الفصل الثانى

(١) بِنْتُ الزَّارِعِ

كان للزَّارعِ بنتٌ في التَّاسِعَةِ من عُمْرِها، وكانتْ — على صِغَرِ سِنِّها — حَصِيفَةً نادرةَ الذَّكاءِ. وقد عُنِيَتْ بِشَأْنِي مُدَّةَ إِقامَتِي هُناكَ، واسْتَأْذَنَتْ أمَّها في أن تُعِدَّ لي — في ذلك اليوم — سَريرًا صغيرًا يُنَاسِبُ ضَآلَةَ جِسْمِي؛ فلم تَرَ أَصْلَحَ منَ الْأُرْجُوحَةِ التي اخْتارَتْها — من قبلُ — لدُمْيَتِها، فَهَّيأَتْ لي تلك الْأُرْجُوحَةَ الصغيرةَ، ووضعَتْها في صُنْدوقٍ صغيرٍ على مِنْضَدَةٍ صغيرة مُعَلَّقَةٍ في وسَط الْحُجْرَةِ، حتى تُؤْمِنَنِي شَرَّ الفِيرانِ.

وقد ظَلَّتْ هذه الْأُرْجُوحَةُ سريرَ نَوْمي مُدَّةَ إِقامَتِي في ذلك البيتِ الكريمِ.

وكانَتْ تلك الطِّفْلة غايَةً في الْوَفاءِ والْإخْلاصِ والِاسْتِقَامَةِ؛ فهي تجمعُ — إلى مَهارَتِها وحِذْقِها — حَنانًا وعَطْفًا نادِرَيْنِ، وقد خاطَتْ لي سِتَّةَ قُمْصَانٍ من أَثْوابِ هذه البلادِ، وهي أَثْوابٌ بِيضٌ، غايةٌ في الرِّقَّةِ، وإنْ كانت — على الْحَقِيقَةِ — لا تَقِلُّ في كثافَتِها عن الْأثْوابِ التي يُصْنَعُ منها شِراعُ أكبرِ السُّفُنِ عِندَنا. وكانت تَغْسِلُ ثِيابي، وتُعْنَى بِشَأْنِي عِنايةً فائِقَةً، كما كانت تَحْرِصُ أَشَدَّ الْحِرْصِ على تَلْقِيني لُغَتَهُمْ، فلا تَتَركُ فرصةً واحدةً تَمُرُّ دونَ أن تَنْتَهِزَها؛ فإذا أشَرْتُ بإصْبَعِي إلَى شَيْءٍ بادَرَتْ بِتَسْمِيَتِه لي، فلم يَمُرَّ عليَّ وقتٌ قصيرٌ حتى أصْبَحْتُ أُسَمِّي ما أُرِيدُ. وقد أَطْلَقَتْ عليَّ اسْمَ «القَزَمِ» كما أَطْلَقْتُ عليها اسْمَ «الحاضِنَةِ»؛ لأنها كانت لي — على صِغَرِها — كالأُمِّ الرَّءُومِ، وقد كان لها أكبرُ الْفَضْلِ في تعلُّمِي تلك اللُّغَةِ. ولستُ أَنْسَى عَطْفَها عليَّ، وجميلَ صُنْعِها بي، ما حَيِيتُ.

(٢) الضَّيْفُ الثَّقِيلُ

وقَدْ ذاعَ في جميع أَرْجاءِ الْمَدينةِ أنَّ أحدَ أَعْيانِها قد عَثَر — في حَقْلٍ منْ حُقُولِه — على حيوانٍ صغيرِ الْجِسْمِ، في صُورةِ آدَمِيٍّ، وهو قادِرٌ على تَقْليدِ الْإِنسانِ في جميع حَرَكاتِه وأعمالِه وكلامِه، وأنه يَعرِفُ كثيرًا من أَلْفَاظِ لُغَتِهِم ويَسِيرُ عَلَى قَدَمَيْه كما يسيرُ الناسُ، وهو دَمِثُ الْأَخلاقِ، سَهْلُ الْقِيادِ، لَطِيفُ الْمُعَاشَرَةِ، يُلَبِّي من يُنَادِيه، ويُطِيعُ ما يُؤْمَرُ به، وهو غايَةٌ في ضآلةِ الجسمِ، ورِقَّةِ البَشْرَةِ، وبَياضِ اللَّوْنِ.

