الفصل التاسع

جشع ماركس

صاح المفتش بصوت هادِر، ممسكًا بخناق بيلي، وهو يَنفضه كالجرذ: «أيها الأبله اللعين، أيها الأحمق المنبوذ! أتقصد أن تُخبرني أن واحدًا من رجال العدالة الأربعة كان في قبضتك، ولم تُكلف نفسك حتى عناء النظر إلى وجهه؟»

حرَّر بيلي نفسه من قبضة المفتِّش.

قال بتحدٍّ: «لا شأنَ لك بي! كيف كنتُ سأَعرف أنه واحد من رجال العدالة الأربعة؟» وأضاف بنظرة ماكرة: «بل كيف يُمكنك أنت أن تعرف أنه كان واحدًا منهم؟» بدأ ذهن بيلي يعمل بسرعة. رأى في عبارة المُفتِّش فرصة سانحة لاستغلال الموقف الذي كان منذ بضع دقائق يَعتبره موقفًا سيئًا للغاية.

قال: «لقد ألقيتُ بالفعل نظرة خاطفة على وجهه. لقد كانا …»

قال المفتِّش بسرعة: «هما، كانا؟ أكانا رجلين؟»

قال بيلي بعبوس: «دعْك من الأمر.» كان قد شعر بقوة مَوقفِه.

قال المفتِّش بتلهُّف: «بيلي، إنني جاد فيما أقول؛ إن كنت تعرف أي شيء فلا بد أن تخبرنا!»

صاح السجين في تحدٍّ: «ها! لا بد؟ حسنًا، أنا أعرف الرب مثلما تعرفه، لا يُمكنك أن تجبر أحدًا على أن يتكلَّم إذا لم يكن يرغب في ذلك. لا يُمكنك.»

أشار المفتِّش إلى الشرطيِّين الآخرين بالمغادَرة، وعندما أصبحا بعيدًا عن نطاق السمع أخفض صوته وقال:

«لقد خرج هاري موس من السجن الأسبوع الماضي.»

احْمَرَّ وجه بيلي وخفض بصره.

تمتم بعناد: «لا أعرف أحدًا يُدعى هاري موس.»

تابع المفتِّش باقتضاب: «خرج هاري موس من السجن الأسبوع الماضي بعد أن أمضى عقوبة السجن ثلاث سنوات بتُهمة السرقة بالإكراه. ثلاث سنوات وعشر جلدات.»

قال ماركس بنبرة الصوت نفسها: «لا أَعرِف شيئًا عن الأمر.»

تابع المفتِّش بقسوة: «لقد نجَحَ في الهرب ولم تعثر الشرطة على أيِّ أدلة، وكان من المُمكِن ألا يُقْبَض عليه حتى يومنا هذا، ولم يُقْبَض عليه إلا. إلا «بناءً على معلومات تلقتْها الشرطة من مجهول.» وأخذُوه في إحدى الليالي من فراشِه في شارع ليمان.»

بلَّل بيلي شفتَيه الجافتَين، لكنه لم يَنبِس ببنت شفة.

«إن هاري موس يود أن يعرف إلى من يدين بالثلاث السنوات التي أمضاها في السجن، والرجال العشرة الذين أمسكوا بالرجل لديهم ذاكرة طويلة المدى، يا بيلي.»

صاح بيلي بغلظة: «ليس ذلك هو المتوقع منكم، يا سيد فالموث. لقد كنت نوعًا ما أمرُّ بضائقة مالية، ولم يكن هاري موس صديقًا لي، وأرادت الشرطة أن تَكتشِف هُوية …»

قال فالموث: «والشرطة الآن تُريد أن تَكتشِف هوية المجرمين.»

ظل بيلي ماركس صامتًا برهةً دون أن يجيب.

وأخيرًا قال: «سأُخبرُك بكل ما أعرفه.» وتَنحنَح. لكن المفتش جعله يتوقف عن الكلام.

قال: «ليس هنا.» ثم التفَتَ إلى الضابط المناوب قائلًا:

«أيها الرقيب، يُمكنك أن تُطلِق سراح هذا الرجل مؤقتًا؛ وأنا سأَضمنه.» يبدو أن الجانب الفُكاهي في هذا الأمر راق لبيلي؛ إذ ابتسمَ بخجلٍ واستعاد مزاجه السابق.

عَلَّق مازحًا: «هذه أول مرَّة يُطْلَق فيها سراحي بضمانة الشرطة.»

ركب المفتش وبيلي السيارة وانطلقت بهما إلى سكوتلاند يارد، وفي مكتب مفتش المباحث فالموث استعدَّ بيلي للإدلاء بما عنده.

