الفصل الأول

قصة في صحيفة

في الرابع عشر من شهر أغسطس، من عامٍ لن نُحدِّده من أعوام القرن العشرين، ظهرت فِقرةٌ صغيرة في ذيل صفحةٍ غير مهمة في أكثر صحف لندن رصانة، مفادُها أن وزير الخارجية شعَر باستياءٍ شديد لِتلقِّيه عددًا من رسائل التهديد، وهو على استعدادٍ لأن يدفع خمسين جنيهًا مكافأةً لأي شخص يُقدِّم معلومات من شأنها أن تُؤدِّي إلى القبض على الشخص، أو الأشخاص، الذين يرسلون له تلك الرسائل، وإدانتهم، إلى آخر ما ورد في تلك الفقرة. ظنَّ الأناس القليلون الذين يقرءُون الصحيفة اللندنية الأكثر رصانة، بطريقتهم حين يستغرقون في التفكير في نادي أثينيوم، أنه من العجيب أن يستاء وزير الخارجية من أي شيء، والأعجب منه أن يُعلِن في الصحف عن استيائه، والأعجب على الإطلاق أنَّ بوُسعِه أن يتصور للحظةٍ واحدة أن عرض مكافأة يمكن أن يضع حدًّا للاستياء.

باهتمامٍ حلَّ عليهم للتو، قرأ مُحرِّرو الأخبار، في الصحف الأقل رصانة ولكن الأكثر توزيعًا، هذا الخبر وهم يتصفَّحون بضجَرٍ أعمدةَ «الصحيفة الرصينة العجوز» المُمِلَّة.

تساءل سمايلز، الصحفي بصحيفة «الكوميت»: «عجبًا! ما هذا؟» وقَصَّ الفِقرة بمقصٍّ كبير، ولصقَها في لوحةٍ من ورق النسخ وكتَب عليها:

من الذي يرسل خطابات التهديد للسير فيليب؟

لمَّا كانت صحيفة «الكوميت» من صحف المعارضة، أعاد التفكير وألحق فقرةً استهلالية، يقترح فيها مازحًا أن تكون هذه الرسائل من ناخبٍ ذكي سئم من أساليب المماطلة التي تنتهجها الحكومة.

قرأ محرر الأخبار بصحيفة «إيفنينج ورلد»، وهو سيدٌ أبيض الشعر يتحرك بتأنٍّ، الفقرة مرتَين، وقصَّها بعناية، وقرأها مجددًا، وبعد أن وضعَها تحت ثقالة ورق، سرعان ما نسي أمرها تمامًا.

أما محرر الأخبار بصحيفة «ميجافون»، وهي حقًّا صحيفة متألقة جدًّا، فقطَع الفقرة بينما كان يقرؤها، ودقَّ جرسًا، واستدعى صحفيًّا، في نَفَسٍ واحد، إن جاز التعبير، وأصدر بضع تعليماتٍ مقتضبة.

«اذهب إلى بورتلاند بليس، وحاوِل أن تقابل السير فيليب رامون، واحصل على قصة تلك الفقرة؛ سبب تلقيه للتهديدات، وكُنْه تلك التهديدات؛ احصل على نسخة من إحدى الرسائل إن استطعت. إن لم تتمكن من مقابلة رامون، فتوصَّل إلى أحد أفراد السكرتارية الخاصة به.»

ومضى الصحفي المطيع في طريقه.

عاد بعد ساعة في تلك الحال من الانفعال الغامض التي تُلائم على وجه الخصوص صحفيًّا حصل على «سَبقٍ صحفي». ذكر محرر الأخبار ذلك لرئيس التحرير، وقال ذلك الرجل العظيم: «ذلك جيد جدًّا، ذلك جيد جدًّا حقًّا.» وهو ما كان يُعتَبَر مديحًا على أعلى مستوًى.

ما كان «جيدًا جدًّا حقًّا» بشأن قصة الصحفي يمكن استخلاصه من نصف العمود الذي ظهر في صحيفة «ميجافون» في اليوم التالي:
«أحد وزراء الحكومة في خطر.»
«تهديدات بقتل وزير الخارجية.»
«رجال العدالة الأربعة.»
«مخطط لإعاقة تمرير مشروع قانون تسليم الأجانب.»
«مكاشفات غير عادية.»
أثار ظهور الفقرة التالية في أعمدة الأخبار لصحيفة «ناشيونال جورنال» الصادرة أمس قدرًا كبيرًا من التعليقات:

خلال الأسابيع القليلة الماضية تلقَّى وزير الدولة للشئون الخارجية (السير فيليب رامون) رسائلَ تهديد، آتيةً كلها على ما يبدو من مصدرٍ واحد وكتبها شخصٌ واحد؛ هذه الرسائل ذات طابعٍ لا يمكن معه أن يتجاهلها وزير صاحب الجلالة للشئون الخارجية، الذي بموجب ذلك يعرض مكافأة قدرها خمسين جنيهًا (٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا) لأي شخص، أو أشخاص، بخلاف الكاتب الفعلي للرسائل، يُقدِّم معلوماتٍ من شأنها أن تقود إلى القبض على كاتب هذه الرسائل المجهولة المصدر وإدانته.

