سادسًا: خاتمة: حدود فلسفة التاريخ عند فيكو

بالرغم من أهمية «العلم الجديد» وتأسيس فلسفة التاريخ على يد فيكو قبل لسنج وكانط وهردر في ألمانيا وتورجو وفولتير وكوندرسيه وكورنو في فرنسا، واكتشافه التقدم البشري وتطوره في قانون المراحل الثلاث الذي أصبح نموذجًا يُحتذى به عند جميع الفلاسفة منذ لسنج حتى كونت، وتأكيده على الإنسان العاقل المستقل كقيمة في ذاته، هدف التطور وذروته، والمساواة الطبيعية بين الأفراد والشعوب، وارتباط المراحل السابقة بالجهل والخوف، وهو الدرس المستفاد من جميع فلاسفة التنوير — بالرغم من هذا كله إلا أن فلسفة التاريخ لديه لها حدود تكشف عن وضع هذا «العلم الجديد» في الحضارة الغربية وإمكانية تطويره وإكماله خاصة وأنه ما زال في البداية عند فيكو لم ينتهِ بعد. وتتمثَّل هذه الحدود في عدة نقاط أهمها:
  • (١)

    غلب على الموضوع التفصيلات الكثيرة التي طَغَت على التصوُّر العام للتاريخ مما أفقد العلم أساسه النظري التصوري. صحيح أن هذه التفصيلات مهمة ودقيقة ولكنها تكون غير ذات دلالة لغير المتخصِّص في الآداب القديمة والتاريخ القديم. وصحيح أيضًا أن فيكو، مثل بيكون من قبل، أراد اتِّباع منهج الاستقراء لتأسيس العلم الجديد والانتهاء من الجزئيات إلى الكليات، إلا أن الكليات أيضًا قوانين مطردة لا تنخرم وهو ما تحاشاه هيجل بعد ذلك بالتركيز على التصوُّر دون الجزئيات.

  • (٢)

    كثرة التحديدات الزمانية والمكانية جعل «العلم الجديد» أقرب إلى تاريخ الأدب القديم منه إلى فلسفة التاريخ. وكان هردر أكثر احتراسًا وحذرًا عندما خصَّص كتابه الأول «فلسفة أخرى للتاريخ» للعرض النظري، وكتابه الثاني «آراء في فلسفة تاريخ الجنس البشري» للتحديدات الزمانية والمكانية والوقائع والتواريخ بالاعتماد على المراجع والوثائق. ويصعب تأسيس «العلم الشامل» على العلم بالوقائع والجزئيات خاصة وأنه في مجالات الدراسات التاريخية قد تُصحح الوقائع والتواريخ وبالتالي يصعب إقامة اليقين الشامل على الاحتمال الجزئي.

  • (٣)

    تغلب على «العلم الجديد» التحليلات اللغوية والعبارات البلاغية اللاتينية. وقد كان فيكو أستاذًا للغة اللاتينية وآدابها، ولم يستطع التخلُّص من مادة الدراسة إلى موضوع الدراسة كما فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة» عندما أسقط أمثلة اليونان مع الإبقاء على الموضوع ذاته. وقد يصعب على غير العليم بالأساطير اليونانية واللاتينية وبأنساب الآلهة وأسمائها أن يتابع فيكو في براهينه واستدلالاته.

  • (٤)

    صعوبة قبول التفسيرات الأسطورية لبدايات البشرية ولنشأة النظم الاجتماعية كما يفعل فيكو في تفسيره لنشأة نظام الأمومة ابتداءً من الرعد والبرق في السماء واضطرار العمالقة الوحوش إلى الاختفاء في الكهوف والجحور لإتيان الفعل الجنسي في الخفاء بدلًا من العراء. كما يصعب تفسير بدايات الجنس البشري بالطوفان وقد عاش نوح أربعين قرنًا قبل المسيح، والإنسانية سابقة على هذا بكثير. إن الأسطورة قاموس للذهن البشري كما يقول فيكو، وتدل على بدايات التفكير البشري وكيف استطاع الإنسان أن يصور ذاته، ولكنها لا تدل على بداية الجنس البشري. هناك فرق إذن بين الفلسفة والعلم أو بين الروح والتاريخ، ولكن يبدو أن فيكو يوحِّد بينهما كما فعل هيجل بعده.

  • (٥)

    ظهور التطوُّر من خلال النظم الاجتماعية عند فيكو يعطي لها الأولوية على كل مظاهر الروح الإنساني؛ فالنظام الاجتماعي، مثل الدين عند هيجل، هو كل شيء، يكشف عن الدين والسياسة والأخلاق والقانون والاقتصاد والفن. فالتاريخ عند فيكو أقرب إلى التاريخ الاجتماعي منه إلى التاريخ العام. وفلسفته في التاريخ أقرب إلى فلسفة التاريخ الاجتماعي منها إلى فلسفة التاريخ البشري. وقد تكون النظم الاجتماعية تعبيرًا عن نظام أكثر عمقًا هو نظام «الروح» بتعبير هيجل أو الروح البشرية عندما تصنع ذاتها.

