مقدمة
حقَّق سورين آبي كيركجارد (١٨١٣–١٨٥٥) الشهرة أولًا في ظل الغموض النسبي لمدينة كوبنهاجن في منتصف القرن التاسع عشر، وهي مدينة يقطنها ما يقرب من ١٢٥ ألف نسمة. بحلول بداية القرن العشرين، ساهمت الترجمات الألمانية لكتاباته في تجاوز شهرته حدودَ دولة الدنمارك الصغيرة، ليؤثر في كلٍّ من كارل بارث، ومارتن هايدجر. وقد قدَّما بدورهما كيركجارد إلى «الفلاسفة الوجوديين الفرنسيين»، جان بول سارتر، وألبير كامو، وسيمون دي بوفوار، حيث تعرَّضت مسيحيَّته الراديكالية لتحوُّل إلحادي في أربعينيات القرن العشرين. قبل ذلك بعَقدٍ، بدأ تشارلز ويليامز، وهو محرِّر لدى دار نشر جامعة أوكسفورد (مع كليف ستيبلز لويس، وكذلك جون رونالد تولكين، الذي كان عضوًا في مجموعة «ذا إنكلينجز»، وهي مجموعة نقاش أدبي ذائعة الصيت تضم أقطاب الأدب في جامعة أوكسفورد)، ترجمة كتاباته إلى اللغة الإنجليزية، ليتعاون لاحقًا مع الترجمات المؤثرة لدار نشر جامعة برينستون. وبحلول خمسينيات القرن العشرين، كثُرت الكتابات الشارحة لأفكار كيركجارد؛ أبي الفلسفة الوجودية. لقد تمكَّن كيركجارد من الوصول إلى ثقافة مجتمع النخبة، لتصبح أفكاره مادةً خصبة لنكات وودي آلن عن القلق (وهو أحد أشهر أفكار كيركجارد)، وجزءًا دائمًا من مراجع الفلسفة الرئيسية.
أثبت كيركجارد نفسه أنه موضوعٌ مثير للاهتمام المتجدد على الدوام، وهو ما يشهد عليه الكتاب الضخم لجواكيم جارف «سورين كيركجارد: سيرة ذاتية» (٢٠٠٠). تربَّى كيركجارد في واحد من أكثر ميادين كوبنهاجن رقيًّا، وكان على رأس عائلته الثرية أبٌ صارم، يُدعى مايكل بيدرسون كيركجارد. كان الوالد، الذي لا يضاهي ذكاءه المتقد وحكمتَه في إدارة الأعمال إلا عمق عذابه الديني، رفيق الطفولة الدائم لابنه سورين. لم يستطِع كيركجارد أن ينسجم مطلقًا مع العالم؛ ويُعزى السبب جزئيًّا في ذلك إلى والده المسيطر والشديد، ويُعزى في جزء آخر إلى قدراته المفرطة على الاستبطان. وسيصبح الحق في أن يكون المرء «استثناءً للعام»، موضوعًا رئيسيًّا في كتاباته لاحقًا.
وباستثناء رحلاته المتقطعة إلى الساحل الشمالي أو برلين، قضى كيركجارد حياته بأكملها في كوبنهاجن. كان يقطع يوم عمله الطويل برحلاتٍ مكلِّفة إلى الريف في عرباتٍ تجرُّها الخيول، أو بالسير عبر المدينة، مسجلًا ملاحظات ثاقبة عن أنماط المدينة المزدحمة ونقائصها. وقد عاش خلال ما يُعرف بعصر الدنمارك الذهبي؛ إذ كان (ناقدًا ومنافسًا) معاصرًا لهانس كرستيان أندرسن في مدينة، كانت موطنًا للعائلة المالكة والنخبة الفكرية الأرستقراطية المفعمة بالحيوية. أدَّى عذاب كيركجارد الداخلي إلى استنزافه، لكنه كان أيضًا بمنزلة مادة خام لدراساته الموسَّعة حول الروح الإنسانية. وساعد الميراث السخي من أبيه (٢٠٠ ألف جنيه إسترليني) في تحريره عبر منحه إجازةً مدى الحياة للتفرغ كاتبًا مستقلًّا، وهو ما أفضى إلى عددٍ مذهل من الصفحات التي أنجزها قبل وفاته عن عمر يناهز اثنين وأربعين عامًا.
