رابعًا: الحكمة الشعرية
والحكمة موجودة لدى كل الشعوب في أساطيرها وقصصها؛ فكل قصص الشعوب لها بدايات أسطورية. وكان الشعر هو لغة التعبير عن هذه الحكمة. فأول الحكماء عند اليونان هم الشعراء اللاهوتيون. ثم بعد ذلك قدَّم اليونان أنفسهم من خلال الفلسفة، ولكن المصريين قدَّموا أنفسهم من خلال اللاهوت الطبيعي (الميتافيزيقا). وكل شيءٍ يولد يكشف عن البدايات، والبدايات لدى الشعوب ولدى مَن مِن خلالهم تخلِّد الشعوبُ ذواتها أي الشعراء وهم الحكماء والعلماء.
ويشترك اليونان والمصريون في خمسة أشياء؛ احترام الدين فقد تأسَّست الشعوب الوثنية بأساطير حول الدين، اعتبار النظام المدني مستمدًّا من حكمة تفوق قدرة الإنسان، بحث الفلاسفة عن أشياء مَدْعاةً للتأمل والتفلسف، إيجاد وسائل التعبير عن فلسفاتهم في الألفاظ والتعبيرات التي تركها الشعراء لهم، وأخيرًا التأكيد على هذه التأملات في الحكمة والدين. وهذه الأشياء الخمسة تؤكد أهمية الحكمة الإلهية كما تؤكد أهمية التفلسف. ولما كانت الفلسفة تأملات في الشعر وكان الشعر تأملات في الدين كان الشعر هو القاسم المشترك بين الفلسفة والدين. كما يدل على أن البشرية بدأت بالدين ثم بالفلسفة، وهذا كله تشمله الحكمة، ولما كان العقل لا يتفلسف إلا بعد حصول شيء في الحس كما هو الحال عند أرسطو من القدماء وعند هوسرل أيضًا والمدرسة الحسية من المُحْدَثين، كانت الفلسفة تاليةً للشعر وللدين.
والحكمة أم العلوم. وهي مَلَكة يصدر عنها كل إبداعات البشر من علوم وفنون تصنع الإنسانية، فالإنسان ذهن وروح، عقل وإرادة، وكلاهما واجهتان للحكمة، وعن طريق العقل تُسيطر الحكمة على الإرادة لصالح الإنسان. ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا في نظم فإن الحكمة أيضًا هي التي تنظم علاقة الإنسان بالله. وأفضل النظم ما كان حقًّا لخير الإنسانية، وهي النظم الدينية التي توجِّه النظم العلمانية عن طريق الحكمة. الحكمة بلغة هوميروس هي معرفة الخير والشر أو التنبؤ بالمستقبل؛ لذلك يعتبر الشعراء اللاهوتيون هم الذين أسَّسوا الحكمة القديمة؛ لذلك سُمُّوا «أساتذة الحكمة»، بعد ذلك أُعطيت الحكمة للناس وشاعت بينهم فظهرت عند الحكماء السبعة ثم عند الفضلاء من الناس لإدارة فن الحكم. وفي كل الحالات يظل معنى الحكمة هو معرفة الأشياء الطبيعية الإلهية أي الميتافيزيقا، معرفة ذهن الإنسان في الله، فالله مصدر الحقيقة ومشرِّع الخير. الميتافيزيقا إذن علم يهدف إلى تحقيق صالح البشرية التي تقوم على الإيمان الشامل بالعناية الإلهية.
وبعد هذه المقدمة عن الحكمة الشعرية يقسمها فيكو إلى فرعين؛ الميتافيزيقا وهي الجَذْع الذي يخرج منه المنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة والتاريخ، والفيزيقا وهي التي تخرج منها الكونيات والفلك والتواريخ والجغرافيا، وأكبرها المنطق والسياسة والاقتصاد أي الحكمة الإنسانية. وهو يذكِّرنا بما قاله ديكارت من قبل عن شجرة المعرفة التي جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزيقا وفروعها الأخلاق والطب.
