أولًا: مقدمة

الفلسفة مثل الكائنات الحية تموت وتحيا. فهي إبداع إنساني يتخلَّق عندما تتهيَّأ له ظروفه وينقرض تمامًا عندما تتغير هذه الظروف، وتحل محلها ظروفٌ أخرى مضادةٌ لا يقوى الكائن الحي الوليد على مقاومتها والتكيُّف معها حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار. والتاريخ شاهد على ذلك. فهو هذا المعمل الذي تقام فيه التجارب الحية وتنشأ فيه الأجِنَّة التي تولد والتي تحيا. وهو السجل الذي يدوَّن فيه الموتى والأحياء، والمحفوظ دائمًا في صدور الناس في وعيهم بالتاريخ وفي إدراكهم لقوانين حركته. وشروط الحياة أو الموت ليست ظروفًا تاريخية مجردة عن الحياة الإنسانية التي تتَّسم بحرية النظر والعمل دون أن تكون أسيرةً للظروف وخاضعةً لها خضوعًا آليًّا حتميًّا، ولكن باجتماع هذين العنصرين: حتمية التاريخ وحرية الإنسان، تموت الفلسفة وتحيا. ويأتي السؤال عن الموت قبل السؤال عن الحياة. فحياة الفلسفة شيء طبيعي طالما أن الإنسان ما زالت به حياة، وطالما أن الحياة تعني حرية الفكر والنظر، والقدرة على البحث والتقصِّي، وطالما أن الدنيا ما زالت قائمة، وطالما وُجد فيها إنسان واحد يتنفَّس أو يعقل؛ فالعقل كما قال القدماء: إحدى قُوى النفس، والنفس أحد مظاهر الحياة، ولكن الغريب أن تموت الفلسفة والحياة باقية، وهناك إنسان حي عاقل على وجه الأرض. إن موت الفلسفة يعني نهاية الحياة وعدم قدرة الإنسان على المقاومة، واستعمال حريته، وعجزه عن خلق الظروف التي تعيد له وللفلسفة الحياة. وهذا الافتراض تنكُّر لوجود الإنسان وفاعليته في الحياة. حياة الفلسفة هي الأساس وموتها هو العَرَض، حياتها هي القاعدة وموتها هو الاستثناء، حياتها هي الطبيعي المألوف وموتها هو الشاذُّ الغريب.

وليس السؤال: هل ماتت الفلسفة؟ فهي تموت بطبيعة الأحوال وتغيُّر الظروف، وبالوجود الإنساني ذاته الذي قد يمارس حريته ويستعمل عقله وقد لا يمارس أو يستعمل. ويشهد بذلك أيضًا تاريخ الفكر الإنساني ولحظات موت الفلسفة ولحظات حياتها، ولكن السؤال هو: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ متى يحدث لها أن تموت، وفي أي ظروف تحيا؟ فالسؤال ليس مُجرَّدًا بل هو سؤال في الزمان وفي التاريخ داخل الحضارات البشرية ودوراتها؛ وبالتالي فلا توجد إجابة واحدة عامة ومطلقة وشاملة بل هناك إجابات تاريخية محدَّدة في لحظات تاريخية معينة وفي أوضاع اجتماعية وسياسية بعينها تصدر عن مدى وعي الأفراد والجماعات بحركة التاريخ وبقوانين مساره. والسؤال عن الزمان هو في حد ذاته سؤال عن العلَّة، فالعلَّة توجد في التاريخ، لحظة زمانية أو مرحلة تاريخية تكمن فيها العلة وتتَّحد معها؛ ومن ثم كان الحديث عن الزمان والتاريخ هو حديث عن العلل والأسباب. ولا يوجد موت نهائي للفلسفة بل هناك إمكانية بعث لها وعودة الحياة إليها. فالظروف متغيرة، وحرية الإنسان دائمة ومستمرة حتى لو اعتراها الوهن والضعف في بعض اللحظات. لا يوجد موتٌ إلا ويتلوه بعث، ولا توجد حياةٌ إلا ويصيبها الموتُ أو الهزال. بل إن كل لحظة موت هي بداية لحظة أخرى لميلاد جديد، تموت الفلسفة وتحيا في دوراتٍ وبإيقاعٍ منتظمٍ رتيب مثل ضربات القلب أو دفعات النَّفَس.