قال فالموث: «قبل أن تبدأ، أريد أن أُنبِّهك إلى أن توجز في حديثك قدر الإمكان. فكل دقيقة تمر لها قيمتها.»

وهكذا حكى بيلي قصته. وعلى الرغم من تنبيه فالموث، كان ثمة تفصيلات لا علاقة لها بالأمر، أُجْبِر المفتش على أن يستمع إليها في نفاد صبر.

وأخيرًا وصل النشال إلى مقصد الحديث.

«كانا رجلين، أحدهما طويل القامة والآخر لم يكن طويلًا للغاية. سمعت أحدهما يقول للآخر: «عزيزي جورج.» كان القصير هو من قال ذلك، وهو الذي نُشلت منه الساعة ومفكِّرة الجيب.» وتساءل بيلي فجأة: «هل كان يوجد أي شيء في المفكرة؟»

قال المفتش: «تابِع حديثك.»

تابع بيلي قائلًا: «حسنًا، تتبَّعتهما حتى نهاية الشارع، وعندما كانا ينتظران لعبور الشارع نحو طريق شيرنج كروس، نُشلت الساعة، أتفهَم؟»

«كم كانت الساعة حينئذٍ؟»

«العاشرة والنصف. أو ربما كانت الحادية عشرة.»

«ولم ترَ وجهَيهما؟»

هز رأسه نفيًا بتأكيد قاطع.

قال بجدية: «أقسم بحياتي، يا سيد فالموث، إنَّني لم أفعل.»

نهض المفتِّش واقفًا وهو يتنهَّد.

قال بتأسُّف: «يُؤسفني أن أقول إنك لم تُفِدني بشيء يا بيلي. ألم تلاحظ إن كنا مُلتحيَين أو حليقَي الذَّقن، أو …»

هز بيلي رأسه نفيًا بأسًى.

قال بصراحة: «كان في مقدوري بسهولة أن أكذب عليك، يا سيد فالموث، وكان بمقدوري أن أخترع قصة وكنت ستنخدع بها، ولكنِّي صريح معك.»

أدرك المفتش صدق الرجل وأومأ برأسه.

قال: «لقد فعلت قصارى ما في وسعك. سأقول لك ما سوف أفعله. أنت الرجل الوحيد في العالم الذي رأى أحد رجال العدالة الأربعة، وبقيَ على قيد الحياة ليَروي ما حدث. ومع أنك لا تَستطيع أن تتذكَّر وجهَه، فمِن المُحتمَل إن التقيت به مجددًا في الشارع أن تتعرَّف عليه؛ فقد تكون له مِشية مُميِّزة، أو عادة معيَّنة في حركات يديه لا يُمكنك أن تتذكَّرها الآن، ولكن إن رأيته ثانيةً فقد تُميِّزها. لذلك سأتحمل مسئولية إطلاق سراحك من الحجز حتى يوم بعد غد. أريد منك أن تعثر على هذا الرجل الذي نشلته. ها هو جنيه ذهبي؛ عد إلى البيت، وخذ قسطًا من النوم، واستيقظ مبكرًا قدر الإمكان واذهب إلى الجهة الغربية من المدينة.» ثم توجه المفتش إلى مكتبه، وكتب بعض الكلمات على بطاقة. ثم قال: «خذ هذه؛ إن رأيت الرجل أو رفيقه، فاقتفِ أثرهما، وأظهر هذه البطاقة لأول شرطي تُقابله، ودُلَّه على الرجل، وسوف تعود إلى فراشك ومعك ألف جنيه.»

أخذ بيلي منه البطاقة.

«إن أردت مُقابلتي في أي وقت فستجد أحدًا هنا يعرف مكاني. طابت ليلتك.» وخرج بيلي إلى الشارع، وعقلُه يعجُّ بالأفكار، وفي جيب صدريتِه تصريح مكتوب على بطاقة زيارة.

أشرَقَ صباح اليوم الذي كان مُزمعًا أن تشهد فيه لندن فيه أحداثًا عظيمة، صحوًا وساطعًا على لندن. راقب مانفريد، الذي كان، على خلاف عادته، قد أمضى ليلته في الورشة في شارع كارنابي، بزوغ الفجر من سطح المبنى المُنبسِط.

