ثالثًا: المبادئ العامة لفلسفة التاريخ
فالإنسان مقياس كل شيء في حالة جهله بالأشياء. فإذا عرف شيئًا فإنه من طبيعة الأمور قياس الغائب على الشاهد كما يقول المناطقة القدماء. وهنا يحدِّد فيكو المنظور الإنساني لفلسفة التاريخ، وأن ليس للإنسان إلا رؤيته وتصوُّره وعلمه.
وكل أمة تريد أن تجعل نفسها خالقةً ومبدعةً لمقوِّمات الحياة، كما تريد إرجاعَ تاريخِها إلى أقدم العصور؛ فكل شعب يدعي أنه أصل الإنسانية؛ المصريون، والكلدانيون، والصينيون، والسكيثيون. وهنا يبيِّن فيكو أن الرغبة في البحث عن الجذور، والعودة إلى الأصول، والبداية بالنشأة شيء طبيعي فطري في الأفراد وفي الشعوب.
ومن الضروري توجيه الفلسفة للأفراد وللشعوب وعدم تركهم في فسادهم وإرشادهم إلى الأخلاق السليمة؛ فالفلسفة تصف الإنسان كما ينبغي أن يكون في مقابل التشريع الذي يصف الإنسان كما هو كائن. هذا الواجب ضروري من أجل أن يكون الإنسان ذا نفعٍ في الحياة الاجتماعية. فالإنسان الكائن يسلك بدوافع التوحش والبخل والطموح، وهي الرذائل الثلاث في الجنس البشري التي بسببها تنشأ الطبقة العسكرية التجارية الحاكمة التي تجمع بين القوة والثروة في شكل نظام سياسي، ولكن الفلسفة تبدأ من هذه الرذائل ذاتها لتوجِّه الجنس البشري، وتجعل سعادة الإنسان المدني ممكنة. فالأشياء لا تخرج عن حالتها الطبيعية ولكنها تنحو نحو الكمال بطبيعتها، وهنا يبدو فيكو أرسطيًّا تمامًا في تصوره للطبيعة والكمال.
وتنشأ النُّظُم الاجتماعية في زمان معين وبشكل معين، وتأخذ خصائصها من أشكالها، وتتغير هذه الأشكال الأولى التي نشأت فيها. فلا توجد عند فيكو خصائص جوهرية كماهياتٍ مستقلة بل توجد علاقات اجتماعية في التاريخ في الزمان والمكان.
والتراث الشعبي له قدر من الحقيقة نظرًا لوجوده واستمراره وحفظه وتواتره عبر الأجيال، فهو المعبِّر عن طبيعة الشعوب. واللغات الشعبية أقدر على حفظ عادات الشعوب من وسائل التعبير الأخرى كالحركات والأصوات؛ وبالتالي تنشأ أهمية الفنون اللغوية وعلى رأسها الشعر. ومن خلال نشأة اللغة يمكن معرفة نشأة العالم ومعرفة داياته، فاللغة مرتبطة بالموجود أو هي «بيت الوجود» على ما يقول هيدجر. كما أن أشعار هوميروس روايات مدنية تحتوي على عادات اليونان القديمة وتقاليدهم ونظمهم وحضارتهم، وكنز عظيم يحتوي على القانون الطبيعي لشعب اليونان. كما أن قانون «الألواح الاثني عشر» شاهدٌ على القانون الطبيعي عند الرومان، هناك إذن لغة طبيعية مشتركة بين الشعوب يتمُّ تهذيبها فيما بعد كما فعل فلاسفة اليونان وكما فعلت فرنسا فيما بعد في أواسط أوروبا. هناك لغة ذهنية مشتركة من خلال الطبيعة المشتركة للأمم تعبِّر عن ماهية الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية. والدليل على ذلك وجود الحِكَم والأمثال العامية المترادفة لدى كل الشعوب.
