الأركان حتى انقلب الحي مأتمًا، وقذفت الأفواه الغاضبة بالإنذارات الدموية، وأخذ الطوب يتساقط أمام بطيخة ليمنعه من التقدم. ووجد الرجل نفسه في مركز حرج لم يقع له ولا في الكابوس. كان الموت أهون عليه من الاستنجاد بأحد من الفتوات، وكان الهجوم يهدد بالقضاء عليه تحت وابل الطوب، وكان في السكوت الإجهاز على فتونته. وتطاير الشرر من عينيه، واستمر تساقط الطوب، وتمادى القوم في تحديهم، ولم يكن حدث شيء كهذا لأحد من الفتوات من قبلُ.

واندفع رفاعة فجأة حتى وقف أمام بطيخة، ولوح للناس بيديه حتى ساد السكوت، وهتف بصوتٍ قوي: لم يخطئ فتوتنا وأنا الملوم!

لاحت نظرات الإنكار في الوجوه، ولكن أحدًا لم ينبس بكلمة فقال رفاعة: تفرقوا قبل أن تتعرضوا لغضبه.

وفهم الناس أنه يريد أن ينقذ كرامة الفتوة حلًّا للأزمة فتفرقوا، وتبعهم آخرون وهم في حيرة من الأمر، ثم سارع الباقون بالتفرق خشية أن ينفرد بطيخة بأحد منهم، فأقفر الحي.

٥٧

اشتد التوتر بالحارة بعد تلك الواقعة. وكان أخوف ما يخاف الناظر أن تعتقد الحارة بأن في تضامنها قوة تكفل لها الصمود أمام الفتوات؛ لذلك وجب — في نظره — القضاء على رفاعة ومن تحدثهم أنفسهم بالوقوف إلى جانبه، على أن يتم ذلك بالاتفاق مع خنفس فتوة آل جبل تجنبًا لنشوب عراكٍ شامل في الحارة. وقال الناظر لبيومي: «ليس رفاعة بالدرجة التي تظنها من الضعف، فوراءه محبون استطاعوا إنقاذه على رغم أنف الفتوة، فماذا يكون من أمره لو تعلقت به الحارة كما تعلق به حيُّه؟ هنالك سيدع العفاريت جانبًا ويجاهر بأنَّ الوقف غايته!» وصبَّ بيومي غضبه على بطيخة، فهزه من منكبَيه بعنف وقال له: «تركنا الأمر لك وحدك، فماذا فعلت يا شين الفتوات؟!» وعضَّ بطيخة على نواجذه بحنق وقال: «سأريحكم منه ولو بقتله!» فصاح به بيومي: «خير ما تفعل أن تختفي من الحارة إلى الأبد!»

وأرسل إلى خنفس مَن يدعوه إلى مقابلته. ولكن عم شافعي اعترض سبيل خنفس وهو في حال من الفزع لم تسبق له من قبل. وكان قد حاول إقناع ابنه بالعودة إلى الدكان والإقلاع عن العمل الذي يجرُّ عليه المتاعب، ولكنه فشل في مسعاه وعاد خائبًا. ولما علم باستدعاء خنفس إلى مقابلة بيومي اعترض سبيله وقال له: «يا معلم خنفس، أنت فتوتنا وحامينا، وإنهم يطلبونك لتتخلى عن رفاعة فلا تتخلَّ عنه، تعهَّد لهم بما يشاءون ولكن لا تتخلَّ عنه، مرني فأهجر الحارة مصطحبًا إياه ولو بالقوة ولكن لا تتخلَّ عنه!» فقال خنفس في حذر واحتياط: «إني أعلم الناس بما يجب عليَّ وبما تقتضيه مصالح آل جبل.» والحق أن خنفس توجس خيفة من ناحية رفاعة منذ علم بوقعة بطيخة، وقال لنفسه إنه هو الذي ينبغي له أن يحذر لا الناظر ولا بيومي.

ومضى إلى بيت بيومي فاجتمع به في المنظرة. وصارحه الفتوة بأنه دعاه بصفته فتوة آل جبل؛ ليتفقا على رأي في مشكلة رفاعة. قال: لا تستهن بشأنه فإن الأحداث تقطع بخطورة أثره.

ووافق خنفس على ذلك ولكنه قال برجاء: أرجو ألَّا يُعتدى عليه أمامي.

فقال بيومي: نحن رجال يا معلم، ومصالحنا واحدة، ولا نعتدي على أحد في بيوتنا، وسيجيء هذا الولد الآن لأستجوبه على مسمع منك.

وجاء رفاعة بوجهه المشرق فحيا الرجلَين، وجلس حيث أشار له بيومي أن يجلس على شلتة أمامهما. وتفرَّس بيومي في وجهه الجميل المطمئن وهو يعجب كيف أمسى هذا الطفل الوديع مصدرًا للقلاقل المفزعة. وسأله بصوتٍ غليظ: لماذا هجرت حيَّك وأهلك؟

فقال ببساطة: لم يستجب لي منهم أحد!

– ماذا كنت تريد منهم؟

– أن أخلصهم من العفاريت التي تفسد عليهم سعادتهم!

فوشى صوت بيومي بغيظه وهو يسأله: وهل أنت مسئول عن سعادة الناس؟

فقال رفاعة بصراحة وبراءة: نعم .. ما دمت قادرًا على تحقيقها.

فتجهَّم وجه بيومي وهو يقول: سمعوك وأنت تحتقر الجاه والقوة؟

– لكي أبرهن لهم على أن السعادة ليست فيما يتوهمون ولكن فيما أفعل.

فتساءل خنفس غاضبًا: أليس في ذلك تحقير لأصحاب القوة والجاه؟

فقال دون أن يضطرب لغضب الرجل: كلا يا معلم، ولكن فيه تنبيهًا بأن السعادة غير ما يملكون من قوة وجاه.

وتفحَّصه بيومي بنظرةٍ نافذة وهو يسأله: وسمعوك أيضًا وأنت تؤكد أن ذلك ما يريده لهم الواقف.

فتجلَّى الاهتمام في العينَين الصافيتَين وقال: هم يقولون ذلك!

– وماذا تقول أنت؟

فقال بعد تردد لأول مرة: على قدر فهمي أتكلم.

فقال خنفس متهكمًا: المصائب تجيء من العقل الزنخ.

وقال بيومي وهو يضيق عينيه: لكنهم يقولون إنك تعيد عليهم ما سمعته من الجبلاوي نفسه!

