الفصل السابع

(١) ذِكْرياتُ الْوَطَنِ

كان يدورُ بِخَلَدِي دائمًا شُعُورٌ خَفِيٌّ، يُوحِي إِلَيَّ أنني سأحْصُلُ — في يومٍ منَ الأيامِ — على حُرِّيَّتِي، وأعودُ إلى وطني، ولم أكن أعرِفُ ما هي الوسيلةُ إلى تحقيقِ هذا الْحُلْمِ اللذيذِ، ولقد طالما فكَّرْتُ في ذلك، فلم أَعُدْ من تفكيرِي بطائلٍ، وأخفقتُ في الاهْتداءِ إلى تدبيرٍ تلوحُ لي فيهِ أيةُ بارِقَةٍ من بَوارِقِ الأملِ في الخلاصِ من تلك البلادِ.

ولقد كنتُ على ثِقَةٍ منِ انْقطاعِ هذه الجِهةِ التي نزلتُها عن بقيةِ الْعالَمِ، كما كنتُ على يقينٍ من أن أَوَّلَ سفينةٍ اقْتربَتْ منْ تلك البلادِ، هي سفينتُنا التي غرِقتْ — فيما أعتقدُ — بالْقربِ منها.

وقد أصدرَ الْملكُ أمرَه بمُراقبةِ أيّ سفينةٍ تدنُو من شواطئِ بلادِه، وإحضارِ مَنْ فيها من الناسِ إليه، لعَلَّه يعثرُ — مِنْ بَيْنِهم — على زوجةٍ صالحةٍ لِي. أمَّا أنا فقد كنتُ أُوثِرُ أنْ أمُوتَ على أن أتزوَّجَ في تلك البلادِ، لأنْسُلَ ذريَّةً منْ أبنائي، توضَعُ في الْأقفاصِ كما تُوضَعُ الْعصافيرُ، ثم تُباعُ بعدئذٍ في أَنْحاءِ الْمملَكَةِ للسَّراةِ والْأعيانِ، كما تُباعُ الطُّرَفُ والحَيَوَاناتُ الصغِيرةُ الْغريبةُ! ولقد كَانُوا — في الْحقيقةِ — يعاملونني أحسنَ معاملَةٍ، وقد اخْتارُوني نديمًا للْملكِ والْملكةِ، وكنتُ في هذه البلادِ بَهجةَ الْحاشيةِ والسَّراةِ. ولكني كنتُ أشعُرُ أن هذه الحفاوةَ كلَّها لا تُرضِي نفسَ رجلٍ يَشْعرُ أنه إِنسانٌ مستقلٌّ حُرٌّ لهُ كرامةٌ، ولم أكنْ لأَنْسَى أفْلاذَ كَبِدي وزوجتِي بعدَ أنْ تركتُهُم في بيتي النائي الْبعيدِ. وكان أكبرُ أمانيَّ أنْ أَعيشَ في شعبٍ يُماثِلُني وأُمَاثِلُه، وأجدَ فيهِ أَصْدِقاءَ وخُلَصاءَ مِنْ أَنْدادِي وأَقْرانِي، وأَظفَرَ بحرِّيَّتي كاملةً في التَّجْوالِ — في الطرقِ والحقولِ — بلا رَهبةٍ ولا حذَرٍ. ولا كذلك كُنْتُ في تلك البلادِ التي ظَللْتُ أَتوقَّعُ فيها — بينَ لحظةٍ وأُخْرى — أَن يسحَقَني أَحدُ أَبنائِها الْعمالقةِ بقدمِه، كما نَسْحقُ الحشَرَةَ الْوضِيعَةَ الضئِيلةَ، دُونَ أَنْ نشعرَ بمكَانِها مِنَ الْوُجودِ!

(٢) مُزْعِجاتُ «برُبْدِنْجَاجَ»

ولقد كان منَ الميسورِ المحتَمَلِ أَن أَقضيَ حياتِي في تلك البلادِ، لوْلا قماءَتي وقِصَرُ قامتي، وما جرَّهُ ذلك عليَّ مِنَ الْأخطارِ والمخاوفِ الَّتي يضيقُ عنها الوصفُ، والَّتي لا أُعَدِّدُها، بلْ أَعُدُّ منها ما حدث لي ذاتَ يَومٍ مع قَزَمِ المَلِكةِ، قبلَ أَنْ يَحُلَّ عليهِ غضبُها ونقِمَتُها، فقدِ التقيتُ بهِ في حديقةِ الْقصرِ الْملكِيِّ، بالقربِ من شجرةِ تُفَّاحٍ صَغِيرةٍ. وما وضعَتْنِي الْحاضنةُ على الْأَرْضِ، حتى أقبلَ ذلك الْخبيثُ يُحيِّيني ساخرًا من قِصَرِ قامتي؛ فقابلتُ سُخْريتَهُ بمثْلِها، فأسرَّها في نفسِهِ، وما بَعُدَتِ الْحَاضِنَةُ عنِّي قليلًا حتى انْتَهَزَ القَزَمُ الْخَبِيثُ تلك الْفُرصَةَ، وهَزَّ غُصنًا من أَغْصانِ تلك الشَّجرةِ؛ فتناثرَ تُفَّاحُهُ على الأَرْض، وسقطتْ عليَّ عشْرُ تُفَّاحاتٍ — في مثلِ حُجوم الْبراميلِ — فكادَت تقتلُني قتلًا، ولكنني تجلَّدتُ أَمامَه، وعُدْتُ على نفسي باللَّائمةِ، وعزمتُ على ألَّا أُمازِحَه بعد ذلك اليومِ.