كان هذا التصريح غريبًا للغاية، مع تذكُّر أنه من المعتاد العثور يوميًّا على الرسائل المجهولة المصدر والتهديدية في حقائب الخطابات التي تأتي لكل رجل دولة ودبلوماسي، لدرجة أن صحيفة «ديلي ميجافون» فتحَت على الفور تحقيقاتٍ بشأن سبب هذا التحوُّل غير المعهود.

زار ممثل لهذه الصحيفة مقر إقامة السير فيليب رامون، الذي وافق بكرمٍ بالغ على أن يستقبله.

قال وزير الخارجية العظيم الشأن، ردًّا على سؤال ممثلنا: «إن اتباع هذا التصرُّف هو خطوةٌ غير معتادة للغاية، لكنني اتبعته بتوافقٍ تام مع زملائي في الحكومة. لدينا أسبابٌ تدعونا إلى الاعتقاد بأن ثَمَّةَ أمرًا ما وراء التهديدات، ويمكنني القول إن المسألة بين يد الشرطة منذ بضعة أسابيعَ خَلَت.»

«ها هي إحدى الرسائل.» وأخرج السير فيليب من حافظة أوراقٍ ورقةً من مفكرةٍ أجنبية وتفضَّل بالسماح لممثلنا أن يصنع منها نسخة.

كانت غير مؤرَّخة، وبغضِّ النظر عن أن الخط كان من الصنف الأنثوي المزخرف الذي يميز الأعراق اللاتينية، كانت الرسالة مكتوبة بلغةٍ إنجليزية جيدة.

كان نصها كالتالي:

معالي الوزير

إن مُسوَّدة مشروع القانون، التي أنت على وشك أن تُصدرها في هيئة قانون، غير عادلة. إنها موضوعة بدقة من أجل تسليم رجال، يجدون حاليًّا في إنجلترا ملاذًا من اضطهاد الطغاة والمستبدين، إلى حكوماتٍ فاسدة وانتقامية. إننا نعرف أن الرأي في إنجلترا منقسم حول الأسس الموضوعية لمُسوَّدة مشروع القانون المقدَّمة منك، وأن إصدارها في هيئة قانون الجرائم السياسية للأجانب يعتمد على نفوذك، ونفوذك وحده.

لذلك من دواعي أسفنا أن نُحذِّرك أنه إن لم تسحب حكومتك هذه المُسوَّدة، فسيكون من الضروري أن نستأصلك، وليس أنت وحدك، وإنما أي شخصٍ يأخذ على عاتقه تحويل هذا التدبير الجائر إلى قانون.

توقيع
رجال العدالة الأربعة

تابع السير فيليب قائلًا: «مُسوَّدة مشروع القانون المشار إليها هي بالطبع مُسوَّدة مشروع قانون تسليم الأجانب (الجرائم السياسية)، التي، لولا أساليب المعارضة، ربما كانت قد أُصدِرَت في هدوءٍ في هيئة قانونٍ في الدورة التشريعية الأخيرة.»

أضاف السير فيليب موضحًا أن ما دعا إلى تقديم مُسوَّدة مشروع القانون هو انعدام الاستقرار في مسألة ترتيب الخلافة على العرش في إسبانيا.

«من الضروري ألا تُئوي إنجلترا ولا أي دولةٍ أخرى مُروِّجي الدعايات الباطلة الذين يمكن أن يُشعلوا فتيل الفوضى في أوروبا، وهم في مأمن في هذه الدول أو غيرها. وبالتزامن مع تمرير هذا التدبير اتُّخِذَت تدابيرُ لتمرير قوانين وقراراتٍ مماثلة في كل دولة في أوروبا. في الواقع، كلها موجودة، وكانت قد أُعِدَّت العُدة لإصدارها في هيئة قوانين بالتزامُن مع مشروع قانوننا، في الجلسة التشريعية الأخيرة.»