فبدت الحيرة في عينيه، وتردد للمرة الثانية، ثم قال: هكذا فهمت أقواله لأدهم ولجبل!

فصاح خنفس غاضبًا: أقواله لجبل لا تحتمل التأويل.

واشتد الحنق ببيومي، وقال لنفسه: «كلكم كذابون، وجبل أول كذاب فيكم يا لصوص!» وقال: أنت تقول إنك سمعت الجبلاوي، وتقول هذا ما يريده الجبلاوي، وليس لأحد أن يتكلم باسم الجبلاوي إلا ناظر وقفه ووريثه، ولو أراد الجبلاوي أن يقول شيئًا لقاله له، هو الأمين على وقفه ومنفذ شروطه العشرة. يا معتوه كيف تحقر القوة والجاه والثراء باسم الجبلاوي وهي مزاياه وصفاته؟!

فنمَّت الأسارير الصافية عن ألم وقال: إني أخاطب أهل حارتنا لا الجبلاوي، هم الذين تركبهم العفاريت، وهم الذين تعذبهم المطالب.

فصاح به بيومي: ما أنت إلا عاجز عن القوة والجاه؛ فلذلك تلعنهما، ولترفع مكانتك الحقيرة في نظر الأغبياء من أهل حارتنا فوق مكانة السادة، وعندما تجدهم طوع يديك تنهب بهم القوة والجاه!

فاتسعت عينا رفاعة دهشة وتساؤلًا: لا غاية لي إلا سعادة أهل حارتنا.

فصاح بيومي: يا ابن الماكرة، أنت توهم الناس بأنهم مرضى، بأننا جميعًا مرضى، فلا صحيح غيرك في هذه الحارة!

– لماذا تكرهون السعادة وهي بين أيديكم؟

– يا ابن الماكرة! ملعونة السعادة التي تجيء من مثلك!

فتساءل رفاعة متنهدًا: لماذا يكرهني أناس وأنا ما كرهت أحدًا قط؟!

فصرخ فيه بيومي: لا تخدعنا بما تخدع به الأغبياء، وأقلع عن خداعك، وافهم أن أمري لا يخالَف، واحمد الله على أنك في بيتي وإلا ما خرجت سالمًا.

وقف رفاعة يائسًا، فحياهما وانصرف. وقال خنفس: دعه لي.

لكن بيومي قال: للمعتوه محبون كثيرون، ونحن لا نريد مذبحة.

٥٨

خرج رفاعة من بيت بيومي قاصدًا بيته. كانت السماء متلفِّعة بأردية الخريف وفي الجو نسيمٌ معتدل. وازدحمت الحارة حول مقاطف الليمون كأنما تحتفل بموسم التخليل، وترامت الأحاديث والضحكات، على حين اشتبك غلمان في معركة يتقاذفون بالتراب. وتلقى رفاعة تحيات كثيرين وأصابه رشاش تراب، فمضى إلى بيته وهو ينفضه عن كتفه ولاسته. ووجد زكي وعلي وحسين وكريم في انتظاره فتعانقوا كما يتعانقون عند كل لقاء، ثم قَصَّ عليهم — وعلى زوجته التي انضمت إلى المجلس — ما دار بينه وبين بيومي وخنفس. تابعوه باهتمام وقلق، فلما فرغ من قصته تجهَّمت الوجوه. وساءلت ياسمينة نفسها: ترى عمَّ يتمخض هذا الموقف الدقيق؟ وأليس هناك حل يقي الرجل الطيب من الهلاك دون أن يهدد سعادتها؟ وبدا التساؤل في الأعين جميعًا، أما رفاعة فأسند رأسه إلى الحائط في شيء من الإعياء. وقالت ياسمينة: لا يجوز الاستهانة بأمر بيومي.

وكان علي أحدَّهم طبعًا فقال: لرفاعة أصدقاء هزموا بطيخة فاختفى من الحارة.

فقالت ياسمينة مقطبة: بطيخة لا بيومي! إذا تحديتم بيومي فقُل عليكم السلام!

فالتفت حسين إلى رفاعة قائلًا: فلنستمع أولًا إلى المعلم!

فقال رفاعة وهو شبه مغمض العينين: لا تفكروا في العراك، فإن الذي يشقى لإسعاد الناس لا يهون عليه سفك دمائهم.

وتهلل وجه ياسمينة. كانت تكره فكرة الترمل خشية أن تحدق بها الأعين، فلا تجد منفذًا إلى رجلها الرهيب، وقالت: خير ما تفعل أن ترحم نفسك من ذلك العناء.

فقال زكي محتجًّا: لن نترك هذا العمل ولكن نترك الحارة.

فخفق قلب ياسمينة جزعًا لتخيُّل البعد عن حارة رجلها، وقالت بحدة: لن نعيش غرباء ضائعين بعيدًا عن حارتنا.

وتركزت الأعين في وجه رفاعة فاعتدل رأسه رويدًا وقال: لا أحب أن أهجر حارتنا.

وهنا دق الباب دقاتٍ متتابعة في لهفة فذهبت ياسمينة تفتحه، وسمع الجالسون صوتي عم شافعي وعبدة وهما يسألان عن ابنهما. وقام رفاعة فتلقى والديه بالعناق. وجلسوا وشافعي وزوجته يلهثان، ووجهاهما ينطقان بما يحملان من أنباء مزعجة. وسرعان ما قال الأب: يا بني، تخلَّى عنك خنفس، فحياتك في خطر، وأخبرني أصحابي بأن أعوان الفتوات يحومون حول بيتك.

وجففت عبدة عينَين حمراوَين وقالت: ليتنا ما عدنا إلى هذه الحارة التي تباع فيها الأرواح بلا ثمن!

فقال علي متحمسًا: لا تخافي يا سيدتي، فحيِّنا كله أصدقاء يحبوننا.

وقال رفاعة متأوهًا: ماذا فعلنا مما نستحق عليه العقاب؟!

فهتف عم شافعي جزعًا: أنت من حي آل جبل المكروه لديهم، وكم توجس قلبي خيفة منذ جاء ذكر الواقف على لسانك!

فقال رفاعة متعجبًا: بالأمس حاربوا جبل لمطالبته بالوقف، واليوم يحاربونني لاحتقاري الوقف!

فلوح شافعي بيده جزعًا وقال: قل فيهم ما تشاء فلن يغير هذا منهم شيئًا، ولكن اعلم أنك هالك إن غادرت بيتك، ولست آمَنُ عليك إن بقيت فيه.