•••

وتساقط البَرَدُ — ذاتَ يَوْمٍ — وأنا جالسٌ في الحديقةِ، وكانتِ الْحاضنَةُ تحادثُ إحْدَى رفيقاتِها؛ فهوَيْتُ إلى الْأَرْضِ وأَنا بينَ الْحياةِ والْمَوتِ. ولولا أنهم أَسرعوا بنقلي إلى الفِراشِ لأَصبَحتُ في عِدادِ الْهالكينَ، على أنني تماثَلْتُ منَ الْمرضِ بعدَ ثمانيةِ أيامٍ.

وقد كان كلُّ شيءٍ — كما أَسلفتُ — مناسبًا سكانَ هذه البلادِ، وقد وزَنْتُ حَبَّةً واحدةً من حبَّاتِ الْبَرَدِ الْمتساقطَةِ، فرأيْتُها أكبرَ من حبَّاتِ الْبَرَدِ التي نراهَا عندنا ألفًا وثَمانِمائة مرةٍ.

(٣) في فَمِ كلبٍ

وما أَنْسَ لا أَنْسَ يومَ تركتْني الْحاضنةُ في الْحَديقةِ لأتنزهَ وحْدي، وأخلُوَ إلى نفسِي، وكانت تأنسُ مني — في أَغلبِ الأحايينِ — مَيْلًا إلى العُزلةِ والتفكيرِ.

وما تَرَكَتْني في الحديقةِ — بعد أَن وثِقَتْ أَنها قد خَلَّفَتْني في مكَانٍ أمينٍ — حتى لَقِيَني كلبٌ صغِيرٌ. وما شَمَّ رائحتي — من بعيدٍ — حتى أسرع إليَّ، فأخذنِي في فمِه، وجرى مسرِعًا إلى صاحِبِه البستانيِّ، ووضعني أَمامَه، ووقف يُبَصْبِصُ (يُحَرِّكُ ذَنَبَهُ). وكان البستانيُّ يعْرفُني، فأسرعَ إِليَّ يُلاطفُني ويُواسِيني، ويسألُني: كيفَ أَجدُني؟ وهل أَصابني سوءٌ؟ ولم يكنْ في قدرتي أَن أُجِيبَهُ — وقتَئذٍ — فقد أُغْمِيَ عليَّ، ولم أُفِقْ من غَشْيَتي إلا بعدَ دقائقَ، وما اطْمَأَنَّ على سلامتي حتى حملني مترفِّقًا إلى حيثُ كنتُ، فرأيتُ الْحاضنةَ تبحثُ عني وتُنادِيني، وقد امْتلأتْ نَفسُها حُزْنًا وألمًا حين عادت إلى مكانِي فلم تجدْني فيهِ، فلما حدَّثهَا الْبُسْتانِيُّ بِما جَرَى لِي راحَتْ تَنْهال عَلَيْهِ لَوْمًا وتقريعًا لِما سبَّبهُ لي كَلْبُه مِن الإزعاجِ والْأَلَمِ.

وقد قَبِلتْ عُذْرَ الْبستانيِّ — بعدَ حِوارٍ طويلٍ — ووعدتْهُ بأن تكتُمَ الحادثَ المشئومَ عن الْملِكةِ، حتى لا تُنْزِلَ بهِ عقابَها الصارِمَ.

(٤) خَواطِرُ مؤلمةٌ

وقد آلتِ الْحاضنَةُ على نفسِها ألَّا تفارِقَني لحظةً واحدةً حتى لا أَتَعرَّضَ لِمكْرُوهٍ بَعْدَ ذلك اليوم. ولقد طالما خَشِيتُ مِنْها لِهذا التضييق الشديدِ على حُرِّيتي، فكَتمْتُها أكثرَ ما وَقَعَ لِي منَ الْحوادثِ، ولستُ أَنسَى أنَّ جُعَلًا (وهو صِنْفٌ منَ الْخَنافسِ) حاولَ أن يبتلعَني، فلمْ يُنْقِذْني منْهُ إلا حُضورُ بَدِيهَتِي؛ إذْ أسْرعْتُ إلى شجرةٍ مُتَدَلِّيَةٍ أغصانُها على حائطِ الْحديقةِ، فاحْتميتُ بِها، وأخرجْتُ مُدْيَتِي لأدفعَ أذاهُ عن نَفْسي.

وما أَنسَى أنني هوَيْتُ — ذَاتَ يَوْمٍ — في جُحْرِ جُرَذٍ (وهو نوعٌ من الْفأرِ)، فَوَسِعَني إلى عُنُقي، ولمْ أخْرُجْ منه إلا بَعدَ عناءٍ شديدٍ.

وكنتُ أفكِّرُ في وطني — ذاتَ يوم — وإني لَغارِقٌ في ذِكْرياتِي وَخَواطِري، إذْ اعْترَضتْنِي في طريقِي قِشْرَةُ شجرةٍ، فكادت تَقضِي عليَّ.

وكانتِ الطُّيورُ تهزأُ بي — لضآلَتي وقَماءتي — ولا تخشانِي، وقد بلغ منِ استِخْفافِها بي أن عُصفورًا وَقِحًا خَطفَ من يَدِي قطعةً من الْحَلْوَى كنتُ آكلُها! وكنتُ إذا حاولتُ أنْ أَدْنُوَ من تلك الطيورِ لأقبِضَ عليها التفتَتْ إِليَّ، وحرَّكتْ مَناقيرَها مُنْذِرةً مُتوعِّدةً إيِّايَ أن تفتِكَ بِي، ثم سارتْ في طريقِها وادعةً تلتقطُ ما شاءتْ من الدُّودِ والْحَبِّ.

(٥) بعدَ عامَيْنِ

على أن اللهَ — سُبحانَه — قد كتب ليَ الْخلاصَ من هذه البلادِ بسرعةٍ عجيبةٍ، ويَسَّرتْ لي عنايتُهُ أَنْ أعودَ إلى وطنِي بطريقةٍ لا تَخْطُرُ على بالٍ، كمَا سَيَرَى الْقارئُ فيما بعدُ.