سأل ممثل صحيفة «ديلي ميجافون»: «لماذا تُعطون أهمية لهذه الرسائل؟»

«لأننا متأكدون، عن طريق شرطتنا وشرطة القارة الأوروبية، أن كُتَّاب هذه الرسائل رجالٌ جادُّون للغاية في تهديداتهم. إن «رجال العدالة الأربعة»، كما يُسمُّون أنفسهم، معروفون كمجموعة في كل بلاد العالم تقريبًا، ونَودُّ جميعًا للغاية أن نعرف هوية كل واحدٍ منهم. وسواء كانوا على حق أو على باطل، فإنهم يعتبرون أن العدالة على النحو المنصوص عليه على الأرض غير كافية، ونصَّبوا أنفسهم مُصحِّحين للقانون. إنهم هم مَن قتلوا الجنرال تريلوفيتش، قائد عمليات اغتيال العائلة المالكة في صربيا، وشنقوا متعهد الجيش الفرنسي، كونراد، في ساحة الكونكورد، رغم وجود مئات من رجال الشرطة بالقرب من الساحة، وأطلقوا النار على هيرمون لو بلوا، الشاعر والفيلسوف، فأردَوْه قتيلًا في مكتبه لإفساده لشباب العالم بإعماله للفكر.»

بعد ذلك سَلَّم وزير الخارجية لممثلنا قائمة بالجرائم التي ارتكبها هذا الرباعي الاستثنائي.

سوف يتذكر قراؤنا ملابساتِ كل جريمة قتل، وسيظل ماثلًا في الأذهان أنه حتى يومنا هذا، مع احتفاظ الشرطة في بلدانٍ مختلفة بسر رجال العدالة الأربعة، لم تُرْبَط أي جريمة من هذه الجرائم بالأخرى، ومن المؤكد أن أيًّا من هذه الملابسات التي لم تُنشر للجمهور قبل اليوم، لو كانت قد نُشِرَت، من المؤكَّد أنها كانت ستكشف عن وجود هذه العصابة.

في وُسْع صحيفة «ديلي ميجافون» أن تنشر قائمةً كاملة بست عشرةَ جريمةَ قتلٍ ارتكبها هؤلاء الرجال الأربعة.

«منذ عامَين، بعد إطلاق النار على لو بلوا، وعن طريق خللٍ ما في ترتيباتهم شبه المثالية، تعرَّف أحد رجال التحري على واحد من الأربعة؛ إذ رآه يغادر منزل لو بلوا في شارع كليبر، واقتُفي أثره لثلاثة أيام، على أمل إمكانية القبض على الأربعة مجتمعين. في النهاية اكتشف أنه كان مُراقَبًا، وحاول الهرب. ضيَّق رجال الشرطة الخناق عليه وحُوصر في مقهى في مدينة بوردو؛ إذ كانوا قد تتبَّعوه من باريس، وقبل أن يُقْتَل أطلق النار على أحد رقباء شرطة المدينة وشرطيَّين آخرَين. التُقِطَت صورته، ووُزِّعَت نُسخٌ منها في أنحاء أوروبا، ولكن ظلت هُويته وعمله وحتى جنسيته لغزًا غامضًا حتى يومنا هذا.»

«لكن هل ما زال الأربعة موجودين؟»

هزَّ السير فيليب كتفَيه، ثم قال: «إما أنهم ضموا واحدًا آخر، أو أنهم يعملون منقوصين.»

اختتم وزير الخارجية حديثه قائلًا:

«إنني أُعلِن هذا عبر الصحافة، حتى يدرك الرأي العام الخطر الذي لا يُهدِّدني وحدي وإنما أي واحد من الشخصيات العامة يعارض رغبات هذه القوة الشريرة. السبب الثاني الذي دعاني إلى ذلك هو أن الرأي العام، عندما يعرف حقيقة الأمر، يمكن أن يعاون أولئك المسئولين عن الحفاظ على القانون والنظام في تنفيذِ مهامِّ عملهم، ويمنعوا، من خلال يقظتهم، ارتكاب المزيد من الأعمال غير المشروعة.»

لم تسفر التحقيقات التي أُجريت لاحقًا في سكوتلاند يارد عن المزيد من المعلومات حول المسألة باستثناء أن إدارة التحقيقات الجنائية كانت على تواصُل مع قادة الشرطة في أنحاء القارة الأوروبية.

فيما يلي قائمةٌ كاملة بجرائم القتل التي ارتكبها رجال العدالة الأربعة، بالإضافة إلى التفاصيل التي توصلَت إليها الشرطة فيما يتعلق بالسبب وراء الجرائم. ونحن مدينون بالفضل لوزارة الخارجية لإعطائها الإذن بنشر القائمة.

لندن

السابع من أكتوبر، ١٨٩٩. توماس كاتلار، مالك محل ترزي، عُثِر عليه قتيلًا في ظروفٍ غامضة. أصدرت هيئة محلَّفي الطب الشرعي حكمها التالي: «قتلٌ عمد على يد شخص أو أشخاصٍ مجهولين.»

