ثالثًا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت

يبدأ كانط قبل الدخول في الموضوع الأول مباشرة، وهو الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت، أو كما يقول بلغتنا كلية الآداب وكلية أصول الدين، أو بين الجامعة الوطنية والجامعة الأزهرية، بإعطاء مقدمة عامة عن الجامعة، طلابًا وأساتذةً وإدارة، وعن التقسيم العام للكليات الجامعية، ثم عن وضع كل كلية، سواء الكليات العليا (وهي كلية اللاهوت وكلية الحقوق، وكلية الطب)، أم الكلية الدنيا (وهي كلية الفلسفة). وأخيرًا يتحدث كانط عن الصفة المميزة لكل كلية، وعن الصراع المشروع والصراع غير المشروع بينها.

إن العلم البشري بالرغم من وحدة المعرفة، ينقسم إلى عدة علوم، ولكل علم أساتذة متخصصون وطلاب وهيئات تُسمى جامعة أو مدرسة عليا تتمتع باستقلال ذاتي؛ لأن العلماء وحدهم هم القادرون على الحكم على العلماء، وتقبل الجامعة الطلاب والأساتذة وفقًا لقواعد تضعها. وبالإضافة إلى أعضاء هيئة التدريس هناك الأساتذة المستقلُّون داخل الأكاديميات والجمعيات العلمية الذين يطلبون العلم من أجل العلم. ويطلبونه مخلصين له طيلة حياتهم. وأحيانًا يتحوَّل أعضاء هيئة التدريس أو الخريجين إلى مجرد متعلِّمين، أي أصحاب شهادات موظفين في الحياة العامة نسوا كل شيء تعلموه. يكفيهم أنهم قادرون على أداء وظائفهم بالحد الأدنى مما تبقَّى في أذهانهم. ومنهم رجال الأعمال أو تكنوقراطيو العلم الذين يُصبحون في النهاية مجرد آلات للحكومة، مثل رجال الدين ورجال القضاء والأطباء، ويكون لهم أبلغ الأثر على الجماهير، نظرًا لاتصالهم بها. ولا يُسمَح لهؤلاء بمزاولة علمهم إلا في أداء مهنهم، ولكنهم خارج المهنة ينسون كل شيء.

ويقسم كانط الكليات الجامعية إلى قسمين: كليات عليا ثلاث، وكلية واحدة دنيا. وهو تقسيم نابع من الحكومة، وليس من العلماء. والكليات العليا تخرِّج موظفين للحكومة، والحكومة قبل أن تستخدمهم تحكم على صلاحية عرض علمهم على الجمهور. أما الكلية التي تُسمى الدنيا، فإنها تهتم بالعلم لذاته، وتتمتَّع بحرية الفكر والاستقلال؛ وبالتالي فإنها تهتم بالكليات العليا، وتهمل الكلية الدنيا، وتتركها لعلمائها. فإذا ما قرَّرت الحكومة استبعاد بعض النظريات، فإنها تطالب الكليات المختصة بالقيام بهذه المهمة، وحذفها وإسقاطها من الحساب؛ لأن عقود الأساتذة مع الجامعة تنص على ذلك. وأي حكومة من هذا النوع تعمل بالنظريات، وتتعهد بتقدُّم العلوم وازدهارها، ويكون على رأسها الحاكم العالم، أو الملك الفيلسوف — كما يقول أفلاطون — تفقد الاحترام الواجب لها، بسبب هذا التعالم والتدخُّل فيما لا تعرف. والحكومة في نهاية الأمر أسمى من أن تهبط إلى مستوى العلماء أو العامة، وأن تتناول من معارفهم. وهذا هو السبب في وجود الكلية الدنيا مستقلة عن الحكومة في نظمها ونظرياتها، ولها الحرية التامة في إصدار أحكامها على النظريات، من وجهة النظر العلمية، أي طبقًا للحقيقة وحرية التعبير عنها صراحة، فبدون الحرية لا تظهر الحقيقة لأن العقل بطبيعته لا يقبل شيئًا على أنه حق، إن لم يثبت له بالدليل القاطع أنه كذلك، وهو الدرس المستفاد في بداية العصور الحديثة، من ديكارت، فإذا كانت هذه الكلية مع ذلك تُسمَّى الكلية الدنيا، فإن السبب يرجع إلى طبيعة الإنسان، لأن مَن يعطي الأوامر يتصور أنه أعلى. والحقيقة أن القادر على الحكم المستقل هو الجدير بهذه التسمية.

ثم يتحدث كانط عن وضع الكليات بادئًا بوضع الكليات العليا وأقسامها. فلما كان كل معهد يقوم على فكرة، أو مبدأ عقلي، أو تصوُّر مسبق، بالإضافة إلى مجموعة من التجارب، على ما هو معروف من فلسفة كانط في «نقد العقل الخالص»، وليس مجرد وليد الصدفة، فإن أهداف أي حكومة طبقًا للعقل (أي موضوعيًّا) بالنسبة للجامعات، ثلاثة: الأول تحقيق الخير الأبدي لكل فرد، والثاني تحقيق الخير الاجتماعي لكل فرد باعتباره عضوًا في مجتمع، والثالث تحقيق الخير البدني أي حياة أطول وصحة أوفر. ويمكن أن يكون لتوجيه الحكومة وطرقها لتحقيق الهدفين الأولين أبلغ الأثر في تعويد الشعب على طاعة قوانين الدولة والالتزام بنظامها. ويكون أثرها بتحقيق الهدف الثالث في تكوين شعب من الأصحاء تستخدمه الدولة لتحقيق أغراضها الخاصة. وطبقًا للعقل هناك إذن ثلاث كليات؛ كلية اللاهوت، وكلية الحقوق، وكلية الطب. ولكن طبقًا للغريزة الطبيعية تأتي كلية الطب أولًا؛ لأن الطبيب أهم للإنسان من اللاهوتي؛ فهو الذي يحافظ على حياته، ثم يأتي القانوني، ليحافظ على ممتلكاته، وأخيرًا يأتي اللاهوتي ليعلِّمه الحياة الأبدية ويعده بالسعادة في المستقبل، كما خفَّف آلامه في الدنيا، وكأن كانط يريد أن يقول هنا: إن اللاهوت «أفيون الشعب»، كما قال قبل ذلك في محاضراته في «التربية» عام «١٧٦٦–١٧٧٧م»: إن الدين «أفيون الشعور»؛ لأنه يخلق في الإنسان اطمئنانًا ورضًا ومسرَّة. وفي كلا النظامين نظام العقل ونظام الغريزة الطبيعية، تبقى كلية الحقوق كما هي في الوسط. ولكن يختلف الأمر بالنسبة لكلية الفلسفة وكلية اللاهوت، حيث يبدو الصراع بينهما وكأنهما طرفان متقابلان تمام التقابل، فيعطي نظامُ العقل كلية الفلسفة الأولوية، بينما يعطي نظام الغريزة كلية اللاهوت الأولوية. ويبدو أن هذا التقسيم الثلاثي يتفق أيضًا مع القسمة الثلاثية للعقل النظري عند كانط؛ فكلية الطب مثل الحساسية الترنسندنتالية، وكلية الحقوق مثل الذهن، وكلية اللاهوت مثل العقل. وقد يتفق أيضًا مع قسمة أفلاطون الشهيرة للقوى الإنسانية؛ القوة الشهوية التي تمثل كلية الطب، والقوة الغضبية التي تمثل كلية الحقوق، والقوة العاقلة التي تمثل كلية اللاهوت. وتكون الكليات العليا تحت توجيه الدولة كتابة من خلال التشريعات، في حين أن الكلية الدنيا تخضع لمبادئ علمية عامة وشاملة ودائمة. وقد يكون لهذه الكليات العليا قواعد وقوانين لا تتفق مع العقل، بل تهدف أساسًا إلى طاعة الدولة؛ لأن القانون قد يُستنبط من العقل، فيتفق معه، وقد يكون في تعارُض معه معبِّرًا عن مشرِّع خارجي وهو الدولة. وتكون القوانين التي تسنُّها الدولة وتشرِّعها ملزمة، في حين أن القوانين المستنبطة من العقل، لا تكون ملزمة؛ لأنه ليس وراءها سلطة لتنفيذها. كذلك لا يستمدُّ لاهوتيُّ الكتاب المقدس لاهوته من العقل، بل من الكتاب، كما لا يستمد القانوني قانونه من القانون الطبيعي (وهو ما يعادل العقل النظري)، بل من القانون المدني. كذلك لا يستمد الطبيب علاجه من علم الفيزيولوجيا بل من قواعد الطب المتعارف عليها. فإذا ما قامت إحدى هذه الكليات الثلاث العليا لتعتمد على العقل، فإنها بذلك توجه إهانة بالغة إلى السلطة، وتنتزع منها حق الطاعة؛ ومن ثم فإن واجب الكليات العليا ألَّا تدخل في حلف مع الكلية الدنيا، بل عليها أن تنظر إليها بحذر؛ لكي تظل لوائحها وقوانينها ودساتيرها قائمة لخدمة الدولة أي لخدمة النظام القائم!