  • (٦)

    يبدو أن فيكو لا يعتبر نظم الحكم الشعبية الديموقراطية نهاية المطاف في تطوُّر نظم الحكم من عصر الآلهة إلى عصر الأبطال إلى عصر البشرية. ويصف النظم الملكية والأرستقراطية أحيانًا بأنها أيضًا تُنسب إلى عصر البشر. وأن الملوك والنبلاء قد أفادوا وساهموا في تطوُّر نظم البشرية، فهل كان فيكو يعبِّر عن روح القرن السابع عشر عصر الملكيات والإمارات أكثر مما يعبر عن روح القرن الثامن عشر عصر الثورات والجمهوريات؟ يكون اسبينوزا بالرغم من أنه عاش في القرن السابع عشر إلا أنه بتصوُّره للمواطن الحر في الدولة الحرة التي تقوم فيها السلطة على العقد الاجتماعي والتعاقد الحر بين الأفراد أكثر تقدمًا من فيكو وأكثر تعبيرًا عن روح القرن الثامن عشر. بل يكون فيكو أقرب إلى هوبز ومكيافيللي في تبرير سلطة الأمير والحاكم منه إلى الدفاع عن حقوق الشعب والنظم الشعبية.

  • (٧)
    لم يستطع فيكو التخلُّص من بعض العقائد اللاهوتية وعلى رأسها عقيدة العناية الإلهية وتحويلها إلى قانونٍ للتقدُّم؛ فالعناية الإلهية مذكورة من أول «العلم الجديد» إلى آخره، ولا يجد فيكو فرصة إلا وأشار إليها. فالعلم الجديد يدرس الطبيعة المشتركة للشعوب والأمم في ضوء العناية الإلهية، وقانون التطور نفسه من أفعال العناية الإلهية أو يقتضي على الأقل الإيمان بها. بل إن الوثنيين أيضًا يدخلون ضمن العناية الإلهية الشاملة، والمحكمة العليا للتاريخ هي محكمة العناية الإلهية التي يتحدد فيها المسار الثابت للشعوب. صحيح أنها لا تدخل ضمن البديهيات التي تعطي المبادئ العامة للعلم لأنها أقرب إلى مادة العلم منها إلى صورته، ولكنها تكون خاتمة «العلم الجديد» حين يضع فيكو نظامًا للحكم أبديًّا طبيعيًّا تُنظِّمه العناية الإلهية. ويبدو أن هذا النظام الأمثل هو النظام الحقيقي الطبيعي الأرستقراطي الذي تقرُّه العناية الإلهية. ولا عجب أن تكون آخر عبارةٍ في «العلم الجديد» هي: «هذا العلم لا ينفصل عن التقوى. ومَنْ لا يكون تقيًّا لا يمكن أن يكون حكيمًا حقيقيًّا.»١
  • (٨)

    يستبعد فيكو باستمرارٍ في أحكامه على الدين التراث العِبْراني والمسيحي إما لأنه يعتقد ذلك حقيقة وإما تقية حتى يترك للأجيال التالية تعميم الحكم العلمي على كل تراث ديني كما فعل ديكارت في استثناءاته ثم تطبيق اسبينوزا منهج الوضوح والتميُّز عليها فيما بعد. ويكون لسان حال فيكو «الكلام لكِ واسمعي يا جارة.» يدرس «العلم الجديد» تاريخ الشعوب وليس العِبْرانيين والمسيحيين لأنهم قوم منعزلون منفصلون. كما يبين نشأة أولاد سام من اللَّاعِبْرانيين نشأةً أسطوريةً في حين أن العِبْرانيين لم ينشئوا كذلك. كما استثنى العِبْرانيين من نظام الرق، ومن كل حكمٍ يراه فيكو منافيًا للعقل وللأخلاق. هل هو خوف أم ذكاء؟ اقتناع أم خداع؟

  • (٩)

    لا شك أن فيكو يتعامل مع الحضارتين اليونانية والرومانية باعتبارهما ثقافته الوطنية؛ فقد ورثت الحضارةُ اللاتينية الحضارةَ اليونانية إبداعًا في الأقل وتقليدًا في الأكثر. وكان من الطبيعي أن تتحوَّل هذه الثقافة الوطنية من مرحلة إلى مرحلة، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. ومن طريق هذا التحول، إعادة بناء المحاور والبؤر من الله إلى الإنسان، ومن الرأسي إلى الأفقي؛ ومن ثم فإن فيكو لا يؤسِّس «العلم الجديد» إلا من خلال إعادة بناء ثقافته الوطنية وليس ثقافات كل الشعوب.

  • (١٠)

    لذلك خرج هذا التميُّز الشائع في الحضارة الأوروبية باعتبار اليونان والرومان بدايات التاريخ البشري وأن الغرب نهايته وكماله، خاصة في ألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا، طبقًا لحضارة الفيلسوف التي ينتسب إليها. وكان من الطبيعي أن تتوارى الحضارات الشرقية في مصر والصين والهند وفارس، وحضارات ما بين النهرين. والحديث عن المُحمديِّين على أنهم مؤمنون بإلهٍ واحدٍ وبالملاذ الحسية في المعاد، وعن العرب الأميين الذين يجهلون الكتابة ويحفظون تراثهم شفاهيًّا إلى أن اتصلوا بالبيزنطيين، وعن اعتبار المسيحيين الأتراك (أي المسلمين بمعنى المؤمنين الحقيقيين) كلابًا واعتبار الأتراك المسيحيين خنازير نموذج لصورة الشعوب المغلوبة في أذهان الشعوب الغالبة. هذا التمركز على الذات في الغرب وجعله محور التاريخ هو الداء الدفين في كل فلسفات التاريخ الغربية. وقد آن الأوان للشعوب غير الأوروبية تصحيح الوضع وإعادة كتابة تاريخ البشرية بمزيدٍ من العدل والمساواة بين تراث الشعوب.

١  Ibid., p. 384.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