•••

وفي ذاتِ يومٍ وفَدَ أَحَدُ الْجِيرانِ إلى بَيْتِ السَّيِّدِ ليتحقَّقَ صِدْقَ ما سَمِعَهُ عنّي، وكان ذلك الضَّيْفُ صَدِيقًا حَمِيمًا لِرَبِّ الدَّارِ، وهو زارعٌ مثلُه، وكان شَيْخًا طاعِنًا في السِّنِّ. وما أَظْهَرَ لِلسَّيِّدِ شَوْقَه إلى رُؤْيَتِي، حتى أحضرَني إليه، ووضعني فوقَ الْمائِدَةِ، وأمَرَنِي بالسَّيْرِ عليها أمامَهُ؛ فلم أتردَّدْ في إطاعَةِ أمْرِه، ثم سَلَلْتُ حُسامِي أمامَهُ، وأَغْمَدْتُه ثانِيَةً، ولم أدَّخِرْ وُسْعًا في تَكْرِيمِ الضَّيْفِ، والتَّوَدُّدِ إليه، وإظْهارِ كلِّ احْتِرَامٍ له، وقد حَيَّيْتُه بِلُغَتِه، ورَحَّبْتُ بهِ، وسألتُه مُتأَدِّبًا عن صِحَّتِه، ولم أنْسَ شيئًا مِمَّا أَشارَتْ عليَّ به حاضِنَتِي الصَّغِيرةُ. وكانتِ الشَّيْخُوخَةُ قد أضْعَفَتْ بَصَرَ هذا الشَّيْخِ الطَّاعِنِ في السِّنِّ؛ فَأَخْرَجَ مِنْظارَه لِتَتَبَيَّنَ له صُورَتِي، فلم أَتَمالَكْ أَنْ أَضْحَكَ. وكأنَّما أدرك أفرادُ الأُسْرَةِ سِرَّ ضَحِكي، فأَغْرَبوا في الضَّحِكِ جميعًا؛ فامْتَعَضَ الشَّيخُ، وظَهَرَتْ على أسارِيرِهِ أماراتُ الْغَضَبِ، واضْطَغَنَ عَلَيَّ، ولكنه أسَرَّ ذلك في نفسِه، وعَزَمَ على الانْتِقامِ مِنِّي في الْحالِ، فَأَوْحَى إلَى رَبِّ الْبيتِ أن يَعْرِضَني في الْأسْواقِ لِيَكْسَبَ بذلك مالًا طائِلًا، وأقْنَعَه بأنَّ جميعَ السُّكانِ — في مُخْتَلِفِ الْمُدُنِ — سَيُقْبِلُونَ على رُؤْيتي، ولا يتردَّدُون في دَفْعِ ما يَطْلُبُه على ذلك من الْأَجْرِ.

وفي صَباحِ الْغَدِ أَخْبَرَتْني الْحاضِنَةُ الصَّغِيرةُ بكلِّ ما قالَهُ الشَّيْخُ الْحَقُودُ. وقد بَكَتْ منْ ذلك بدُمُوعٍ غَزِيرَةٍ، وَخشِيَتْ أنْ يُصِيبَنِي أذًى منْ بعضِ النَّظَّارَةِ الَّذين قد يَدْفَعُهم الْفُضُولُ إلى الْعُنْفِ بي، وأكْثرُهم قساةٌ غِلاظُ القُلُوبِ.

وقد أظْهَرَتْ لي أَلَمَها الشديدَ من مُقْترَح ذلك الشَّيخ، وقالتْ لي: «إنَّ أبَوَيَّ قد وَعَدانِي — مِنْ قَبْلُ — بِأَنَّكَ سَتَكُونُ لِي وَحْدِي، ولكِنَّهُما أخْلَفا وَعْدَهُما حِينَ لاحَتْ لهما الْفائِدَةُ، كما أخْلَفا وَعْدَهُما — في العامِ الْماضِي — حين أَعْطَيانِي حَمَلًا، ثُمَّ باعاهُ لأَحَدِ الْقَصَّابِينَ بعد أن سَمَّنْتُهُ، ولاحَتْ لهما الْفَائِدَةُ في بَيْعِه.»