ثم يبين كانط الصفة الخاصة المميزة لكل كلية من الكليات العليا الثلاث؛ ففي كلية اللاهوت يبرهن اللاهوتي على وجود الله؛ فقد عبر الله عن نفسه في الكتاب، كما أن الكتاب يتحدث عن طبيعة الله، وبطريقة تصل إلى معارضتها للعقل، كما هو الحال في الحديث عن الثالوث. أما إثبات أن الله قد تكلَّم من خلال الكتاب، فهذا ما لا يستطيع اللاهوتي برهنته، لأن ذلك مجاله التاريخ، أو تصل إلى إمكانيات العقل الخالصة، وهو ما يخص كلية الفلسفة. وكأن كانط يشير هنا إلى أن اللاهوتي واقع في الدور المنطقي لا محالة، إذ ما أراد البرهنة على وجود الله من خلال الكتاب، والبرهنة على المصدر الإلهي للكتاب الذي يتطلب الإيمان بالله مسبقًا، وأنه لا مخلِّص لِلاهوتي من هذا الدور إلا الفيلسوف الذي يقطع هذه الدائرة، ويبرهن له إمكانية الوحي. ليس أمام اللاهوتي دون مساعدة الفيلسوف إلا أن يؤسس المصدر الإلهي للكتاب على الإيمان، على أساسٍ من عاطفة الألوهية. ولسوء الحظ لا يستطيع العالم أن يتساءل أمام العامة عن أصل هذه العاطفة، لأن العامة لا تهتم بالعلم، بل تريد الإغراق في الأحلام والتمنيات، ويبدو أن كانط هنا يشارك علماء أصول الدين في تراثنا القديم الذين منعوا العامة من الدخول في علم الكلام، وكما بين الغزالي في كتابه المشهور «إلجام العوام عن علم الكلام». وهو حديث الصوفية والفلاسفة نفسه، في تفرقتهم بين الخاصة والعامة، مما يدل على أن التنوير في ألمانيا كان عمل الخاصة، وليس العامة، كما هو الحال في فرنسا. ولا يستطيع اللاهوتي أيضًا أن يفسِّر الكتاب إلا طبقًا للتفسير الحرفي، ولا يستطيع تفسيره بحيث يتفق مع الحقائق الخلقية. وكما أنه لا يوجد مفسِّر إنساني لديه سلطة إلهية، فإن اللاهوتي يجد نفسه مضطرًّا للاعتماد على مصدر من فوق الطبيعة يقود الذهن إلى المعنى الصحيح إن لم يطلب مساعدة الفيلسوف القادر على أن يبين له اتفاق المعنى مع العقل. أما فيما يتعلق بتطبيق الأوامر الإلهية، فإن اللاهوتي لا يعتمد في ذلك على الإرادة الإنسانية بل على الفضل الإلهي، عن طريق إيمان قلبي خالص بالتوفيق والهداية والعون والتأييد. وهو ما لا يتفق مع العقل والإرادة الإنسانية الحرة؛ لذلك يجد اللاهوتي نفسه وقد قفز إلى أحضان الكنيسة كي ترعاه وتعطيه سلطاتها، وإلَّا تحول كل شيء إلى فوضى خارج الكنيسة. وواضح أن كانط هنا ينقد الموقف السلفي التقليدي الذي يمثِّله المُحدَثون في تراثنا القديم، والذي يعطي الأولوية للنقل على العقل، والفعل الإلهي على الفعل الإنساني، والتشبيه على التنزيه، وقِدَم القرآن على خَلْقه، ويؤسِّس الموقف الاعتزالي الذي كان وراء ظهور فلسفة التنوير، كما يتضح عند لسنج بوجه خاص.

وتتصف كلية الحقوق بأن القانوني فيها يبحث عن قوانين تضمن حقوق الناس كمواطنين في الدولة. ولا يبحث ذلك طبقًا للعقل، بل طبقًا للقانون الرسمي الذي تدخل مخالفته تحت طائلة العقاب. ولا يمكننا مطالبته بالبرهنة على صحة هذه القوانين أو الدفاع عنها ضد اعتراضات العقل، فمن السخف عصيان القوانين التي تعبِّر عن الإرادة الخارجية بدعوى أنها لا تتفق مع العقل لأن احترام الدولة ينتج من أنها لا تترك لكل فرد أن يحكم على هواه بصحة هذه القوانين أو بطلانها، ولكن فقط طبقًا لإرادة المشرِّع، ومع ذلك، فإن وضع كلية الحقوق من الناحية العملية أفضل بكثير من كلية اللاهوت؛ لأن لديها مفسِّرًا مرئيًّا حاضرًا للقانون، وهو الفقيه، أو الأصولي، أو لجنة قضائية، أو المشرِّع نفسه. وليس الأمر كذلك في تفسير الكتاب المقدس الذي لا يعلم معناه إلا الله، ولكن يعيبها أن القانون الإنساني متغير، في حين أن الكتاب المقدس لا يتغير. كما أن شكوى القانوني من غياب قاعدة عامة للسلوك الموحِّد للناس لا يشكو منها اللاهوتي الذي لديه مثل هذه القواعد العامة المتمثلة في الأوامر والنواهي. هذا بالإضافة إلى أن المحامي أو القانوني لا يضمن للمواطن تطبيق القانون ومسئوليته عن ذلك، في حين أن اللاهوتي يضمن ذلك للمتديِّن يوم القيامة، ويعتبر نفسه مسئولًا عن ذلك! وهم مطمئنُّون إلى أن أحدًا لن يعارضهم في مثل هذا التأكيد، بالاعتماد على تجارب الدنيا، فشتَّان بين ما يحدث في الآخرة من يقين، وما يحدث في الدنيا من ظنون. ويبدو أن كانط في تصوره الكليات الثلاث العليا على أنها تهدف إلى طاعة الناس يتفق مع اسبينوزا الذي يجعل ذلك من وظيفة الإيمان. في حين أن العقل عند كانط والفلسفة عند اسبينوزا يدعوان الناس إلى الخروج على الطاعة والرفض والثورة على النظام القائم، بالرغم مما في لغة كانط من حيطةٍ وحذرٍ، ومن استعمال لغة الإثبات، وهو يقصد بها لغة النفي، وهو الدرس الذي تعلَّمه من ديكارت.