(الدافع وراء القتل الذي تيقنَت منه الشرطة: أن كاتلار، الذي كان رجلًا ذا حيثية، وكان اسمه الحقيقي بينتفيتش، كان رب عملٍ يُوظِّف العمالة بشروطٍ مهينة على وجه الخصوص. أُدين ثلاث مرات بموجب قانون المصانع. تعتقد الشرطة أنه كان ثَمَّةَ سببٌ آخر أكثر حميميةً وراء القتل مرتبط بمعاملة كاتلار للنساء العاملات.)

لييج

الثامن والعشرين من فبراير، ١٩٠٠. جاك إليرمان، محافظ، قُتِل رميًا بالرصاص أثناء عودته من دار الأوبرا. كان إليرمان رجلًا شريرًا سيئ السمعة، وبالتحري عن شئونه بعد وفاته تبيَّن أنه كان قد اختلس ما يقرُب من ربع مليون فرنك من الأموال العامة.

سياتل

كنتاكي، أكتوبر، ١٩٠٠. القاضي أندرسون، عُثِر عليه ميتًا خنقًا في حجرته. حُوكم أندرسون ثلاثَ مراتٍ في حياته على خلفية اتهامات بالقتل. كان زعيم جماعة أندرسون في الخصومة بين جماعتَي أندرسون وهارا. قَتَل ما مجموعُه سبعةٌ من عشيرة هارا، ووُجِّه إليه الاتهام ثلاثَ مراتٍ وأُطْلِق سراحُه ثلاثَ مراتٍ بناءً على حكمٍ بأنه غير مذنب. الجدير بالذكر أنه في المرة الأخيرة، عندما اتُّهِم بالقتل الغادر لرئيس تحرير صحيفة «سياتل ستار»، صافَحَ أعضاء هيئة المحلَّفين المحتشدين وهنَّأهم.

نيويورك

الثلاثين من أكتوبر، ١٩٠٠. باتريك ويلش، محتال سيئ السمعة وسارق للأموال العامة. كان في وقتٍ ما أمين خزانة المدينة؛ الشخصية المُحرِّكة لنقابة رصف الشوارع الشهيرة، فضَحَتْه صحيفة «نيويورك جورنال». عُثِر على ويلش مشنوقًا في غابةٍ صغيرة في لونج أيلاند. اعتُقِد حينئذٍ أنه انتحر.

باريس

الرابع من مارس، ١٩٠١. مدام ديسبارد، مخنوقة. اعتُبِرَت هذه الوفاةُ أيضًا انتحارًا حتى وصلَت معلوماتٌ معينة إلى حوزة الشرطة الفرنسية. لا يمكن ذِكر مدام ديسبارد بأي خير؛ كانت «مُتاجِرةً بالأرواح» سيئة السمعة.

باريس

الرابع من مارس، ١٩٠٢ (بعد عام بالضبط). مسيو جابرييل لانفان، وزير المواصلات. عُثِر عليه مقتولًا رميًا بالرصاص في عربته في حديقة بوا دي بولون. قُبِض على سائق عربته ولكن أُطِلق سراحه في النهاية. أقسَم الرجل إنه لم يسمع لا صوت طلقة ولا صيحة من سيده. كان المطر يهطل في ذلك الحين، وكان يُوجد القليل من المشاة في حديقة بوا دي بولون.

(ثم أتت الصحيفة على ذكر القضايا العشر الأخرى تباعًا، شأنها شأن القضايا المذكورة أعلاه، بما في ذلك قضيَّتَا تريلوفيتش ولو بلوا.)

كان بلا شك تحقيقًا صحفيًّا عظيمًا.

أعاد رئيس التحرير، وهو جالس في مكتبه، قراءته بتمعُّن وقال: «ذلك جيد جدًّا حقًّا.»

قرأه الصحفي، الذي كان اسمه سميث، بتمعُّن وتورَّد وجهه بسرور وهو يُطالِع نتائج إنجازه.

قرأه وزير الخارجية في سريره وهو يحتسي شاي الصباح، وسأل نفسه، مقطبًا جبينه، ما إن كان قد قال أكثر مما ينبغي.

قرأه رئيس الشرطة الفرنسية، مُترجَمًا ومُرسَلًا في برقيةٍ تِلِغْرافية، في صحيفة «لوتومب»، وأخذ يصُب لعناتِه بغضب على الإنجليز الثرثارين الذي كانوا يُفسِدون خططه.

في مدريد، في مقهى دي لا بيه، في الهواء الطلق، أخذ مانفريد يقرأ، بسخرية وتهكُّم ومبتسمًا، مقتطفاتٍ على رجال ثلاثة؛ كان اثنان منهم يبتسمان في سرور، أما الثالث ذو الوجه العريض الخدَّين والشاحب فكان الخوف من الموت باديًا في عينَيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