كان راقدًا على الأرض، وتحته سجادة، ورأسه مُستقرٌّ على يدَيه. كشف الفجر، بضوئه الأبيض الشديد، عن وجهِه القَوي، مُجعَّدًا ومنهكًا. اتضحت الخصلات البيضاء للحيته المشذبة في ضوء الصباح. بدا متعبًا وواهن العزم، على عكس طبيعته المعتادة؛ حتى إن جونزاليس، الذي انسلَّ صاعدًا عبر الباب السحري قبل شروق الشمس مباشرةً، كان مُنزعجًا بقدر ما يُمكن لذلك الرجل الرابط الجأش أن يكون. مَسَّ جونزاليس ذراعَه فجفَل.

سأله ليون برقة: «ما الأمر؟»

لم تُهدِّئ ابتسامة مانفريد وهزُّه لرأسه من روع السائل.

«أهي مسألة بويكارت واللص؟»

أومأ مانفريد برأسه إيجابًا، وقال: «أجل.» ثم تكلم بصوت مسموع متسائلًا: «هل شعرت من قبل في أي من الوقائع السابقة بما تشعر به في هذه؟»

تحدثا بصوت مُنخفِض يكاد يصل إلى الهمس. وحدَّق جونزاليس أمامه مفكرًا.

اعترف قائلًا: «أجل، مرةً واحدةً، في واقعة المرأة في وارسو. تذكر كيف بدت الأمور كلها، والظروف السيئة التي تتابَعَت وأعاقتنا، حتى بدأت أشعر، كما أشعر الآن، بأننا لا بد أن نفشل.»

قال مانفريد بقوة: «لا، لا، لا. يجب ألا يكون ثمَّة ذكر للفشل، يا ليون، ولا أن نُفكِّر فيه.»

زحف إلى الباب السحري وهبط إلى الممر، وتبعه جونزاليس.

تساءل: «أين تيري؟»

«نائم.»

كان يدلفان إلى الاستوديو، وكان مانفريد مُمسكًا بمقبض الباب عندما سمعا صوت وقع أقدام في الطابق السفلي.

صاح مانفريد: «من هناك؟» فسمع صوت صافرة جعله يهبط درجات السلم إلى أسفل ركضًا.

صاح: «إنه بويكارت!»

كان بويكارت بالفعل، مقبلًا بذقن غير حليقة، ومغبرًّا، ومنهكًا.

تساءل مانفريد: «ما الخبر؟» وكاد هتافه أن يكون عنيفًا بقدر فظاظته.

قال بويكارت باقتضاب: «دعنا نصعد إلى الأعلى.» صعد الرجال الثلاثة على درجات السلَّم المُتربة، ولم يتلفظوا بكلمة حتى وصلوا إلى غرفة المعيشة الصغيرة.

بعدها تكلم بويكارت:

قال، وهو يُلقي بجسده على الكرسي الوحيد المريح في الغرفة، وألقى بقبَّعته في أحد الجوانب: «إن نجوم السماء نفسها في عليائها تُحاربنا. لقد قبضت الشرطة على الرجل الذي سرق مُفكِّرة جيبي. إنه مجرم معروف وله سجل سرقات نشل، ولسوء الحظ أنه كان تحت المُراقبة في هذه الليلة. عُثِر على مفكرة الجيب بحوزته، وكان من الممكن أن يكون كل شيء على ما يرام، لولا أن شرطيًّا ذكيًّا على غير العادة ربط بين المحتويات وبيننا.

بعد أن تركتك عدت إلى البيت وأبدلت ملابسي، وتوجهت إلى داوننج ستريت. كنت واحدًا من الحشد الفضولي الذي وقَفَ يُراقب المدخل المدجَّج بالحرس. كنت أعرف أن فالموث هناك، وكنت أعرف أيضًا، أنه إذا ما اكتُشِف أي أمر فستُبَلَّغ به داوننج ستريت على الفور. بطريقة ما كنت متأكدًا من أن الرجل كان لصًّا عاديًّا، وأنه إن كان ثمة ما نخشاه، فهو أن يُقْبَض عليه بالصدفة. بينما كنت أنتظر دخلت عربة أجرة، وقفَزَ منها رجل متحمِّس. كان من الواضح أنه شرطي، وكان لديَّ وقتٌ لأن أستقل عربة تجرها الخيول عندما كان فالموث والقادم الجديد يَنطلقان خارجَين. تبعتهما في عربة الأجرة بأسرع ما يُمكن دون أن أثير شكوك السائق. بالطبع، سبَقاني، وكانت وجهتهما مؤكَّدة. ترجَّلتُ من عربة الأجرة وصرفتها عند منعطف الشارع الذي كان فيه قسم الشرطة، وسرت على قدمي ووجدت السيارة، كما توقعت، متوقفة أمام الباب.