وتتصف كلية الطب بأن الطبيب فيها فنان يعتمد في دراسته على الطبيعة، في حين تعتمد كلية الطب على مجموع القوانين المهنية. كما أن الدولة تقيم «اللجنة العليا للصحة» لممارسة الطب طبقًا للقواعد المعروفة، ولكن هذه القواعد لا تأتي من الطبيعة بل من فن الممارسة والعلاج؛ ومن ثم وجب على كلية الطب الاستعانة بكلية الفلسفة لمساعدتها على معرفة قوانين الطب من الطبيعة، وليس من كلية الطب أو اللجان الطبية على الأقل فيما لا ينبغي عمله أو في بعض المبادئ العامة، مثل ضرورة وجود أطباء للعامة (لأن الخاصة لديهم عند كانط نظام للتغذية يعتمد على قوة الإرادة والسيطرة على الانفعالات)، وأنه ليس هناك عنصرٌ تجريبيٌّ يتبع المبدأ، ويتفق معه في كثير من الأحيان. فالمثل الأول يهدف إلى رعاية الحكومة الصالح العام، بينما المثل الثاني يهدف إلى رعاية الأمن العام والاستقرار. وكلاهما يعتمد على «البوليس الطبي» أو الرقابة الطبية! ومع ذلك، فكلية الطب أكثر حرية من الكليتين السابقتين وأقربهما إلى كلية الفلسفة. كما أن الأطباء في تكوينهم لا يعتمدون على كتاب مغلق إلى الأبد، كما هو الحال في كلية اللاهوت، بل على كتاب الطبيعة المنشور دائمًا. ولا يصل الأطباء إلى قانون علمي بالمعنى الدقيق، بل إلى مجرد قواعد وإجراءات، الغرض منها تحقيق النفع العملي، وهو الشفاء. ومعرفتها لا تكون علمًا؛ لأن العلم مجموعة من النظريات، لا يمكن للدولة أن تعاقبها، فتتركها للأطباء.

أما الكلية الدنيا، وهي كلية الفلسفة، فهي الكلية التي لا تخضع نظرياتها إلى إرادة حاكم. وقد يحدث أن تخضع عمليًّا لنظرية ما، ولكن يستحيل اعتبارها حقيقة لأنها مفروضة من الحاكم، ليس فقط موضوعيًّا (أي ما لا ينبغي أن يكون)، بل أيضًا ذاتيًّا (أي ما لا يستطيع أحد إصداره). ومَن يعترف مرة بخطئه فإنه لا يخطئ! ويبدو أن كانط هنا يعيش صراع ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن، فيما يتعلق بكلية الفلسفة، ومحاولة الدولة السيطرة عليها، وصراع كانط ضد الدولة دفاعًا عن استقلالها. فإذا ما أراد أساتذة كلية الفلسفة عرض نظرياتهم على الجمهور، فإنهم لا يعتمدون في ذلك على سلطة خارجية، بل على سلطة العقل وحده. كما أنهم لا يؤمنون بنظرياتهم إلا على نحو عملي من أجل الممارسة، بالرغم من قدرتهم على برهنة صدقها النظري، بينهم وبين أنفسهم؛ فقد وصلوا إلى نظرياتهم بناءً على الفحص الحر، والعقل هو القوة القادرة على ممارسة هذا الفحص الحر.

تعتمد حقائق الفلسفة إذن على العقل وحده، وليس على سلطة الدولة أو الحكومة. وتكون وظيفتها الرقابة على الكليات الثلاث الأخرى، وأن تقدم لها خدمة جليلة؛ لأنها لا تبغي إلا الحقيقة، وهو الشرط الأول للعلم. أما المنفعة التي تقدمها الكليات العليا للدولة، فتأتي في المحل الثاني. ويمكننا أن نترك لكلية اللاهوت هذا الفخر بأنها قد اتخذت كلية الفلسفة خادمة لها، طالما أنها لم تستبعدها، أو تتحكم فيها. إنما المهم أن نعرف هل تسير كلية الفلسفة في المقدمة حاملةً المشعل، أم أن كلية اللاهوت تجرُّها وراءها، فتخفي نورها! ويُضاف إلى هذا التواضع الذي تمثله كلية الفلسفة الحرية في فحص الحقائق، ثم إعطاء نتائج هذا الفحص الكليات العليا، وتوصية الحكومة بها، وبأن الفلسفة ليست موضع رِيَب أو تهمة، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها. وتشمل كلية الفلسفة قسمين: العلوم التاريخية التي تعتمد على التاريخ (مثل: التاريخ، والجغرافيا، واللغة، والعلوم الإنسانية، وكل ما يقدمه علم الطبيعة)، والعلوم العقلية الخالصة التي تعتمد على العقل (مثل: الرياضة، والفلسفة، وميتافيزيقا الطبيعة، والأخلاق). ويدخل ضمنها بحث العلاقة بين القسمين من العلوم، وكل أجزاء المعرفة الإنسانية، من حيث إنها موضوع للبحث والفحص والنقد والتمحيص. تطالب كلية الفلسفة إذن بفحص كل العلوم، ولا يمكن للحكومة منعها من ذلك. ويجب أن تقبل الكليات العليا اعتراضها وشكوكها وتساؤلاتها. ومن المؤسف والمحزن حقًّا أن يسبِّب نقد الفلسفة هزَّ الكليات العليا، وزعزعة استقرارها وأركانها، والنيل من مكاسبها؛ لذلك فمن الطبيعي أن يعارض رجال الكليات العليا نقد الفلسفة؛ لأنهم يمثِّلون جهاز الدولة ونظامها وسلطتها. ويمكن للأساتذة العلماء فقط معارضة نقد الفلسفة لأنهم مثل الفلاسفة، ولكن لا يسمح بذلك لعملاء الدولة أساتذة الكليات المتواطئين مع نظام الدولة والداعمين له على حساب الحقيقة. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك؛ لأنه لو نقد رجالُ القانون القانونَ لَحثُّوا الشعبَ على العصيان والتمرُّد، ولو نقد رجال الدين اللاهوت لَرفض الناس سلطة الكنيسة، ولو نقد الأطباء قواعد الطب لما وثق المرضى في علاجهم. إنما يمكن للأساتذة العلماء وحدهم النقاش في اعتراضات الفلسفة فيما بينهم، باسم العلم والعقل، من أجل الوصول إلى الحقيقة. وكثيرًا ما تسبب هذه المناقشات أن يرجع بعض الأساتذة والطلاب في نهاية الأمر إلى الحقيقة صاغرين؛ فليس هناك أفضل من العقل المستنير، والتسليم بالحق فضيلة.

