ثانيًا: ماذا يعني «العلم الجديد
للطبيعة المشتركة بين الأمم»؟
وعنوان الكتاب هو «مبادئ العلم الجديد لجيامباتستا فيكو الخاص
بالطبيعة المشتركة بين الأمم».
١ ولكن الطبعة الأولى كان عنوانها أكبر من ذلك وهو
«مبادئ العلم الجديد لجيامباتستا فيكو الخاص بالطبيعة المشتركة بين
الأمم والذي يسمح باكتشاف مبادئ نَسَق آخر لقانون طبيعي للشعوب».
٢ وقد كانت هناك محاولة أخرى لتسميته «العلم الجديد
الخاص بمبادئ الإنسانية».
٣ هذا التأرجح في العنوان وصياغاته يشير إلى أن هذا
العلم جديد بالفعل لم يسبقه إليه أحد لإيجاد مبادئ عامة مشتركة بين
الشعوب تحكم طبيعتها وتطورها، وهي بالفعل محاولة أصيلة في تاريخ
العلوم الإنسانية، وأعظم المحاولات قبل أوجست كونت لإقامة علم شامل
للتاريخ الإنساني، وأعظم تحليل لصراع الطبقات سابق على كارل ماركس،
وقد خرج فيه فيكو على ما هو شائع في عصره ومألوف فيه من تفسير
لاهوتي للتاريخ الإنساني في الجامعة وخارجها فاتهمته السلطتان
الدينية والسياسية بالانحراف والخروج على التقاليد شأن كل جديد في
مواجهة القديم.
ماذا يعني فيكو بهذا العنوان الذي وضعه للكتاب؟ تعني «المبادئ»
وهي موجودة في العنوان وموجودة أيضًا كعنوان للكتاب الأول «تأسيس المبادئ»،
٤ والقسم الثالث منه «في المبادئ» تعني المؤسسات أو
النُّظُم الاجتماعية. ويجعلها فيكو ثلاثًا: الدين، والزواج، ودفن
الموتى. فالمبادئ هنا لا تعني الأفكار أو التصوُّرات أي ما هو
صوري، بل تعني الأوضاع الاجتماعية والظروف الدائمة التي منها تنشأ
الأمم، وفيها تحيا الشعوب، والتي تمثل أقل درجة من التطور البشري،
من هذه النظم تخرج المبادئ العامة، وعليها تقوم الإنسانية،
فالمبادئ هي النظُم، والنُّظُم هي المبادئ.
وبالنسبة للفظ «العلم» فإن فيكو يفرِّق بين المعرفة والعلم،
المعرفة موضوعها اليقيني، والعلم موضوعه الحقيقي الشامل والمبادئ
الأبدية. تعتمد المعرفة على اللغة والتاريخ، في حين يعتمد العلم
على التأمُّل والفلسفة. ثم يستعمل فيكو العلم بالمعنى الواسع،
فالعلم معرفة الشامل والأبدي، وهو أيضًا معرفة بالأسباب وليس فقط
المعرفة الرياضية أو الطبيعية، فالرياضة خيال، والطبيعة ليست علمًا
شاملًا. يهدف فيكو إلى تأسيس علم «عالم الطبيعة». ليست الطبيعة
التي هي من خلق الله، فذلك حق الله، ولكن عالم الشعوب، والعالم
المدني، عالم المؤسسات والنظم الإنسانية، فذلك حق البشر. فهم الذين
صنعوه، ومبادئُه موجودة في الذهن الإنساني. فالعالم الاجتماعي من
صنع الإنسان؛ وبالتالي يريد فيكو أن يؤسِّس علمًا للطبيعة
الإنسانية وللعالم الإنساني كما فعل بيكون في الطبيعة، ورابليه في
الأدب، وديكارت في الفلسفة. هذا العلم الإنساني له ميزة على
الرياضة بأنه واقعي، وعلى الطبيعة بأنه علم شامل. فإن قيل: إن
التاريخ يضم أفعالًا وحوادث فريدة لا تتكرَّر فكيف إذن لهذا العلم
الجديد أن يتناولها وكأنها من وضع البشر وأن يحاول معرفة المبادئ
الشاملة التي تقوم عليها؟ ويرد فيكو على هذين الاعتراضين باستبعاد
التراث اليهودي المسيحي، واعتبار الشعوب الوثنية ذات مصادر متعددة
بحيث تكون ممثلة للتاريخ الشامل، والتمييز بين نوعين من العناية
الإلهية: الخارجية المفارقة الفريدة، وهي ميزة الشعب المختار،
والباطنية الداخلية من خلال القوانين المطَّرِدة، وهي عامة عند كل
الشعوب. أراد فيكو إذن تأسيس لاهوت عقلي مدني مثل الفارابي في
«إحصاء العلوم»، وجمعه في القسم الخامس «العلم المدني وعلم الفقه
وعلم الكلام» في علم واحد،
٥ وطبقًا لما سمَّاه فنت
Wundt «اختلاف الحاجات واتفاق الغاية»، أو ما
سمَّاه مندفيل
Mandeville
«الرذائل الخاصة والمنافع العامة»، أو ما سماه آدم سميث «اليد غير
المرئية»، أو ما سمَّاه هيجل «دهاء العقل».