تمكَّنتُ من إلقاء نظرة سريعة عابرة على غرفة الضابط المناوب؛ كنت أخشى أن يكون أي تحقيق هناك يجري في الزنزانة، لكن لحسن الحظ اختاروا غرفة الضابط المناوب. رأيتُ فالموث، والشرطي، والسجين. كان الأخير رجلًا ذا وجه يوحي بالدناءة، وفكٍّ طويل وعينَين زائغتَين. لا، لا، ليون، لا تُشكِّك في تحليلي لملامح وجه الرجل، كانت معاينتي لأغراض تصويرية، أردت أن أتذكره وتنطبع صورته في ذهني.

في تلك اللحظة كان بوسعي أن ألاحظ غضب المفتش، ومقاومة اللص، وعرفت أن الرجل كان يقول إنه لم يستطع أن يتعرف علينا.»

«ها!» كانت زفرة ارتياح مانفريد هي التي جعلت بويكارت يتوقَّف عن الكلام.

تابع الأخير: «لكنَّني أردتُ أن أتأكد. سرتُ عائدًا من حيث أتيت. فجأة سمعت صوت هدير السيارة من خلفي، ومرَّت بي وبها راكب آخر. خمنت أنهم كانوا يأخذون الرجل عائدين إلى سكوتلاند يارد.

كنت راضيًا بأن أعود سيرًا؛ لكن كان لديَّ فضول لمعرفة ما تنوي الشرطة فعله مع رجلها الجديد. اتخذت موقعًا للمراقبة مكَّنني من رؤية مدخل الشارع، وانتظرت هناك. بعد فترة خرج الرجل بمُفردِه. كان يسير بخطوات خفيفة ونشيطة. لمحت وجهه وكان يظهر عليه مَزيجٌ غريب من الحيرة والرضا. اتَّجه نحو كورنيش النهر، وسرت وراءه على مقربة منه.»

قال جونزاليس: «كان ثمَّة خطر أن تكون الشرطة تتبعُه أيضًا.»

أجابه بويكارت: «كنت مطمئنًّا تمامًا من تلك الناحية. قبل أن أتبعه، استطلعت الطريق بحرص. ظاهر الأمر أن الشرطة كانت مُكتفية بأن تتركه يتجوَّل بحرية. عندما كان بجوار درجات المعبد توقف ونظر يمنة ويسرة في تردُّد، وكأنه غير واثق تمامًا إلى أين يَنبغي أن يذهب. في تلك اللحظة سرت بجواره، ثم استدرت إلى الوراء، وأخذت أفتش في جيوبي.

سألته: «أتتفضَّل بإعطائي عود ثقاب؟»

كان لطيفًا للغاية؛ أخرج علبة ثقابٍ ودعاني إلى استخدامها.

أخذت عود ثقاب، وقدحته، وأشعلت به سيجاري، ورفعت عود الثقاب حتى يتمكن من رؤية وجهي.»

قال مانفريد بجدية: «كان ذلك من الحكمة.»

أظهر هذا وجهه أيضًا، وبطرف عيني شاهدته يتفرس في ملامحي. لكن لم تكن ثمة أي إشارة إلى أنه تعرف عليَّ وبدأت معه حديثًا. تطرقنا لبعض الوقت إلى الحديث عن أين التقينا من قبل ثم اتَّفقنا على أن نسير معًا في اتجاه بلاك فرايرز، وعبرنا الجسر، ونحن ندردش في موضوعات غير مترابطة، عن الفقراء، والطقس، والصحف. على الناحية الأخرى من الجسر يوجد كشك لبيع القهوة. عزمتُ على أن أتَّخذ خطوتي التالية. دعوته إلى تناول قدح من القهوة، وعندما وُضِعَ القدحان أمامنا، وضعت جنيهًا ذهبيًّا على المنضدة. هز صاحب الكشك رأسه، وقال إنه لا يستطيع أن يعطيني الباقي. وسألني: «ألا يوجد مع صديقك عملة أصغر؟»

عندئذٍ عرفت من خيلاء اللص الصغير ما أردت معرفته. أخرج من جيبه، متظاهرًا باللامبالاة، جنيهًا ذهبيًّا وقال متشدِّقًا: «هذا كل ما معي.» عثرت معي على بعض العملات الصغيرة، وكان عليَّ أن أفكر بسرعة. لقد أخبر الشرطة بأمر ما، أمر يستحق مالًا مقابله؛ ماذا كان هذا الأمر؟ لم يكن من المُمكِن أن يكون أوصافنا؛ لأنه لو كان قد تعرف علينا عندئذٍ، كان سيعرفني عندما قدحت عود الثقاب وعندما كنت واقفًا هناك، كما فعلت، تحت وهج ضوء كشك القهوة. ثم أحسست ببرودة الخوف تَسري في أوصالي. ربما كان قد تعرف عليَّ، وبمكر لص كان يعطلني بالحديث حتى يتمكَّن من الحصول على مساعدة للقبض عليَّ.