ويقسم كانط الصراع بين الكليات العليا والكلية الدنيا إلى قسمين؛ صراع غير مشروع، وصراع مشروع. ومن غير المشروع: الصراع العلني بين الآراء والنظريات، سواء أكان صراعًا علميًّا في المضمون (لأن العلم ليس مَطْلبًا للجمهور)، أم في الشكل (لأن النقاش لا يقوم على قواعد موضوعية موجهة إلى عقل الخصم، بل على دوافع شخصية وعواطف وانفعالات، بل وباستعمال الحيل، أو وسائل الترغيب غير المشروعة، مثل: الرشوة، والفساد؛ أو أساليب الإرهاب، مثل: العنف). والخطورة أن يحدث مثل هذا الصراع علنيًّا أمام الشعب؛ مما يسمح للكليات العليا بتملُّق أذواق الجماهير والاعتماد على جهلها. فتحاول كلٌّ منها أن تُقنع الشعب بأنها هي الوحيدة التي تعمل على سعادته. الغاية واحدة، ولكن الأسلوب مختلف، ولما كان الشعب لا يضع هناءه وسعادته في الحرية، بل في غاياته الطبيعية، وهي أن يكون سعيدًا بعد الموت، وأن تكون ممتلكاته في الدنيا محفوظة بالقوانين المدنية من طمع الآخرين فيها، وأن يتمتَّع ببدنه في الحياة بالصحة الوافرة والعمر الطويل، فإن كلية الفلسفة لا تستطيع المشاركة في هذه الأهداف إلا بقدر اعتمادها على العقل، وعلى مبدأ الحرية، وعلى ما يستطيع الإنسان أن يقدِّمه لنفسه بجهده الخاص، وليس بوعود الآخرين: أن يعيش شريفًا، وألَّا يؤذيَ الآخرين، وأن يكون معتدلًا في صحته، صابرًا في مرضه، معتمدًا على تلقائية الطبيعة. ولتحقيق ذلك، فإنه لا يحتاج إلى علوم عميقة، بل عليه فقط أن يضبط انفعالاته، ويتبع العقل، ولكن الشعب لا يهتم بهذا الجهد الفردي؛ لأنه يريد حلولًا أسهل ووعودًا أكبر. فيطالب الكليات العليا أن تقدم له مقترحات أكثر قبولًا نظرًا لأنه يرفض القوانين التي تحدُّ من حريته أو التي تطالبه بالإصلاح والتغيير. ويقول للفلاسفة: كل ذلك أيها العلماء الفلاسفة ثرثرة معروفة منذ زمان طويل، إنما يريد كلٌّ منا أن يعرف ثلاثة أشياء؛ الأول: كيف أنال تذكرة إلى الآخرة، وأنا آثم جاحد؟ والثاني: كيف أكسب القضية وأنا مخطئ؟ والثالث: كيف أكون ذا صحة جيدة وأعيش عمرًا طويلًا، وأن أتمتع بالحياة بطولها وعرضها؟ لقد درستم طويلًا، ولكن المهم هو الحس السليم! يتصوَّر الشعب إذن العلماءَ كأنهم منجِّمون أو سحرة ينتظرون منهم خوارق العادات! فإذا ما استطاع أحد أن يعطي الشعب ما يطلب، فإنه سيحتقر كلية الفلسفة، ويوقن بعجزها عن أن توفر له احتياجاته. ويكون رجال الأعمال من خريجي الكليات العليا سَحَرةً بالفعل إن لم يتركوا الفلاسفة يعملون ضدهم، ليس من أجل قلب نظرياتهم أو دحضها، بل لكشف هذه القدرة السحرية التي يعزوها الشعب لهم. هذا هو الصراع غير المشروع عندما يتعدَّى رجال الكليات الثلاث العليا على القوانين متعمِّدين ذلك، وكفرصة مؤاتية لهم لإظهار مهاراتهم أمام الشعب. إن الشعب يحتاج إلى قيادة، ولكنه يخطئ في تصوُّر قادته عملاء للكليات العليا، وليس علماءها، هؤلاء العملاء الذين يعرفون كيف يدبِّرون حياتهم، وكيف يعيشون Savoir faire، وهم رجال الدين ورجال القضاء والأدباء؛ لذلك تستعملهم الدولة، بعد أن حازوا ثقة الشعب بهم؛ نظرًا للوعود التي يلقونها إليهم لفرض نظرية معينة عليه، لا تتفق مع الحكمة، بل تهدف إلى السيطرة عليه. ففي اللاهوت مثلًا من الأفضل الاعتقاد بحرفية النصوص، دون فحص ما ينبغي اعتقاده بالعقل، وأن الإتيان ببعض الطقوس وإقامة بعض الشعائر يمكن أن يمحو بعض الجرائم المرتكبة. وفي القانون تهدف طاعة القانون حرفيًّا إلى منع المواطن من معرفة قصد الشارع. هذا هو الصراع غير المشروع الذي لا يمكن حسمه بين الكليات العليا والكلية الدنيا لأن المبدأ الذي تقوم عليه الأولى هو مبدأ الحكومة، حتى ولو كان الفوضوية ورغبة كل فرد في اتباع ميوله الخاصة. ولو أرادت الحكومة إيقاع الكليات العليا في صراع مع كلية الفلسفة، فإنه سيؤدي، لا محالة، إلى موت الفلسفة كلية. وهي طريقة بطولية لحل الصراع.
أما الصراع المشروع، فإنه ينشأ من ارتباط النظريات التي تسمح بها الحكومة للكليات العليا، للإعلان عنها بإرادة المشرِّع؛ وبالتالي كانت عرضة للخطأ، وفي الوقت نفسه من مهمة كلية الفلسفة التحقُّق من صدق هذه النظريات. ويحدث صراع مشروع؛ لأن هذه النظريات تعارض العقل، وهو صراع مشروع، ليس فقط من حيث الحق والقانون، ولكن أيضًا من حيث ما ينبغي أن يكون. فإذا كانت هناك بعض النظريات مستمدة من التاريخ، وتوحي بتصديقها، فإن من واجبات كلية الفلسفة فحصها. فإذا اتفقت مع العقل تمَّ قبولها، أما إذا كانت معتمدة على الحس أو العاطفة، فإن من حق كلية الفلسفة إعلان ذلك، بعد فحصها بالعقل الهادئ، وتحويل العاطفة إلى تصوُّر، دون أن ينال ذلك من قدسيتها. ويضع كانط أربعة مبادئ صورية لإدارة مثل هذا الصراع المشروع وهي:
  • (١)

    لا يمكن حل هذا الصراع باتفاق ودي، بل يتطلَّب إصدار حكم، أي قرار له قوة القانون الذي يصدره القاضي، وهو العقل. وهنا يرفض كانط أيَّ مساومة بين العقل وما سواه، أو استعمال العقل في وظيفة التبرير، خادمًا لشيء آخر، كما هو الحال في اللاهوت.

  • (٢)

    لا يمكن إنهاء الصراع مرة واحدة وإلى الأبد لأنه سيكون هناك دائمًا نظريات تعرضها الحكومة، وتدافع عنها الكليات العليا وفي حاجة إلى بحث وتحقيق وتمحيص. إن كلية الفلسفة تدافع عن بقاء هذا الصراع طالما أن هناك عقلًا بشريًّا في مواجهة نظام وضعي متمثل في السلطة السياسية ووكلائها من رجال الدين، ورجال القضاء، ورجال الأعمال.

  • (٣)

    لا يمكن أن يتضمَّن هذا الصراع أي إدانة للحكومة، أو اتهامها بالخطأ، فالصراع بين الكليات ليس صراعًا مع الحكومة، ولكنه صراع بين كلية وباقي الكليات التي تستخدمها الحكومة بوقًا لها. وهو نقاش يدور بين جماعة العلماء، وليس بين الجماعة السياسية. ولا شأن للحكومة بالخلاف بين العلماء. إن الكليات العليا تمثل اليمين في البرلمان، وكلية الفلسفة تمثل اليسار. الأولى تدافع عن الحكومة، والثانية تفحص بحرية وبموضوعية. ولا يجب أن تتدخل الحكومة في هذا الصراع وإلا نصرت الكليات العليا ضد كلية الفلسفة، والتي ما زالت الحكومة تعتبرها بدعة. وهنا تبدو جرأة كانط في اعتبار المعارضة الفكرية يسارًا والموافقة يمينًا. ويبدو كأحد المناضلين الكبار، دفاعًا عن حرية الفكر ضد الوضع القائم.

  • (٤)

    يدور هذا الصراع إذا كان هناك اتفاق بين جماعة العلماء وجماعة المواطنين فيما يتعلق بالقواعد التي يمكن مراعاتها لصالح التقدم الدائم والمستمر للكليات بنوعيها، نحو كمال أعظم، لاغية بذلك كل الحدود والقيود على حرية الفكر والرأي والتعبير التي تضعها الحكومة. وعلى هذا النحو تصبح الكليات العليا هي الدنيا والكلية الدنيا هي العليا. ولا يحدث هذا التحوُّل بالحصول على سلطة، أو بتغيير الحكومة حلفاءها وعملاءها، ولكن عن طريق إسداء النصح لمن بيدهم السلطة، حتى تجد السلطة في هذه الفكرة أنجح وسيلة لتحقيق غاياتها دون الاعتماد على السلطان.