لقد مَضَى عليَّ عامانِ، وأَنا في تلك البلادِ. وفي مُسْتَهَلِّ الْعامِ الثالثِ خرجتُ مع الْحاضنةِ والحاشيَةِ — في صُحْبةِ جلالتَيِ الْمَلِكِ والْمَلِكةِ — إلى سِياحَةٍ في الْحُدودِ الْجَنوبيَّةِ للْمملكةِ. وقد حملُوني في الْعُلْبَةِ التي كانوا يُعدُّونَها لأسفارِي، وَهي حجرةٌ تلائمُني كلَّ الْمُلاءَمةِ؛ عَرْضُها اثْنتا عشْرةَ قدمًا. وقد طلبْتُ إليهم أنْ يَشُدُّونِي بأَربعِة خُيوطٍ منَ الْحريرِ إلى أرْكَانِ الْحُجْرةِ الأربعةِ؛ حتى لا أشْعُرَ باهْتزازٍ واضْطِرابٍ في أثْناءِ سَيْرِ الْجوادِ، الذي كان يَمْتطيهِ أحدُ الْخدمِ ويضعُ عُلبتي أمامَه مُحافَظَةً عليَّ.

وقد طلبْتُ إلى النَّجَّارِ أن يصنعَ لي ثُقْبًا صغيرًا في سَطحِ عُلبتِي بِمقْدارِ قدمٍ مربَّعةٍ؛ لينفُذَ إِليَّ الهواءُ منه، وليتسنَّى لِي أن أفتحَه وأُغلِقَه بِعصايَ كلَّما أردْتُ.

(٦) وَداعُ الْحاضنةِ

وما وَصَلْنا إلى نِهايةِ سياحتِنا، حتى رأى الْملِكُ أن يَقضيَ بضعَةَ أيامٍ متنزِّهًا في مدينةٍ من مدنِ بلادِه، تقعُ على مسافةِ ثمانيةَ عشرَ ميلًا من شاطِئِ البحرِ. ولقد جَهَدَتْني هذه السياحةُ، وجهدتْ معي الْحاضنةَ. وقد أُصبْتُ بِزُكامٍ خفيفٍ، كما انْحرفَتْ صِحَّةُ الْحاضنةِ الْمسكينةِ؛ فقد كانت مضطرةً للبقاءِ إلى جانبِي، والسَّهرِ على راحتي، والعنايةِ بأمري دَائمًا.

واشتد شوْقي إلى رؤيةِ الْبَحْرِ؛ فتظاهرتُ بأن وَطْأَةَ الْمرضِ قدِ اشْتدَّت بِي، ولم أقصِدْ بِذلك إلا أن يُؤْذَنَ لِي باسْتنشاقِ هواءِ البحرِ مع خادمٍ كانوا يَعهدونَ إليه بأمري في بعضِ الأحايينِ، وكنتُ آنسُ إليه، وأرتاحُ إلى خُلُقِهِ.

ولسْتُ أَنْسَى معارضةَ الْحاضنَةِ في ذلك، وكيفَ تَأَلَّمَتْ لِفراقِي أَشدَّ الأَلَمِ، ولمْ تَرْضَ بِذلكَ إلا بعدَ أنْ أَوصتِ الْخادمَ بِي، وألَحَّتْ عليه في العنايةِ بأمري. ولما وَقَفْنا للوَداعِ هَمَلتِ الدُّموعُ من عينيها، وكأنما أَحسَّ قلبُها شرًّا مُسْتَطِيرًا، أوْ لعلَّها شعرَتْ في أعْماقِ نفْسِها أنَّها لنْ تَراني بَعْدَ ذلك اليوم.

وللنفسِ حالاتٌ تُرِيها كأنَّها
تُشاهِدُ فِيها كلَّ غَيْبٍ سَتَشْهَدُ

(٧) على شاطِئِ الْبحرِ

ثم حملني الخادِمُ في عُلبتِي، وسار بي نحوَ نصفِ ميلٍ، بعيدًا عن القصرِ الْمَلكيِّ الْمُشيَّدِ في تلك الْمدينةِ، ومَضَى صَوْبَ الصُّخورِ على شاطئِ البحرِ، فطلبتُ إليه أَن يضَعني على الأرضِ، ثم فتحْتُ إحدَى نافذتيَّ، وأخذتُ أُجِيلُ بَصري في أرجاءِ البحرِ بِعَيْنٍ مُغْرَوْرَقَةٍ بالدُّموعِ، ونفسٍ كئيبةٍ محزونةٍ. ثم رأيتُنِي في حاجةٍ إلى النومِ؛ فطلبتُ إلى الْخادِمِ أن يُغلقَ النافذةَ حتى لا أُصابَ ببرْدٍ. وقد اسْتسْلَمْتُ لنومٍ عميقٍ، ولستُ أدري ماذا صنع الخادمُ بعد ذلك. ولعلَّه قدِ اطْمأنَّ إلى أنني في مكانٍ أمينٍ، ووثقَ بأنني لن أُصابَ بسوءٍ؛ فراح يتسلَّقُ الصُّخورَ بَاحِثًا — في أوكارِ الطُّيورِ — عنْ أَفْراخِها وَبَيْضِها، وقد كنتُ رأَيتُه منْ خِلالِ نافذتِي يفْعلُ ذلك قبلَ أَن أَنامَ.