والتاريخ المقدس، وهو مادة «العلم الجديد»، أقدم أنواع التاريخ؛ فهو أقدم من التاريخي الدنيوي وأطول مدة؛ فقد عاشت الإنسانية حوالي ثمانمائة عام في عصر الآباء، عصر العشائر الكبيرة التي منها نشأت المدن. وفي التاريخ المقدَّس يميز فيكو بين دين العِبْرانيين ودين الوثنيين. الأول أسَّسه الله والثاني أسَّسته الطبيعة؛ فالله هو المؤسس الحق لدين العِبْرانيين. ويقوم هذا الدين على تحريم العرافة التي مارستْها كل الشعوب الوثنية في دياناتها. بل إن الناس نوعان؛ عِبْرانيون ووثنيون، عاديون وعمالقة. والعمالقة مخلوقات ضخمة رآها الرحَّالة وشوَّه الفلاسفةُ صورتهم نظرًا لطبيعتهم الحيوانية. ويبدو أن فيكو أحيانًا يبعد عن البديهيات إلى افتراضات مسبقة أو احترازات نظرًا لظروف العصر مثل هذه القسمة الأخيرة التي لا يقبلها علم تاريخ الأديان. ويبدأ التاريخ، ومنه تاريخ اليونان الذي منه نعرف معلوماتنا عن باقي الشعوب، بالفيضان والعمالقة، وقد كان الفيضان شاملًا على ما ترويه الأساطير وما تقصُّه عن أحوال الطبيعة.
ويذكر فيكو المراحل الثلاث لتطوُّر الشعوب وكأنها قانون بديهي ضمن أوليات العقل. وهو في الوقت نفسه يذكر أن هذه المراحل الثلاث قد ذكرها المصريون في تصوُّرهم للإنسانية وتطورها قبلهم. وهذه المراحل الثلاث تمثل عصورًا ثلاثة لتاريخ كل شعب؛ عصر الآلهة، وعصر الأبطال، وعصر البشر. ولكل عصرٍ لغته، اللغة الهيروغليفية مثل لغة المصريين لعصر الآلهة، واللغة الرمزية مثل لغة هوميروس لعصر الأبطال، واللغة الشعبية العامية لغة الخطاب والرسائل التي تقوم على العلاقات والحروف الأبجدية لإيصال الحاجات المشتركة والتعبير عنها في الحياة اليومية، هذه اللغة لعصر البشر ومن ثم يكون السؤال: هل هذه المراحل بديهية أم حقيقية تاريخية من اكتشاف المصريين أم أنها استقراء تاريخي لتطوُّر الشعوب؟
ثم يذكر فيكو عدة بديهيات عن المرحلة الأولى مُؤدَّاها أن الدين طبيعي في البشر. وأن لكل شعبٍ آلهته، وأنه ينشأ من الخوف أو الجهل أو الخرافة أو الدهشة؛ وبالتالي فإنه من اختراع الإنسان؛ فالإنسان حيوان متديِّن كما سيقول فيورباخ فيما بعد. فهناك حوالي ثلاثون ألف اسم للآلهة، وكلها مرتبطة بالحاجات الطبيعية والأخلاقية للإنسان، وتعبِّر عن رغباته وأهوائه وعواطفه في العصور الأولى؛ لذلك بدأت الشعوب الأولى حياتها بالدين أول مبادئ العلم الثلاثة، وأول النظم الاجتماعية قبل الزواج ودفن الموتى. وعندما يبلغ شعب ما درجة عالية من التوحش واستعمال السلاح بحيث لا يكون للقانون في حياته أي مكان فإن أقوى وسيلة لإخضاعه يكون الدين. وعندما يجهل الإنسان الأسباب الطبيعية التي عنها تصدر الأشياء ويعجز عن فهمها بالقياس إلى أشياء أخرى فإنهم