أمَّا أنا، فقد كنتُ — على الْحقيقةِ — أَقَلَّ أَلَمًا مِنْها؛ لأنني كنتُ أشْعُرُ بِشَوْقٍ شَدِيدٍ إلى رُؤْيةِ النَّاسِ والاختِلاطِ بهم، لَعَلِّي أَجِدُ في ذلك وَسِيلَةً إلى الْخُروجِ مِنْ هذه الْبِلادِ، أوْ تُتاحُ لي فُرْصَةٌ لِلْعَوْدَةِ إلى وَطَنِي.

(٣) في أَسْوَاقِ الْمُدُنِ

وبعد أيَّامٍ قليلةٍ أعدَّ السَّيِّدُ كلَّ مُعَدَّاتِ السَّفَرِ، عَمَلًا بِنَصِيحَةِ صاحبِهِ الشَّيْخِ، ثم وَضَعَنِي — في صباحِ الْيومِ التَّالي — في صُنْدُوقٍ صغيرٍ، وسار بِي إلى الْمَدينةِ الْمُجاوِرَةِ، ومعه ابْنَتُه الصَّغيرةُ. وكان الصُّندوقُ مُقْفَلًا، وفيه عِدَّةُ ثُقُوبٍ لِتَجْدِيدِ الهواءِ حتى لا أَخْتَنِقَ. وقد عُنِيَتْ بي تلك الْحاضِنَةُ الرَّقِيقَةُ؛ فوَضَعَتْ في أَسْفَلِ الصُّنْدوقِ فِراشًا وَثِيرًا، حتى لا أَتأَلَّمَ في أثناءِ الطَّرِيقِ. ولم يُكَبِّدْها ذلك أيَّ عَناءٍ، فقد وضعتْ في الصُّندوقِ الْفِراشَ الَّذي كانت قد أعَدَّتْه — من قبلُ — لِنَوْمِي في أُرْجُوحَةِ دُمْيَتِها الصَّغِيرةِ. ولم يكُنْ ذلك إلَّا فِراشَ الدُّمْيَةِ الَّتي أَحَلَّتْنِي الْحاضِنَةُ مَكانَتَها، وخَصَّتْنِي بكلِّ عِنايَتِها، بعد أنِ اسْتَبْدَلَتْنِي بالدُّمْيَةِ؛ لأَنَّ الدُّمْيةَ كانَتْ — لِحُسْنِ حَظِّي — جامِدَةً صامِتَةً، لا تستطيعُ أن تُحيرَ جَوابًا، أمَّا أنا فقد كنتُ — على العكسِ من ذلك — دُمْيَةً ناطِقَةً، رَشِيقةَ الْحَرَكاتِ، طَيِّعَةً، مُلَبِّيَةً كلَّ ما يُطْلَبُ منها.