فالميتافيزيقا الشعرية هي بداية للشعر وللوثنية وللدين بكل ما فيه من عِرَافة وقرابين. لم تكن ميتافيزيقا عقلية بل خيالية بسبب الجهل بالطبيعة وقوانينها وعِلَلها. والجهل أساس الدهشة. كان الشعر أولًا إلهيًّا، تعبِّر به الشعوب عن طبائعها الخاصة كما يفعل الأطفال. خلق الشعراء اللاهوتيون الأسطورة الإلهية الأولى، خلقوا فكرةً من أنفسهم، وتصوَّروا الأشياء مملوءةً بآلهة، فاللاهوت هو علم لغة الآلهة، اللغة الإنسانية التي استعملها البشر لوصف الأشياء على أنها آلهة إذ إن لكل شعبٍ آلهة. نشأ الله في الشعر بالخيال أولًا ثم حوَّلته الميتافيزيقا بعد ذلك إلى عناية إلهية. نشأ الله من عجز القوة الإنسانية، ومن خوف الإنسان من نفسه، كما نشأت العِرَافة والأضاحي للسيطرة على هذا الخوف، وكانت النتيجة تصديق هذه الاستحالة؛ استحالة أن تكون الأشياء أرواحًا، والأجسام عقولًا. لم ينشأ الشعر إذن عن نقص في العقل الإنساني بل للتعبير عن الآلهة. ولقد أعطانا الشعر أساطير رفيعة ملائمة للفهم الشعبي والقلق من أجل الوصول إلى غاية، وتعليم العامة السلوك الفاضل تشبُّهًا بالشعراء. وأخيرًا يحدِّد فيكو المظاهر الرئيسية لهذا العلم وكأنها بديهيات مثل قوة العناية الإلهية التي تفوق الطبيعة وتعين الإنسان عليها، ووراثة السلطة دور العناية الإلهية إذ تكون أولًا إلهية ثم إنسانية ثم طبيعية، وهي سلطة القانون الطبيعي، وكشف تاريخ الأفكار الإنسانية تصوُّرات البشر للأشياء على أنها آلهة، ثم النقد الفلسفي لهذا التاريخ، ثم تاريخ الشعوب في مسارها، كل على حدة كتاريخ أبدي، ونظام القانون الطبيعي للشعوب، وأخيرًا مبادئ التاريخ العام من خلال المراحل الثلاث التي تصورها المصريون والتي أصبحت قانون تطور التاريخ عند فيكو.
والأخلاق الشعرية تبيِّن نشأة الفضائل الشعبية التي يُعلمها الدين من خلال نظام الأسرة من خلال فكرة الله. فالله يظهر في سلوك الأفراد والجماعات في صورة أخلاق بناءً على الخوف. فالسماء ملجأ الانفعالات وملاذ الخائفين ومصدر قوة للمستضعفين. تبدأ الفضائل الخلقية إذن بالدوافع والانفعالات، وتتكون لحماية الناس. وهنا يظهر الزواج كطريق طاهر وشريف للعلاقات الجنسية تحت رعاية الله. فمن رعاية الله تدخل المرأة إلى منزل الرجل وأسرته، وتتحجَّب وتتحدث من وراء ستار، ويأخذها الرجل بالقوة كما كان يفعل العمالقة من قبلُ باستيلائهم على النساء ومباشرتهن في الكهوف. فالأخلاق والدين وسيلتان لتهذيب الناس وجعلهم حذرين باتخاذ نصائح من الله، وعادلين مع أنفسهم ومع الله، ومعتدلين راضين بامرأة واحدة طوال عمرهم المديد، وأقوياء عاملين وعظماء. ثم ظهرت عادة تقديم القرابين البشرية للآلهة حيث كان يسود التعصُّب والخرافة.