توقف بويكارت لحظةً، وأخرج من جيبه قارورة صغيرة؛ ووضعها بحرص على الطاولة.

قال بهدوء: «كان عندئذٍ أقرب للموت من أيِّ وقت مضى في حياته، لكن بطريقةٍ ما زال الشك. أثناء سيرنا كان قد مرَّ بثلاثة رجال شرطة؛ كانت أمامه فرصة لو أنه كان يريد ذلك.

شرب قهوته وقال: «يجب أن أذهب إلى البيت.»

فقلت: «بالتأكيد. أظن أنه ينبغي أن أذهب للبيت أنا أيضًا؛ فلديَّ عمل كثير غدًا.» حملق فيَّ، وقال مبتسمًا: «وأنا أيضًا، لكني لا أعرف إن كنت سأستطيع أن أقوم به.»

كنا قد تركنا كشك القهوة، وحينئذٍ توقفنا تحت أحد أعمدة الطريق على ناصية الشارع.

أدركت أن أمامي لحظات قليلة لأحصل فيها على المعلومات التي أردتُها؛ لذا تجرأت وتطرقت مباشرة إلى الموضوع. سألته، وهو على وشك أن يرحل: «ما أخبار رجال العدالة الأربعة هؤلاء؟» التفت على الفور. سألني بسرعة: «ماذا عنهم؟» استدرجته منذ ذلك بلطف إلى الحديث عن هوية «الأربعة». كان مُتلهِّفًا للحديث عنهم، وتوَّاقًا إلى معرفة رأيي، لكن جل اهتمامه كان منصبًّا حول المكافأة. كان مستغرقًا في الحديث عن الموضوع، وفجأة مال بجذعه إلى الأمام، ونقَرَ بسبَّابة متَّسخة على صدري، وشرع يتكلم عن حالة افتراضية.»

توقف بويكارت عن الحديث ليضحك؛ وانتهى ضحكه إلى تثاؤب ناعس.

قال: «تعرف هذا النوع من الأسئلة، وتعرف كم يكون غير المُتعلِّمين سذَّجًا عندما يسعون إلى إخفاء هوياتهم عن طريق فرضيات مستفيضة. حسنًا، تلك هي القصة. هو، اسمه ماركس، بالمناسبة، يظنُّ أنه قد يتمكَّن من التعرف على واحد منَّا عن طريق حيلة مدهشة من حيل الذاكرة. ولتمكينه من فعل هذا، أطلقت الشرطة سراحه؛ وغدًا سيبحث في لندن، هكذا قال.»

قال مانفريد ضاحكًا: «سيطول بحثه كثيرًا.»

صَدَّق بويكارت على قوله بجدية قائلًا: «بالفعل، لكن اسمع بقية القصة. افترقنا، وسرت غربًا وأنا مطمئن تمامًا إلى سلامتنا. توجهت نحو سوق كوفنت جاردن ماركت؛ لأن هذا هو أحد الأماكن في لندن التي يُمكن أن يُشاهَد فيها رجل في الساعة الرابعة صباحًا دون أن يثير الريبة.»

«كنتُ أسير عبر السوق، وأشاهد بتراخٍ المشهد المُزدحم، عندما استدرتُ فجأةً على عقبي، لسبب لا أستطيع تفسيره، ووجدت نفسي وجهًا لوجه أمام ماركس! ابتسم لي بخجل، وتعرف عليَّ بإيماءة من رأسه.

لم ينتظر حتى أسأله ماذا يفعل هنا، وإنما بدأ يفسر سبب وجوده.

قبلت تفسيره ببساطة، وللمرة الثانية في تلك الليلة دعوته لاحتساء القهوة. تردَّد في البداية، ثم قبل. عندما أُحْضِرَت القهوة، سحب قدحه بعيدًا عن متناولي قدر الإمكان، وعندئذٍ عرفت أن السيد ماركس كان يرتاب في أمري، وأنني استهنت بذكائه، وأنه طيلة الوقت كان يزيح عن نفسه عبء أنه قد تعرف عليَّ. لقد كان يستغفلني.»