إن هذا الصراع بين الكليات يهدف أساسًا إلى تحقيق غايات قصوى للبشرية وأهداف سامية للإنسانية، وليس حربًا أو نزاعًا تتباين فيه المقاصد، وخلافًا بين ما للأنا وما للآخر من حقٍّ وعلم. إن الحرية فوق كل شيء، والحرية فوق الملكية. ومهمة كلية الفلسفة هي توعية الشعب بحقوقه وخلق مجتمع مستنير.

وبعد هذه المبادئ العامة يعطي كانط نماذجَ عمليةً لمواطن هذا الصراع وموضوعاته، وطرق حله، بعد أن بين موقع هذا الصراع بين الحكومة والشعب. فموضوع الصراع الأول هو تفسير الكتاب: هل النقل أساس العقل أم أن العقل أساس النقل، كما يقول المسلمون القدماء؟ يدافع عن الموقف الأول اللاهوتيُّ الكتابيُّ، وهو العالِم فيما يتعلَّق بإيمان الكنيسة الذي يقوم على قواعد أي قوانين مستنبطة من إرادة شخص آخر. ويدافع عن الموقف الثاني اللاهوتيُّ العقليُّ وهو العالِم بالعقل فيما يتعلَّق بالإيمان الديني الذي يقوم على قوانين باطنية، يمكن استنباطها من عقل أي إنسان. ولا يمكن أن يتأسَّس الدين على مجرد أوامرَ ونواهيَ وطقوس، كما أنه ليس عقائد يُقال إنها وحي من عند الله، بل يشمل مجموع واجباتنا بوجه عام، باعتبارها أوامر إلهية. فالدين على هذا النحو لا يختلف عن الأخلاق في مادته، أي في موضوعه لأنه يتعلق بالواجبات، ولكنه يختلف فقط في الصورة. أي في تشريع العقل المستنبط من فكرة الله، باعتباره فكرةً خُلُقية من أجل التأثير على الإرادة الإنسانية للقيام بالواجبات. وبهذا المعنى ليس هناك دياناتٌ متعددة بل طرقٌ متعددة للإيمان بالوحي الإلهي وبالعقائد الرسمية التي لا تأتي من العقل، أي صورة مختلفة وتمثلات حسية للإرادة الإلهية. فالمسيحية دين بهذا المعنى. وهي في الكتاب. وتتكوَّن من جزءين مختلفين: قواعد الإيمان canon، وآلة الإيمان organon الأول هو الإيمان الديني الخالص القائم على العقل دون قواعد، والثاني هو الإيمان الكَنَسِي الذي يقوم على القواعد، ويتطلَّب الوحي. يقول اللاهوتي الكتابي: ابحثوا في الكتاب تجدوا سعادتكم، وكأن سعادة الإنسان تكمن في نصٍّ مكتوب. إن المبادئ والتصوُّرات لا تؤخذ من كتابٍ حسيٍّ تاريخي، قد يتفق مع الإيمان الديني، وقد يختلف. وتصر كلية اللاهوت الكتابي على الكتاب، وكأن الإيمان بهذه الأشياء جزء من الدين. وهنا تأتى كلية الفلسفة وتدخل في الصراع من أجل إيضاح هذا الخَلْط. وما يُقال عن منهج التفسير يُقال أيضًا عن تعاليم الحواريين المرتبطة بعصر وزمان معينين، سواء سلبيًّا عن طريق التسليم ببعض الآراء الخاطئة في عصرها لكيلا تصطدم بعقائد الناس الشائعة مثل التسليم بوجود الأرواح الشريرة؛ أم إيجابيًّا مثل إيثار شعبٍ معين، والانتقال من الإيمان القديم إلى الإيمان الجديد. خلاصة الأمر: إن علم التفسير هو أحد موضوعات الصراع بين كلية اللاهوت وكلية الفلسفة. تتهم الأولى الثانية باستبعاد العقائد المُوحَى بها أو تأويلها، بحيث تتفق مع العقل، وتتهم الثانية الأولى بإهمال الدين الباطني الخلقي الذي يقوم على العقل. إن كلية الفلسفة تهدف إلى الحقيقة؛ وبالتالي تضطر إلى تأويل النصوص. ولا يعني ذلك أن التفسير يكون فلسفيًّا فقط، بل تكون مبادئ التفسير فقط هي كذلك؛ لأن مناهج التفسير التاريخية أو اللغوية في كل الأحوال تعتمد على مبادئ يمليها العقل.
ويطرح كانط أربعة مبادئ فلسفية لتفسير الكتاب، من أجل حل الصراع بين كلية اللاهوت وكلية الفلسفة في موضوع التفسير، وهي:
  • (١)

    إن آيات الكتاب التي تحتوي على بعض العقائد النظرية والمُسلَّم بها على أنها مقدسة، ولكنها تتجاوز حدود العقل، يمكن تفسيرها بالعقل. أما تلك التي تتضمَّن قضايا ضد العقل العملي، فإنه يجب تأويلها، وهو ما قاله علماء أصول الفقه من قبل، وهو أن الخبر المتواتر يعطي اليقين، نظرًا وعملًا، في حين أن خبر الواحد يكون ظنيًّا في النظر، ولكن يقينيًّا في العمل. ويضرب كانط على هذا المبدأ مثلين؛ الأول: عقيدة التثليث؛ فهي من الناحية الحرفية لا شأن لها بالحياة العملية، على عكس أوغسطين الذي يرى أن التثليث كائن في كل خَلْجَة من خلجات النفس الإنسانية، وفي كل مظهر من مظاهر الطبيعة. فالتثليث النظري لا يهمُّ عند كانط، إنما المهم هو آثاره في الأخلاق العملية. وكذلك عقيدة التجسُّد التي تجمع بين الله والإنسان وتضعهما معًا في التاريخ؛ إذ ليس من أثر لهذه الحقيقة في الحياة العملية. فسواء أكانت المادة روحًا أم كانت الروحُ مادة، فلا أثر لذلك في الحياة العملية، على عكس ما قاله أوغسطين في آثار ذلك على الأخلاق والعيش روحيًّا في العالم المادي أو ماديًّا في العالم الروحي. ويهاجم كانط ما قاله الحواري بولس من أنه إذا لم يُبْعث المسيح فإن بعثنا يكون على غير أساس لأنه أقام حقيقة عملية خلقية على ظن نظري وهو واقعة بعث المسيح. وكذلك يُقال الشيء نفسه في العشاء الرباني، فسواء أحدث تاريخيًّا أم لم يحدث، فإنه يعني الوداع، وداع المعلم التلاميذ. والموت والجرح على الصليب لا يهم، إذا كان قد حدث تاريخيًّا أو لم يحدث، فذلك يعني فشل المشروع. ولماذا الدخول في مناقشات حول صحة الروايات التاريخية مع أن العقل يكفينا، بإعطائنا اليقين العملي؟ وهنا يبدو أن كانط كان مؤسس هذا النقد الخلقي والفلسفي والروحي للكتاب المقدس، والذي سارت فيه البروتستانتية الخلقية، والكاثوليكية فيما بعد، دون أن يعطيَ اهتمامًا، كما فعل اسبينوزا من قبل، لنقد النصوص اعتمادًا على العقل. ويضرب كانط مثلًا ثانيًا بآيات الكتاب التي تعارض تصورنا العقلاني لله ولإرادته؛ فقد اتفق اللاهوتيون على ضرورة فهم التشبيه بما يتفق ومقتضيات التنزيه، فالعقل هو المفسِّر الأعظم. كما أن عقيدة بولس في القضاء المسبق تمثِّل رأيه الخاص الذي لا يتفق مع العقل لأنه ضد الحرية واختيار الأفعال والمسئولية والأخلاق.