ويسمِّيه فيكو «العلم الجديد». فبالرغم من أن فيكو عاش في القرن
الثامن عشر إلا أنه ابن السابع عشر، عصر العباقرة وكبار الفلاسفة
الذين استعملوا مصطلح «الجديد» بشكلٍ لم يسبق له مثيل. فالاكتشاف
الجديد أفضل من إصلاح القديم، وقد عاش فيكو في مدينة نابلي التي
كانت مشغوفةً بالجديد، وكان عضوًا في أكاديمية المدينة حيث كان
يبحث جميع أعضائها من العلماء عن العلوم «الجديدة»، ولكن جِدَّة
القرن السابع عشر كانت في العلوم الرياضية والطبيعية والبيولوجية
والطبية، في حين أن طموح فيكو كان في رغبته خلقَ علمٍ للمجتمع
الإنساني وللشعوب كما فعل جاليليو ونيوتن في عالم الطبيعية، وكما
فعل هوسرل في هذا القرن في الفلسفة وتأسيسها كعلم محكم. ويشير فيكو
إلى هوبز باعتباره المفكر الوحيد الذي سبقه في تنظير القانون
الطبيعي (دون أن يذكر اسبينوزا). فهوبز مؤسس الفلسفة المدنية في
كتابه «المواطن» De Cive عندما
أراد دراسة الإنسان والمجتمع ككل في الجنس البشري، وهو ما لم
يلاحظه هوبز نفسه. وقد أخفق هوبز في مشروعه لأنه ظن أن بإمكانه
استخلاصَ مبادئ المجتمع الإنساني من المناقشات والجدل والقرارات
والنصائح الإنسانية وليس من النُّظم والمؤسسات كما فعل فيكو فيما
بعد، كما أنه استبعد العناية الإلهية كأسس لقيام المجتمعات الوثنية
في حين أن فيكو يجعلها الأساس الأول. يحل النسق الجديد للقانون
الطبيعي للشعوب الوثنية عند فيكو محل نظريات القانون الطبيعي في
القرن السابع عشر. فقد أخطأ منظرو القانون الطبيعي في أنهم بدءوا
من الوسط من آخر مرحلة في الأمم المتمدنة بعد أن استنارت بالعقل
الطبيعي، وبعد أن نشأ الفلاسفة وتصوروا فكرة العدالة. والقانون
الطبيعي عند الفلاسفة غير القانون الطبيعي للشعوب الوثنية؛ الأول
قانون العدل، والثاني قانون القوة.
وقد وضع فيكو اسمه في عنوان الكتاب ليدل على أن هذا «العلم
الجديد» من وَضْعه وخلقه واكتشافه وبنائه لم يسبقه إليه أحدٌ من
قبل. لم ينشأ من تعاون جهود سابقة، ولم يعتمد على نتائج سالفة بل
هي رؤية مباشرة للواقع الإنساني منذ بداية نشأة الفكر الإنساني لدى
الشعوب على مدى عشرين عامًا من حياة فيكو الفلسفية واللغوية
والأدبية. وهو يغوص لدى الشعراء الطبيعيين لمعرفة الحكمة الطبيعية
لدى الشعوب الطبيعية. وصحيح أن العلم من بناء فيكو ومن تفكيره
الخاص، مما يثبت أن الإبداع في العلم مرتبط ببنائه في شعور العالم
كما فعل جاليليو ونيوتن في الطبيعة، وديكارت وبيكون في الفلسفة.