ولا أكْتُمُ القارِئَ أنني عانَيْتُ — في تلك الرِّحْلَةِ الْقَصِيرَةِ الَّتي لم تَتَجَاوَزْ نِصْفَ ساعَةٍ — كلَّ أنْواعِ الْآلامِ، فقد كانَ الْجَوادُ يَسِيرُ بِسُرْعَةٍ وهو يَعْلُو ويَهْبِطُ في أَثْناءِ سَيْرِه،ِ فَيَرُجُّنِي في الصُّندوقِ رَجًّا عنيفًا. وكان الْجَوادُ — لِضَخامتِه — يقطعُ في كلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها نَحْوَ أَرْبَعِينَ قَدَمًا. وكنتُ في الصُّندوقِ أشْبَهَ بسفينةٍ تَعْلُو وتَهْبِطُ وسَط عاصِفَةٍ هَوْجاءَ، وكانتِ الْمَسافةُ الَّتي قَطَعْناها في ذلك الْوقتِ القصيرِ مسافةً طَوِيلَةً جِدًّا. ولمَّا وَصَلْنا إلى الْمدينةِ نَزَلَ السَّيِّدُ عن جَوَادِهِ، وَتَرَجَّلَ حَتَّى وَصَلَ إلى فُنْدُقٍ كبير، فاكْترَاهُ من صاحِبِه، وأَرْسَل الْمُنادِينَ يَطُوفُونَ شَوارِعَ الْمدينةِ ودُرُوبَها؛ ليُذيعُوا بين أهْلها أنهم أَحْضَرُوا حَيوانًا صغيرًا يُمَاثِلُ الإِنسانَ في جِسْمِه وشَكْلِه وهَيْئَتِه وكلامِه، وأن ذلك الْحيوانَ الآدَمِيَّ الضَّئِيلَ يَنْطِقُ — كما يَنْطِقُ النَّاسُ — ويَقُومُ بِأَلْعابٍ عجيبةٍ في مَهارَةٍ فائِقَةٍ، فأَقْبَلَ النَّاسُ مِن كلِّ مكان لِيَتَحَققُوا صِدْقَ ما سَمِعوا، ورَأَى السَّيِّدُ أنْ يُقِلَّ مِنْ زِحَامِهم، فلمْ يَسْمَحْ — في كلِّ مرَّةٍ — لأَكْثَرَ منْ ثَلاثِينَ رَجُلًا بالدُّخولِ والْمُشاهَدَةِ.

وقد دَهِشَ النَّاسُ لِرُؤْيَتِي، وخِفَّةِ حَرَكاتِي، وأنا أَسِيرُ على الْمائِدَةِ جيئَةً وذَهابًا، وأُجِيبُ عَنْ أَسْئِلَتِهِم بقَدْرِ ما اسْتَطَعتُ أنْ أَفْهَمَ مِنْ لُغتِهِمْ. وكنتُ أُحَيِّي النَّظَّارَةَ — في احْتِرامٍ وأَدَبٍ — وَفْقَ إِرْشاداتِ الْحاضِنَةِ الصَّغيرَة. وقد اتَّخَذتُ من الدَّسْتَبانِ الذي أَعْطَتْنِيهِ الْحاضِنةُ — وكانت تَضَعُه في إصْبَعِها الْوُسْطَى حين تَخِيطُ الْملابِسَ — قدَحًا أَشْرَبُ فيه الْماءَ. وكنتُ أُجَرِّدُ سَيْفِي وأُظْهِرُ أمامَهم كلَّ ما تَعَلَّمْتُهُ — في حَداثَتي — من ضُروبِ الْفُروسِيَّةِ. وقد أَعْطَتْنِي الْحاضِنَةُ شَيْئًا مِنَ الْأعْوادِ لِأَتَّخِذَ مِنْهُ حِرابًا أُمثِّلُ بها دَوْرَ الْفارِسِ الصَّغيرِ. وقد صَعِدْتُ إلى الْمائِدَةِ في ذلك اليوم اثْنَتْي عشرةَ مَرَّةً، ومَثَّلْتُ — في كلِّ مَرَّةٍ — تلك الْأدْوارَ، وما انْقضَى النَّهارُ حتى ارْتَمَيْتُ على الْأَرْضِ لشِدَّةِ ما لاقَيْتُ مِنَ الإِعياء والْمَشَقَّةِ.

وكان النَّظَّارَةُ شَدِيدِي الْإِعْجابِ بِمَهارَتِي؛ فلا يَخْرُجون حتى يُخْبروا مَنْ يَعْرِفُونَ بِما رَأَوْهُ من غَرَائِبَ ومُدْهِشاتٍ، وقد بلغَ زِحامُ الْجُمْهورِ أَشُدَّه، ولم يَعُدْ يُطيقُ صبرًا على الانْتظارِ، حتى هَمَّ — عِدَّةَ مراتٍ — بِاقْتحامِ الْأبوابِ، والدُّخولِ عَنْوَةً.