قال مانفريد: «ولكن لماذا؟»

أجاب بويكارت: «ذاك هو ما فكرت فيه. لماذا لم يجعل الشرطة تقبض عليَّ؟» التفتَ إلى ليون، الذي كان يستمع في صمت. «قل لنا، يا ليون، لماذا؟»

قال جونزاليس بهدوء: «التفسير بسيط؛ لماذا لم يَخُنَّا تيري؟ السبب هو الجشع، ثاني أقوى العوامل الفعَّالة في الحضارة. إن لديه بعض الشك في المكافأة. ربما يخشى نزاهة الشرطة؛ معظم المجرمين يفعلون ذلك؛ وربما يريد شهودًا.» سار ليون إلى الحائط، حيث كان معطفُه معلَّقًا. أخذ يُزرِّره في تفكير، ومرر يده على ذقنه الناعمة، ثم أخذ القارورة الصغيرة من فوق الطاولة ووضعها في جيبه.

سأله: «لقد تملَّصت منه، على ما أظن. أليس كذلك؟»

أومأ بويكارت إيجابًا.

«هل عرفت أين يقطن؟»

«في ٧٠٠ ريد كروس ستريت، في بورو؛ إنه سكن شعبي.»

أخذ ليون قلمَ رصاص من فوق الطاولة ورسم بسرعة رأسَ رجل على طرف ورقة جريدة.

سأله: «هل يبدو مثل هذا؟»

تأمَّل بويكارت الرسم.

قال في دهشة: «نعم، هل رأيته من قبل؟»

قال ليون بلا مبالاة: «لا، ولكن رجلًا كهذا سيكون له رأس كذلك.»

توقف عند عتبة الباب.

قال: «أظن أنه أمر ضروري.» كان ثمة سؤال في تأكيده. كان موجهًا إلى مانفريد، الذي نهض وذراعاه متشابكتان ومقطبًا جبينه ويحدق في الأرض.

وردًّا عليه بسط مانفريد قبضته المضمومة. رأى ليون الإبهام المتجه إلى أسفل، وغادر الغرفة.

كان بيلي ماركس واقعًا في ورطة. كانت فريسته قد نجحت في الإفلات من بين أصابعه بأبسط طريقة في العالم. عندما توقَّف بويكارت أمام المدخل المصقول لأفضل فندق في لندن، الذي كانا يمران بجواره، وقال بطريقة عفوية إنه لن يستغرق لحظة واختفى داخل الفندق، وقع بيلي في حيرة. كانت هذه حالة طارئة لم يكن مُستعدًّا لها. كان قد تبع المشتبه به من بلاك فرايرز؛ كان شبه متأكد أن هذا هو الرجل الذي سرقه. كان يُمكنه، لو أراد، أن يُنادي أول شرطي قابله ليقبض عليه؛ لكن تشكُّك اللص، والخوف من أن يُطْلَب منه اقتسام المكافأة مع الرجل الذي عاونه، ألجماه. وإلى جانب ذلك، ربما لا يكون هو الرجل المنشود على الإطلاق، هكذا حاجج بيلي نفسه، ومع ذلك …

كان بويكارت كيميائيًّا، ورجلًا يستمتع بالرواسب الخطرة، رجلًا مزج عقاقير كريهة الرائحة، وقَطَّر مواد كيميائية ورشَّحها وأضاف إليها الكربونات ومواد مؤكسِدة وفعل كل صنوف الأشياء في أنابيب زجاجية، حتى النباتات والحيوانات، والنواتج المعدنية النابعة من الأرض.

كان بيلي قد غادَرَ سكوتلاند يارد ليبحث عن رجل ذي يد باهتة اللون. وهنا، مجددًا، ربما لو كان خوفه من التعرض للخيانة أقل، كان سيضع في أيدي الشرطة علامة تعريف هوية قيمة جدًّا.

يبدو عذرًا واهيًا جدًّا الإصرار نيابةً عن بيلي على أن السبب الوحيد الذي منعه عندما صار وجهًا لوجه أمام الرجل الذي كان يبحث عنه هو جشعه. ومع ذلك فقد كان الأمر كذلك. ثم مجدَّدًا كانت ثمة عملية حسابية بسيطة تعتمل في عقله. إذا كان رجل واحد من رجال العدالة الأربعة يساوي ألف جنيه، فكم كانت القيمة السوقية لأربعة؟ لقد كان بيلي لصًّا ذا عقلية تجارية. في عمله اليومي لم تكن توجد منتجات بلا قيمة. لم يكن وغدًا محافظًا عالقًا في فرع واحد من فروع مهنته. كان يمكن أن يسرق ساعة، أو درج نقود، أو يمرر نقودًا مزيفة بالقدر نفسه من الاستعداد. كان كالفراشة في عالم الإجرام، يرفرف من زهرة ممنوعة إلى أخرى، وكان مصدرًا مجهولًا «للمعلومات المتلقاة».