والاقتصاد الشعري يكشف عن أن الأُسَر الأولى كانت تضم الأطفال فقط؛ فقد كان الآباء الأبطال يعيشون على الطبيعة كما كان الحكماء تحت رعاية الحكمة، وكان الرهبان يقدمون القرابين، وكان الملوك يستمدون القوانين إلى أسرهم من الآلهة؛ فقد بدأ الملوك أنظمة حكمهم بالاعتماد على العشائر وليس أسرهم الخاصة، وبدءوا في تربية أبنائهم وترك رزقهم لهم، والاستقلال التام لهم. وفي نظام الأمومة توجد الصداقة الحقة وتتم عملية تأنيس البشر. يحقق هذا النظام ثلاثة أهداف؛ الشريف والنافع والمبهج وكل ذلك تحت مظلة الدين ولاستمرار الجنس البشري. وكان أبناء العشائر عبيدًا باستثناء أبناء الأبطال فهم وحدهم أحرار. ومن العبيد بدأ الإقطاع واستثمار الأرض ومشاركة الأسر في عمل الأبطال وليس فقط في مكتسباتهم أو شرفهم. وعلى هذا النحو تأسَّست المدن والمستعمرات داخل الأرض ونشأت الملاجئ، واقتضت ظروف الحياة أن تكون المقايضة أول صور البيع والشراء. ولم يكن هناك إيجار للمنازل لصغر المدن بل كان الإقطاعيون يؤجرون أرضهم للبناء عليها لمدد طويلة. لم تكن المشاركة أو الوكالة معروفةً عند القدماء، ولكن عرفت عقود البيع والشراء وختمها بالاتفاق المجرد إلى أن بدأ القانون في الظهور بشكل أسطوري.
والسياسة الشعرية تكشف عن أن أول نظام للحكم في العالم كان نظامًا أرستقراطيًّا؛ فقد نشأ النظام العشائري بالأُسَر الصغيرة التي وضعها الأبطال تحت حمايتهم بالقوة أو بالإيمان، ولما تحرَّر الأبناء بعد موت الآباء أخذ كل ابن الأمر كله لنفسه. ثم اتحد الآباء الجدد فيما بينهم اتقاءً لثورات العامة. لقد نشأ أول ملوك الدنيا بهذه الطريقة وعلى أكتافهم نشأت أول المدن. وبتعبير آخر إن كل نظم الحكم نشأَت طبقًا لمبادئ الإقطاع الأبدية إمَّا ملكية الإنتاج أو ملكية الأرض أو ملكية الإقطاعيات. وقد انقسم الناس إلى نوعين؛ عامة تريد تغيير نظام الحكم ونبلاء يريدون المحافظة عليه. ويستمر فيكو في بيان نشأة النظم السياسية القديمة مثل الضرائب والخزانة والجمعيات التشريعية والطبقات الاجتماعية. كما يحاول بيان تطورها ابتداءً من التربية الوحشية للعمالقة ثم شراء النساء بالمهور الغالية ثم إنجاب الأطفال وتزوج النساء لمنفعة الأزواج والآباء. كما يتحدث عن الألعاب الرياضية القديمة وأهمية السباق أو الحروب القديمة ونشأة العبودية.
والتاريخ الشعري موجود في أساطير القدماء التي تقصُّ نشأة العالم وبداية الخلق ثم إنشاء المدن وظهور الأغاني والترانيم والأناشيد ثم ظهور النظم والمجالس والقوانين والمحاكمات والعقوبات ثم العداوة بين المدن وظهور فنون الإنسانية. والحقيقة أن فيكو هنا يجمع بين التاريخ والكونيات والتواريخ مما يدخل في علوم الطبيعة.
والفيزيقا الشعرية هي الفرع الثاني من الحكمة بعد الميتافيزيقا وتشمل الكونيات والفلك والتواريخ والجغرافيا. وتبدأ أيضًا بالأسطورة. في البداية كان العَمَاء ثم اختلطت البذور الإنسانية مع النساء إثر فعل الزنا، ثم انقسمت السماء بالرعد، وخلق «يوفا» عالم البشر قائمًا على الدوافع وحرية الذهن. ومن حركة الأجسام تكوَّن عالم الطبيعة وتحدث الشعراء اللاهوتيون عن العناصر الأربعة. وتشير أيضًا الفيزيقا الشعرية إلى جسد الإنسان؛ الرأس والصدر والقلب والمعدة والكبد. وفي الكونيات الشعرية يختلط الكون بالآلهة؛ فالسماء أعلى من الجبال، والآلهة تتربَّع في السماء وتنزل على قمم الجبال، والنسيان والجوع وتأنيب الضمير مظاهر للعقاب الإلهي. والفلك الشعري عند القدماء يُشير إلى حقائق ثابتة مثل رفض أي شعب قبول آلهة غريبة، واعتبار إله الكواكب أكبر من إله النجوم. وفي التواريخ الشعرية تتحدد أنساب الآلهة من أجل تحديد بداية للزمان وبدايات التاريخ الشامل التي تمتد إلى الشرق، أما الجغرافيا الشعرية فإنها تجعل اليونان مركز العالم وتصف أول مَنْ سكن المناطق الوسطى وكيفية نشأة المدن. ويتضح من ذلك اختلاط العلوم كلها وتداخلها في الحكمة الشعرية.