تسرب الخوف إلى قلب كريم أول ما تسرب لكنه داراه بإرادةٍ قوية وقال مخاطبًا رفاعة: إنهم يتربصون لك في الخارج، وإذا لبثت هنا فسيجيئون إليك. هؤلاء هم فتوات حارتنا كما عرفناهم، فلنهرب إلى بيتي من فوق الأسطح وهناك نفكر فيما ينبغي عمله.

فصاح شافعي: ومن هناك تهربون من الحارة ليلًا.

فتأوَّه رفاعة متسائلًا: وأترك بنائي يتهدم؟

فتوسلت إليه أمه باكية: افعل ما يشير به عليك وارحم أمك!

فقال الأب محتدًّا: واستأنف عملك فيما وراء الخلاء إذا شئت.

وقام كريم في اهتمام وقال: فلنتدبر أمرنا، سيبقى المعلم شافعي وحرمه قليلًا ثم يذهبان إلى ربع النصر كأنهما راجعان بعد زيارةٍ عادية، وتخرج ست ياسمينة إلى الجمالية كأنما لتتسوق، وعند عودتها تتسلل إلى مسكني وهذا أيسر لها من الهرب عبر الأسطح.

ارتاح شافعي إلى الخطة فقال كريم: لا ينبغي أن نضيع دقيقة سُدًى، سأذهب لأستكشف الأسطح.

وغادر الحجرة. وقام شافعي آخذًا رفاعة في يده. وأمرت عبدة ياسمينة بأن تجمع الثياب في بقجة.

وأخذت ياسمينة في جمع الثياب القليلة بصدرٍ مختنق وقلبٍ مكلوم، وثورة من الحنق في باطنها تتجمع. وأقبلت عبدة على ابنها تقبله وترقيه بأعينٍ باكية. ومضى رفاعة يفكر في حاله بقلبٍ حزين. كم أحب الناس بكل قلبه! وكم شقي لإسعادهم! وكيف يعاني من بغضائهم وهل يسلِّم الجبلاوي بالفشل؟! ورجع كريم وهو يقول لرفاعة وصحبه: اتبعوني.

وقالت عبدة وهي تفحم في البكاء: سنلحق بك ولو بعد حين.

وقال له شافعي وهو يضغط على مخارج الدمع: فلتصحبك السلامة يا رفاعة.

عانق رفاعة والديه ثم التفت إلى ياسمينة قائلًا: احبكي الملاءة والبرقع كي لا يعرفك أحد.

ثم وهو يميل إلى أذنها: لا أطيق أن تمتد لك يد بسوء.

٥٩

غادرت ياسمينة الربع ملتفَّة في السواد وكلمات عبدة تتردد في أذنَيها حين قالت لها وهي تودعها: «مع السلامة يا بنتي، ربنا يحفظك ويصونك، رفاعة عهدتك، سأدعو لكما في النهار والليل.» كانت طلائع الليل تزحف، وفوانيس المقاهي تشتعل، والغلمان يلعبون حول الأنوار المنبعثة من مصابيح عربات اليد، على حين احتدم عراك القطط والكلاب — كشأنه في ذلك الوقت من اليوم — حول أكوام الزبالة.

مضت ياسمينة نحو الجمالية وليس في قلبها العاشق مكان للرحمة. لم يساورها التردد ولكن ملأها الخوف فخُيِّل إليها أن أعينًا كثيرة ترقبها. ولم تشعر بشيء من الاطمئنان حتى عرجت من الدرَّاسة إلى الخلاء، لكنها لم تجد الاطمئنان الحقيقي إلا في المنظرة بين يدي بيومي. ولما نزعت النقاب عن وجهها تفحصها باهتمام وتساءل: خائفة؟

فأجابت وهي تلهث: نعم.

– كلا، الجبن ليس من صفاتك، خبريني ماذا وراءك؟

قالت بصوت لا يكاد يسمع: هربوا من فوق الأسطح إلى بيت كريم، وسيغادرون الحارة عند الفجر.

فغمغم بيومي ساخرًا: عند الفجر يا أولاد الهرمة!

– أقنعوه بالذهاب، فلماذا لا تدعه يذهب؟

فابتسم ساخرًا وقال: قديمًا ذهب جبل ثم عاد، هذه الحشرات لا تستحق الحياة.

فقالت وهي شاردة اللب: إنه ينكر الحياة، ولكنه لا يستحق الموت.

فتقلص فوه اشمئزازًا وقال: في الحارة كفايتها من المجانين.

فنظرت إليه في استعطاف ثم غضت بصرها وهمست وكأنما تحدث نفسها: أنقذني يومًا من الهلاك.

فضحك في سخريةٍ غليظة وقال: وها أنتِ ذي تسلمينه للهلاك، واحدة بواحدة والبادي أظلم!

فشعرت بقلق موجع كالمرض، ورمقته بعتاب وهي تقول: فعلت ما فعلت؛ لأنك أغلى من حياتي.

فربَّت خدها برقة وقال: سيخلو لنا الجو، وإذا ضايقتك الظروف فلك في هذا البيت مكان.

فارتفعت روحها من هبوطها درجات وقالت: لو عرضوا عليَّ بيت الواقف من دونك ما قبلته.

– أنتِ بنت مخلصة.

وشكَّتها «مخلصة» فعاودها القلق الذي هو كالمرض. وتساءلت: تُرى هل يسخر منها الرجل؟ ولم يكن ثمة وقت لمزيد من الكلام فقامت وقام ليودعها، حتى تسللت من الباب الخلفي. ووجدت زوجها وأصحابه في انتظارها، فجلست إلى جانب زوجها وهي تقول لرفاعة: بيتنا مراقَب، ومن الحكمة أن أمك تركت المصباح مشتعلًا وراء النافذة، وسيكون الهرب ميسورًا عند الفجر.

فقال لها زكي وهو يلحظ رفاعة في حزن: لكنه حزين، أليس المرضى في كل مكان؟ وأليسوا هم في حاجة كذلك إلى الشفاء؟

فقال رفاعة: تشتد الحاجة إلى الدواء حيث يستفحل المرض.

ونظرت ياسمينة نحوه في رثاء. وقالت لنفسها: إن من الظلم قتله. وتمنت لو كان فيه جانبٌ واحد يستحق العقاب. وذكرت أنه الوحيد في هذه الدنيا الذي أحسن إليها وأن جزاءه على ذلك سيكون القتل. ولعنت في سرها هذه الأفكار وقالت: ليفعل الخير من يجد في حياته الخير. ولما رأته يبادلها النظر قالت كالمشفقة: حياتك أغلى من حارتنا اللعينة.