وليس السؤال في فعل ماضٍ: هل ماتت الفلسفة؟ بل السؤال في الفعل المضارع: متى تموت الفلسفة، ومتى تحيا؟ فليس المقصود هو الحديث عن التاريخ الماضي ورصد حسابه بل الحديث عن الحاضر وكشف مكوناته. فلعلنا باكتشافنا اللحظة الحاضرة نستطيع أن نرى الماضيَ بوضوحٍ فالحاضر يقرأ نفسه في الماضي. ولا يوجد ماضٍ يأتي بفعل الزمان، والتاريخ لا يُثيره الحاضر ولا يبعثه. الماضي ولَّى، والحاضرُ بعثٌ له وإمكانيةُ تحقق. وإذا كان الماضي قد انتهى فإن معاركه ما زالت حاضرة، وصراع الأطراف ما زال قائمًا. الماضي من تراث الآباء والحاضر من إبداع الأبناء، ولكن في مواقف قد تكون واحدة. فما أشبه الأمس باليوم؛ وبالتالي يكون سؤال: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ مسئولية الجيل الحاضر عن موت الفلسفة أو حياتها، وإذا كان الماضي عند البعض سلبًا واستلابًا ومحايدة، فإن الحاضر عند البعض الآخر التزامٌ ونقد ومقاومة.

ولما كنا نحن الآن في نهاية فترة وبداية أخرى، نتحدَّث عن الانهيار والنهضة ونذكر الانحطاط والبعث، ونواجه التوقُّف والاستمرار فمن الطبيعي أن يكون سؤال: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ موجَّهًا إلينا في جيلنا، واضعًا إيَّانا مع مشكلتنا الجوهرية التي نواجهها منذ عدة أجيال منذ الطهطاوي والأفغاني وشبلي شميل ألَا وهي النهضة، شروطها ومقوماتها وطرقها وغاياتها، وكان من الطبيعي الدخول في الزمان في التاريخ فلعلَّنا نكتشف لدينا وعيًا بالزمان وإحساسًا بالتاريخ يمكِّننا من الإجابة على السؤال. وإذا كنا على حافة دورتين حضاريتين؛ الأولى هي التي حدَّدها ابن خلدون ووصف مسارها في المقدمة؛ والثانية هي عصر الانهيار الذي قد شارف على النهاية منذ نهاية القرن الرابع عشر الهجري وبداية الخامس عشر، فإن لدينا التجاربَ العصرية التي تجعلنا قادرين على رؤية موت فلسفة وحياة أخرى. مجتمعاتنا في لحظات التحوُّل من التقاليد إلى التحرُّر، ومن التراث إلى التجديد، وفي هذه المرحلة من مسارها يكون السؤال ذا دلالة، وتحمل الإجابة عليه تجربة حضارية لمجتمعاتنا الناهضة قد تساعدنا على تقوية وعينا باللحظة التاريخية الراهنة.