(٨) في أجْوازِ الْفَضاء

ثم اسْتيقظتُ بَغْتَةً، وقد شَعَرْتُ أن عُلْبتِي تهْتزُّ اهتزازًا عَنيفًا، وترتفعُ إلى عُلُوٍّ شاهِقٍ مُندفعَةً إلى الأَمامِ بسرعَةٍ لا مثيلَ لها. وشعَرتُ أن الرَّجَّةَ الأولَى كادت تقذفُ بي من العلبةِ التي كنتُ فيها، ثم خفَّتِ الحركةُ قليلًا قليلًا؛ فصرختُ بأعلَى صوتي، ولكنَّ صُراخي ذهب أدْرَاجَ الرِّيَاحِ. ونظرْتُ من خِلالِ نافذتِي، فلم أرَ غيرَ السُّحُبِ — السُّحبِ وحدَها — وسمعْتُ ضجَّةً مُفْزِعةً فوقَ رأْسي، تُماثِلُ خَفْقَ الْأجْنِحَةِ. وثَمَّةَ أدرَكتُ حَرَجَ مركزي، وعلمتُ مَدَى الْخطرِ الذي أنا مُستهدِفٌ له. وأُلْقِي في روعي أن نسْرًا كَبيرًا — منْ نُسورِ تلك البلادِ — قدْ حملَ الْعُلبةَ بِمِنقارِهِ. وهو يوشِكُ أن يُلْقِي بِها من حالِقٍ إلى الصخورِ — كما تُلقِي السُّلْحُفَاةُ قشرةً من فمِهَا إلى الأرضِ — ثم يفترسَنِي بعد ذلك، ولَقد كنتُ أَعرِفُ هذا الطائرَ، وما وهبه الله من حاسَّةِ الشمِّ القويةِ التي تَهْديهِ إلى فريستِهِ على مسافةٍ بعيدةٍ؛ فأدركْتُ أنه اهْتدى إِليَّ، معَ أنني كنتُ مختفيًا عن ناظِرِه تحتَ ألواحٍ منَ الْخشبِ، ثَخانَةُ كلِّ لَوْحٍ منها إصْبَعانِ. وبعدَ وقتٍ قصيرٍ شَعرتُ أن خَفَقَاتِ جَناحيْه بدأتْ تزدادُ وتشتدُّ، ثم سمعتُ ضربَاتٍ عنيفةً، ورأَيتُ عُلبتي ترْتَطِمُ — في عُنفٍ وشِدَّةٍ — فأدركْتُ أنني هَوَيْتُ — في أقلَّ من دقيقةٍ — بسرعةٍ لا تمرُّ بخاطِرٍ.

وشعَرتُ — في أثناءِ سُقوطي — بهِزَّةٍ عنيفةٍ رَنَّ دَويُّها في أُذُني؛ فَخُيِّلَ إِليَّ أنَّني أسمعُ دَويًّا أَشدَّ منْ دَوِيِّ الشَّلالِ، ثم أَصبحتُ في ظَلامٍ حالكٍ مُدَّةَ دقيقةٍ أُخْرى. ثم ارْتفَعَتْ عُلبتي ثانيةً، فَرأيتُ ضوءَ النهارِ منْ أَعْلَى نَافذَتِي؛ فأدركْتُ — حينئذٍ — أَنني قد هَوَيْتُ إلى البحرِ، وأنَّ عُلْبتِي سابحةٌ تتقاذفُها الأَموَاجُ الْمُصْطَخِبَةُ، كأنَّها ريشَةٌ معلَّقةٌ في مَهَبِّ ريحٍ عاصفةٍ هوجاءَ.

ودارَ بِخُلْدِي أنَّ نَسْرَيْنِ أو ثلاثة قد تعقَّبا — فيما أَظُنُّ — النَّسْرَ الذي كان يَحْمِلُ عُلْبَتي، فغلبَاه على أمرِه، وشَغَلاه بالدِّفاعِ عن نفسِهِ، فاضْطُرَّ إلى تَرْكِي، ولعلَّهُما كانا يُحاولانِ اخْتِطافي منه، فلما هَوَيْتُ إلى البَحْرِ كادت عُلبتِي تتفكَّكُ، لولا الصَّفَائِحُ الحديديَّةُ التي كانتْ لها خَيْرَ سِياجٍ، فَحَفِظَتْ تَوازُنَها، وحالَتْ دُوْنَ تَكَسُّرِهَا وتَحَطُّمِها بعدَ سُقوطِها منْ ذلك الِارْتِفَاعِ الشاهِقِ.

آهٍ! لَوَدِدْتُ — حينئذٍ — أن عزيزتِيَ الْحاضنةَ الْمخلصةَ كانت إلى جَنْبي لتساعدَنِي على الْخَلاصِ من هذا الْحادثِ الْمفاجئِ. ولم يُنْسنِي ما أنا فيه من شَقاءٍ ذِكْرى هذه الفتاةِ الْمخلصةِ، وأَسَفِي على فِرَاقِها، وَعلى ما يَنْتَابُها منَ الْحزنِ الْعميقِ حينَ تَفْتَقِدُنِي فلا ترانِي أَمامَها!

وذكرْتُ حُزْنَ الْمَلِكةِ على فِراقي؛ فتأثّرتُ لِذلك أَشَدَّ التَّأَثُّرِ، وإني لعلَى يقينٍ من أن قليلينَ جِدًّا من السائِحينَ قد وُجِدوا في مِثْلِ هذا الْمأزِقِ الْحَرِجِ الذي وُجدتُ فيهِ. ولقد كنتُ أَتَوَقَّعُ أن تَتحطَّمَ عُلبتي بينَ لحظةٍ وأخرى، أو تنقلِبَ بِي — على الأقلِّ — إذا عنُفَتْ بِهَا الريحُ، أوْ طَغَى عليها الْمَوْجُ.