كان سابِقوه في هذا الشأن هم أوغسطينوس، وباسكال، ولوثر، الذين كانوا أول مَن وصف المشهد الذي كان يعود إليه كيركجارد دائمًا؛ الذات التي تقف وحدَها أمام الله، ومصيرها الأبدي وهي معلَّقة في الميزان. وصل كيركجارد بهذا المفهوم إلى ذروته عبر تعريف فكرة «الذاتية» الدينية، وشرحها بصيغة، هي الأكثر دقةً وقوة. بالنسبة إلى كيركجارد، كي تكون ذاتًا، يعني أن تعيش في نور الأبدية الساطع، حيث لا خداع لله. ويتناقض هذا، على نحوٍ حاد، مع أفلاطون وأرسطو؛ إذ إن الفرد، بالنسبة إليهم، هو نموذج لنوعٍ ما، أو عينة من نوع، أو «حالة» تندرج تحت النوع العام. أما من وجهة نظر كيركجارد، فالفرد ليس شيئًا يندرج تحت تصنيفٍ ما، بل هو في القمة، ليس شيئًا طرفيًّا بل مركزًا مقدسًا، وهو مبدأ يؤسِّس للحرية والمسئولية الشخصية. ويرسم كيركجارد صورة الفرد، الذي يعاني «خوفًا ورِعدة» من مصيره الأبدي، الواعي تمامًا بعزلته، ومحدوديته، وعدم معصوميته من الخطأ. وتعود جذور الحركة الفلسفية العلمانية المُسماة «الوجودية»، ومفهوم «الذات الوجودية» الذي تشتهر به، إلى هذه التربة الدينية، كما نمَت من هذه التربة أيضًا الفكرة المميزة لحركةِ ما بعد الحداثة عن «التفرد»، أو الشخصية المميزة وغير القابلة للتكرار لكل شيء، بدءًا من الفرد ووصولًا إلى العمل الفني. وبينما يؤكد كيركجارد على ضرورة تحمُّل المسئولية الفردية وإخضاع معتقدات المرء للممارسة، يخشى منتقدو الوجودية من النسبية، أو من جعل الحقيقة مرهونةً بالتفضيلات الفردية، وتقويض نظام الحقيقة الموضوعية. إن نفس التخوف من المذهب النسبي هو ما يُزعج المنتقدين المعاصرين لحركةِ ما بعد الحداثة، وهي نظرية عن التعددية الراديكالية، تحتفي بتعدُّد وجهات النظر، وهو خط فكري تَوقَّع كيركجارد قدومه.
حدثت نقطة التحول الثانية في عمله عام ١٨٤٦. زعم كيركجارد أن واجبه الأدبي قد «اكتمل»، وعزم على تولي وظيفة قسٍّ (كان لديه درجة ماجستير في علم اللاهوت، كما أتم بعض الدراسات التدريبية على هذه الوظيفة). ولكنه شرع في استفزاز صحيفة دنماركية أسبوعية شهيرة «ذا كورسير»، فسخرت، بدورها، منه بلا رحمة عبر نشر رسوم كاريكاتورية لكيركجارد تصوِّره كائنًا أحدَب غريبَ الشكل، يلبس بنطالًا غير متساوي الطول، وهي رسوم لا تزال يُعاد إنتاجها إلى اليوم. استنتج كيركجارد، إرضاءً لرغبته الداخلية، أنه إذا تخلى عن حياته كاتبًا فسيعتقد مجتمع كوبنهاجن الراقي أنه قد لجأ إلى الحياة الكنسية بسبب صحيفة مروِّجة للإشاعات. ومن ثَم اعتقد أن الله يعترض الآن على خططه ليصبح قسًّا. وعلى مدار السنوات السبع التالية، نُشرت مجموعة أخرى من أعماله، كلها تقريبًا موقَّعة باسمه، وتكتسي بطابعٍ ديني جلي، يعرض فيها تحليله المتبصر لتأثير «التسوية»، الذي تحدثه الصحافة، التي كانت تُعد أولَ وسيلة إعلامية جماهيرية حديثة آنذاك. وسيتلاقى نقده الثقافي مع جزء كبير مما سيقوله نيتشه بعدها بأربعين عامًا عندما كتب عن «موت الإله». إن عبقريَّي القرن التاسع عشر هذين، الأول مسيحي والآخر مؤلِّف كتاب يحمل اسم «نقيض المسيح»، يُعدَّان نبيَّين للحياة المعاصرة وناقدَين للثقافة البرجوازية الناشئة. ويشكِّل الاثنان موضوعًا للمقارنة الدائمة بينهما.