لذلك كان من الطبيعي أن يكون المنهج المتبع هو منهج تحليل التجارب الشعورية لجيلنا والتي يعيشها المفكِّر أو الفيلسوف، وهو المنهج الذي تمَّت صياغته باسم المنهج «الوصفي» أو المنهج «الظاهرياتي» أو المنهج «الفينومينولوجي» في التراث الغربي في الفينومينولوجيا المعاصرة.١ وقد كان متبعًا من قَبلُ في تراثنا القديم خاصة في علوم التصوف وفي علم أصول الفقه وإلى حدٍّ ما في علوم الحكمة،٢ وهو أيضًا المنهج الذي يطبقه كل المفكرين على غير وعي منهم سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو حتى أدباء وفنانين، فلا شيء يحدث في الخارج إلا ويحدث في الشعور، ولا شيء يتمُّ إدراكه في الخارج إن لم يتم إدراكُه في الشعور، وهو المنهج الذي يستعمله بسطاء الناس وعامتهم في حياتهم اليومية في إدراكهم وتعبيرهم وتحديد مواقفهم. فالإنسان لا يستطيع أن يفهم أي موضوع إلا من خلال التجربة. والموضوع تجربة مُعاشة في شعور الإنسان لا يستطيع أن يفهمه إلا إذا أدرك دلالته أو معناه، ولما كانت التجارب البشرية مطَّردة وقوانين التاريخ وتطور المجتمعات واحدة، فإنه يمكننا فهمها بصرف النظر عن اختلاف العصور والأجيال، فنحن قادرون على تذوُّق الآداب القديمة وفَهْم الفلسفات الماضية وإدراك المواقف الإنسانية للعصور السابقة. فالماهيات واحدة، والمعاني قائمة ومستقلة عن حواملها التاريخية، ويمكن إدراكها بالحَدْس، يكفي إعادة بناء الموقف، وعيش التجربة واتحاد الذات بموضوعها. ويتفق على حدس الماهيات عديدٌ من الباحثين والقرَّاء على السواء دون ما خلاف على النتائج. وتلك تطابق الحكم الصوري مع الواقع المادي. فهذا التطابق ادِّعاء لا وجود له لأن الحكم والواقع لا يوجدان إلا في التجربة المعاشة؛ فالصدق في التحليل والبداهة في الإدراك هما مقياسان لصحة تطبيق هذا المنهج في مثل هذا الموضوع: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ وقد قام هوسرل واضع هذا المنهج بتطبيقه في نفس الموضوع متسائلًا عن إفلاس Bankrott الفلسفة على يد الحسِّيِّين التجريبيِّين من أمثال هيوم، وكيف يمكن زيادة رصيدها.٣ بل إنه لا يكاد يخلو فيلسوف واحد من وضع هذا السؤال، كل على طريقته ولتدعيم مذهبه. ولكن هوسرل هو الذي وضع السؤال على مستوى الوعي الأوروبي كله. فالموت والحياة ظاهرتان للوعي التاريخي الفردي والحضاري، وليس على مستوًى معين صوري أو مادي أو وجودي.
ولما كان كل باحثٍ اليوم ذا شعور مغترب نظرًا لسيادة الحضارة الأوروبية وانتشارها خارج حدودها فإنه يجد نفسه لا محالة بصدد تحليل الشواهد والأمثلة التاريخية من داخل الحضارة الأوروبية وكأن الغرب هو العالم كله، وكأن تاريخ الفكر الأوروبي هو تاريخ الفكر الإنساني، وكأن الحضارة الأوروبية خاصة في العصور الحديثة هي الممثِّلة الوحيدة للحضارات البشرية كلها؛ في مصر والصين وفارس وما بين النهرين وفي أفريقيا وفي خليج المكسيك. وحرصًا على هذا التحرُّر من هذا التحيُّز الحضاري المسبق، ونحن ما زلنا ضحيته، فإن الشواهد والأمثلة التاريخية ستعمَّم وتتنوَّع قدر الإمكان حتى تشمل أكبر قدرٍ ممكنٍ من الحضارات الأخرى وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية التي تكوِّن مخزوننا النفسي ورصيدها الفلسفي، والتي ما زلنا نعيشها وتعيش فينا حتى الآن.٤ ولما كان الباحث ذو الوعي المتحرِّر من الغرب لم يعِ بما فيه الكفاية إحدى دوائره الحضارية الكبرى وهي دائرة الشرق، فذلك لأن الغرب ما زال يمثل لنا التحدِّي الأكبر ليس فقط عسكريًّا واقتصاديًّا بل ثقافيًّا وحضاريًّا، ويكفينا في جيلنا التخلُّص من آثاره، ويكفينا تحجيمه ورده داخل حدوده حتى يحدث التوازن في وعينا القومي بين حضارتنا وحضارات الغير في الغرب أولًا ثم في الشرق ثانيًا.
١  انظر عرضنا لهذا المنهج في الجزء الأول من رسالتنا الثانية (باريس ١٩٦٦م) بعنوان: L’Exégèse de La phénoménologie, L’Etat actuel de La méthode phénoménologique et son application au phénoméne religieux, Dar al-Fikr al-Arabi, Le Caire, 1980.
وانظر أيضًا تطبيقنا لهذا المنهج في ظاهرة تفسير العهد الجديد في الجزء الثاني بعنوان: La phénomènologie de L’Exégèse, essai d’une hermeneutique existentielle à partir du nouveau Testament (Paris, 1966).
٢  انظر اكتشافنا لهذا المنهج في علم أصول الفقه في رسالتنا الأولى بعنوان: Les méthodes d’Exégèse, essai sur Ia science des fondements de la comprehension (IIm Usul al-fiquh), Le Caire, 1965.
وكذلك دراستنا «حكمة الإشراق والفينومينولوجيا» في «دراسات إسلامية»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٣م.
٣  E. Husserl: Die krisis der Europaischen Wissenshaften und die transzendentale phonomenologie, eine Einletung in die phonomenologische philosophie, pp. 88–91, M. Njihoff, Haag, 1956.
٤  انظر كتابنا: «التراث والتجديد موقفنا من التراث القديم»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