(٩) الأملُ بعدَ اليأْسِ

ولقد كَسَرتُ لَوْحًا زُجاجِيًّا منْ أَلواحِ النافذةِ — غيرَ عامِدٍ — وأَصبحتُ نَهْبَ الْحوادثِ، ولم يبقَ لِي أملٌ في النَّجاةِ لَوْلا تلك العُمُدُ الْحديديةُ، المثبَّتةُ بِها النافذةُ مِنَ الْخارجِ، ورأَيتُ الماءَ ينفُذُ إلى عُلبتِي مِنْ خِلالِ بعضِ الشُّقوقِ، فبذَلتُ قُصارَى جُهدِي في سَدِّ كلِّ ثُغْرَةٍ وجدتُها. ولَشَدَّ ما أَسِفْتُ على أنْ لمْ يكنْ في وُسعي أنْ أرفعَ سطحَ علبتي لأَجلسَ فوقَها، بَدلًا من بَقائِي في داخلِها كأنني محبوسٌ في قاعِ سفينةٍ.

وإني لَغارقٌ في هذه التَّأملاتِ والْمخاوفِ، إذ خُيِّلَ إِليَّ أَنني أَسمعُ حركةً بالْقربِ من عُلبتِي، ثمَّ خُيِّل إِليَّ أَن العلبةَ تُجَّرُّ إلى ناحيةٍ بعَيْنِها، وكنتُ — بين وقتٍ وآخرَ — أشعُرُ بأنَّ الأمواجَ ترتفِعُ أَحيانًا إلى أَعلَى نافذتِي فأُصبِحُ في ظلامٍ حالِكٍ، فقَرَّ في نَفْسي أنَّ أُناسًا قريبينَ منِّي يُحاولونَ إنقاذِي ممَّا أنا فيهِ؛ فوقفْتُ على كُرسيٍّ فَوقَ كرسيٍّ، ورفعْتُ رأسِي إلى ثُغْرَةٍ صغيرةٍ في سَطْحِ عُلبتِي، وصِحْتُ طالبًا النَّجدة بكلِّ لغةٍ أَعْرِفُهَا.

(١٠) ساعَةُ الْخَلاصِ

ثم شَدَدْتُ مِنْدِيلي إلى عَصايَ، وأَخرجْتُه منَ الثُّغْرَةِ، وحرَّكْتُه في الْهواءِ عدةَ مرَّاتٍ؛ لعلَّ السفينَة — التي أتخيَّلُها قريبةً مِنِّي — تراهُ فتعرِفُ أنَّ في تلك العُلبةِ إنسانًا تَعِسًا يبْغِي الْغَوْثَ والنَّجاةَ. وكدْتُ أَيْأسُ مِنَ الْخلاصِ وأَكُفُّ عن النِّداءِ، ولكنني أحْسَسْتُ أَنَّ عُلبتِي تتقدَّمُ إلى الأمامِ؛ فعاوَدَنِي الأملُ. وبعدَ ساعةٍ تقريبًا شَعَرتُ أَنها قد صُدِمَتْ بشيءٍ صُلْبٍ، فخَشِيْتُ أَن تكونَ قد صُدِمَتْ بصخرةٍ في طريقِها؛ فاسْتَوْلَى عليَّ الرُّعْبُ والانزعاجُ. ثم سمعتُ حركةً واضحَةً — فوقَ سَطحِ عُلبتِي — وأَحْسَسْتُ أَن حَبْلًا قَوِيًّا يَجُرُّهَا، وَهي ترتفعُ شيئًا فشيئًا من مكانِها نحوَ ثلاثةِ أَقدامٍ، فَرَفَعْتُ عَصَايَ ومنديلي مُلَوِّحًا بهما في الْفضاءِ، وصرختُ — بأعلَى صوتي — طالبًا الْغَوْثَ والنجْدَةَ، حتى بُحَّ صوتي؛ فسمعتُ هُتافًا يترددُ، فامْتلأَ قلبي سُرورًا ليس في قدرتي أن أصفَهُ للقارئِ، وليس في قدرةِ إنسانٍ أَنْ يتمثَّلَ لهُ هذا السرورُ إلا إذا تخيَّلَ نفسه مكاني.

وقد سمِعْتُ — بعد ذلك — خَفْقَ أقْدامٍ على السَّطْحِ، وطَرَقَ أُذنيَّ صوتُ رجلٍ يناديني بِلُغَتِي من الثَّغْرَةِ قَائلًا: «هل هنا أحدٌ؟»

فَأجبتُهُ من فَوْري: «نعم — بكلِّ أسفٍ — يا سيِّدي، هنا إِنسانٌ تَعِسٌ مِسكينٌ، أَسْلَمَهُ جَدُّهُ الْعاثِرُ إلى هذه الحالِ المحزنةِ، وهو يَضْرَعُ إِليك أن تُنقِذَهُ من هذا السِّجْنِ!»

فأجابَني الصوتُ: «لا عليك يا أخي، فاطْمَئِنَّ، فقد شَدْدَنَا صُندوقَك إِلينا، واسْتدعَيْنا النَّجارَ لِفتحِهِ، وإخراجِكَ منه.»

فقلتُ، وقد نسيتُ أنني لسْتُ في بلاد الْعمالقةِ الذين يحمِلُون هذه الحجرةَ بإِصبَعٍ واحِدةٍ: «لا حاجةَ إلى هذا الْعناءِ كلِّه؛ فإنَّ ذلك يَسْتَغْرِقُ وقتًا طَويلًا، فَلْيَتقدَّمْ أحَدُكُمْ، ولْيَضَعْ إصْبَعَهُ في الحبلِ؛ فيرفع العُلبةَ منَ البحر إلى السفينَةِ بلا عَناءٍ.»

وما سَمِعُوا ذلك حتى ضَحِكُوا مما سَمِعوا، وقد خُيِّلَ إليهمْ أنني مَعْتُوهٌ لا أَفْقَهُ ما أَقولُ!