فقال رفاعة باسمًا: هذا ما يقوله لسانك غير أني أقرأ الحزن في عينَيك!

وارتعدت. وقالت لنفسها: يا ويلي لو كانت قدرته على قراءة العين كقدرته على إخراج العفاريت. وقالت له: ليس ما بي حزنًا ولكنه الخوف عليك!

وقام كريم وهو يقول: سأعدُّ العشاء.

ورجع حاملًا الطبلية فدعاهم إلى الجلوس فجلسوا حولها. وكان العشاء مكونًا من الخبز والجبن والمش والخيار والفجل، وثمة إبريق من البوظة. وملأ كريم الأكواب وهو يقول: ليلتنا تحتاج إلى التدفئة والتشجيع.

وشربوا، ثم قال رفاعة باسمًا: الخمر توقظ العفاريت ولكنها تنعش من تخلَّص من عفريته. ونظر نحو ياسمينة إلى جانبه فأدركت مغزى نظرته وقالت: ستخلصني من عفريتي غدًا إن مدَّ الله في العمر.

فتهلل وجه رفاعة سرورًا، وتبادل الأصدقاء التهاني، ومضوا يتناولون العشاء. قُطِّعت الأرغفة، وتلاقت الأيدي فوق الأطباق، وبدوا وكأنهم تناسوا الموت المحيط بهم، وإذا برفاعة يقول: أراد صاحب الوقف لأبنائه أن يكونوا مثله، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا مثل العفاريت. إنهم أغبياء، وهو لا يحب الغباء كما قال لي.

فهزَّ كريم رأسه أسفًا، وبلع لقمته ثم قال: لو كان على شيء من قوته الأولى لسارت الأمور كما يشاء.

فقال علي حانقًا: لو .. لو .. لو، ماذا أفدنا من لو! علينا أن نعمل.

فقال رفاعة بقوة: ما قصرنا قط، حاربنا العفاريت دون هوادة، وكلما ترك عفريت فراغًا ملأه الحب، وليس وراء ذلك من غاية.

فقال زكي متحسرًا: ولو تركونا نعمل؛ لملأنا الحارة صحة وحبًّا وسلامًا.

فقال علي معترضًا: إني أعجب كيف نفكر في الهرب على كثرة ما لنا من أصدقاء!

فقال رفاعة باسمًا: إن عَرَق عفريتك ما زال لاصقًا بجوفك، فلا تنسَ أن غايتنا الشفاء لا القتل، ولخيرٌ للإنسان أن يُقتل من أن يَقتل.

والتفت رفاعة إلى ياسمينة فجأة وقال: إنكِ لا تأكلين ولا تصغين!

فتقلص قلبها خوفًا، بيد أنها تغلبت على انفعالها وقالت: إني أعجب لكم كيف تتحادثون في مرح كأنكم في عرس!

– ستألفين البهجة عندما تتخلصين من عفريتك غدًا.

ثم نظر إلى إخوانه وقال: بعضكم يخجل من المسالمة، فنحن أبناء حارة لا تحترم إلا الفتونة، ولكن الفتونة ليست مقصورة على الإرهاب، فمصارعة العفاريت أشق عشرات المرات من الاعتداء على الضعفاء أو منازلة الفتوات.

فهزَّ علي رأسه أسفًا وقال: وكان جزاء الإحسان هذا الموقف التعيس الذي وجدنا أنفسنا فيه!

فقال رفاعة بيقين: لن تنتهي المعركة كما يتوهمون، ولسنا ضعفاء كما يتصورون! إنما نقلنا المعركة من ميدان إلى ميدان، وميداننا يتطلب شجاعةً أسمى وقوةً أشد.

وواصلوا العشاء وهم يفكرون فيما سمعوا. وبدا لأعينهم هادئًا مطمئنًّا قويًّا بقدر ما بدا جميلًا وديعًا. وفي فترة الصمت تجلَّى صوت شاعر الحي وهو يحكي قائلًا: «ومرة جلس أدهم في حارة الوطاويط عند الظهر ليستريح فنعس. واستيقظ على حركة فرأى غلمانًا يسرقون عربته فنهض مهدِّدًا. ورآه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع العربة، ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين كالجراد. وغضب أدهم غضبًا شديدًا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكبَّ على الأرض يجمع الخيار الذي لُوِّث بالطين. وتضاعف غضبه دون أن يجد له متنفسًا فراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نُداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟» وقبض على يد العربة وهمَّ بدفعها بعيدًا عن الحارة اللعينة وإذا بصوت يقول متهكمًا: بكم الخيار يا عم؟

رأى إدريس واقفًا يبتسم ابتسامةً ساخرة …»

وإذا بصوت امرأة يرتفع مغطيًا على صوت الشاعر وهي تصرخ: «ولد تائه يا أولاد الحلال»!

٦٠

مضى الوقت والإخوان في سمر وياسمينة في عذاب. أراد حسين أن يلقي على الحارة نظرة، ولكن كريم اعترضه لئلا يلمحه أحد فيشكَّ في الأمر. وتساءل زكي: ترى هل هاجموا بيت رفاعة؟ فقال رفاعة: إنهم لا يسمعون إلا نواح الرباب وتهليل الغلمان. كانت الحارة تحيا حياتها فليس ثمة ما يشي بجريمة تُدبَّر. ودارت بياسمينة دوامة الفكر حتى خافت أن تفضحها عيناها. وتمنَّت أن ينتهي عذابها على أي وجه وبأي ثمن، وتمنَّت أن تملأ جوفها بالخمر حتى تذهل عما حولها. وقالت لنفسها إنها ليست أول امرأة في حياة بيومي ولن تكون أخراهن، وإنه حول أكوام الزبالة تكثر الكلاب الضالة، ولكن فلينتهِ هذا العذاب بأي ثمن.

وبتقدم الوقت أخذ الصمت يبتلع الضوضاء رويدًا رويدًا، فسكتت أصوات الأطفال ونداءات الباعة، ولم يبقَ إلا نواح الرباب. ودهمتها كراهيةٌ مفاجئة لهؤلاء الرجال، لا لشيء إلا لأنهم على نحوٍ ما يعذبونها. وتساءل كريم: هل أعدُّ المجمرة؟

فقال رفاعة بحزم: نحن في حاجة إلى وعينا!

ظننت أننا به نستعين على تحمل الوقت.

– أنت خائف أكثر مما ينبغي.

فنفى التهمة عن نفسه قائلًا: يبدو أن لا داعي هناك للخوف!