ثم يعرض فيكو في الكتاب الثالث إلى مشكلة هوميروس: هل هو شخصية حقيقية عاشت بالفعل أم أنه أسطورة من نسج الخيال؟ وهو ما عرف في التاريخ باسم «المشكلة الهوميرية» والتي نُسج على منوالها أيضًا قضية الشعر الجاهلي. وينكر فيكو وجود هوميروس كشخصية تاريخية حقيقية عاشت بالفعل؛ وبالتالي يكون من مؤسسي المدرسة الأسطورية في الدين والأدب التي خرجت من هيجل وشتراوس ورينان وغيرهم. ولا يعني ذلك الإقلال من شأن المعطيات النصية لأن المثال أو الفكرة تظل باقيةً في ذهن الإنسانية بصرف النظر عن قائلها. ولا يضير الأدبُ الشعبي شيئًا في قدرته على تصوير حياة الشعوب بأنه مجهول المؤلف. فالعالَم من صنع الإنسان، والأسطورة تعبِّر عن أعمق مستويات الحضارة، ولا يمكن أن يكتبها شخص واحد، وهو ما توصَّل إليه يونج وجويس وكاسيرر أيضًا في العصر الحاضر، هوميروس ليس شخصية حقيقية تاريخية بل مثال، رجل من الطبيعة، فكرة من العصر البطولي لليونان، كنز يكشف عن القانون الطبيعي لليونان ولكل الشعوب والعادات القديمة. يدل على عقل اليونان وطبيعتهم، وعاشه اليونان بشفاههم وذاكرتهم. ويدلِّل فيكو على موقفه هذا بما قيل عن هوميروس: عَمَاه، فقرُهُ، الإلياذة في الشباب والأوديسة في الشيخوخة لتفسير اختلاف الأسلوب وتباعد القرون بينهما، مولده في منطقة قريبة من مكان حرب طروادة، لغته الوطنية، الدفاع عنه ضد الاتهامات الموجهة ضده، العادات الشعبية التي يذكرها، المقارنات اللفظية، المصطلحات المحلية، كسر الأوزان، تغيير اللهجات، جعل البشر آلهةً والآلهة بشرًا، قضية الانتحال، صفات البطولة، المقارنات اللفظية، القسوة في وصف المعارك، الانفعالات الشديدة في صياغة العبارات، عظمة الأسلوب، استحالة التفوق عليه أو حتى تقليده (مثل إعجاز القرآن)، مؤسِّس السياسة والمدنية اليونانية، أب لكل الشعراء، مصدر لكل فلاسفة اليونان، كل هذه الأدلة تُثبت أنه لا يمكن لهذه الأشعار أن تكون من تأليف شاعر واحد بعينه؛ فالناس تعيش تاريخها أولًا ثم تسجِّله في شعرها ثانيًا، فكل هذه الأساطير بدأت بروايات حقيقية حدثت بالفعل قبل أن يصوغها الخيال الشعبي. فهوميروس ليس شاعرًا بل روح اليونان وطبيعتهم وتاريخهم وعاداتهم وقوانينهم وحياتهم. والشعر بهذا المعنى هو تاريخ الشعوب. وهذا لا يحط من شأن هوميروس، فالقيمة في الفكر وليس في التاريخ، وفي المثال وليس في الواقع، وإلا كان الله لا قيمة له لأنه لا واقع له. وهوميروس مثل بوذا ولاوتسي وكونفوشيوس والمسيح، خَلْق إنساني في صورة شخص، وروح الإنسانية تجسد نفسها في إنسان. والفكرة لا تحتاج إلى واقع كي توجد بل الواقع هو الذي يحتاج إلى فكر كي يُخَلَّد. وما أكثر الشخصيات التاريخية التي ليس لها ذكر وما أضخم فعل الأسطورة في حياة الناس، وكأن فيكو هنا قد استطاع الجمع بين هيجل وهيدجر، بين الروح التي تخلد وبين الشعر كمنزل للوجود.