وهكذا عندما اختفى بويكارت عبر البوابات الفخمة لفندق ذا رويال هوتيل في شارع نورثمبرلاند كان بيلي محبطًا. فقد أدرك في لمح البصر أنَّ أسيره قد ذهب إلى مكان لا يستطيع أن يَلحقَه فيه دون أن يكشف عن أوراقه؛ وأن فرصه قد وَلَّت إلى الأبد. نظر يَمنةً ويَسرةً في الشارع؛ لم يكن يوجد شُرطي على مرمى البصر. في مدخل الفندق، كان بوَّابٌ يَرتدي قميصًا بأكمام يُلَمِّع اللوحات النحاسية. كان الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا؛ والشوارع خالية، وبعد لحظات قليلة من التردد، سلك مسارًا ما كان يجرؤ على أن يسلكه في الظروف العادية.

دفع الأبواب الدوَّارة وعبر إلى البهو. التفَتَ إليه البواب وهو يدخل ورمقه بنظرة تشكُّك مُتجهِّمة.

سأله: «ماذا تريد؟» وهو يتطلَّع ببعض الازدراء إلى مِعطَف الزائر الممزق.

قال بيلي، بأقصى نبرة استرضاء لديه: «اسمع، يا رفيقي القديم.»

في تلك اللحظة تحديدًا أمسكت ذراع البواب القوية بياقة معطفِه، ووجَدَ بيلي نفسه يتعثر في الشارع.

قال البواب بحزم: «اخرُج أيها …»

استلزم الأمر هذه الإهانة حتى يستحثَّ في ماركس الثقة بالنفس اللازمة لمساعدته على التحمُّل.

بعدما أصلح ملابسه المُكرمشة، أخرج بطاقة فالموث من جيبه واستدار إلى البواب المسئول عن مدخَلِ الفندق برصانة.

قال، مستخدمًا الاستهلال الذي كان يعرفه جيدًا: «أنا ضابط شرطة، وإن تدخلت في عملي فحذارِ، يا رفيقي الشاب!»

أخذ البواب البطاقة وتفحَّصَها.

سأله بنبرة أكثر تهذيبًا: «ما الذي تريده؟» كان سيُضيف «يا سيدي!» لكن الكلمة وقفت بطريقة ما في حلقه. قال لنفسه إنه لو كان الرجل محققًا فتنكُّره رائع.

قال بيلي: «أريد ذلك الرجل الذي دخل قبلي.»

حكَّ البواب رأسه مفكِّرًا.

سأله: «ما رقم غرفته؟»

قال بيلي بسرعة: «دعك من رقم غرفته. هل توجد أي مخارج خلفية لهذا الفندق؛ أي طريق يُمكن لرجل أن يخرج منها؟»

أجاب البواب: «ستة مخارج.»

همهم بيلي غاضبًا.

قال له: «خُذني إلى واحد منها، أيمكنك ذلك؟» فتقدمه البواب.

كان أحد مداخل الخدمات يفضي إلى شارع خلفي صغير؛ وهناك أعطى أحد الكناسين لماركس المعلومة التي كان يخشاها. منذ خمس دقائق خرج رجل تنطبق عليه الأوصاف، ومشى في اتجاه شارع ستراند، واستقل عربة أجرة على مرأًى من الكناس، ومضى في طريقه.

شعر بيلي بالارتباك، وبمرارة إضافية لأنه كان يُمكن أن يحصل على أيِّ حال على حصة من ألف جنيه، سار بيلي بتثاقل إلى كورنيش النهر، وهو يلعن الحماقة التي جعلته يُطيح بالثروة التي كانت بين يديه. سار متسكعًا، ويداه مدسوستان بعمق في جيوبه، في طريق كورنيش النهر الطويل المُتعب، يفكر مرارًا وتكرارًا في أحداث الليلة متمتمًا في كل مرة بإدانة قاسية لخطئه. لا بد أن ساعة كانت قد مرت بعد فقده بويكارت عندما خطر له أنه لم يفقد كل شيء. كانت لديه أوصاف الرجل، فقد نظر إلى وجهه، وعرف كل تفصيلة في ملامحه. كان لا يزال لديه شيء على أي حال. خطر له أنه لو قُبِض على الرجل عن طريق الأوصاف التي سيُدلي بها فما زال من حقه الحصول على المكافأة، أو جزء منها. لم يجرؤ على مقابلة فالموث وإبلاغه أنه كان في صحبة الرجل طيلة الليل دون أن يمكِّن الشرطة من القبض عليه. لن يُصدقه فالموث أبدًا، وبالفعل، كان غريبًا أنه التقى به.