يُسقِطون عليها طبيعتهم الخاصة، ويقول العاميُّ حينئذٍ: «المَغْنَطيس يحب الحديد». فتصوُّر الجاهل للطبيعة نوع من الميتافيزيقا الشعبية يُرجع فيها عِلَل الأشياء إلى إرادة خارجة عليها، هي إرادة الله، دون اعتبارٍ للوسائل التي تستعملها الإرادة الإلهية ذاتها لتحقيق الأفعال وإحداث الأثر في الأشياء. وعندما تخاف العقول فإنها تكون مؤهَّلة للخرافة. وعندما يقع الناس فريسة للخرافة فإنهم يخشَوْنها، ويُرجعون إليها كل ما يتخيَّلونه ويرَوْنه ويصفونه. والدهشة تنشأ أيضًا من الجهل، وكلما عَظُم موضوع الدهشة دل ذلك على شدة الجهل وأدى إلى زيادة التعجُّب. كما ينشأ حبُّ الاستطلاع، هذه الصفة الفطرية في الإنسان، من الجهل. وفي الوقت نفسه يكون الدافع على المعرفة ونشأتها عندما تُوقِظ الدهشة العقول وتُعطي عادة التساؤل عن معاني الظواهر غير العادية في الطبيعة.
ويستعمل فيكو للحديث عن الدين والشعر تشبيه الأطفال. فمن طبيعة الأطفال أنهم من خلال الأفكار والأسماء المرتبطة بالرجال والنساء والأشياء التي عرفوها يُطلقون بعد ذلك نفس الأسماء على الرجال والنساء والأشياء المتشابهة. فالمنطق البشري يبدأ بالحس. والمعرفة البشرية تبدأ بالحس ثم بعد ذلك يستمتع العقل بالاطِّراد والتكرار والتشابه. فالذهن الإنساني بطبيعته ولارتباطه بالحواس يرى نفسه في الجسم. ويصعب عليه أن يفهم نفسه بالفكر. فالتشبيه سابق على التنزيه كما أن التجسيم سابق على التشبيه على ما يقول علماء أصول الدين القدماء.
والأطفال شعراء كما أن الشعراء أطفال يتمتعون بخيال خصب وذاكرة قوية؛ فالخيال ذاكرة مُركَّبة أو ممتدة في الزمان. ويبدع الأطفال في التقليد ويُدخلون على أنفسنا السرور من تقليدهم لكل ما يفهمونه. وإذا كان كل إنسان ذي استعداد طبيعي قادرًا على تعلُّم صناعةٍ ما فإن الشاعر إن لم يكن شاعرًا بالفطرة فإنه لا يستطيع أن يتعلَّم الشعر صنعة. وإذا كان الأطفال يقلِّدون فإن شعراء الطبيعة لا يقلِّدون، وتسير الروح الإنسانية عند الأطفال والشعراء بطريقة واحدة. إذ يشعر البشر أولًا قبل أن يُدركوا، ثم يدركون بذهنٍ مضطربٍ ثم يفكرون بعد ذلك بذهنٍ واضح. وما يظهر للبشر أولًا على أنه موضع شك أو غموض فإنهم يفسِّرونه بطبيعة الحال طبقًا لطبائعهم الخاصة وأهوائهم وعاداتهم.
وليست اللغة وحدها هي وسيلة التعبير؛ إذ يعبِّر البُكم عن أنفسهم بالإيحاءات أو بأشياء ذات علاقات طبيعية مع الأفكار التي يريدون التعبير عنها. يُصدر البُكم أصواتًا لا مقاطع لها بالغناء، ثم يعلِّم التلعثمُ في الغناء ألسنةَ الناس النطق، فالغناء قادر على التعبير عن الانفعالات الإنسانية. وقد بدأت اللغات بالكلمات ذات المقطع الواحد لسهولة النطق بها كما هو الحال عند الأطفال.