وما كنتُ أحسَبُ — حينئذٍ — أني بين رِجالٍ منْ أَبناءِ جِنْسي في مِثلِ ضَآلَةِ جِسْمِي وقِصَرِ قامتي، ثم جَاء النجَّارُ — بعدَ دقائقَ قليلةٍ — ففتح ثُغْرةً في أعلَى العلبةِ، عرضُها ثلاثةُ أقدامٍ، وأَدْلَى إِلَيَّ بِسُلَّمٍ صَغِيرٍ، فصَعِدْتُ فيه. وما وَصَلْتُ إلى السفينَةِ حتى كان الضعفُ والإعياءُ قد بلغَا بي كلَّ مبلغٍ. وقد دَهِشَ الْملاحونَ جميعًا منْ رؤْيتي، وسألونِي عدةَ أسئلةٍ؛ فلم أقْوَ — لِضَعْفي — على إِجابتِهِم عن سُؤالٍ واحِدٍ.

(١١) نومٌ مُضْطَرِبٌ

ولَشَدَّ ما أدهشني قِصَرُ قاماتِهم، وكانت عيناي قد تعوَّدتا رؤيةَ الْعمالقةِ، وما يحيطُ بهم منَ الأشْياءِ الضَّخْمَةِ العظيمةِ. وقد أَدرك الرُّبَّانُ — بذكائه — ما أنا عليه من الضعفِ؛ فأدخلنِي حُجْرَتَهُ، وحملنِي إلى سريرِهِ لأسْتريحَ مما أنا فيهِ، فأخبرْتُه — قبلَ أنْ أُغْمِضَ عينيَّ — أنَّ في عُلبتِي أثاثًا ثمينًا وثيابًا فاخرةً مِن الْحريرِ والقطنِ، ورجوْتُ منهُ أنْ يأمُرَ أحدَ رِجالِه بنقلِ ما في عُلبتي من الأثاثِ، فعجِبَ الرُّبَّانُ كيفَ أُسَمِّي تلك الْحُجْرَةَ الواسعةَ عُلبةً صغيرةً، وحَسِبنِي أَهْذِي ولا أَعِي ما أقولُ.

على أَنهُ جارانِي في الكلامِ، ووعدنِي بتحقيقِ ما أردتُ، لِيُطَمْئِنَنَي ويُرْضِيَنِي، ثم أَرْسَلَ رِجالَه لإِحْضارِ الْعُلبَةِ.

أما أَنا فاسْتسلَمتُ لِنَوْمٍ مُضْطَرِبٍ بضعَ ساعاتٍ، وظَللْتُ أَحْلُمُ بِبلادِ الْعمالقةِ التي تركتُها، ويتمثَّلُ لي الْخطرُ الذي كنتُ مُسْتَهْدفًا له، فلما أَفَقْتُ من نَوْمِي وجدتُنِي مستريحًا نشيطًا، وكانتِ السَّاعةُ الثَّامنةَ مَساءً؛ فأعدَّ لي الرُّبَّانُ طعامَ العَشاءِ بكرمٍ وسخَاءٍ، ولكنهُ عجِب حينَ رأَى عينيَّ زائِغَتَيْنِ!

(١٢) كيف اهْتَدَوْا إلى «جَلِفَر»

ولمَّا خَلَا بِي الرُّبانُ طلب إليَّ أَنْ أَقُصَّ عليه قِصَّتِي، وكيف كنتُ في هذا المَكانِ؟ ومن وضعنِي في الصندُوقِ؟ وقد أَخبرنِي أِنه رآه من بعيدٍ في وقتِ الظهرِ — حين كان ينظرُ بمِنْظارِهِ — فحسِبه زوْرقًا صغِيرًا، فحوَّلَ سفينَتَهُ إليه حتى اقْتربَ منه، وأَرسل زورقًا ليتعرَّفَ حقيقتَه، فعاد إليه رجالُه مَذْعورينَ، وأخبروهُ أَنهم رَأَوْا بَيْتًا عائِمًا؛ فضحِكَ من بَلاهَتِهم، واسْتقلَّ الزورقَ بنفسِهِ، ودارَ حولَ الصُّنْدُوقِ عدةَ مراتٍ، فرأى نافذتَه، فلم يسَعْه إلَّا أن يأمرَ ملَّاحِي سفينتِهِ أن يَجْدِفوا حتى اقْترَبُوا منه، وربط حبلًا في أَحدِ أَسْياخِ النافِذَةِ، ولفَّه حولَ العُلْبَةِ وقد رَأَى عَصايَ — وفي طَرَفِهَا الْمِنْدِيلُ — فأيقنَ أَن أحدَ التُّعَساءِ المساكينِ قد أُلقِيَ في داخِلِ هذا الصندوقِ سجينًا.

فسألتُه: هل رأى طائِرًا كبيرًا في الفضاءِ حين رَآني؟ فقالَ لي متعجبًا: «لقد كنتُ أَتحدثُ إلى أَصحابِي في ذلك وأنتَ نائمٌ؛ فذكر لِي أحدُهم أَنهُ رَأَى ثلاثةَ نُسورٍ تطيرُ في الْفضاءِ — صَوْبَ الشَّمالِ — على ارْتِفَاعٍ عظيمٍ.»

ولمْ يعرِفِ الرُّبَّانُ ماذا عَنَيْتُ بِهذا السؤالِ.

(١٣) شُكُوكُ الرُّبَّانِ

ثم سألْتُ الرُّبَّانَ: «كم بَيْنَنَا وبينَ اليابِسَةِ؟»

فقالَ لِي: «إن الْمسافَةَ التي بَيْنَنَا وبين الأرضِ تبلغُ نحوَ مائةِ مِيلٍ.»

فقلتُ له: «لا أَظنُّ إلا أن المسافَةَ نصفُ ذلك القدْرِ؛ فقَد غادرتُ البلادَ التي كنتُ فيها منذُ ساعتينِ قبلَ أَن أَهْوِيَ إلى البحرِ.»