الخلق في العلم لا ينشأ بالتراكم الكمِّي بل بالتحوُّل الكيفي، ولا
ينشأ بالتطوُّر ولكن بالطفرة، ولا ينشأ في شعور الجماعة بل في شعور
الفرد.
وتعني «الطبيعة» عند فيكو «الميلاد»، وكلا اللفظين مشتق من نفس
اللفظ nascimento, Natura. فطبيعة
الأمم تعني ميلادها أو مولدها في زمن معين وبشكلٍ معين؛ أي التكوين
والنشأة والتطور. ويضرب فيكو المثل على ذلك بنشأة الدين مع مولد
زيوس أو جوبتر أو جوفا أول إله للأمم الوثنية، ونشأة الزمان بعد
الرعد الأول للسماء مائة عام بعد فيضان ما بين النهرين؛ أما النمط
أو الشكل فإن سلالة حام ويافث وسلالة شيم غير العِبْرانيين فقدوا
لمدة قرنين من الزمان كل النظم والمَلَكَات الإنسانية، وأصبحوا
حيواناتٍ تعيش على الغريزة وتمارس الجماع، وتصوروا السماء
المُرعِدة على أنها جسمٌ حي، وبرقه ورعده على أنها أوامر تخبرهم
بما يجب عليهم فعله، ثم فاجأ الرعد البعض منهم وهم في فعل الجماع
مما جعلهم يأوون إلى الكهف؛ وبالتالي نشأ نظام الأمومة والأسرة
والحياة المستقرة، فما كان في البداية فعل المصادفة والعشوائية
تحول في النهاية إلى فعل إرادي مقصود يباركه «إله السموات». نشأ
نظامَا الأمومة والأسرة بالطريقة نفسها، كما نشأ كل نظام إنساني
آخر على هذا النحو، ومن مجموع نشأة هذه النظم تنشأ الأمة الوثنية.
ويعارض تصوُّر فيكو هذا تصوُّرَ أرسطو الغائي للمدن/الدول الذي
يقرِّر بأن اتحاد بعض القرى في جماعة أكبر يجعلها مكتفية بذاتها؛
وبالتالي تنشأ المدينة ابتداءً من الحاجات البشرية. فالصور الأولى
للتجمُّعات البشرية طبيعية، وغايتها المدنية، وطبيعة الشيء غايته،
والشيء عندما يتطور إلى كماله تكون له طبيعة سواء كان الأمر يتعلق
بالحيوان أو بالإنسان أو بالجماعة البشرية، ولكن عند فيكو توجد
طبيعة الشيء في البداية وليس في النهاية كما هو الحال عند أرسطو.
وكلاهما نشوئي تكويني تطوري بالرغم مما يبدو بينهما من اختلاف.
وإذا كان السوفسطائيون أرادوا بيان التعارض بين الطبيعة والمدنية
فقد جمعهما أرسطو بقوله إن الإنسان حيوان مدني أو سياسي. وإذا سمى
فيكو عالم الأمم عالم البشر فإنه يعني أن ما كان حيوانًا في عالم
الطبيعة يصبح بشرًا في عالم الأمم. وأنه بدرجةٍ ما يصبحون في عالم
الأمم بشرًا، يصنعون عالم الأمم ويصنعون أنفسهم.
