ثانيًا: الجوهر الحقيقي أي أنثروبولوجيا الدين

يضم «جوهر المسيحية» قسمين أساسيين؛ الأول: الجوهر الحقيقي أي أنثروبولوجيا الدين؛ والثاني: الجوهر المزيف أي ثيولوجيا الدين. يبدأ فيورباخ بالإيجاب قبل السلب، وبالإثبات قبل النفي، فالاغتراب الديني يتمثَّل في ثيولوجيا الدين، وهو موقف ديني مزيف نتج عن تصوير الثيولوجيا على أنها علم الله يتحدَّث عن ذات الله وصفاته وأفعاله، ويجعل الله موضوعًا مستقلًّا عن الإنسان، متجسمًا في وثن نفسي مشخص في الخارج، في حين أن الدين في وصفه الصحيح وهو أنثروبولوجيا الدين، موقف إنساني صحيح يُرجع للذات ما سُلب عنها من قبل، ويعيد إلى الإنسان أخصَّ خصائصه وهي الصفات مثل الوجود والكمال. يصف فيورباخ الوضع الصحيح أولًا ثم الوضع المزيف ثانيًا كي يبيِّن الاغتراب الديني أي انحراف الإنسان خارجًا عن ذاته ومتعاليًا عليها. فالاغتراب طارئ على الصحيح وليس ناشئًا منذ البداية كما يقول الوجوديون: إن الإنسان يوجد في العالم مغتربًا. ويكون القضاء على الاغتراب والعود إلى الحقيقي هو عود إلى طبائع الأشياء. الصحيح هو الأساس، والاغتراب هو العَرَض. وإذا كنا جميعًا ما زلنا مغتربين فإن تطورنا يشير إلى العودة إلى الأساس. فالأنثروبولوجيا هو علم المستقبل، ومبادئ فلسفة المستقبل.

ويعرض فيورباخ لموضوعات الدين الحقيقي؛ الله كمبدأ وكقانون وكعاطفة وكمال وكوحدة وكصفات مثل الكلام والخلق والعناية والقدرة. كما يتحدث عن الإنسان؛ إيمانه وبعثه وحياته وخلوده، مبيِّنًا أن الدين في جوهره هو أنثروبولوجيا أي وصف للإنسان قبل أن يقعَ فريسة للاغتراب.

  • (١)
    الله كموجود ذهني: لما كان الدين هو قسمة الإنسان على نفسه، فالله غير الإنسان والإنسان غير الله، فالله كامل والإنسان ناقص. لقد قسم الإنسان نفسه إلى وجود وماهية. وأعطى لنفسه الوجود الناقص ولله الماهية الكاملة. وتم ذلك بفعل الذهن. وأصبح موجودًا ذهنيًّا من طبيعة العقل. حدث ذلك عند اليونان والمسلمين والمسيحيين المتأخرين كما حدث في الفلسفة العقلية الأوروبية. يجهل العقل الآلامَ والقلبَ والرغبات والوقائع الخاصة ولا يقدم إلا العموميات. أصبح الله لا شخصيًّا غير مجسَّم، منزَّهًا عن أوصاف التشبيه، لا ينفعل ولا يخضع للأهواء، ماهيَّة مجردة، لا نهائيًّا، لا ماديًّا، لا حسيًّا، لا يمكن تصوُّره، ولا يُعرف إلا بالتجريد، وعن طريق السَّلْب.

    الله فكر عام، ضرورة خاصة. الذهن مقياس للواقع، وكل ما يخرج عن الذهن فهو عدم الذهن. هو الأنطولوجيا القديمة التي منها خرج اللاهوت الأنطولوجي الذي يستنبط وجود الله من ماهيته في الذهن كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي عند أنسليم وديكارت. لقد كان ذلك نصرًا كبيرًا على الوثنية الحسية الخارجية، ولكن الصنم الحسي تحول إلى وثنٍ عقلي يُعزَى إليه الوجود. إن وحدة الله من وحدة الذهن، ولا نهائية الله من لا نهائية الذهن في مقابل التناهي والتعدُّد. وقد هدم كانط الدليل الأنطولوجي مثبتًا استحالة استنباط الوجود من الفكر، والموضوع من المحمول. يقول كانط: عندما أفكر أكون على وعيٍ بأن هناك ذاتًا تفكر وليس شيئًا آخر؛ وبالتالي فأنا جوهر، أوقد لذاتي دون أن أكون محمولًا لموضوع آخر. ويخلص فيورباخ من هذا التحليل بأن الله ماهية الإنسان بعد أن تمَّ تجريدُها في الذهن؛ وبالتالي يعني قدرة الذهن على إدراك الماهيات، وهي حقيقة إنسانية متضمنة في نظرية المعرفة.