  • (٢)

    إن الإيمان بالعقائد النصية التي يوحى بها يكون إيمانًا صحيحًا إذا عرفنا أنها لا تحتوي على أية قيمة نظرية في ذاتها، وأن غيابها أو الشك فيها ليس عيبًا ولا نقصًا لأن الدين هو ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل. والعمل هو الذي يهم، وليس النظر. ويكون مقياس صحة العقائد النصية، هو مدى اتفاقها أو اختلافها مع العمل. ليست العقيدة هي الإيمان بل العمل؛ إذ إن الإيمان النظري لا يمكن البرهنة عليه مثل العماد، في حين أن الإيمان العملي ظاهر للعيان في سلوك الأفراد. إن العقائد تهمُّ الكنيسة وحدها ونظامها وسلطتها؛ فهي تعيش عليها وتتعيَّش منها، ولكنها لا تهمُّ الإيمان الباطني واليقين الخلقي. ويبدو أن كانط ينزع هنا نزعة صوفية خالصة، تحيل الدين إلى مجرد أخلاق عملية، هروبًا من العقائد النظرية الظنية.

  • (٣)

    إن العمل يكون نتيجة لاستعمال الإنسان الخاص قواه الخلقية، وليس نتيجة علة فاعلة خارجية علوية، يقف الإنسان أمامها موقفًا سلبيًّا عاجزًا؛ لذلك يجب تأويل النصوص التي توحي بهذه العلة، بحيث تتفق مع المبدأ الأول. ويبدو كانط هنا مدافعًا عن حرية الاختيار ضد الجبر في الأفعال، مبرزًا إرادة الإنسان ومسئوليته الخلقية، في مقابل وضعه السلبي في اللاهوت، بين خطيئة آدم وخلاص المسيح، فلا هو يتحمَّل وِزْر آدم الذي تاب الله عليه، ولا هو خلَّص نفسه بنفسه.

  • (٤)

    عندما لا يكفي السلوك الشخصي لتبرير الإنسان أمام ضميره، يُسمَح للعقل بأن يعترف بحدوده، وبأنه في حاجة إلى شيء مكمِّل يأتيه من فوق الطبيعة، لإكمال نقصه؛ وبالتالي يجب تفسير النصوص الخاصة بذلك، والمتعلقة بشعب معين على هذا الأساس. ويبدو أن كانط هنا يُشير إلى عقيدة الاختيار في العقائد اليهودية، ويحاول تفسيرها، بحيث تتفق مع مبادئ العقل، وهو طلب العون بقرار من العقل، ولكن حتى هذا التفسير لا يبدو متفقًا مع فلسفة كانط العقلية الصارمة لأنه يعترف بإمكانية عجز العقل، وبأن له حدودًا، وبأن وراءه قوةٌ أخرى قادرة على تجاوز هذه الحدود، وهو الموقف اللاهوتي التقليدي الذي يرفضه كانط. فإذا كانت المبادئ الثلاثة الأولى تمثل خطوات إلى الأمام، فإن هذا المبدأ الرابع يمثل خطوة إلى الخلف، بالنسبة لفلسفة كانط، وإن كانت تمثل خطوة إلى الأمام بالنسبة لفهم عقيدة الاختيار في اليهودية. فإذا ما اعترض اللاهوتي الكتابي على هذه المبادئ الأربعة قائلًا بأنها تشير إلى دين الطبيعة، وليس إلى المسيحية، أمكن الرد عليه بسهولة بأن المسيحية هي دين الطبيعة والعقل، كما لاحظ لسنج من قبل، حتى ولو كان مصدرها من خارج الطبيعة.

ونظرًا لأهمية الاعتراضات التي يمكن أن توجَّه لمبادئ كانط الفلسفية في التفسير لحل موضوع الصراع، فإنه يورد نوعين من الاعتراضات؛ اعتراض اللاهوتي النصي الكتابي، واعتراض العقل ضد نفسه وضد التفسير العقلي للكتاب. يوجه اللاهوتي الكتابي اعتراضين؛ الأول: أن هذه أحكام كلية الفلسفة التي لا يجب أن تدخل في ميدان اللاهوت النصي. ويمكن الرد على ذلك بأن إيمان الكنيسة في حاجة إلى علم تاريخي، أما الإيمان الديني الباطني فإنه يحتاج إلى العقل وحده. فتفسير الأول كحامل للثاني يتمُّ بمقتضى العقل. فيكون الأول وسيلة، والثاني غاية، وليس هناك مَن هو أعلى من العقل بشأن الخلاف حول الحقيقة. لا خطر إذن على اللاهوت من الفلسفة، بل إنه لَشرفٌ له حل الخلافات بين اللاهوتيين النصيين. وعلى أي حال، في الوقت الذي يتوقَّف فيه اللاهوت عن استخدام الفلسفة تتوقَّف الفلسفة عن التدخُّل في اللاهوت؛ والاعتراض الثاني: أن هذه المبادئ الفلسفية العامة في التفسير مجرد تفسيرات رمزية صوفية، وليست نصية أو فلسفية. وهذا غير صحيح في رأي كانط لأن التفسير النصي هو التفسير الرمزي الذي يأخذ العهد القديم باعتباره مجرد حكاية رمزية AIIégorie. أما التفسير الخلقي، فإنه يستبعد التفسير الصوفي لأن الأحلام والرؤى تأتي من خارج الطبيعة، في حين أن الأخلاق تعتمد على العقل، أي على الطبيعة.
أما النوع الثاني من الاعتراضات التي يوجِّهها العقل ضد نفسه في محاولته تفسير الكتاب تفسيرًا عقليًّا، فإن كانط يذكر منها أربعة، وهي:
  • (١)

    إن الوحي يُفسَّر بذاته، وليس بالعقل، لأن أساس هذه المعرفة ليس عقليًّا. ويرد كانط على هذا الاعتراض بأنه لذلك السبب بعينه لا بد من استعمال العقل؛ لأن الوحي لا يتأسَّس في التاريخ أو في التجربة بل في العقل.

  • (٢)

    لما كان النظر يسبق العمل، وكان الوحي متضمنًا الإرادة الإلهية، فإن البداية بالعقل، أي النظر في موضوع الإرادة أي العمل خطأ وشك في الإرادة. وفي رأي كانط إن هذا الاعتراض صحيح فيما يتعلق بإيمان الكنيسة ولكن ليس فيما يتعلق بالإيمان الديني الذي يقوم على الاعتقاد بالحقيقة.

  • (٣)

    كيف يمكن أن يُقال للميت: «قُم وسِرْ» إن لم يصاحب هذا القول، إذا تحقق، قوة خارقة للعادة، لا شأن للعقل بها؟ ويرى كانط أن هذا النداء موجه أيضًا للعقل. ويشير إلى المبدأ الترنسندنتالي للحياة الخلقية، أي إمكانية الحياة الخلقية بفعل الإرادة. ويبدو أن كانط هنا يستعمل مصطلحه الشهير لتبرير وقوع المعجزات.

  • (٤)

    إن الإيمان بوسيلة مجهولة يتعلَّق بها مصيرنا يقوم على علةٍ نعترف بها مجانًا، إشباعًا لحاجة نشعر بها، ولا دخل للعقل في ذلك. ويعترف كانط بصحة ذلك، ولكن من الأفضل تأسيسه على فكرة قَبْلية على الأقل من الناحية العملية.