ويذكر فيكو عدة بديهيات أخرى تتعلَّق بتطوُّر المجتمعات البشرية وتطور البشر أنفسهم؛ فقد بدأت الحياة الإنسانية أولًا في الغابات ثم الأكواخ ثم القرى ثم المدن وأخيرًا الأكاديميات، وكان مجتمع العلماء هو آخر مرحلةٍ من تطوُّر البشرية، وهنا يبدو القانون متجهًا نحو الذروة والكمال، ولكن أحيانًا أخرى يذكر فيكو التطور البشري آخذًا في الاعتبار السقوط والانهيار بعد الكمال والذروة؛ إذ يشعر الإنسان أولًا بالضرورة ثم ينظر إلى المنفعة ثم يبحث عن الراحة ثم يسلِّم نفسه للملذات ثم يتحلَّل في الترف، ويقع في الجنون، ويفقد هويته. كما أن طبيعة الشعوب تكون أولًا الغلظة ثم القسوة ثم اللين ثم الرقة وأخيرًا الانحلال. وفي الجنس البشري يظهر أولًا الضخم والغليظ ثم المعتز بالنفس والعظيم ثم الباسل والعادل ثم العظمة والبهاء، وبعد ذلك يأتي الهوائي المتقلب ثم يسود الانحلال والجنون.
يذكر فيكو هذه القوانين على أنها عادات بشرية. فالعادة مَلِك، والقانون طاغية. العادة معقولة ولكن قد لا يعبر القانون عن العقل الطبيعي بل عن إرادة البشر، ولكن المعتاد أن القانون الطبيعي للشعوب الأولى يكون معاصرًا في نشأته لعادات الأمم ومتطابقًا معها من حيث الحس المشترك دون أي تدبُّر أو رَوِيَّة ومع استقلال كل أمة عن الأمة الأخرى. والعادات البدائية وخاصة فيما يتعلَّق بالحرية الطبيعية لا تتغيَّر مرة واحدة ولكن على درجات، وتستغرق مدة طويلة، ولكن نظام الأفكار يتبع نظام المؤسسات، وتبدأ النظريات بنشأة موضوعاتها، ثم يضطر البشر إلى الاحتفاظ بذكريات القوانين والنظم التي تربطهم بمجتمعاتهم فتكون سجلًّا لتطورهم.
ثم ينتقل فيكو بعد ذلك إلى سلسلةٍ أخرى من البديهيات تتعلق بنُظُم الحكم الملكية والإقطاعية والأرستقراطية وما يتعلق بها من أنظمة اقتصادية واجتماعية، نشأةً وتطورًا واكتمالًا. ويبدأ فيكو بإقرار مبدأ بديهي عام وهو تطابقُ الحكومات مع طبيعة المحكومين، أي أن النظم السياسية تعبِّر عن طبيعة الشعوب على عكس ما يقول ابن خلدون من أن الناس على دين ملوكهم. الأولى نظرة طبيعية والثانية نظرة إلهية. الأولى تصوُّر تحتي والثانية تصوُّر فوقي.
ويبدأ فيكو ببيان نشأة النظم الملكية. لما بدأت كل الشعوب حياتها الطبيعية بعبادة إلهٍ ما في الدول العشائرية كان الآباء هم الحكماء تحت وصاية الآلهة. وقد حاول الكهنةُ تفسيرَ هذه الوصاية لصالحهم ولكن نجح الملوك أخيرًا في تحويلها إلى قوانين لعشائرهم. فالملوك هم أول مَن حكموا العالم، فقد كانوا أجدر الناس من حيث الطبيعة. وكانوا هم الحكماء، يجمعون بين الحكمة والمُلْك والكَهَانة. الملكية إذن أول نظام للحكم عرفته البشرية. وفي الدول العشائرية مارس الآباء سلطة الملوك خاضعين لله، لهم السلطة على أولادهم وممتلكاتهم وما ملكت أيمانهم؛ فهم البطاركة والآباء والأمراء والرؤساء. وقد حصلت العشائر على أسمائها من الآباء في الحالة الطبيعية. كان الملوك رؤساء الدين والدولة. وكانوا يقومون بتطبيق القوانين داخل البلاد ويشنُّون الحروب خارجها.