  • (٢)
    سر التجسُّد أو الله كموجودٍ خُلُقي أو قانون: الله من حيث هو كامل أخلاقيًّا ليس إلا الفكرة أو الماهية المتحقِّقة في القانون الأخلاقي، فالله ليس فقط ماهية عقلية مجردة أو مبدأً عقليًّا خالصًا، ولكنه أيضًا قانونٌ خلقيٌّ أو مبدأٌ عقليٌّ يظهر في سلوك الإنسان الأخلاقي. فالوجود الأخلاقي للإنسان موضوع كموجود مطلق لأن الله الأخلاقي يتطلَّب أن يكون الإنسان مثله، والإنسان الأخلاقي يتطلَّب أيضًا أن يكون الله مثله. «الله مقدَّس ويجب أن نكون مقدسين مثلما هو مقدس.» يقول كانط: يمكن أن يُقال إن الله هو القانون الخلقي ذاته ولكن تم تشخيصه بالفكر. ولكن هذا الموجود الكامل يتركنا باردين، فارغين، فنصبح وعيًا بلا قلب. الذهن يحكم طبقًا للقانون، والإنسان يعيش بالقلب. القانون يُخضِع الإنسان والقلب يحرِّره. إن الحب وحده هو الذي يجعل العندليب مغنيًا. القانون يقهر الإنسان فيقابله الإنسان بالتوبة والاستغفار. نفي الإنسان إذن هو نفيٌ للدين. ولما كان الإنسان هو حياته الباطنية فإن الله يظهر من خلالها. وُلِد الإنسان في الألوهية والألوهية وطنه. يوجد حيث نشأ. الله إذن فكرة وقانون أو كما نقول عقيدة وشريعة للإنسان.
  • (٣)
    الله كموجود قلبي: ليس الله فقط مبدأً عقليًّا وقانونًا خلقيًّا بل هو أيضًا حب إلهي. فالحب وسيلة التصالح بين الإنسان والله أي بين الإنسان ونفسه. والتجسُّد هو الظهور الحسي الفعلي للطبيعة الإنسانية لله بفعل الحب. لم يظهر الله كإنسان لنفسه بل لحاجة الإنسان الملحَّة للحب.

    كان الله إلهًا إنسانيًّا قبل أن يصبح إلهًا فعليًّا، وفعل ذلك بواقعٍ من رحمته نظرًا للحاجة الإنسانية وللشقاء الإنساني. التجسُّد دمعة ساخنة إلهية على وجه العالم، وجود مفعم بالعواطف الإنسانية بل وجود إنساني خالص. كان الإنسان إلهًا قبل أن يصبح الإله إنسانًا وليس كما قال أوغسطين أصبح الله إنسانًا حتى يصبح الإنسان إلهًا؛ فألوهية الإنسان سابقة على إنسانية الله لأن ألوهية الإنسان هي التي جعلت الله إنسانًا. يقول اللاهوت: إن الشخص الثاني هو الذي تجسَّد. والحقيقة أنه الشخص الأول أي الله نفسه وليس الابن أو الروح القدس، ولكن ليس التجسُّد واقعةً مادية تاريخية كما يدَّعي اللاهوت، فهذه هي المادية الفجَّة، بل حقيقة إنسانية خالصة، وهذا ما تُضيفه الأنثروبولوجيا على الفلسفة التأملية. لا تعتبر الأنثروبولوجيا الصيرورة في الإنسان سرًّا خاصًّا مدهشًا كما هو الحال في الفلسفة التأملية ذات المظهر الصوفي بل تقضي على السر فوق الطبيعي، وتنقد العقيدة، وتحلِّلها إلى عناصرها الطبيعية المفطورة في الإنسان إلى داخله وبؤرته وهو الحب.

