أولًا: مقدمة: نشأة فلسفة التاريخ

فلسفة التاريخ من أهم العلوم التي نشأت في الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فقد كان المنطق والطبيعيات والإلهيات قاسمًا مشتركًا بين الحضارات اليونانية والمسيحية والإسلامية. إلا أن الغرب في العصور الحديثة فصل العلوم الإلهية وأبرز ما يخص الإنسانية منها فيما أصبح فيما بعدُ يُسمى «العلوم الإنسانية» في مقابل العلوم الرياضية من ناحيةٍ والعلوم الطبيعية من ناحيةٍ أخرى. وأصبح هذا التحوُّل من «الله» إلى «الإنسان» أخص ما يميز الحضارة الأوروبية الحديثة. ظهرت فلسفة التاريخ بعد هذا التحوُّل مرتبطة بالإنسان، وتقدُّمه، ونموُّه، وارتقائه، ورسالته، وارتباطاته بغيره، وانتماءاته للطوائف والعشائر والقبائل والأمم، وتحديد أدوارها في الزمان، وتعاقبها، وتراكم خبراتها فيما سُمِّي بعد ذلك بالتاريخ؛ لذلك افتخر الغرب وزَهَا باكتشافه ميادين لم تعرفها الحضارات القديمة، وأنه هو وحده صاحب الفضل في اكتشافها مثل الإنسان والتاريخ، أو الزمان والتقدُّم، أو الحب والموت. فالحب هو جوهر الإنسان الذي يعيش في الزمان، والموت نهاية للتاريخ الإنساني وإيقاف للتقدم. كان الإنسان عند سقراط روحًا خالدةً بلا تاريخ، وكان التاريخ عند أفلاطون تاريخًا أسطوريًّا، وعند أرسطو تاريخًا طبيعيًّا، وعند أوغسطين تاريخ ملكوت السموات، تاريخ الأنبياء. لم يتم اكتشاف التاريخ كوعي إنساني إلا في الغرب بعد إحياء الآداب القديمة في القرن الرابع عشر واكتشاف الحياة الإنسانية ابتداءً من إبداعها الأدبي، وبعد الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، واكتشاف اللحظة في علاقة مباشرة مع الخلود، والتأكيد على حرية المسيحي، والفضل الإلهي الذي لا يحتاج إلى توسُّط، وبعد القرن السادس عشر حيث بدأ الإنسان يظهر كمركز للكون فيما سُمِّي فيما بعد باسم «المذهب الإنساني» عند أراسم، وبعد معركة القدماء والمحْدَثين في القرن السابع عشر، وانتصار المُحْدثين على القدماء، وإثبات قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، وتجاوز الخَلَف للسَّلَف.١ وهنا ظهرت فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر لتزيد على هذه المكتسبات مفهوم التقدُّم إجابة على سؤال: كيف تتقدَّم الشعوب؟ ما هي مراحل ارتقاء الإنسانية؟ وتكاد تجمع جميع فلسفات القرن الثامن عشر والتاسع عشر (باستثناء كوندرسيه الذي جعل المرحلة العاشرة مستقبل الإنسانية وفلسفات القرن العشرين التي تعلن نهاية الحضارة الغربية وأفول الغرب) أن الإنسانية قد وصلت إلى مرحلة النضج والكمال، وأنها لم تعد في حاجةٍ إلى وصاية خارجية من الآلهة أو الأبطال، من الأنبياء أو السَّحَرة، من الحكام أو الآباء. فإذا ما وعت الشعوب مراحل تطورها أمكنها بعد ذلك أن تتحرَّك، وأن تأخذ مصائرها بأيديها، وأن تنقل أنفسها من مرحلة إلى مرحلة؛ وبالتالي كانت فلسفة التاريخ هي الممهِّدة للثورة الفرنسية، أعظم إنجاز للغرب، وأكبر مفجِّر لطاقات فلسفة التنوير التي كانت الأساس النظري الذي خرجت منه فلسفة التاريخ.
ويعتبر فيكو Vico (١٦٦٨–١٧٤٤م) مؤسس فلسفة التاريخ قبل تأسيسها في فرنسا على يد مونتسكيو (١٦٨٩–١٧٥٩م)، روسو (١٧١٢–١٧٧٨م)، فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م)، تورجو (١٧٢٧–١٧٨١م)، كوندرسيه (١٧٤٣–١٧٩٤م) أو حتى في ألمانيا على يد لسنج (١٧٢٩–١٧٨١م)، هردر (١٧٤٤–١٨٠٣م)، كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م)، ولكن كتاب فيكو «العلم الجديد» لم يُعرف خارج إيطاليا إلا في القرن التاسع عشر بعد أن ظهرت له ترجمة ألمانية في ١٨٢٢م وأخرى فرنسية قام بها ميشليه في ١٨٢٧م؛ لذلك لم يؤثر في تطور فلسفة التاريخ إلا بعد قرن من الزمان.
وقد ظهرت الطبعة الأولى من «العلم الجديد» في ١٧٢٥م وفيكو عمره سبعة وخمسون عامًا، والثانية في ١٧٣٠م، والثالثة في ١٧٤٤م. وكان فيكو أستاذ القانون والفلسفة وأستاذ البلاغة اللاتينية في جامعة نابلي بإيطاليا. وهو كتاب ضخم مملوء بالتكرار والحواشي والأخطاء التاريخية، مرقمة فقراته مثل «خاطرات بسكال» وعلى طريقة الفلاسفة في القرنين السابع عشر والثامن عثر، وكثير منها لا يفيد مما جعل المترجم يلخِّصها مستبعدًا التكرار والحواشي الزائدة التي لا دلالة لها بالنسبة للموضوع. وتصعب قراءة الكتاب في النص الإيطالي من الإيطاليين أنفسهم. كما أن الترجمة إلى أية لغة صعبة وثقيلة نظرًا لما في الكتاب من تكرار وإشارات دائمة إلى الآداب القديمة. لم يستعمل فيكو أية حواشيَ أو مراجع في الهوامش بل ذكر كل شيء في صلب الصفحة وداخل النص مستعملًا مراجعه على نحو جدلي لا يتقنه إلا من عاش في عصره وبغير ذي فائدة الآن. بل إنه يعد الآن عائقًا في فهم الكتاب وفكرته الأساسية في تطوُّر الشعوب.٢
١  لسنج: «تربية الجنس البشري»، ترجمة وتقديم وتعليق د. حسن حنفي، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٢  اعتمدنا على الترجمة الإنكليزية بعنوان: The New Science of Giambattista Vico, Translated from the third edition by Thomas Goldard Bergin and Max Harold Fisch, Revised and abridged, Cornell University Press. Ithaca, London, 1965.
وقد تمَّ اختصارها مع استبعاد إشارات فيكو لباقي مؤلفاته وللطبعة الأولى، مع الإبقاء على المراجع وضبطها، كما تم اختصار الإحالات المستمرة إلى ما سبق أو إلى ما سيأتي، ووضعت إشارات بدلًا عنها للمراجع ذاتها، كما تم اختصار بعض الفقرات الاعتراضية أو بعض الفقرات المترابطة، وأحيانًا بعض الفصول المكررة. صحيح أن بعض التفصيلات مهمة إلا أنه تم تلخيصها. وبهذه الطريقة أمكن تحضير الطبعة الإنكليزية وحذف ما يقرب من الثلث من الترجمة الأصلية التي نشرت عام ١٩٤٨م في نفس الجامعة اعتمادًا على الطبعة الثالثة في نابلي ١٧٤٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