أجل لم يقع حادث ولم يُهاجَم بيت رفاعة. وسكتت الأنغام وذهب الشعراء. وترامت أصوات الأبواب وهي تغلق، وأحاديث العائدين إلى البيوت، وضحكات وسعلات، ثم ساد الصمت. واستمر الانتظار والترقب حتى صاح أول ديك. وقام زكي إلى النافذة ينظر إلى الطريق ثم التفت إليهم قائلًا: صمت وخلاء، الحارة كما كانت يوم طرد إليها إدريس.

فقال كريم: آن لنا أن نذهب.

وركب الجزع ياسمينة فتساءلت في نفسها: ماذا يكون من أمرها لو تأخر بيومي عن موعده أو لو عدل عنه؟ وقام الرجال وكلٌّ يحمل بقجته. وقال حسين: الوداع يا حارتنا الجهنمية!

سار علي في المقدمة. ودفع برقَّة رفاعة ياسمينة أمامه وتبعها واضعًا يده على منكبها كأنما يخشى أن يفقدها في الظلام، ثم جاء كريم فحسين ثم زكي. تسللوا من باب الشقة واحدًا في أثر آخر، ورقوا في السلم مهتدين بالدرابزين في الظلمة الحالكة. وبدا السطح أرقَّ ظلمة على الرغم من أنه لم يبدُ في السماء نجمٌ واحد. ونضحت سحابة بنور القمر المتواري خلفها فسجلت لوحتها ركض السحب.

وقال علي: أسوار الأسطح شبه متلاصقة وسنساعد الست إن لزم الأمر.

تتابعوا داخلين. ولما دخل زكي — وهو آخرهم — أحسَّ حركة وراءه فالتفت نحو باب السطح فرأى أربعة أشباح، فتساءل مذعورًا: مَن هناك؟

تسمر الجميع والتفتوا. وجاء صوت بيومي وهو يقول: قفوا يا أولاد الزنى.

وانتشر عن يمينه وعن يساره جابر وخالد وحندوسة. وندَّت عن ياسمينة آهة. وأفلتت من يد رفاعة ثم جرت نحو باب السطح فلم يعترضها أحد من الفتوات، حتى قال علي مخاطبًا رفاعة في ذهول: خانتك المرأة.

وفي لحظة أحاطوا بهم. وراح بيومي يتفحصهم عن قرب واحدًا بعد آخر متسائلًا: أين كودية الزار؟

حتى تبينه فقبض على منكبه بيد من حديد وهو يسأله متهكمًا: أين أنت ذاهب يا نديم العفاريت؟

فقال رفاعة في وجوم: ضايقكم وجودنا فآثرنا الرحيل.

فأطلق ضحكةً قصيرةً ساخرة ثم التفت إلى كريم وقال: وأنت هل أجدى إخفاؤك لهم في بيتك؟

فازدرد كريم ريقه الجاف وقال وفرائصه ترتعد: لم أكن أعلم بشيء مما بينك وبينهم!

فلطمه بيده الأخرى على وجهه فسقط على الأرض، ولكن سرعان ما وثب قائمًا وركض في رعب نحو سطح الربع الملاصق. وفجأة جرى وراءه حسين وزكي. وانقضَّ حندوسة على علي فركله في بطنه فتهاوى على الأرض وهو يئنُّ من أعماقه. وفي الوقت ذاته هم جابر وخالد باللحاق بالهاربين ولكن بيومي قال باستهانة: لا خوف من هؤلاء فلن ينبس أحدهم بكلمة وإلا هلك.

وقال رفاعة وقد انحنى رأسه نحو قبضة بيومي لشدة ضغطها: لم يفعلوا شيئًا يستحق العقاب.

فهوى بيومي بكفه على وجهه وهو يقول متهكمًا: خبِّرني ألم يسمعوا الجبلاوي كما سمعته؟

ثم دفعه أمامه وهو يقول: سر أمامي ولا تفتح فاك.

سار مستسلمًا للمقادير. هبط السلم المظلم محاذرًا ووقع الأقدام الثقيلة يتبعه. وغشيه الظلام والحيرة والشر الذي يتهدده فلم يكد يفكر فيمن هرب ولا فيمن خان. وران عليه حزنٌ شاملٌ عميق فغطى حتى على مخاوفه. وخيل إليه أن ذلك الظلام سيمسي صفة الدنيا الملازمة. وانتهوا إلى الحارة فقطعوا الحي الذي لم يبقَ فيه مريض بفضله وتقدمهم حندوسة نحو حي آل جبل فمروا تحت ربع النصر المغلق حتى خيِّل إليه أنه يسمع تردد أنفاس والديه. وساءل نفسه لحظة عنهما، فخُيِّل إليه أنه يسمع نحيب عبدة في الليل الصامت، ولكن سرعان ما استرده الظلام والحيرة والشر الذي يتهدده. وبدا حي آل جبل هياكل أشباح عمالقة غارقة في الظلام، ما أشد الظلام وما أعمق النوم! أما وقع أقدام الجلادين في الظلمة الحالكة وأطيط نعالهم فكأنه ضحكات شياطين تعبث في الليل. ومضى حندوسة نحو الخلاء بحذاء سور البيت الكبير فرفع رفاعة عينيه إلى البيت لكنه رآه مظلمًا كالسماء. ولاح شبح في نهاية السور فتساءل حندوسة: المعلم خنفس؟

فأجابه الرجل: نعم.

وانضم إلى الرجال دون كلام. وظلت عينا رفاعة مرفوعتَين نحو البيت. تُرى هل يدري جده بحاله؟ إن كلمة منه تستطيع أن تنقذه من مخالب هؤلاء الجبارين وترد عنه كيدهم، إنه قادر على أن يسمعهم صوته كما أسمعه إياه في هذا المكان. وجبل وجد نفسه في مأزق مثل مأزقه ثم نجا وانتصر. لكنه جاوز السور دون أن يسمع شيئًا سوى وقع أقدام الجبارين وتردد أنفاسهم. وأوغلوا في الخلاء فثقلت خطواتهم فوق الرمال. وشعر رفاعة بالغربة في الخلاء وذكر أن المرأة خانته وأن الأصحاب لاذوا بالفرار. أراد أن يلتفت إلى الوراء صوب البيت ولكن يد بيومي دفعته في ظهره بغتة فسقط على وجهه. ورفع بيومي نبوته وهتف: معلم خنفس؟

فرفع الرجل نبوته قائلًا: معك إلى النهاية يا معلم.