ورأَى السَّيِّدُ — في ذلك — وَسيلةً ناجحةً للْكَسْبِ والْغِنَى، فخشِيَ أن يُصِيبَنِي مكْرُوهٌ، أو يَلحَقَني شيءٌ من أذَى بعضِ النَّظَّارَة الفُضُولِيِّينَ، فَحَظَرَ عليهِمُ الدُّنُوَّ مِنِّي، وجعل الْحاضِنَةَ قريبةً من مكاني، حتى تمنعَ عني كلَّ أذًى، وأَجْلَسَ النَّظَّارَةَ على مسافةٍ بعيدةٍ مني، حتى لا تنالني أيُّ يدٍ بِسُوءٍ.

على أنَّ تلميذًا خبيثًا أَبَى عليه لُؤْمُه إلَّا أَنْ يَقْذِفَنِي بِجَوْزَةٍ صغيرةٍ، لا يقلُّ حجمُها عن حجمِ أكبرِ بِطِّيخَةٍ رأيتُها. وقد صَوَّبها الْخَبِيثُ إلى رَأْسِي، وأطْلَقها من يدِهِ بقُوَّةٍ، ولكنها — لِحُسْنِ حَظِّي — قد أخطأتْني ولَوْ قد أَصابَتْ رَأْسِي لَحَطَّمَتْهُ تَحْطِيمًا. وما أَلْقاها حتى غضِبَ السَّيِّدُ والْحَاضِنَةُ والنَّظَّارَةُ على ذلك التِّلميذِ الْخَبِيثِ، وعنَّفُوه على فَعْلَتِه أَشَدَّ تعنيفٍ، وطردوه من المكان.

ثم أعلن السَّيِّدُ أنَّه سَيسْتأْنِفُ عَمَله في يَوْمِ السُّوقِ التَّالِي، وقَد ارْتَمَيْتُ على فِرَاشي وأَنا مجْهُودُ الْقُوَى، وقد بُحَّ صَوْتي، بَعْدَ أَنْ ظَللْتُ أُمَثِّلُ وأَتكلَّمُ ثمانيَ ساعاتٍ كاملةً.

ولما رجَع السَّيِّدُ إلى بيتِه وفدَ عليه جيرانُه — رجالًا ونساءً وأَولادًا — ليتحقَّقوا صدقَ ما سمِعوه عنِّي وكانت أَنْبائِي قد ذاعَتْ في كلِّ مكانٍ ورأَى السَّيِّدُ وُفُورَ ما يَجْنِيهِ منَ الْمالِ — إذا تابَعَ عَرْضِي في الْأَسواقِ — فَعَهِدَ بِأَعمالِهِ الْمَنْزِلِيَّةِ والزِّرَاعِيَّةِ إلى وكيلٍ أَمينٍ، ثم ودَّعَ زَوْجَهُ — بعد أَنْ أَعَدَّ كلَّ المُعَدَّات لِسَفَرٍ طويلٍ — وسافَرَ في السَّابعَ عشرَ من أُغُسْطُسَ عامَ ١٧٠٣م. وبعد شَهْرَينِ وَصلْنا إلى قَصَبَةِ إِمبِرَاطُورِيَّةِ «برُبْدِنْجاج»، وهي على بُعد أَلفٍ وخَمْسِمِائةِ ميلٍ من بلدِه.