ويعود كانط من جديد إلى موضوع وَحْدة الدين وتعدُّد الفِرَق والمذاهب والنِّحَل والملل. ليس هناك إلا دين واحد، أما الفِرَق فتنشأ من إيمان الكنيسة، وتقوم على التراث والكتاب. ولا يهم الإحصاء التاريخي للفرق، مثل: اليهودية، والمسيانية، والمسيحية الشعبية، والمسيحية الخاصة، بل قسمتها قَبْليًّا. ويكون مبدأ القسمة حينئذٍ إما الدين وإما الخرافة أو الوثنية. وهو مبدأ عقلي مثل «ألف» تعارض «لا ألف». والذين يعتقدون بالمبدأ الأول هم المؤمنون، والذين يعتقدون بالمبدأ الثاني هم الكافرون. الإيمان هو وضع الأخلاق والتقوى في الدين، والكفر إخراجهما منه لأنه لا يعترف بوجود كائن ترنسندنتالي خلقي، أي لا يعترف بالأخلاق ذاتها. كل إيمان مرتبط إذن قَبْليًّا بالأخلاق، وهو الإيمان الباطني، وإن لم يرتبط، فإنه يكون الإيمان كما تصفه الكنيسة؛ وبالتالي يكون وصف الكنيسة بأنها شاملة تناقضًا لأن الشمول يتضمن الضرورة، وهما صفتان للعقل؛ وبالتالي صفتان للإيمان الباطني. إن كل إيمان كَنَسي يطرح عقائد منظمة على أنها عقائد دينية، يحتوي على قَدْر من الوثنية، أي وضع العَرَضي في الجوهري. والذين يقومون على هذا الإيمان هم رجال الدين. وربما تحوَّل إيمان البروتستانت أيضًا إلى هذا الإيمان. وهنا يبدو كانط مصلحًا للبروتستانتية أيضًا محذِّرًا إياها من الوقوع في الإيمان العقائدي، بعد أن كانوا مؤسسي الإيمان الباطني. تنشأ الفرق الدينية أو الطائفية من سلطة الإيمان الكنسي على الإيمان الباطني، فيتفرَّق الناس شيعًا ومذاهب، ويتركون الإيمان الباطني الذي يقوم على العقل والضمير. وتكون النتيجة الفتنة والفرقة والتمرد والعصيان، ليس ضد المضمون بل ضد الشكل. وكلما قوي التسلُّط كثر التعدُّد والتفرق، فتنشأ فرق أخرى علنية أو سرية مع الدولة أو ضدها، أو تظهر وسائط أبعد ما تكون عن الدين ومصلحة المجتمع، مثل مشايخ الطرق والأنبياء الكَذَبة؛ ومن ثم الابتعاد عن الأخلاق، والدين الباطني. الفِرَق هي السبب في وجود ديانات متعددة في الدولة، كما أن الإيمان الكنسي هو السبب في وجود هذه الفرق. وترك هذه الفرق والديانات للشعب دليل على حرية الضمير والاختيار الحر. وهذا ثناء على الحكومة التي تسمح للشعب بمثل هذه الحرية وهذا الاختيار، ولكن ذلك مضرٌّ بالدين؛ لأنه خالٍ من الوحدة والشمول. ولماذا يكون هناك خلافٌ على الوسائل دون الاتفاق على الغاية، وخلاف على الصورة دون الاتفاق على المضمون؟ إن وحدة الدين ممكنةٌ إذا أخذنا في الاعتبار الغاية والجوهر والمضمون بين الطوائف والفرق الدينية المختلفة، وتركنا الوسيلة والصورة والعَرَض. ويمكن لليهود أيضًا أن يجدوا وحدة الدين لو تركوا كل أشكال الدين السحري القديم، تركوا «الملابس بلا إنسان»، وأخذوا «الإنسان بلا ملابس»، أي تركوا «الكنيسة بلا دين»، وأخذوا «الدين بلا كنيسة». بل يستطيع اليهودي أن يؤمن بالمسيحية، ويؤوِّل التوراة والإنجيل، ويفرِّق بين المسيح اليهودي وهو يخاطب اليهود والمسيح الذي يخاطب البشر جميعًا، كمعلِّم للأخلاق. ويبدو كانط هنا مبشِّرًا بالمسيحية الخُلُقية لدى الطوائف الأخرى، وفي مقدمتهم الطائفة اليهودية.

وتأييدًا لهذا التصوُّر وهو «وحدة الدين باعتباره غاية في قلب كل إنسان»، يصوغ كانط القضية من جديد في صورة عرض المشكلة، وإيراد الحل، ثم ذكر البرهان من داخل البروتستانتية وحدها، وبوجه خاص مذهب التقوى أو القنوط الذي نشأ فيه كانط. فالمشكلة التي وضعها شبنر Spener (١٦٣٥–١٧٠٥م) هي أن الوعظ الديني يجب أن يحوِّلنا إلى آخرين، وليس فقط إلى ذوات أفضل. وقد عارضت الأرثوذكسية هذا الرأي بالرغم من أنه يعبِّر عن مشكلة قائمة بالفعل، أي قدرة الإيمان الباطني على أن يحوِّلنا إلى الآخر، وليس فقط على تحسين الذات. وهناك حل صوفي لهذه المشكلة يأتي من خارج الطبيعة الحسية. ثم يظهر في العاطفة الإنسانية بطريقين؛ عصر القلب، أو كما يقول صوفيتنا القدماء «القَبْض»، أو انفراج القلب، أو «البَسْط». الأول للتخلُّص من الشر والثاني للتمتع بالخير؛ لذلك ظهرت في البروتستانتية فرقتان؛ «مذهب التقوى» عند شبنر وفرانكه Franke (١٦٣٣–١٧٢٧م)؛ و«المورافية» عند زنزندورف Zinzendorf (١٧٠٠–١٧٦٠م). يرى الأول أن التمييز بين الخير والشر والخلاص من الشر يتمُّ بقوةٍ تأتي من خارج الطبيعة، وأن التحوُّل من الشر إلى الخير يتم بمعجزةٍ تحدث في الصلاة الحية، أو في انفعالات الحزن والخوف، كما كان الحال عند هامان (أشهر ساحر في شمال ألمانيا). ويرى الثاني أن الخلاص من الشر يتم عن طريق وعي الإنسان بخطئه، واتجاهه نحو الكمال، ومعرفة ذلك بالعقل. وتكون وظيفة القانون الخلقي في هذه الحالة أن يعكس له نقصه، ويؤهِّله للخير. فإذا ما تحقق ذلك تكون المعجزة قد تحقَّقت. وكلا المذهبين اتجاه صوفي فردي روحي يعتمد على الشروط الذاتية والفضل الإلهي؛ الأول في صراعه الرهيب مع الشر، والثاني باستلهامه روح الخير. أما كانط فإنه يقوم في النهاية بعرض برهانه الذي يقوم على استبعاد كل ما يأتي من خارج الطبيعة، وكأنَّ ما يأتي من التجربة والعاطفة والأحلام، لأن فكرة الله لا توجد إلا في العقل. إنما البرهان الوحيد هو الإنسان، ممثل الإنسانية، الجدير بعدم الشك في إنسانيته، ووعيه بأنه خاضع للقوانين الخلقية المؤسسة في العقل لأن طاعة هذه القوانين مطابقة للنظام الطبيعي وللعقل الخالص. فالبرهان هو ما ينبغي أن يكون، وليس ما يأتي من خارج الطبيعة الحسية، هو الاستعداد الخلقي الداخلي للإنسان والذي لا يفصله عن إنسانيته، ويكون موطن الإعجاب فيه. وعلى هذا النحو يتجاوز كانط العيبين الرئيسين: الأرثوذكسية بلا روح، والتصوُّف القاتل. إنما البرهان الوحيد هو الإيمان الذي يقوم على النقد والعقل العملي، وهو القارُّ في قلوب البشر، والدافع لهم نحو الكمال، والمنظم للكنيسة الشاملة غير المرئية. وليس من خطورةٍ في استعمال الحكومة لمثل هذا الإيمان، كما تفعل مع الإيمان الكَنَسي لأن الإيمان الباطني لا يتحوَّل إلى إيمان كنسي بل مجرد حالة فردية لا يمكن للحكومة أن تضعَ يدها عليها، وتفتش في ضمائر الناس.
ويختتم كانط الجزء الأول من كتابه لبيان كيفية حل الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت حتى يعود السلام والوئام بينهما عن طريق تقسيم العمل. ففيما يتعلق بمسائل العقل العملي النظري تكون مهمة كلية الفلسفة الشكل، ومهمة كلية اللاهوت المضمون أو المادة. ليست مهمة كلية اللاهوت الإيمان العقلي الذي يمكن معرفته قَبْليًّا، ولكن الأحكام القانونية المستمدة من كتاب أو طبقًا لميثاق قديم أو جديد بين الله والإنسان. وذلك عمل فقهاء القانون، وليس عمل عقل العلمانيين. الإيمان النقلي إيمان مشياني Messianic (مخلصي) تاريخي، مؤسس في كتاب على الميثاق بين الله وإبراهيم، إيمان بكنيسة ميشيانية، أو موسوية، أو إنجليلية، ابتداءً من تاريخ الكون في سفر التكوين حتى نهاية العالم، كما تعرضه رؤيا يوحنا، ولكن نظرًا لوجود اضطراب زماني في الكتاب يحدث شك في الصحة التاريخية للنصوص. فالكتاب يعبر عن إرادة إلهية كما تصفها أحكام الشريعة؛ وبالتالي يكون أسرع وسيلة لإعطاء الإنسان السعادة، بشرط صحة النصوص، ولكن أمام ذلك عدة صعوبات، فمثلًا: إذا كان الله قد تحدث في الكتاب، كيف يتحقق الإنسان من أن الذي تحدَّث في الكتاب هو الله، بالرغم من عدم وجود برهان حسيٍّ على ذلك؟ إن الإنسان على يقين أنه إذا ما عارضت أحكامُ الكتاب قوانينَ الأخلاق فإن ما يُقال عنه إنه حديث من عند الله يكون حديثًا مزيفًا ليس من عند الله. شرعية الكتاب لا تأتي إذن من تعاليم فقهاء الشريعة بل من اتفاقه مع الأخلاق. إن وظيفة دين الكتاب هي السيطرة على الشعب، كما تفعل الحكومة تمامًا؛ وبالتالي تكون إقامة الأخلاق على الكتاب دافعًا على الشك فيها، ولكن الكتاب نفسه يحتوي على برهان الألوهية أي الخلقية، نظرًا للأثر الطيب الذي يحدثه في حياة الناس. أما الحقيقة النظرية، فإنها تتأسَّس على المعرفة التاريخية. وعلى هذا لا بد من أخذ الكتاب، وكأنه وحي من عند الله. ولا بد أن يقول لنا المفسِّر: هل حكمه على الكتاب حكم صحيح أم حكم عقائدي؟ الحكم الأول لا بد أن يكون متفقًا مع النص، أما الحكم الثاني فهدفه التربية الروحية والخلقية لأن الإيمان بمجرد قضية تاريخية إيمان ميت. الحكم الأول هدفه علمي خالص، بينما الحكم الثاني هدفه تربوي شعبي. الأول من حق أساتذة اللاهوت، ولكن الثاني من حق أساتذة الفلسفة وحدهم حين يضعون الحكم الأول تحت مجهر العقل والنقد.