    (تعني العقيدة أن الله هو الحب، وأن الحب جعل الله يتخارج عن هويته؛ فالحب أقوى من الله. وكما قال القديس برنارد: إذا لم نضحِّ بالله من أجل الحب فإننا نضحي بالحب من أجل الله. الله ليس محايدًا، ليس بعيدًا، فكل صلاة هي تجسُّد لله، والله ذو شفقة وعطف وحنان. الصلاة تقرِّب الله للشقاء الإنساني، فالله يحب الإنسان. له ابن والله أب. علاقة الله بالإنسان في التجسُّد علاقة الأب بالابن، علاقة حب وعطف وشفقة وليست تناقضًا كما تدَّعي الفلسفة التأملية. الحب وحده هو قلب الإنسان. وإذا كان الله يحب الإنسان فالإنسان هو قلب الله. أليس حب الله للإنسان هو حب الإنسان لنفسه متموضِعًا ومُحْدَسًا كحقيقة مطلقة؟ ولقد أدرك لوثر من قبل أن المسيحية هي دين القلب، فمن يدرك في قلبه هذه الحقيقة أن الله أصبح إنسانًا يجب عليه باسم الجسد والدم أن يحبَّ في هذا العالم كل جسدٍ ودمٍ ولا يعادي أي إنسان حتى يكون له مكان في العالم الآخر على يمين الله. سر التجسُّد إذن هو الله كموجود قلبي.)

  • (٤)
    سر الله المتألم: من تحديدات الله الذي يصبح إنسانًا أن المسيح هو الألم. الله يتألَّم من أجل الآخرين وليس في ذاته، وهذا يعني أن التألُّم من أجل الآخرين إلهي. ولما كان الله هو مجموع الكلمات الإنسانية والله المسيح هو مجموع الشقاء الإنساني فإن الكمال يغطي على الحب، ويتأكد الحب في الألم. الألم خُلقي وإرادي كما هو معروف في آلام الحب، قوة التضحية من أجل خير الآخر.

    إن تاريخ المسيحية هو تاريخ آلام الإنسانية في حين أن تاريخ الوثنية هو تاريخ الملذَّات الحسية. والمسيح على الصليب لا يمثل المخلِّص بقدر ما يمثِّل المصلوب المتألم؛ ومن ثم صَلْب الذات ألم في حين أن الصور الدينية في الوثنية كما لاحظ أوغسطين وعددٌ من آباء الكنيسة تدعو إلى الإباحية. وكما أن سقراط يفرغ الروح من الآلام ويعيش في بهجة الموت فإن المسيحي يصيح «لو كان بالإمكان إبعاد هذه الكأس عني.» كما صاح المسيح على الصليب. الله يتألَّم يعني أن الله قلب، فالقلب هو الألم، والموجود بلا ألمٍ موجود بلا قلب. سر الله المتألِّم هو سر الحساسية، والله المتألم هو إله حساسية، إله حسي. الدين إذن هو انعكاس الوجود الإنساني في ذاته، فالله مرآة الإنسان. ولا يستطيع الإنسان أن يعتقد شيئًا إلا إذا كان في وجوده الخاص. ففي الإنسان توجد وحدة الطبيعة والروح، وما يعتبره الإنسان روحًا هو جزء من طبيعته. الذي يتألَّم هو الإنسان وليس المسيح.

  • (٥)
    سرُّ التثليث وأم الإله: كما كان الوجود الكلي هو الذي يعبر عن الإنسان الكلي فإن وعي الإنسان بشموله هو الوعي بالتثليث. يرجع التثليث إلى الوحدة بين التحديدات أو القوى التي تظن أنها منفصلة. يعني التثليث وحدة الشخصية الإنسانية في مقابل تعدُّد قواها، ووحدة الجماعة الإنسانية في مقابل تكاثر أفرادها. التثليث صورة لشيء حقيقي واقعي كما قال أوغسطين من قبل، مثل الروح والذهن والذاكرة والإرادة والحب. تموضع الوعي بالذات هو أول شخص في التثليث، فالوعي بالذات الإلهية ليس إلا الوعي باعتباره ماهية مطلقة أو إلهية. التثليث هو الوحدة بين الأنا والأنت. الله الآب هو الأنا، والله الابن هو الأنت، الأنا هو الذهني، والأنت هو الحب. واجتماع الذهن والحب أو الأنا والأنت هو الروح أو الإنسان. والله الذي يستبعد الحب والآخر والجماعة إله متعسف. إن الحياة المشتركة هي وحدها الحياة الإلهية الحقيقية المكتفية بذاتها. وهذه هي حقيقة التثليث على نحوٍ غير مباشر أي مقلوبة من الأنثروبولوجيا إلى الثيولوجيا. الروح القدس هي الوحدة بين الله والإنسان. والحقيقة لا يوجد إلا شخصان، والثالث هو الحس أو العلاقة بينهما. ولما كان الحب هو القلب، والقلب هو الإنسان أصبح الشخص الثاني هو التأكيد الذاتي للإنسان، وهو الذي يشارك في الجماعة. هو الحرارة، والآب هو النور، والنور صفة للابن. الابن هو لوعة الحب والحماس. الابن هو الله المتجسد، إنكار الله الأصلي، نفي الله لله.