وقد رَكِبَ السَّيِّدُ جوادَهُ، وأَرْدَفَ ابْنَتَهُ، فَحَمَلَتْني في عُلْبَةٍ صغيرةٍ شَدَّتْها إلى حِزامِها، بعد أن بَطَّنتْ داخِلَها بِبِطانةٍ كثِيفةٍ من الْجُوخِ، وقد عَزَمَ السَّيِّدُ على أن يَعْرِضَني في أسواقِ الْمُدُنِ والضَّواحِي والْقُرَى الشَّهيرةِ التي يَمُرُّ عليها في طريقِه وكُنَّا نقطعُ في كلِّ يومٍ مسافةً تَتَرَجَّحُ بين ثمانينَ ميلًا ومائةِ ميلٍ، وكانتِ الْحَاضِنَةُ كثيرًا ما تشكُو إلى أبِيها إِسراعَ الْجوادِ في سيرِه، وتطلُبُ إليه التَّمَهُّلَ وَالْهَوادَة، مُحافَظَةً على رَاحَتِي، وكذلك كانت تُخْرِجُني من الْعُلْبَةِ — بين حِينٍ وحِينٍ — لأَسْتنشِقَ الْهواءَ، وأَرى الْبلادَ التي نَمُرُّ عليها، وقد عَبَرْنَا ستَّةَ نُهَيْرَاتٍ، كانت — على صِغَرِها — أَعرَض وأَعمقَ من نهرِ النِّيلِ، وكان أضْيَقُ غَدِيرٍ في هذه الْبلادِ أكثرَ اتِّساعًا من نهرِ «التَّامِيز». وقد قضينا في سفرِنا عدَّةَ أسابيعَ، ومَررْنا على ثماني عشرةَ مدينةً وكثيرٍ مِنَ الْقُرَى والضَّواحِي، وفي الْيومِ السَّادِس والْعشرينَ من شهر أُكتوبَرَ وصلْنا إلى قَصَبَةِ الإِمْبِراطُورِيَّةِ، واسْمُها «أمُّ الْقُرَى»، وهم ينعَتونها دائِمًا بأنها «فخرُ بلادِ الْعالَم».

وما وَصَلْنا إلى تلك القَصَبَةِ حتى اكْتَرَى السَّيِّدُ جَناحًا كبيرًا في أحسنِ شَوارِعِ الْمدينةِ، وأرسل دُعاتَه يُذِيعُون على النَّاسِ أنْباءَ الْغرائبِ والْمُدْهِشات التي سأفاجِئُهم بها.

وكان السَّيدُ يَعْرِضُنِي أمامَ الْجُمهورِ في فِناءٍ كبيرٍ، طولُه أَرْبعُمِائة قدمٍ وعَرْضُه ثلاثُمائة قدمٍ، وفي وسَطِه مائدةٌ قُطْرُها سِتُّون قدمًا، يَكْتَنِفُها سياجٌ متينٌ لِيَحُولَ بيْني وبينَ السُّقوطِ. وكنتُ أُمَثِّلُ دَوْرِي — في كلِّ يَوْمٍ — عشْرَ مرَّاتٍ، والْجُمْهُورُ شديدُ الدَّهْشةِ والْإِعجابِ بِي، وكنتُ حِينئذٍ قد تعلَّمتُ أَلفاظًا كثيرةً من لُغَةِ هذه البِلادِ، وأصبحتُ قادِرًا على الكلامِ مع أهلِها بِسُهولةٍ؛ لأنني كنتُ دائمَ الِانْتِباهِ والتَّلَقِّي لكلِّ ما يَطْرُقُ سَمْعِي من أحادِيثِهم. وكانتِ الْحاضنةُ الصَّغيرةُ دائِبَةَ الْعِنايةِ بي، فلا تَتركُ فرصةً في أوقاتِ فَراغي دُونَ أن تُعلِّمَني فيها حُروفَ الْهِجاءِ وما إليها، حتى أصبحتُ — بفضْلِ عنايتِها وتعهُّدِها — قادِرًا على قِراءَةِ كُتُبِهِمُ الْأَوَّلَّيةِ وفهْمِها. وكانت تُدَرِّسُ لي في الْبيتِ وفي الْفُنْدُقِ وفي كلِّ مكانٍ نَحُلُّ فيهِ، وتُعلِّمُني الْقراءةَ في كُتَيِّبٍ صغيرٍ يزيدُ حجمُه على حجْم الْمُصَوَّرِ الْجُغْرَافيِّ الْكبيرِ الَّذِي يَتَداولُه التَّلامِذَةُ في مدارسِنا، وتبذلُ قُصارَى جُهْدِها في تعليمِي الحروفَ وتركيب الْكلماتِ، مُتَدَرِّجَةً مِنْها إلى الْجُمَلِ الْقصيرةِ، فالطويلةِ، كما كانت تُفْهِمُني معانِيَ ما أقرأُ، حتَّى وصلتُ — في زمنٍ يَسِيرٍ — إلى درجةٍ جديرةٍ بالْغِبْطَةِ والْإِعْجابِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