وتساءل رفاعة في يأس: لماذا تبغون قتلي؟

فهوى بيومي بنبوته على رأسه بشدة فصرخ رفاعة صرخةً عالية وهتف من أعماقه: «يا جبلاوي»!

وفي اللحظة التالية كان نبوت خنفس يصيب عنقه، واستبقت النبابيت.

وساد صمت لم تُسمع خلاله إلا حشرجة.

وأخذت الأيدي تحفر الأرض بقوة في الظلام.

٦١

غادر القتلة المكان متِّجهين نحو الحارة، فسرعان ما ذابوا في الظلام. وإذا بأربعة أشباح تنهض قائمة من موضع غير بعيد من موقع الجريمة. وندَّت عنهم تنهدات وأصوات بكاء مكتوم حتى صاح أحدهم: يا جبناء، أمسكتم بي وكتمتم أنفاسي فقُتل دون دفاع.

فقال له آخر: لو أطعناك لهلكنا جميعًا دون أن ننقذه.

فعاد علي يقول غاضبًا: يا جبناء! ما أنتم إلا جبناء.

فقال كريم بصوتٍ باكٍ: لا تضيعوا الوقت في الكلام، أمامنا عملٌ شاق يجب أن ننجزه قبل الصباح.

ورفع حسين رأسه إلى السماء يقلب فيها عينيه الدامعتين وتمتم بجزع: الفجر قريب فلنسرع.

فهتف زكي متأوهًا: يا له من وقتٍ قصير كالحلم لكننا فقدنا فيه أعز من عرفنا في الحياة!

واتجه علي نحو موقع الجريمة وهو يصرُّ على أسنانه مغمغمًا: يا جبناء!

فمضوا خلفه، ثم جلسوا جميعًا على ركبهم في هيئة نصف دائرة وراحوا يتحسسون الأرض مفتشين.

وبغتة صرخ كريم كالملدوغ: هنا!

وتشمم يده وهو يقول: إن هذا هو دمه!

وفي الوقت ذاته صاح زكي: وهذا الموضع الهش مدفنه.

وتجمعوا حوله وأخذوا يزيلون الرمال براحاتهم. لم يكن في الأرض من هو أتعس منهم، لضياع العزيز، ولموقف العجز الذي وقفوه عند مصرعه. واعترت كريم لحظةُ جنون فقال في بلاهة: لعلنا نجده حيًّا!

فقال علي بازدراء ويداه لا تكفان عن العمل: اسمعوا أوهام الجبناء!

وامتلأت خياشيمهم برائحة التراب والدم. وترامى من ناحية الجبل عواء. وهتف علي بإشفاق: تمهلوا، فهذا جسده.

فانخلعت قلوبهم، ورقَّت أيديهم، وتلمسوا أطراف ثوبه بجزع، ثم ارتفعت أصواتهم بالبكاء، وتعاونوا على استخلاص الجثة من الرمال وقاموا بها في رفق، وكان صياح الديكة يترامى من الحارات والأزقة. وحث البعض على الإسراع، ولكن لفتهم علي إلى وجوب ردم الحفرة، فخلع كريم جلبابه وفرشه على الأرض فطرحوا الجثة عليه، وتعاونوا مرةً أخرى على ردم الحفرة. وخلع حسين جلبابه فغطى به الجثة ثم حملوها، وساروا نحو باب النصر. وأخذ الظلام يخفُّ فوق الجبل ويشفُّ عن السحاب، وتساقط الندى فوق الجباه والدموع. وكان حسين يدلهم على طريق مقبرته حتى بلغوها. وانهمكوا في فتح القبر صامتين، والضياء ينتشر رويدًا، حتى تراءى للأعين الجثمان المسجى، وأيديهم الملطخة بالدم، وأعينهم المحمرة من البكاء. وحملوا الجثة وهبطوا بها إلى جوف القبر. وقفوا حولها خاشعين وهم يضغطون جفونهم ليزيلوا الدموع التي تحول دون رؤيتها. وهمس كريم والعبرات تخنقه: كانت حياتك حلمًا قصيرًا، لكنها ملأت قلوبنا بالحب والنقاء. وما كنا نتصور أن تغادرنا بهذه السرعة فضلًا عن أن تُقتَل بيد أحد من الناس؛ أحد من أبناء حارتنا الجاحدة التي داويتها وأحببتها؛ حارتنا التي أبت إلا أن تقتل الحب والرحمة والشفاء ممثلة في شخصك فقضت على نفسها باللعنة حتى آخر الزمن.

وتساءل زكي منتحبًا: لماذا يذهب الطيبون؟! لماذا يبقى المجرمون؟!

وتأوَّه حسين قائلًا: لولا حبك الباقي في قلوبنا لمقتنا الناس إلى الأبد!

عند ذاك قال علي: لن يرتاح لنا بال حتى نكفِّر عن جبننا.

وعندما غادروا المقبرة متجهين نحو الخلاء، كان النور يصبغ الآفاق بمثل ذوب الورد الأحمر.

٦٢

لم يعد أحد من الصحاب الأربعة يظهر في حارة الجبلاوي. وظن ذووهم أنهم غادروا الحارة خفية وراء رفاعة اتقاء لتحرش الفتوات. وعاش الرفاق في أطراف الخلاء في حالٍ نفسيةٍ متوترة، يصارعون بكل قواهم وطأة الألم وحز الندم. كان فراق رفاعة أشد من الذبح على قلوبهم، وكان تخلِّيهم عنه معذِّبًا قاتلًا. لم يبقَ لهم من أمل في الحياة إلا أن يتحدوا موته بإحياء رسالته، وأن ينزلوا العقاب بقاتليه كما صمم علي. أجل لم يكن في وسعهم العودة إلى الحارة، ولكن كان في مأمولهم أن يقابلوا من يشاءون خارجها. وذات صباح استيقظ ربع النصر على صوات عبدة؛ فهرع الجيران إليها يستطلعون الخبر فصاحت بصوت مبحوح: قُتِل ابني رفاعة.

ووجم الجيران وتطلعوا إلى عم شافعي الذي كان يجفف عينيه فقال الرجل: قتله الفتوات في الخلاء.

وعادت عبدة تنوح هاتفة: ابني الذي لم يؤذِ أحدًا في دنياه.

فتساءل البعض: وهل علم بذلك فتوتنا خنفس؟

فقال شافعي غاضبًا: كان خنفس ضمن القاتلين.

وقالت عبدة باكية: وخانته ياسمينة فدلَّت بيومي عليه!