أدرك بيلي هذه الحقيقة لأول مرة. أي صدفة غريبة جعلته يلتقي بالرجل؟ هل من الممكن أن الرجل الذي سرقه تعرف عليه، وأنه كان يلاحقه بنية قتله؟ أصابتْه هذه الفكرة بالرعب.

تفصَّد عرقٌ باردٌ على جبهة اللص الضيقة. لقد كان هؤلاء الرجال قتَلة، قتَلَة قُساة القلوب عديمي الرحمة؛ أيمكن أن …

تحول عن تأمُّلاته بشأن الاحتمالات غير السارَّة ليُشاهد رجلًا كان يعبر الطريق نحوه. راقب الغريب بتشكُّك. كان الوافد الجديد رجلًا يبدو شابًّا، حليق الذقن، ذا ملامح حادة وعينين زرقاوين قلقتين. حين ازداد اقترابًا، لاحظ ماركس أن المظهر الأول كان خادعًا؛ فلم يكن الرجل شابًّا كما بدا. فكر ماركس في نفسه أنه ربما كان في الأربعين من عمره. اقترب الرجل، وأمعن النظر في بيلي، وأشار إليه أن يتوقف؛ إذ كان بيلي يسير مبتعدًا.

سأله الغريب بلهجة آمرة: «هل اسمُكَ ماركس؟»

أجاب اللص: «نعم، يا سيدي.»

«هل قابلتَ السيد فالموث؟»

أجاب ماركس في دهشة: «لم أرَه منذ ليلة أمس.»

«إذن عليك أن تأتي لتُقابله على الفور.»

«أين هو؟»

«في قسم شرطة كنسينجتون، فقد أُلقيَ القبض على رجل ونريدك أن تتعرف عليه.»

اعترى الخوف بيلي.

تساءل: «هل سأحصل على أي مكافأة، إن تعرفت عليه؟»

أومأ الآخر برأسه إيجابًا، فانتعشت آمال بيلي.

قال الوافد الجديد: «لا بد أن تتبعَني؛ فالسيد فالموث لا يودُّ أن يرانا أحدٌ معًا. اشترِ تذكرة في الدرجة الأولى إلى كنسينجتون واركب المقصورة التالية لمقصورتي، تعالَ.»

استدارَ وعبر الطريق صوب شيرنج كروس، وتبعه بيلي على مسافة.

وجد بيلي الغريب يذرع رصيف المحطة ولم يُبدِ أيَّ إشارة أنه يعرفه. توقف قطار في المحطة وتبع بيلي مرشده عبر حشد من العمال كانوا قد نزلوا من القطار. دخل عربة درجة أُولى خاوية، وطاعةً للتعليمات، دخل في المقصورة الملاصقة، ووجد أنه الراكب الوحيد فيها.

بين شيرنج كروس ووستمنستر كان لدى ماركس وقت لاستعراض موقفه. بين المحطة الأخيرة وسان جيمس بارك، اختلق أعذارًا ليقدمها إلى المفتش؛ وبين سان جيمس بارك وفيكتوريا كان قد استقر على تبريره لادعاء حقه في نصيب من المكافأة. ثم عندما كان القطار يتحرَّك ليدخل النفق الذي يؤدي بعد خمس دقائق إلى محطة ميدان سلون، لاحظ بيلي تيارًا هوائيًّا، وأدار رأسه ليرى الغريب واقفًا على سلم عربة القطار المتأرجح، ممسكًا بباب المقصورة الموارب.

أجفل ماركس.

قال الرجل بلَهجة آمرة: «ارفع النافذة التي بجانبك.» وأطاعَ بيلي أمره؛ إذ سيطرت عليه اللهجة المتسلطة. في تلك اللحظة سمع صوت شيء زجاجي يتحطم.

استدار بزمجرة غاضبة.

تساءل: «ما الذي يعنيه هذا؟»

كان رد الغريب أن اندفع خارجًا من الباب وأغلقه برفق، واختفى.

كرر ماركس السؤال بنعاس: «ما الذي يعنيه هذا؟» نظر إلى أرضية المقصورة فرأى قارورة مكسورة عند قدميه، وبجانب القارورة جنيهٌ ذهبي لامع. حدق فيه بغباء للحظة، ثم، قُبيل مرور القطار بمحطة فيكتوريا، انحنى ليلتقطه و…

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