أما لفظ «المشترك» فإنه لا يعني الاشتراك أو الشيوع في الأبضاع
والنساء والأولاد والآباء والأمهات، بل يعني غياب النظام أو ما سبق
النظام والمؤسسات من خلط أو اختلاط. كما لا يعني المتبادل أو
المتفق عليه بين طرفين مما يفترض النظر والمداولة والاتصال والأثر
المتبادل والرضا والاتفاق، بل يعني ما يتمثَّله الجميع أو الكثير
على نحوٍ مستقلٍّ بلا حكم أو تفكير يشارك فيه طبقة أو أمة أو شعب
أو الجنس البشري كله. كما لا يعني الحس المشترك Common Sense الذي ينشأ بالاتصال والتفاهم بل
يعني أن الأفكار التي تنشأ لدى الشعوب المختلفة التي لا يعرف بعضها
البعض؛ لها قدر من الحقيقة؛ فكل شعبٍ له إله بصرف النظر عن أسمائه
المختلفة لدى الشعوب. فالمثالية طبيعة مشتركة بين الأمم أو فطرة أو
جِبِلَّة على ما يقول الأصوليون القدماء؛ فأسطورة «جوفا» لها أساس
مشترك عند جميع الشعوب؛ وبالتالي تكون حقيقة، فالحقيقة وجود شيء
بين شعوب مستقلة عن بعضها البعض، وبتعبير القدماء، تواتر الأفكار
والآراء وتشابهها وتطابقها مقياس للحقيقة بالرغم من اختلاف الأزمنة
والأمكنة والظروف، مثال ذلك اشتراك الشعوب كلها البدائية منها
والمتمدينة في ثلاثة نظم اجتماعية أو عادات بالرغم من استقلالها عن
بعضها البعض وتفاوتها في الزمان والمكان وهي: الدين، والزواج، ودفن
الموتى؛ لذلك أخذها فيكو مبادئ للعلم الجديد. مثال آخر اللغة
العقلية المشتركة بين الشعوب والتي تعبر عن طبيعة الإنسان والتي
بها يدرك جواهر الأشياء في حياته الفردية والاجتماعية وهي الحِكم
والأمثال العامية التي تتكرر عند جميع الأمم قديمًا وحديثًا. وقد
اتخذها فيكو مادة العلم الجديد التي يمكن من خلالها وصف طبيعة
الإنسان. بل إن وجود كلمتين عاديتين في لغتين مستقلتين لهما نفس
المعنى لَدليلٌ على وجود هذا القاسم الذهني المشترك بين
الشعوب.
ويعني لفظ «الأمة» الميلاد أو البداية بالميلاد أي جنس له بداية
مشتركة، لغة ومؤسسات ونظم مشتركة. ولا يعني فيكو بالأمة الدولة
القومية المعاصرة بل يركز على ثلاثة أشياء؛ الأول: النظم والمؤسسات
الاجتماعية لدى كل أمة أو شعب؛ والثاني: وجود كل أمة أو شعب
مستقلًّا عن الأمة الأخرى ليس بهدف النقاء العنصري بل من أجل تطور
نظمها ومؤسساتها على نحو مستقل دون أدنى أثر من حضارة على حضارة
أخرى؛ والثالث: تطور هذه النظم والمؤسسات من داخلها وليس من
خارجها، ويصف فيكو الأمة ليس فقط كعنصر أو جنس بشري بل كحضارةٍ في
أوج نضجها. ويستعمل لفظًا آخر ليدلَّ به على أولى مراحل التطور مثل
قوم أو شعب Gens. ويتصوَّر فيكو
أربع مراحل من تطور أشكال المجتمعات؛ الأولى الأُسَر، والثانية
الأقوام أو العشائر Gentes،
والثالثة الشعوب، والرابعة الأمم. ويعني لفظ قوم أو شعب في الصفة
Gentile أميًّا أو بدائيًّا أو
أوليًّا بمعنى التكوين أو النشأة. وله في القانون الروماني معنى
القرابة من أجل تحديد الميراث، وهو المعنى العربي أيضًا من لفظ
«أم»، ولكنه عند فيكو يعني «ما له طبيعة» ويمكن أن يكون موضوع
دراسة العلم الجديد. والأمم كلها تنضمُّ إلى عالم الأمم أي عالم
البشر أو العالم الإنساني في مقابل العالم الطبيعي. وتعيش الأمم
منعزلة عن بعضها البعض قبل أن تدخل فيما بينها في علاقات تجارية
وسياسية أو في نُظُم الأحلاف والاتحادات والحروب
والمعاهدات.