أما النظام الإقطاعي فقد نشأ ابتداءً من أن البعض قد اعتزل العالم الهمجي غير القانوني وكوَّن أُسرًا. عاش البعض منها في حقولٍ ثم عاش فيها الأبناء من بعدهم. لا يمكن إذن فَهْم نشأة التجمُّعات البشرية الأولى قبل هؤلاء القارِّين الذين أرادوا إنقاذ حياتهم بحماية الآباء لهم، وزراعة أراضيهم. تبدأ هذه التجمُّعات بالنظام الإقطاعي نظرًا لما يعود على الناس من الفائدة منه. فظهر القانون الخاص بالحقول وهو أول قانون زراعي في العالم. وفي كل الأمم القديمة التي يوجد فيها عملاء وزبائن يظهر فيها أيضًا النظام الإقطاعي. ويظل الإقطاعي صاحب القوة والسيطرة لأن من علامات القوي ألَّا يفقد بالجبن ما حصل عليه بالشجاعة. ولم تكن هناك قوانين لمعاقبة الإهانات الخاصة أو لتصحيح الأخطاء الشخصية.
أما النظام الأرستقراطي فإنه يقوم على أكتاف النبلاء الذين يُقسِمون بأن يكونوا أعداء أبديين للعامة. ويقوم النظام على الثروة وتركيزها في طبقة النبلاء لأن الثروة تزيد من قوة الطبقة. وتكون النظم الأرستقراطية على حذرٍ دائمٍ من الدخول في حربٍ خشية أن تتحوَّل العامَّة إلى محاربين. والحرب في هذه النظم تؤدي إلى البطولة، كما تؤدي في السلم إلى التمسُّك بالشرف والتنافس عليه ثم يكون الشرف بالتالي باعثًا على الشجاعة في السلم والحرب. ثم تنشأ المعارضة شيئًا فشيئًا في المدن من أجل مساواة الطبقات العامية مع طبقة النبلاء في الحقوق، وتطالب بالقوانين التي لا يريدها النبلاء، وتطمح العامة من أجل أن تحصل على نتاج كسبها، ولكن طبقة النبلاء توقف القوانين حتى لا يتساوى الضعفاء والأقوياء.
وأخيرًا تنشأ النُّظم الشعبية تعبيرًا عن رغبات العامة، ولكنها تقود صراعًا من أجل السلطة بالسلاح في وقت السلم، وتصدر القوانين باسم السلطة وليس باسم القانون. ومع ذلك تثبت الحرية الطبيعية ضد النظم الملكية والإقطاعية والأرستقراطية، وتمَّحي مظاهر العبودية الاجتماعية التي تجعل الإنسان ضمن المقتنيات، ولكن هذه النظم الشعبية ذاتها تحفُّ بها المخاطر. فبعد أن يحاول الناس التحرُّر من العبودية والحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المساواة، تحاول العامة تجاوُز المتساوين معها فتتحوَّل النظم الشعبية إلى نظم قوية تقوم على السيطرة. ثم تضع العامة نفسها فوق القوانين التي لا تُراعيها فتتحوَّل نظم الحكم إلى فوضويات لا يوجد فيها طاغية واحد لأنهم كلهم طغاة. وأخيرًا تحاول العامة أن تجد خلاصها من جديد في عودة النظم الملكية. فبعد أن تضطر العامة لقبول سلطة النبلاء، وبعد أن يضطر النبلاء لقبول سلطة العامة، يضطر الجميع لقبول سلطة الملوك؛ ومن ثم ينتهي جدل السيد والعبد على ما يقول هيجل لصالح الملك. ولا يستمر في دورة أبدية.