فلاح الاستنكار في الوجوه وقال صوت: لذلك فهي تقيم في بيته بعد أن هجرته زوجته.

وانتشر الخبر في حي آل جبل، فجاء خنفس إلى بيت شافعي وصاح به: أجننت يا رجل؟ ماذا قلت عني؟

فوقف شافعي أمامه دون مبالاة وقال بشدة: إنك اشتركت في قتله وأنت فتوته وحاميه!

فتظاهر خنفس بالغضب وصاح: أنت مجنون يا شافعي، لا تدري عما تقول شيئًا، ولن أبقى حتى لا أضطر إلى تأديبك.

وغادر الربع وهو يرغي ويزبد. وانتقل الخبر إلى حي رفاعة الذي أقام فيه عقب مغادرته لحي آل جبل فذهل الناس له، وارتفعت الأصوات بالسخط والبكاء، ولكن الفتوات خرجوا إلى الحارة يقطعونها ذهابًا وإيابًا، النبابيت في أيديهم والشر يتَّقد في نظراتهم. ثم سرى نبأ يقول: إن الرمال غربي صخرة هند وجدت ملطخة بدم رفاعة. وذهب عم شافعي وخاصة أصحابه للبحث عن الجثة هنالك، ففتشوا وحفروا ولكنهم لم يعثروا على شيء. ولغط الناس بالخبر وتبلبلت الأفكار وتوقع كثيرون أن تحدث في الحارة أمور. وراح الناس في حي رفاعة يتساءلون: ماذا فعل رفاعة حتى يُقضى عليه بالقتل؟ وقال آل جبل: رفاعة قُتل وياسمينة مقيمة في بيت بيومي. وتسلل الفتوات بليل إلى المكان الذي قُتل فيه رفاعة، وحفروا مدفنه على ضوء مشعل، ولكنهم لم يعثروا للجثة على أثر. وتساءل بيومي: هل أخذها شافعي؟

ولكن خنفس أجابه: كلا، لم يعثر على شيء كما أخبرتني العيون.

فضرب بيومي الأرض بقدمه وصاح: إنهم أصحابه، لقد أخطأنا بتركهم يفلتون، وها هم أولاء يحاربوننا من وراء وراء.

وعند عودتهم مال خنفس على أذن بيومي وهمس قائلًا: إن احتفاظ المعلم بياسمينة لمِمَّا يسبب لنا المتاعب.

فقال بيومي ساخطًا: بل اعترف أنك فتوةٌ ضعيف في حيِّك!

وودعه خنفس ساخطًا. واشتد التوتر بحيَّيْ جبل ورفاعة، وتكرر اعتداء الفتوات على الساخطين. وساد الإرهاب في الحارة حتى كره أهلها الخروج إليها إلا لضرورة. وفي ليلة من الليالي — وكان بيومي في قهوة شلضم — تسلل أهل زوجته إلى بيته بقصد الاعتداء على ياسمينة، فشعرت بهم، وفرَّت بجلبابها إلى الخلاء وهم يطاردونها. وظلت تعدو في الظلام كالمجنونة، حتى بعد أن كف المطاردون عن مطاردتها. وظلت تعدو حتى أوشكت أنفاسها أن تنقطع فاضطرت إلى التوقف وهي تلهث بعنف وقد طرحت رأسها إلى الوراء وأغمضت عينَيها. ولبثت كذلك حتى استردَّت أنفاسها. ونظرت وراءها فلم ترَ شيئًا، ولكنها جفلت من فكرة العودة إلى الحارة ليلًا. ونظرت أمامها فرأت عن بعد نورًا ضئيلًا لعله ينبعث من كوخ فسارت نحوه آملةً أن تجد عنده مأوًى يؤويها حتى الصباح. وطال بها المسير قبل أن تبلغه. وكان كما ظنت كوخًا، فاقتربت من بابه وهي تنادي أهله. وبغتة وجدت نفسها أمام أصدقاء زوجها الحميمين: علي وزكي وحسين وكريم.

٦٣

تسمرت ياسمينة بالأرض وهي تقلِّب في وجوههم بصرًا زائغًا. تراءوا لها كجدار يعترض مطارَدًا في كابوس. كانوا يحدقون فيها باشمئزاز، وبدا الاشمئزاز في عينَي علي في إطار حديدي من القسوة. وهتفت بلا وعي: إني بريئة، ورب السموات بريئة، ذهبتُ معكم حتى هاجمونا فهربتُ كما هربتم!

وكلحت الوجوه. وتساءل علي حانقًا: ومن أدراكِ بأننا هربنا؟

فقالت بصوتٍ متهدج: لولا الهرب ما بقيتم على قيد الحياة؛ لكني بريئة، وما فعلت شيئًا إلا أني هربت!

فقال علي وهو يعضُّ أسنانه: هربتِ إلى سيدك بيومي.

– أبدًا، دعوني أذهب .. أنا بريئة.

فصاح بها علي: ستذهبين إلى جوف الأرض!

فهمَّت بالهرب لكنه وثب عليها فقبض على منكبيها بشدة فصرخت: أعتقني إكرامًا له، فإنه لم يكن يحب القتل ولا القاتلين!

فقبض على عنقها بيدَيه، حتى قال كريم جزعًا: انتظر حتى نفكر في الأمر.

فصاح به: اصمتوا يا جبناء!

وشدَّ على عنقها بكل ما يعتلج في صدره من حنق وحقد وألم وندم. حاولت التخلص من قبضته عبثًا، قبضت على ساعديه، ركلته، هزَّت رأسها، كان كل مجهود عبثًا ضائعًا فخارت قواها، وجحظت عيناها، ثم نفث أنفها دمًا، وارتجَّ جسدها بعنف، وسكتت إلى الأبد، وتركها فسقطت جثةً تحت قدمَيه.

وفي صباح اليوم التالي وُجدت جثة ياسمينة ملقاة أمام بيت بيومي. وانتشر الخبر كغبار الخماسين فجرى الناس نساءً ورجالًا نحو بيت الفتوة. وارتفعت الضوضاء، واختلطت التعليقات، ودارى الجميع مشاعرهم الحقيقية. وفتح باب بيت بيومي، واندفع منه الرجل كالثور الهائج، وراح يضرب بنبوته كل من يصادفه فركض الجميع في فزع، ولاذوا بالدور والمقاهي، ووقف الرجل في الحارة الخالية يسبُّ ويلعن ويهدد ويتوعد، ويضرب الهواء والجدران وأديم الأرض.

وفي اليوم نفسه هجر عم شافعي وزوجته الحارة، وبدا أن أي أثر لرفاعة قد اختفى.