    فإذا كان الابن متناهيًا يكون الله بلا أساس، يستولي الابن على القلب لأن الأب الحقيقي للابن الإلهي هو القلب الإنساني لأن الابن ليس إلا القلب الإلهي، أي القلب الإنساني موضوعًا لذاته كموجود إلهي. فالأب والابن في التثليث ليس لهما معنى مجازي بل لهما معنى حقيقي. التثليث إذن تموضُعُ الدين داخل الدين. ولما كان الحب في حاجة إلى شخص أنثوي لأن الروح القدس غامض وعام كانت مريم هي التوسُّط بين الأب والابن. لم تكن مريم في علاقةٍ مباشرة لأن المسيحيين يتصوَّرون العلاقة بين الرجل والمرأة خطيئة. ولما كان الحب بلا طبيعة وهمًا وخداعًا وسرابًا فقد أزاحت البروتستانتية أم الإله جانبًا بالرغم من عودتها الآن. لم تكن البروتستانتية في حاجة إلى أم سماوية لأنها استقبلت بالأحضان الأم الأرضية برفضها نظام الرهبنة وعزوبية القساوسة. التثليث لا يعني هذا المعنى إلا في الكاثوليكية، وأم الإله لا تعني شيئًا إلا للراهبات والرهبان تعويضًا عن الحرمان أو في أحسن الأحوال إعلاءً وتساميًا بالغريزة. ويعني التثليث بوجهٍ عامٍّ الغنى في مواجهة الفقر، والإشباع في مقابل الحرمان، والجماعة كنقيضٍ للعزلة، والحس الذي يعكس المجرد. وكلما كانت الحياة فارغةً امتلأ الدين. الفقير وحده له غنًى، فالله يكفل نقص الإنسان. ما يغيب عن الإنسان يوجد في الله، وما يحضر في الإنسان يغيب عن الله. هذه هي الدلالة العملية لهذه القضية النظرية.