ثم يعطي فيكو بعد ذلك عدة مبادئ عامة عن حياة العمران. فبعد الفيضان عاشت الأُسَر أولًا في الكهوف ثم على سفوح الجبال ثم انتقلت إلى السهول ثم إلى شواطئ البحار، كما تنشأ المدن أولًا داخل البلاد ثم بعد ذلك تنشأ المدن الساحلية. وقد كانت مدينة صور أولًا في الداخل ثم حوَّلها الفينيقيون إلى مدينة ساحلية، فقد كان الفينيقيون أول بحارة في العالم، فالمدن الداخلية أكثر قدرة على الدفاع عن نفسها من المدن الساحلية. وقد بنى اليونان عدة مدن يونانية على ساحل أيونيا تم تدميرها بسهولة بعد ذلك. ونظرًا لضرورات الحياة يترك الناس أرضهم طمعًا في مزيدٍ من الثروة عن طريق التجارة أو لحمل ثرواتهم معهم حرصًا عليها من الضياع ومخاطر الاستقرار، والشعوب الأولى لا يمكن النفاذ إليها إلا من الخارج عن طريق الحرب ومن الداخل عن طريق فتح حدودها للتجارة مع الغرباء.
وينهي فيكو بديهياته حول الله والقانون والمساواة. فهناك أقوام كبيرة وأقوام صغيرة. ولكلٍّ منها إله. فالآلهة تصنع قدر الأقوام! أما القانون فإنه يكون بمثابة الحكمة لدى الشعوب المحدودة الأفكار التي لم تبلغ بعدُ شأوًا من الحضارة والتطور. وينشأ اليقين في القانون من غموض الحكم وتأييد السلطة. أما الأذكياء فإنهم يأخذون المنفعة قانونًا. أما حقيقة القانون فإنه نور يُعيَّن، وعظمة تأتي إليه من العقل الطبيعي. أما بالنسبة للمساواة، فالمساواة المدنية حكم محتمل لا يعرفه كل الناس. أما المساواة الطبيعية فإنها تعبير عن العقل الإنساني، ودرجة التطور نحو الكمال.
بعد هذه البديهيات التي يسمِّيها فيكو «العناصر»، يتحدث عن «المبادئ» وهي الحقائق البديهية لدى كل الشعوب دون الاستعانة بالتراث المكتوب بل بناء على تنظير مباشر للواقع وسَبْر لأغوار الطبيعة البشرية. فالعالم الإنساني من صنع الإنسان؛ وبالتالي توجد مبادِئُه في الذهن الإنساني. فالواقع والذهن شيء واحد، وكأن فيكو هنا يرصد مسبقًا «فينومينولوجيا الروح» عند هيجل.
وأخيرًا يتحدث فيكو عن منهج «العلم الجديد» ويحدِّده على أنه منهج الاستقراء الذي يبدأ من الطبيعة إلى الفكر. فالمنهج يبدأ حيث يبدأ الموضوع؛ وبالتالي يكون الموضوع هو منهج ذاته. ويكون تطوُّر الموضوع ضمن خطوات المنهج. وهنا يلحق فيكو أيضًا بهيجل في توحيده بين الموضوع والمنهج بين الواقع والجدل؛ لذلك يجب البدء باللغويين والفلاسفة والكتاب والأدباء والشعراء والمشرِّعين وكل مَنْ حاولت الإنسانية تدوين نفسها من خلالهم. ويعطي فيكو نموذجًا من هذا المنهج التجريبي بنشأة فكرة الله أو الدين الموجودة لدى كل الشعوب المتحضِّرة والبدائية. فعندما يعيش الإنسان لحظات اليأس من كل عون للطبيعة، ويرغب في شيء أعلى منها لمساعدته يكون هو الله. وإذا ما وصل المنحلُّون إلى سنٍّ متقدمةٍ في العمر يكتشفون الدين. وهذا ما يثبته البدائيون الذين يعيشون حياة