ولكن ثمة أشياء كانت تذكر به على الدوام، كبيت عم شافعي بربع النصر ودكان النجارة ومسكن رفاعة في الحي الذي أطلقوا عليه دار الشفاء، ومصرعه غربي صخرة هند، وفوق كل أولئك أصحابه المخلصون الذين واصلوا اتصالاتهم بمحبيه، ولقنوهم أسرار علمه بتخليص الأنفس من العفاريت ليزاولوها في مداواة المرضى، اقتنعوا أنهم بذلك يعيدون رفاعة إلى الحياة. أما علي فلم يكن ليهدأ له بال حتى يقضي على المجرمين. وقد قال له حسين معاتبًا: إنك لست من رفاعة في شيء!

فقال علي بقوة: إني أعرف رفاعة أكثر مما تعرفونه، قضى حياته القصيرة في قتالٍ عنيف مع العفاريت.

فقال كريم: إنك تريد العودة إلى الفتونة وما كان أبغضها إليه.

فهتف علي بحماس: كان فتوة ولا كل الفتوات ولكن خدعتكم رقَّته.

وتوثب كل فريق للعمل على رأيه بإيمانٍ صادق. وتناقلت الحارة قصة رفاعة على حقيقتها التي كان الأكثرون يجهلونها، وتنوقل أيضًا أن جثته ظلت ملقاة في الخلاء حتى حملها الجبلاوي بنفسه فواراها التراب في حديقته الغناء. وكادت الأحداث الخطيرة تتلاشى عند ذلك لولا أن اختفى الفتوة حندوسة اختفاءً مريبًا. وإذا بجثته تكتشف ذات صباح ملقاة مشوهة أمام بيت الناظر إيهاب. وتزلزل بيت الناظر كما تزلزل بيت بيومي. ومرت بالحارة فترةٌ رهيبة من الرعب. انصبَّ الاعتداء كالمطر على كل من له صلة أو شبهة صلة برفاعة أو بأحد من رجاله. انهالت النبابيت على الرءوس، وهرست الأقدام البطون، وحفرت اللكمات الصدور، وألهبت الأيدي الأقفية، حتى حبس نفسه في الدور من حبس، وهجر الحارة من هجر، وقتل في الخلاء من استهان بالخطر، فضجَّت الحارة بالصوات والعويل، وغشيها السواد والظلام، وفاحت منها رائحة الدم.

ومن عجب أن ذلك كله لم يقضِ على عمل العاملين؛ فقد قتل الفتوة خالد وهو خارج من بيت بيومي قبيل الفجر. واشتد خطر الإرهاب حتى بلغ الجنون. لكن حارتنا استيقظت في الهزيع الأخير من الليل على حريقٍ هائل التهم بيت الفتوة جابر وأهلك أسرته. وصاح بيومي: إن مجانين رفاعة منتشرون كالبق، والله ليُقتلُنَّ ولو في بيوتهم!

ذاع في الحارة أن البيوت ستهاجم بليل فركب الفزع الناس حتى جُنُّوا. وخرجوا من الربوع في ثورةٍ هوجاء يحملون العصيَّ والمقاعد وأغطية الحلل والسكاكين والقباقيب والطوب. وصمم بيومي على أن يضرب قبل أن يستفحل الأمر فرفع نبوته وخرج من بيته في هالة من الأعوان.

وظهر علي لأول مرة ومعه رجال أشداء على رأس الثائرين. وما إن رأى بيومي قادمًا حتى أمر بقذف الطوب فأرسل الهائجون أسراب الطوب كالجراد فانصبَّت على بيومي ورجاله وتفجرت الدماء. وهجم بيومي بجنون وهو يصرخ كالوحش ولكن حجرًا أصاب أعلى رأسه فتوقف على رغم الغضب ورغم القوة ورغم الفتونة، ثم ترنح وسقط مقنَّعًا بدمه؛ وسرعان ما فرَّ الأعوان، واكتسحت أمواج الغاضبين بيت الفتوة حتى ترامت أصوات الكسر والتحطيم إلى مثوى الناظر في بيته. واستطار الشر، وانقضَّ العقاب على من بقي من الفتوات وأعوانهم، وخربت بيوتهم، واستفحل الخطر، وأوشك أن يفلت الزمام. عند ذاك أرسل الناظر في طلب علي فذهب علي لمقابلته. وكف رجال علي عن الانتقام والتخريب انتظارًا لما تسفر عنه المقابلة فهدأت الأحوال وسكنت الخواطر.

وتمخضت المقابلة عن عهدٍ جديد في الحارة. فقد اعتُرف بالرفاعيين كحي جديد مثل حي آل جبل فيما له من حقوق وامتيازات، ونُصِّب علي ناظرًا على وقفهم، بمعنى فتوة لهم، يتسلم نصيبهم في الوقف ويوزعه عليهم على أساس المساواة الشاملة. وعاد إلى الحي الجديد جميع المهاجرين الذين فروا من الحارة في فترات الإرهاب، وعلى رأسهم عم شافعي وزوجته وزكي وحسين وكريم. وحظي رفاعة في موته بما لم يكن ليحلم به في حياته من التكريم والإجلال والحب حتى سار قصةً باهرة يرددها كل لسان، وتتغنى بها الرباب، وبخاصة رفع الجبلاوي لجثته ودفنها في حديقته الغناء. وقد أجمع الرفاعيون على ذلك، كما أجمعوا على الولاء والتقديس لوالديه. لكنهم اختلفوا فيما عدا ذلك فأصر كريم وحسين وزكي على أن رسالة رفاعة يجب أن تقتصر على مداواة المرضى واحتقار الجاه والقوة، فساروا ومن تبعهم في الحياة مساره، وغالى منهم قوم فتجنبوا الزواج حبًّا في محاكاته واستعادة لسيرته. أما علي فتمسك بكافة حقوقه في الوقف وتزوج ودعا إلى تجديد حي رفاعة. وقال في ذلك: إن رفاعة لم يكره الوقف لذاته ولكن ليبرهن على أن السعادة الحقة متاحة بدونه، وليقضي على الشرور التي يستثيرها الطمع، فإذا وزِّع الريع بالعدل، ووُجِّه للبناء والخير، فهو الخير كل الخير.

وعلى أي حال استبشر الناس خيرًا، واستقبلوا الحياة بوجوهٍ مشرقة، وقالوا بثقة واطمئنان إن اليوم خير من الأمس، وإن الغد خير من اليوم.

فلماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