  • (٦)
    سر اللوجوس والصورة الإلهية: إذا كانت الدلالة الجوهرية للتثليث تخصُّ الشخص الثاني فإن المعركة في المسيحية كانت حول ابن الله Homoiousios المتَّحد معه في الجوهر Homoousios (بفارق i). فالله مجرد وبارد بلا صورة. والصورة مصدرها الخيال. والشخص الثاني في الله من قوة الخيال؛ فالابن صورة الله، يتعلق بوجوده. ووجوده صورة الله لتخيُّل الله. والصورة تحلُّ محلَّ الشيء ثم تأتي عبادة المقدَّس في صورة كعبادة الصورة كمقدس. فالصورة جوهر الدين. وقد اعترف القديس جرجوار النيسي أن تمثُّل قربان إسحاق (إسماعيل) جعله يذرف الدمع ويجعل هذا التاريخ المقدس حيًّا؛ فالابن كلمة الله هي صورة الكلمة Verbe، صورة مجردة خيالية تعني الكلمة والتعبير، فالحالم يتكلم، والمجنون يتكلم، والشاعر يتكلم، الكلمة تعني التخارُج باللغة. الكلمة ثورة تعبير وإيصال. الكلمة تحرُّر للإنسان. والذي لا يستطيع أن يتخارَج يكون عبدًا. الكلمة فعل الحرية، الكلمة حرية. الكلمة حضارة. كلمة الله هي إلهية الكلمة. هكذا تجد العقيدة حقيقتها في الإنسان.
  • (٧)
    سر المبدأ الخالق للعالم في الله: طالما أن الله يكشف عن ذاته ويتخارج ويعبر عن نفسه فإن الشخص الثاني يكون هو المبدأ الخالق للعالم في الله. فالعالم ليس هو الله، هو الآخر، ضد الله، ولكن ما يخرج من الله يظل فيه، ويظل الآخر على وعْيٍ بانفصاله عن الله، والله على وعي بتخارُجه. التمايز الذاتي Autodifferenciation في الله هو أساس ما يختلف عنه. ولما كان الوعي بالذات أساس العالم نظرًا لوحدة الذات والموضوع، فالله يفكر في العالم عندما يفكر في ذاته، على طريقة أرسطو والفلاسفة المسلمين. التفكير تولُّد، والتفكير في العالم خلقه. الله يفكِّر ويضع موضوع تفكيره. فالابن هو الله عندما يفكر في ذاته موضوعيًّا، صورة الله الأولى. وكما يخلق الفكر موضوعه تضع الأنا الآخر. الوعي بالعالم هو وعي بحدودي، فالإنسان هو الموضوع الأول للإنسان، والإنسان هو إله الإنسان، إذا وجد تحوَّل إلى طبيعة وإذا وجد إنسان آخر فإنه يوجد بفعل الإنسان. يتدفَّأ الإنسان في شمس الإنسان، ولكن لما كان العامي لا يفهم إلا إذا تكلَّم بصوت مسموع لذلك كان هوبز على حق في استنباط الذهن من الآذان، فإن الابن هو حكمة الله وعلمه وذهنه أي كل شيء متعلق بالأشياء الروحية. الله والعالم لا يتمايزان إلا على نحو مجرد.
  • (٨)
    سر التصوُّف أو سر الطبيعة في الله: إن نظرية الطبيعة الأبدية في الله، هذه الخيالات الكونية اللاهوتية التي وضعها جاكوب بوهمه والتي أعاد شلنج صياغتها جديرة بالتحليل النقدي. الله روح خالص، وعي واضح بذاته، شخصية خلقية. وعلى الضد من ذلك الطبيعة مختلطة غامضة لا خلقية أو غير خلقية، ولكن من التناقُض صدور غير الخالص من الخالص، والغموض من الوضوح؛ وبالتالي فإن النظرية مادية مُغلَّفة بالتصوف. في هذه النظرية الثنائية في الله يكون الموضوع الحقيقي مَرَضيًّا Pathologique والموضوع المتخيَّل هو اللاهوت أي أن الباثولوجيا النفسية تحوَّلت إلى ثيولوجيا. فتاريخ المرض الإنساني هو تاريخ المرض الإلهي، وكلاهما مجموعة من الأمراض النفسية والعقلية. وهي نفس الأفكار المختلطة التي تحدَّث عنها ليبنتز والمأخوذة من جاكوب بوهمه والتي حاول شلنج تحديثها فتعالى عليها. كان بوهمه متدينًا ولكن الطبيعة كما وصفها العصر الحديث في مذهب اسبينوزا وفي المادية والتجريبية استولت على شلنج فحاول تفسير الطبيعة على نحو طبيعي. لقد أغْنَت الطبيعة العواطف الدينية، فالله غني كالأرض، وكل ما في الله في الأرض، وكل ما في الأرض في الله. لقد تصوَّر شلنج العلاقة بينهما عكسية، وهي عند بوهمه طردية.

    (لقد أرادت نظرية الطبيعة في الله تأسيس التأليه من خلال المذهب الطبيعي، فكل ما يمجِّده الإنسان ويعظِّمه هو الله، وما يلومه ويحتقره لا يكون إلهًا. الدين حكم شعوري أو لا شعوري، والحكم يعبر عن موقف. الوجود الإلهي ما هو إلا ماهية الإنسان بعد أن تحوَّلت بموت التجريد، روح الإنسان، روح الإنسان المنفصل. في الدين يتحرَّر الإنسان من حدود الحياة، يترك ما يقهره وما يخدمه وما يؤثر عليه أثرًا سيئًا. لا يشعر الإنسان بالسعادة إلا في الدين، بعبقريته يوم الأحد!)

    (وحيث تنتهي الطبيعة يبدأ الله لأن الله هو الحد النهائي للتجريد؛ ونتيجة لذلك فكل محاولة لتأسيس شخص الله بواسطة الطبيعة فإنها تتأسَّس على خلطٍ فاسدٍ وسيئٍ بين الدين والفلسفة عن لا وعي وعن غياب كلي للنقد. فيما يتعلَّق بنشأة الله الشخصي في شخص الله يحتفل الإنسان بغياب تحديداتِه الخاصة الخارجة على الطبيعة والمستقلة عنه، ولكن الذي تصوَّر الله كجوهر مثل اسبينوزا سيرفض الله الشخصي أي الله الموضوعي، في مقابل الله الذاتي؛ لذلك كان جاكوبي على حقٍّ في اعتبار الله شخصيًّا، ولكن شلنج يُدخل بدهاءٍ وخبثٍ الطبيعةَ في الله الشخصي الذي تكون ماهيته هي الشخصية المتحرِّرة التي انفصلت وتم إنقاذها من حدود الطبيعة وبالتالي في التناقض. فإذا كان شلنج قد أراد تفادي الخلق بالتوحيد بين الله والطبيعة فإنه لم يسلم من التناقض والخلط، ونقصه التحليل النفسي والتمييز بين ما هو مَرَضي وما هو صحيح.)