أما تعبير «القانون الطبيعي» الموجود في عنوان الطبعة الأولى،
وكذلك تعبير «النسق الجديد» المخالف لنسق القرن السابع عشر ونظريات
القانون الطبيعي عند جروتيوس Grotius، زلدن Selden، بوفندورف Pufendorf فقد أسقطهما فيكو من العنوان النهائي
وإن بقي معناهما؛ فالعلم الجديد يحاول الكشف عن قانون طبيعي لتطور
الشعوب بدراسة الطبيعة المشتركة بين الأمم من خلال النظم والمؤسسات
الدينية والعلمانية والدول، في حين أن القانون العام هو القانون
الشامل الذي تشارك فيه جميع الأمم والشعوب، وهو القانون الطبيعي.
كما يميز فيكو بين القانون المدني وقانون الشعوب؛ فالقانون المدني
يختلف من مدينةٍ إلى مدينةٍ ومن دولةٍ إلى دولةٍ ومن نظامٍ سياسيٍّ
إلى نظامٍ آخر، في حين أن قانون الشعوب هو أيضًا قانون عام وشامل،
تعبير ضروري عن المجتمع الإنساني، قانون مطبوع لدى كل شعب لأنه من
وضع العقل الطبيعي الذي يشارك فيه الإنسان وربما الحيوان. وهي نفس
التفرقة بين القانون Jus
والفقه Lex؛ فالأول نظام
طبيعي عقلي، والثاني وضعي من صنع البشر. الأول دائم ثابت لا يتغير،
والثاني يتغير طبقًا للظروف والأحوال. الأول يشمل العادة الثابتة
والثاني يعبِّر عن إرادة المشرِّعين فحسب.
أما تعبير «مبادئ الإنسانية» في الطبعة الأولى فهو مرادف للطبيعة
المشتركة بين الأمم؛ فالإنسانية تعني المدينة أو المدنية أي المعنى
التكويني، المبادئ التي بها تصبح الإنسانية كذلك والتي تخلقها
الإنسانية من طبيعتها. ولا يعني ذلك وجود ماهية إنسانية مستقلة
فردية أو اجتماعية فإن هذه الماهية عند فيكو تنشأ من مجموع
العلاقات الاجتماعية وتطور النظم الاجتماعية كما يقول الماركسيون
والوجوديون، ولكن هذه «الإنسانية» تقوى كلما تقدَّمت في مراحل
تطورها.
ويقسم فيكو كتابه إلى خمسة كتب غير متساوية في الكم، أطولها
الكتاب الثاني عن «الحكمة الشعرية»، وأقصرها الكتاب الخامس عن
«تطور النظم الإنسانية عندما تنهض الشعوب من جديد».
٦ ويختلط قانون تطور الشعوب في مراحلها الثلاث بحضارات
الشعوب، فبينما يظهر هذا القانون بصراحة ووضوح في المقدمة «فكرة
الكتاب» إلا أنه يعود ويختفي ولا يظهر إلا في الكتابين الرابع
والخامس عن تطور الشعوب في دورتها الأولى وعن تطورها في نهضتها
الثانية، ولكن فيكو لا يعرض لهذا القانون عرضًا مفصلًا في أيٍّ من
الكتب أو أقسامها بل يذكره دائمًا دون أن يخصص له قسمًا مستقلًّا
يعرضه فيه ويستوفيه ولكن على الباحث أن يجمعه من الشتات، كما يضم
الكتاب الأول المبادئ العامة للعلم في صورة بديهيات أو أوليات
عقلية واضحة بذاتها تحدِّد بناء العلم الجديد. أما الكتابان الثاني
والثالث فإنهما يعطيان الحكمة الشعرية. ويعرض لسؤال الوجود الحقيقي
التاريخي لهوميروس شاعر اليونان مبينًا أن تاريخ الشعوب في حكمتها،
وأن حكمتها في شعرها. أما الخاتمة فإن فيكو يعرض فيها لعقيدة
العناية الإلهية كراعيةٍ لنظم الحكم وكأنه يريد ختامًا تقليديًّا
لمضمون كتاب غير تقليدي.