أما الأزمة الثالثة التي كانت نقطة تحوُّل في حياته وعمله فكانت في عام ١٨٥٤ بموت جيكوب مينستر، مطران وكبير أساقفة الكنيسة الدنماركية، وصديق قديم للعائلة. كان كيركجارد يطوِّر، طوال الوقت، مفهومًا راديكاليًّا عن المسيحية، واضعًا «المسيحية» الأصيلة في مواجهة مع دنيوية «العالم المسيحي»، أو على الأحرى الطبقة البرجوازية المسيحية المترفة في أوروبا الحديثة.
ساور قادةَ الكنيسة شكٌّ، في محلِّه، بأنهم المقصودون من هذه التفرقة، وشعروا بالإهانة من دعوة كيركجارد إلى تقديم المسيحية إلى الدنمارك. بعد وفاة مينستر، شنَّ كيركجارد هجومًا شخصيًّا على رجال الكنيسة والعالم المسيحي. وبينما كان الكثير من تشهير كيركجارد برجال الدين المسيحي مقصودًا، تكشف أعماله أيضًا عن جانبٍ مظلمٍ لطبيعته، وهو ما سيقوده في النهاية إلى إعلان أن الزواج والرغبة الجنسية «جريمة». أعلن كيركجارد — متمسكًا بتبتُّله وعزلته باعتبارهما الوضع الطبيعي — أن الزواج استثناء، بمعنى أنه تنازُل يقدِّمه الجسد الآثم حتى لا يحترق بنار الشهوة، كما قال القديس بولس. انتهت حياته القصيرة والمثيرة للجدل بهذه الملحوظة الجدلية عام ١٨٥٥.
لكن إذا كان كيركجارد يستخدم الشِّعر، والسخرية، والفكاهة، فهو يستخدمها كاستراتيجية وطريقة للتواصل مع قرَّائه. لقد طرح نقدًا فلسفيًّا واضحًا لِعُقم التكهنات الميتافيزيقية الصاعدة، واستبدل بها وصفًا حساسًا وثاقبًا للتجربة الإنسانية الفعلية، والتي كان يحب أن يسميَها حياة «الفرد الموجود المسكين». رافق هذه الحجةَ وجهةُ نظر دينية متزمتة إلى حدٍّ كبير، يمكن اقتفاء أثرها في كتاباته الموقَّعة بأسماء مستعارة، وتظهر بوضوحٍ في الكتب الموقَّعة باسمه. استخدم كيركجارد أسماءً مستعارة لا لأنه كان متشككًا في آرائه، بل لأنه اعتبر المؤلِّف عنصرًا «غير مهم»؛ فما يقال في هذه الكتب لا علاقة له بما إذا كان المؤلِّف يعتمر قبَّعة (أو أن ساقَي بنطاله غيرُ متساويين طولًا). بصفته الكاتب، جادل كيركجارد بأنه لا يشكِّل أيَّ فارق، وأنه غير مهم على الإطلاق مقارنةً بثِقل وأهمية القدَر الوجودي للقارئ. ما يشكِّل فارقًا هو الرقصة، تلك الحركة الجدلية بين الاحتمالات المثالية التي ينجذب القارئ إليها شخصيًّا. هذه الكتب ليست سوى فرصة لحثِّ القراء، وحتى إغرائهم، على اتخاذ قرارات لأنفسهم.
تمثِّل سخرية كيركجارد وحسُّه الفكاهي أسلوبًا مبتكرًا مدهشًا في تاريخ الفلسفة، وهي، بلا شك، تُميِّز كاتبًا يقدم شيئًا مختلفًا عن السائد. لكن الأكثر من هذا، أن هذا الأسلوب وُظِّف لخدمة مشروع ديني قديم ومهم للغاية، سيغيِّر اتجاه الفلسفة الغربية وعلم اللاهوت بعده.