رابعًا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق
وفي القسم الثاني يتناول كانط موضوع الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق. وأول ما يتبادر إلى الذهن، كما هو الحال في الصراع الأول بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت، أنه صراع حول حق الفلسفة في فحص التشريعات والنظم والقوانين، وبيان ما إذا كانت تعبِّر عن القانون الطبيعي والحق الطبيعي وإرادة الشعب أم أنها تعبِّر عن إرادة الحاكم وهواه. ولكن كانط يتناول في هذا القسم موضوعًا لا يتبادر إلى الأذهان، وهو موضوع «التقدم»، تقدم النوع الإنساني، وكأن الصراع يدور حول فلسفة التاريخ. فكلية الفلسفة تؤيد التقدم الإنساني، وتدفعه خطوات إلى الأمام، في حين أن كلية الحقوق تثبت أوضاع النظام القائم، وتُدافع عن النظم والتشريعات والقوانين في الدولة؛ وبالتالي كان هذا الجزء أقرب إلى ما قاله كانط في رسائله عن فلسفة التاريخ، على طريقة هردر ولسنج.
- (١)
ماذا نريد أن نعرف؟ وهو سؤال ليس في نظرية المعرفة، بل في تاريخ الإنسانية. ليس عن الماضي، بل عن المستقبل، كما يفعل العرَّاف أو النبي. وهو سؤال طبيعي لا يحتاج إلى أي عون من خارج الطبيعة. كما أنه سؤال عن التاريخ الخلقي للإنسان، وليس عن التاريخ الطبيعي. وهو سؤال أيضًا عن كل البشر مجتمعاتٍ وشعوبًا، وليس عن النوع الإنساني المجرد. وعلى هذا النحو يحدِّد كانط منطلق السؤال: مستقبل تاريخ الإنسانية الطبيعي الخلقي.
- (٢)
كيف نستطيع معرفته؟ يمكن معرفة هذا التاريخ كما حدَّد كانط منطلقاته كرواية تتنبَّأ بالحوادث المستقبلة قَبْليًّا أي قبل وقوعها؛ وبالتالي يتساءل كانط؛ هل يمكن تصوُّر تاريخ قَبْلي، أي حوادث تقع على نحو قَبْلي؟ وهو السؤال الأول نفسه في الفلسفة الترنسندنتالية: كيف تكون الأحكام التركيبية القَبْلية ممكنة؟ لقد تنبَّأ أنبياء بني إسرائيل بانهيار الدولة قبل وقوعها، نظرًا لعناد إسرائيل وعصيانها. التنبؤ إذن بحوادث التاريخ قبل وقوعها ممكن. كذلك يتنبأ رجال الدين بانحطاط المسيحية قبل بدئه، ولا يفعلون شيئًا لإيقاف هذا الانحطاط، بل إنهم يساهمون فيه بتركهم الأساس الخلقي للدين. يضع كانط إذن مسئولية مسار التاريخ على أكتاف مَنْ يتنبَّئُون به، فالقادر على المعرفة يكون بالضرورة قادرًا على السلوك.
- (٣)
إن تصوُّر ما ترغب في معرفته بالنسبة للمستقبل ينقسم إلى ثلاثة احتمالات؛ الأول: نكوص النوع الإنساني وتطوره إلى الخلف نحو الأسوأ؛ الثاني: تطور النوع الإنساني وتقدمه نحو الأفضل؛ الثالث: بقاء النوع الإنساني في وضعه ثابتًا لا يتحرَّك أو يتحرك في المكان. وكأن كانط يتحدث عن اليمين واليسار والوسط، وهو لا يتحرَّج من استعمال هذه الألفاظ أو الإشارة إلى عنصر التقدم على أنه يسار. الأول هو «الإرهاب» الخلقي، نظرًا لتواري الأخلاق أمام قوى الشر، والثاني السعادة الخلقية نظرًا لأنها تقدم التفاؤل والاطمئنان والثقة بالنفس وبالمستقبل، والثالث الوقوف في المكان، وتساوي أطراف الحركة وعناصر الجذب. الأول لا يستمر؛ لأن الإنسان يحلم بعالم أفضل متجدد، يُعبر فيه عن رغبته في الكمال واتجاهه نحوه. والثاني لا يستمر إلى الأبد؛ لأن التقدم مرتبط بالواقع وشروط المجتمع، وإلَّا وقعنا في أحلام الأنبياء والمدن الفاضلة عند الفلاسفة. والثالث تَسَاوي الخير والشر والوقوف في المكان، وهو مستحيل واقعًا؛ لأن الإنسانية في حركة ونشاط دائبين، ولا تتوقَّف أبدًا في المكان، فهي إما إلى الوراء راجعة أو إلى الأمام ذاهبة.
- (٤)
لا يمكن حل مشكلة التقدُّم بالتجربة لأن البشر أحرار. ولا يمكن التنبُّؤ بسلوكهم؛ وبالتالي يستحيل معرفة مسار التقدُّم في اتجاهاتِه الثلاثة، بالتجربة وحدها. الله وحده يعلم، وعنايته على بصيرة. ومع ذلك فإرادة الإنسان الخيِّرة تجعله قادرًا على معرفة مساره نحو الأفضل، وهي فكرة قَبْلية في الذهن، وكأنَّ التقدم عند كانط مثل المقولات والصور والأفكار يقينية صرفة، تنبع من طبيعة العقل؛ وبالتالي يخرج عن دائرة الشك والظن والاحتمال.