الانفعال. أما الميتافيزيقا الشعبية ولاهوت الشعراء فإنه أيضًا ينتهي إلى النتيجة نفسها؛ إذ يعيش البشر، نظرًا لطبيعتهم الفاسدة، تحت سيطرة حب الذات ويسيرون وراء منفعتهم الخاصة؛ وبالتالي يعجزون عن السيطرة على انفعالاتهم. وبعد الزواج كان لزامًا على الإنسان أن يوفِّق بين منفعته ومنفعة أبنائه. وبعد الحياة الاجتماعية كان لزامًا عليه أيضًا أن يوفق بين مصلحته ومصلحة الآخرين، وبين مصالح الآخرين ومصالح الشعب ككل، ثم بين مصالح الشعب ومصالح الجنس البشري. ولما كان الإنسان لا يبغي إلا صالحه الخاص كان لا بد من العناية الإلهية كي تضعه دخل نُظُم تعلِّمه العدالة وتحدِّد دوره كعضو في الأسرة وفي المجتمع وفي المدنية والإنسانية. ولما كان غير قادر على الالتزام بهذه النظم فإنه يسمي العادل منها ما يحقق منفعته الخاصة، وما ينظمها يسميه العدالة الإلهية، وما يحكمها يسميه العناية الإلهية. وهنا يبدو فيكو متفقًا مع هوبز في أن الدين ضروريٌّ لصالح البشر. وأن كليهما ينظر إلى العقيدة المسيحية، على أنها عقيدة الخلاص من الخطيئة عن طريق المسيح.
العلم الجديد إذن هو اللاهوت العقلي المدني للعناية الإلهية التي يؤمن بها الرواقيون عن طريق الصلة بين العلة والمعلول؛ إذ إنهم في نظام الأشياء الطبيعي يسمون اللاهوت الطبيعي ميتافيزيقا صفات الله وأفعاله في الطبيعة، والأبيقوريون عن طريق المنافسة العمياء بين اللذات. العلم الجديد إذن يأخذ موضوع العناية الإلهية في التاريخ حين تكشف عن نفسها في العادات والنظم الطبيعية. وهنا يلحق هردر بفيكو، فقانون تطور البشرية عند هردر هو أيضًا العناية الإلهية وتحويلها من صفة لله إلى قانون للتقدم. ويحلِّل العلم الجديد الأفكار الإنسانية حول الحاجات الإنسانية ومنافع الحياة الاجتماعية وهما المصدران الدائمان للقانون الطبيعي للشعوب، فتاريخ الأفكار هو تاريخ الإنسانية نفسها. موضوع العلم الجديد إذن هو الحس المشترك للجنس البشري أو شعور البشرية جمعاء.
وتأتي براهين العلم من الفلسفة واللغة مثل اتفاق الأساطير والنظم الذي يدل على أنه اتفاق بالطبيعة وليس وليد المصادفة، اتفاق العبادات البطولية مع النظم، اتفاق المعاني الاشتقاقية للغات البدائية مع النظم. وفهم النظم من خلال الكلمات ومعانيها اللغوية الأصلية أو المجازية المتطورة. القاموس الذهني للنظم الإنسانية الاجتماعية هو القاموس نفسه الذي لدى كل الشعوب والذي يتم التعبير عنه بطرق مختلفة وطبقًا للغة كل شعوب: التراث الشعبي المحفوظ الذي يصحح أخطاء المؤرخين، الشذرات القديمة التي يمكن بعد التأليف بينها أن تعطيَ المعنى والدلالة، معرفة آثار هذه النظم بالرجوع إلى عِلَلها الأولى. هذه البراهين كلها تجعلنا قادرين على معرفة «عالم البشر» كما عرف بيكون «عالم الطبيعة» وبنفس المنهج الاستقرائي الذي يمكن تلخيصه في شعار «انظر وفكر».