ثم يشفع كانط هذه الخاتمة لتحقيق الوئام والسلام بين الكلِّيَّتَيْن المتنازعتَيْن بملحقين؛ الأول عن بعض المسائل النقلية التاريخية تتعلق بالاستعمال العملي للكتاب المقدس، ووقت ظهوره في التاريخ، وهي مشكلة الصحة التاريخية التي يحلُّها كانط بالصحة الخلقية؛ والثاني عن التصوُّف الخالص في الدين، وفيه يبيِّن كانط وضع الإنسان في العالم وما يتمتَّع به من عقلٍ وحرية. ويذكر كانط من هذه المسائل النقلية التاريخية: إذا كانت الحكومة هي وسيلة الربط بين الكنيسة والشعب، ماذا يفعل الإيمان الكَنَسي، إذا لم يجد الحكومة وراءه تدعمه؟ مَن مؤلِّف الكتاب؟ وفي أي عصر تم تأليفه؟ هل نعلم قواعد اللغة القديمة لكي نفهم الكتاب ونحسن تفسيره؟ هل لدينا وثائق صحيحة؟ هل نعلم شيئًا عن السبعينية (ترجمة التوراة العبرية إلى اللغة اليونانية في الإسكندرية على يد سبعين عالمًا)؟ ولا يجد كانط أي إجابة على هذه الأسئلة العلمية، كما يجد اسبينوزا، ولكنه يجد إجاباتٍ خلقيةً. فمهمة الكتاب التربية الخلقية والروحية. فإذا ما حدث تعارض بينهما، فلا بد للكتاب من أن يتنحَّى لصالح الحقائق الخلقية لأن الظن لا يُغني من الحق شيئًا. فالكتاب ظنٌّ والأخلاق يقين، والتفسير بالسياق أفضل من التفسير الحرفي لأنه يعتمد على العقل وعلى حقائق العقل الثابتة، كما يعتمد على قوانين الأخلاق الشاملة. إن الهدف من قراءة النصوص ليس معرفة معانيها الحرفية ولكن تحسين الأخلاق. فالموعظة تُخرج المعنى من قلوب المستمعين، وليس من الحروف والألفاظ. إن شهادات الإنجيل ليست وثائق تاريخية صحيحة بل مبادئ عملية للعقل فيما يتعلق بالتاريخ المقدس، وهذا أفيد للشعب وللدولة من التفسير الحرفي للنصوص.

وفي الملحق الأخير يتحدَّث كانط عن التصوف الخالص في الدين، وهو في حقيقة الأمر ليس تصوفًا، بل فلسفة كانط الخلقية التي هي عرض لمذهب القنوط على مستوى العقل. فالفلسفة عند كانط هي فلسفة تمثِّل الإنسان؛ تصوُّراته وعقله وحريته. وهذا هو معنى «نقد العقل الخالص»، عكس الفلسفة القديمة التي جعلت الإنسان سالبًا. وكأن كانط هنا يلخِّص فلسفته كلها في «الثورة الكوبرنيقية» التي يكون فيها الإنسان مركز العالم، ويكون كانط بعد ديكارت في «الأنا أفكِّر»، مؤسس الأنثروبولوجيا في بداية العصور الحديثة، في مقابل الثيولوجيا التي كانت سائدةً في العصر الوسيط. الإنسان عند كانط عنصر إيجابي نَشِط يخلق العالم بتصوُّراته. الإنسان هو ما يكون وما ينبغي أن يكون؛ الأول من خلال الحس والذهن، والثاني من خلال العقل. الإنسان بلا عقل أو إرادة يكون كالحيوان، ويعني العقل والإرادة في الإنسان شيئًا واحدًا؛ الحرية. إن لم يُعمل الحس والذهن في الموضوعات الخارجية، يعمل العقل والإرادة الحرة في الأخلاق، الأول مرتبط بالجسد، والثاني بالروح. وينتهي كانط من كل ذلك إلى أن الأخلاق هي البرهان الوحيد على وجود الله. فمن فكرة الله النظرية تنشأ فكرة الله العملية كمشرِّع للأخلاق شامل لكل واجباتنا. ملكوت الله هو ملكوت الأخلاق، وهذا هو الدين الحق. ولا غرابة أن يقول الصوفية الشيء نفسه، وهم الذين يسمُّون «المنعزلين»؛ فالدين لديهم إيمان باطني بلا عقائد أو طقوس أو أشكال، بل مجرد إيمان قلبي لا يقوم على كتاب أو كنيسة. وهم الكانطيون حقًّا؛ منهم التجار، والعلماء، والعمال، والفلاحون، ولكن ليس من بينهم اللاهوتيون. وهم مثل طائفة الكويكرز Quakers الذين يؤمنون بالله إيمانًا قلبيًّا خالصًا. وهنا يبين كانط بصراحةٍ موقفَه الخلقي الصوفي الباطني في مواجهة اللاهوتي الكتابي الكَنَسي.١
١  Ibid., p. 13–91.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