- (٥)
ومع ذلك لا بد من ربط تاريخ النوع الإنساني في المستقبل بتجربة ما، إلى أن يمتلك التقدم كتصوُّر قَبْلي في الذهن، أو كفكرة في العقل. ليست هذه التجربة هي السبب المباشر لتقدُّم النوع الإنساني في المستقبل، بل مجرد علاقة تاريخية بين التقدم والتاريخ، تشير إلى اتجاه الإنسانية، وأنه ليس اتجاهًا فرديًّا، بل جماعيًّا، ليس اتجاه أشخاص بل اتجاه دول وشعوب؛ لذلك ظهرت أهمية الثورات والانتفاضات والأبطال والحوادث العظام مثل الكوارث والحروب.
- (٦)
وهناك حادثة من هذا النوع في هذا العصر تُثبت هذا الاتجاه الخلقي للإنسانية، لا تنتمي إلى جنس الأفعال الشريرة أو الأعمال السحرية، بل تدخل ضمن الثورات العامة والشاملة المنزَّهة عن الغرض والهوى، والتي قامت على دافع خلقي للتقدُّم نحو الأفضل، ألا وهي الثورة الفرنسية. لا يهمُّ نجاحها أو فشلها، بل تعاطف الناس معها. تقوم الثورات إذن على دوافع خلقية هي الأسباب الحقيقية للثورة، وأهمها اثنان؛ الأول: حق الشعب في اختيار دستوره الخاص ونظامه السياسي؛ والثاني: مطابقة دستور الشعب مع حقه في أن يعيش حياة خلقية، حياة الخير؛ وبالتالي عدم دخوله في حروب عدوانية، وأن يعيش في سلام. وعلى هذا النحو يحدث التقدم سلبيًّا، أي بتهيئة الظروف له، ودفع أسباب التأخُّر والدمار، وكلاهما واقعان خلقيان، يعبِّران عن حماس الشعب للمَثَل الأعلى، وهو التقدم الخلقي، وفكرة الحق، وفكرة النبل والشرف والعظمة.
- (٧)
إن مستقبل الإنسانية لا يكون بالضرورة في الثورة، ولكنه قد يكون أيضًا في التطوُّر في الدفاع عن الدستور الذي يقوم على الحق الطبيعي والتمسُّك به أو السعي إليه، وهو الدستور الجمهوري. التطوُّر إذن، بطبيعته، يسير نحو الأفضل. والثورة إن هي إلا تطوُّر فجائي، بعد أن يتم إيقاف التطوُّر الطبيعي بفعل السلطة الحاكمة. والفشل لا يعني عدم وجود الثورة، بل يعني تراكم التطور ونضجه حتى يتحول إلى تجربة ثورية ثانية. والفشل الذي قد يصيب الثورة في الحاضر هو أحد عوامل نجاحها في المستقبل.
- (٨)
ويرتبط التقدُّم نحو الأفضل بمدى انتشار التنوير وذيوعه وتجاوز العقبات أمام هذا الانتشار. وتنوير الشعب إنما يتم بمعرفته بحقوقه وواجباته بالنسبة للدولة. والذين يقومون بهذه المهمة ليسوا هم موظفو الدولة في الكليات العليا، بل الفلاسفة ناشرو الأنوار؛ لذلك يُنْظر إليهم على أنهم خَطِرون على الدولة، مع أن صوتهم مألوفٌ من الشعب، وموضع تقدير واحترام من الدولة. إن منع النشر، والرقابة على انتشار الأفكار، يمنعان الشعب من التقدم نحو الأفضل، حتى في أبسط الأمور، مثل: الحق الطبيعي، وضرورة اتفاق الدستور مع الحق الطبيعي. والمثال على ذلك: الملكية المقيدة في إنكلترا، ومسئولية الوزراء أمام المجلس النيابي، والدستور الجمهوري وإقرار السلام.
- (٩)
إن المكسب الذي يحصل عليه النوع الإنساني من التقدم نحو الأفضل ليس زيادة كمية في إخلاص النية والقصد، أي زيادة النيات الطيبة، بل زيادة آثارها المشروعة في الأفعال طبقًا للواجب، أي زيادة الأفعال الخيرة للبشر، وذلك في صورة عنف أقل وليونة أكثر مع القانون وسيادة قيم الشرف والوفاء.
- (١٠) ويمكن التقدم نحو الأفضل في نظام يقوم على تغيير ما هو كائن من أعلى إلى أدنى، وليس من أدنى إلى أعلى، أي بوضع مناهج لتربية الشباب تحت إشراف الأسرة، ووضع مناهج للتعليم في جميع مراحله من المدارس الدنيا إلى المدارس العليا، طبقًا لثقافة عقلية وخلقية، يغذيها التعليم الديني من أجل خلق المواطن الصالح، وكل ذلك على نفقة الدولة، بدل صرف مواردها على إشعال الحروب. يدافع كانط عن مجانية التعليم، وعن ضرورة التربية الخلقية والدينية. ويختم كانط حديثه عن هذا القسم الثاني بتأكيده على أن التقدم نحو الأفضل لا يُميت بل يُحيي، ويدين الحروب التي تدمر الطرفين، ويكون كلاهما خاسرًا، ويستعمل كانط تشبيه شخصَيْن يتضاربان بالنبابيت بدل الأواني الفخارية.١