فحسِبَ الرُّبَّانُ أَنني قد جُنِنْتُ، وظنَّ أَنني أَهْذِي، وأَن رَأْسِي مضْطَرِبٌ ممَّا لَقِيتُه منَ الْهَوْلِ، وأَشارَ عليَّ أَن أَنَامَ في حُجْرتِهِ، فَأَثْبَتُّ لهُ أنني في غيرِ حاجةٍ إلى النومِ، وأَنني قدِ اسْتَعَدْتُ قُوايَ بعدَ أَن نِمْتُ وأَكَلْتُ، وَأَنني وَاعٍ مُتَثَبِّتٌ مما أَقولُ.

فنظر إليَّ مُعَبِّسًا، وقال لِي، في لهجةِ الْحازِمِ الجادِّ في قولِهِ: «أَرجو أَن تُكاشِفَنِي بِحقيقةِ أَمرِكَ، بِلا مُوارَبَةٍ، ما دُمْتَ واعيًا متثبتًا مما تقولُ. كما أَرْجو أنْ تُفْضِيَ إِليَّ بالجريمةِ التي ارْتكبْتَها، فاسْتَحْقَقْتَ عليها العِقابَ.»

ولعَلَّه ظنَّ أَن أَحدَ الْمُلُوكِ قد أَمرَ بوضْعِي في هذا الصُّندُوقِ، وإلْقائي في البحر عِقابًا لِي على جُرْمٍ اقْتَرَفْتُه، كما يُفْعَلُ بِالْمجرمينَ في بعضِ البُلدانِ، إذ يُتْركونَ تحتَ رحمةِ الأَمواجِ الهائجةِ في سفينةٍ من غيرِ شِرَاعٍ ولا زادٍ. وأَظهرَ لي أَلَمَهُ وامتِعَاضَه من أَنْ يُؤْوِيَ في سفينتِهِ أَحدَ الأشرارِ، ولكنه أقْسَمَ لي إنه لن يَمَسَّنِي بسوءٍ إذا صَدَقْتُهُ حَقيقةَ أَمري، وإنه سيُنْزِلُني سالمًا في أولِ بلدٍ يمرُّ به في طريقِهِ.

وخَتَمَ كلامَه بقولِه: «لقد حامَتِ الشُّبَهُ حَوْلَكَ، وَزادها عِندي ما سَمِعْتُهُ منك منَ الهَذَيانِ الجُنونيِّ الذي كنتَ تَتَخَبَّطُ فِيهِ، فتُسَمِّي الْحُجْرةَ الكبيرَةَ عُلبةً صغِيرةً، وقد رأَيْتُ عينيْكَ زائِغَتَيْنِ لا يكادُ يَقَرُّ لهما قرارٌ، ورأَيتُك تنظرُ فيما حولَك نظرةَ الْقلِقِ الْحائِرِ الْمُضْطَرِبِ.»

(١٤) اقْتِناعُ الرُّبَّانِ

فرَجَوْتُ منه أنْ يتريَّثَ قليلًا في حُكْمِهِ حتى يسمعَ قصتِي كلَّها. ثم رَوَيْتُ له — في أمانةٍ ودِقّةٍ — كلَّ ما حدث لِي منذ تركت بلادِي في رِحلتي الأخيرةِ، إلى أنْ تلاقَيْنَا في تلك السفينَةِ.

ولما كانتِ الحقيقةُ تَشُقُّ طريقَهَا إلَى الْعُقولِ الْمُدْرِكَةِ الصحيحةِ ارْتاح الرجلُ الذكيُّ الْكَيِّسُ (الدَّقيقُ الْإحساسِ) إلى سَلامَةِ سَريرَتِي، وصفاءِ نفسِي وإِخلاصِي، وزادَه اقْتناعًا — بما قلتُ — ما رآه في صُندوقِي منَ الطُّرَفِ والتُّحَفِ التي أَتَيْتُ بِها منْ تلك البلادِ.

وكان بينَ هذه التُّحفِ الْمُشْطُ الذي صنعْتهُ منْ شَعَرَاتِ لِحْيَةِ الْمَلِكِ. وقد أَرَيْتُ الرُّبانَ مُشْطًا آخرَ كنتُ قد صنعتُ مَقْبضَهُ منْ ظُفْرِ إِبْهَامِ الملِكِ، كما أَرَيْتُهُ إِضْمامةً منَ الإبَرِ والدَّبابيسِ طولُ الْواحدةِ منها قدَمٌ وِنصْفُ قدمٍ، وخاتَمًا مِنَ الذهبِ أهدتهُ إِليَّ الْملكةُ ذاتَ يومٍ — بعدَ أن نزعتْهُ من بِنْصَرِها — وَوَضعَتْهُ قِلادَةً في عُنُقِي.

ورَجَوْتُ منَ الرُّبَّانِ أنْ يتقبلَ مني هَذا الخاتمَ هديةً إليه، عِرْفانًا بِمُروءَتِهِ وتفضُّلِهِ عَلَيَّ، فَأَبى أن يقبَلَ عَلَى صَنِيعِهِ أجْرًا. ثم أَرَيْتُهُ السِّرْوالَ الذي أَلْبَسُهُ — وَهو مصنوعٌ منْ جلدِ فأْرةٍ — فوَثِقَ الرُّبَّانُ بِمَا قلتُ، وارتاحَ لسماعِ قصتي، ولم يُنكرْ عَليَّ شيئًا ممَّا ذكرتُه لهُ. وقد ألحَّ عليَّ في الرَّجاءِ أن أُثْبِتَ هذه الوقائعَ كلَّها في كتابٍ وأُذِيعَهُ بينَ النَّاسِ؛ فقلْتُ لهُ: «إنَّ الخزائِنَ والْمَكتباتِ غاصَّةٌ بأسْفارِ السائِحينَ وَرِحْلاتِهِم، وإنني أخشَى أن يَرْتابَ بعضُ النَّاسِ في شيءٍ مما أكتبُهُ، أَو يَحْسَبَهُ رِوايةً خياليَّةً أو تَلْفِيقًا لا حقيقةَ له. على أنني لا أرَى في هذا الْكتابِ — إذا أذَعْتُه — إلَّا وَصْفًا صَادِقًا لِمَا رأيْتُه من نباتٍ وَحيوانٍ وتقاليدَ وأخلاقٍ، وما أحسَبُ أنَّ شَيْئًا منْ ذلك كلِّهِ يستحقُّ عَنَاءَ كتابتهِ.»

ثم شكَرْتُ للرُّبانِ حُسْنَ رَأْيِهِ فِيَّ.

(١٥) مُلاحظاتُ الرُّبَّانِ

وقد عَجِبَ الرُّبَّانُ أَشدَّ العجبِ حين رَآني لا أتكلمُ معهُ إلا بأعْلَى صَوْتِي، وسأَلني عنِ السرِّ في ذلك، وقد عَلَّلَه بأنَّ ملكَ العمالقةِ ومَلِكَتَهم أَصَمَّانِ، فقلتُ له: «لقد أَلِفْتُ الكلامَ بصوتٍ مرتفعٍ منذُ عامَيْنِ، وقد أدهشنِي ما سَمِعْتُه من أصواتِكمُ الْخافتةَ، بَعْدَ أنْ أَلِفَتْ أُذنَايَ أنْ تَسْمَعَا أصْواتًا مرتفِعَةً كالرَّعْدِ. وكنتُ إذا تكلَّمتُ في تلك البلادِ — مع أحدٍ منْ أهلِهَا — خُيِّل إِليَّ أنَّني أخاطِبُ رَجلًا يُطِلُّ منْ فوقِ مِئْذَنةٍ. وَكثيرًا ما وضعونِي فوقَ مائدةٍ عاليةٍ، أَوْ رَفَعُونِي بأيْديهِمْ؛ حتى يَتَبَيَّنُوا ما أقولُ. ولَشَدَّ ما عجبتُ حِينَ وقفتُ بينكم فرأيتُ أمامِي عِدَّةَ رجالٍ غايةً في الصِّغَرِ، بعد أَنْ تَعَوَّدَتْ عينايَ أنْ تَريا ضِخَامَ الأشْياءِ التي كانت تُشْعِرُني بحَقارَةِ نفسي دَائمًا.»

ولقد كاشَفَنِي الرُّبَّانُ بأنه قد لاحظ — حين كنتُ أتَعشَّى على المائدةِ — أنّني كنتُ زائِغَ الْبصَرِ، أنْظرُ إلى كلِّ شيءٍ في دهشةٍ وحَيْرَةٍ، وَتَلُوحُ علَى أساريرِ وجهي رَغبةٌ شديدةٌ في الضَّحِكِ، ولكنني كنتُ أحْبسُ عَواطِفي حَبْسًا حتى لا أُقَهْقِهَ ضَاحِكًا. وقد كاشفني الرُّبَّانُ بأنه كان يَعْزُو ذلك إلى اخْتِلالٍ في الْمُخِّ.

فشرحتُ لهُ عذْري في ذلك، وكيف أَدهشني ما رأيتُه من صِغَرِ الْمائدةِ، وضَآلَةِ ما عليها من الصِّحافِ التي لا يزيدُ حجْمُها على حَجْمِ قطعةِ نَقْدٍ فضِّيَّةٍ منَ النُّقُودِ التي كنتُ أَرَاها في بلادِ الْعمالقةِ! وقد كنتُ أرَى الْخروفَ كلَّه لا يزيدُ على لُقْمَةٍ واحدةٍ يَزْدَرِدُها واحدٌ منْ أُولئكَ الْعمالقةِ، وأَرى الْقَدَحَ لا يزيدُ على قِشْرَةِ جَوْزٍ صغيرةٍ، وَظَلَلْتُ أَصِفُ لهُ كلَّ ما على الْمَائِدَةِ، وأَقِيسُهُ إلى أَمثَالِهِ في تلك البلادِ، ثم قلتُ له: «لقد كانت الملكةُ تأْمُرُ بإعطائِي كلَّ ما يُناسبُ صِغَرَ قَامَتِي وَضَآلَةَ جِسْمِي، إلَّا أَنَّ أَفكاري كانت كلُّها مَحْصُورَةً فيما كان يَكْتَنِفُني منَ الضَّخامةِ. وكنتُ — وأَنا على ظهرِ هذه السفينَةِ — أنظرُ إلى ما حَوْلي متعجبًا من ضآلتِهِ، غافِلًا عنْ أَنَّكُم في مِثْلِ حَجْمِي!»

•••

فضَحِكَ الرُّبَّانُ، وذكَّرَنِي بالْمَثَلِ القديمِ الذي يقولُ: «إن عُيُونَ بعضِ الناسِ أَوْسَعُ من بُطُونِهِم.»

لأنهُ رَأَى أَنني كنتُ — على ما أَزْعُمُه من صِغَرِ المائدة، وعلَى جُوعِي الشَّديدِ — لا أَتهافَتُ على الطعَامِ، ولا آكلُ منه إلَّا قَدْرًا يَسِيرًا بعد أن صُمْتُ يومًا كاملًا.

ثم ختم دُعابتَه بِقوله: «لقد كنتُ أَتَمنَّى أَن أَرَى ذلك الصُّندوقَ الذي كنتَ في داخلِه وهو في مِنْقارِ النّسْرِ، ثم أَراه وهو يَهْوِي — بعد ذلك — مِنِ ارتِفَاعِهِ الشَّاهِقِ إلى البحرِ. وإني لأدفَعُ مائةَ جُنَيْهٍ مَعْدُودةً ثَمنًا لِهذا الْمَنْظَرِ الرَّائعِ الْمُدْهِشِ، الذي يَجْدُرُ بِكَ أن تُسَجِّلَه في كتابٍ، لِيَقْرَأَهُ الناسُ في العُصورِ القادمَةِ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