  • (٩)
    سر العناية والخلق من عدم: الخلق هي كلمة الله المنطوقة. والكلمة الخالقة هي الكلمة الداخلية المتماثلة مع الفكر. والنطق فعل إرادة؛ وبالتالي فالخلق نتيجة الإرادة، ولكنها ليست إرادة العقل بل إرادة الخيال، الإرادة الذاتية اللامحدودة. وقمة مبدأ الذاتية هي نظرية الخلق من عدم. وكذلك لا تعني نظرية قِدَم العالم أكثر من جوهرية المادة، وتعني أيضًا الخلق من عدم، عدم العدم. وكل شيء يبدأ ينتهي كذلك، فبداية الشيء تضع أيضًا على مستوى التصوُّر نهايته. بداية العالم هي أيضًا بداية نهايته، بمجرد الحصول عليه يتم فقده، أوجدته الإرادة ثم أعدمته. إن وجود العالم وجود زمني مؤقت بلا ضمان أو قيمة. صحيح أن الخلق من عدم تعبير عن القدرة المطلقة، ولكن القدرة المطلقة من خصائص الذاتية التي تتخلَّص من كل التحديدات الموضوعية ثم تحتفل بهذا التحرُّر، فتعمل على هواها، طليقة من كل قيد. لقد تحوَّلت الذاتية مع الفعل الحر إلى موجودٍ أسمى كمبدأ قادر قدرة مطلقة للعالم. الخلق من عدم نوع من المعجزة. وكما أن الخلق من عدمٍ مشابه للمعجزة فإنه أيضًا مشابه للعناية لأن العناية مشابهة للمعجزة. إن برهان العناية هي المعجزة. والإيمان بالعناية هو إيمان بالقدرة المطلقة التي تعدم أمامها كل قوة أخرى. المعجزة خلق من عدم في حين أن إنتاج الخمر عمل طبيعي. في المعجزة تتأكَّد العناية ويُظهر الله فيها خوارق العادات Thaumaturge كما يُخرج الساحر الحمامة من كمه أو الموسى من فمه، ولكن العناية في علاقة مع الإنسان، وتقوم بأشياء للإنسان، ولأجله ولتحقيق ما يريده يتم خرق قوانين الطبيعة. المعجزات لا تحدث للجماد أو للحيوان. والله ينقذ كل البشر وبخاصة المؤمنين. العناية تفوُّق إنساني، تعبر عن قيمة الإنسان وميزته على سائر الموجودات، تنقذه من ارتباطات العالم القاهرة. العناية اعتقاد الإنسان بقيمته على سائر الموجودات الأخرى. الإيمان بالعناية مثل الإيمان بالخلود. هو غرور لأن الله يعتني بي، ويهتم بشأني. مصلحتي هي مصلحة الله وإرادتي إرادته، وغايتي غايته. فحب الله لي ليس إلا حبي لذاتي المؤلَّهة تعبيرًا عن أنانيتي. ثم نقول: إن من يُنكر العناية يُنكر الله! إن الإيمان بالله هو الإيمان بالكرامة الإنسانية، الإيمان بالمدلول الإلهي لجوهر الإنسان. كل شيء يوجد للإنسان ولا يوجد في ذاته. الله هو الإنسان من أجل الإنسان. إن الإنسان هو غاية الخلق وأساسه. ونحن لا نثبت إلا ذاتنا (لقد حاولت وحدة الوجود التوحيد بين الإنسان والطبيعة وكلما تشخَّصت فيه عزلته عنها. الخلق علاقة خارجية بين الله والعالم في حين أنه علاقة داخلية بين الذات والموضوع. إن خالق العالم هو الإنسان بوعيه بالعالم، بعمله وإرادته. لا يمكن استنباط الشخصية من الله إن لم تكن فيه من قبل، إن لم يكن الله هو الوجود الذاتي الشخصي).
  • (١٠)
    دلالة الخلق في اليهودية: عقيدة الخلق لها جذورها في اليهودية وهي من عقائدها الأساسية، ولكن أساسها ليس هي الذاتية بقدر ما هي الأنانية. لقد خُلقت الطبيعة من أجل المصلحة، وأصبحت الطبيعة خاضعةً للإرادة من أجل المنفعة. لم يصل الوثنيون إلى تصوير الخالق بالرغم من دهشتهم أمام جمال العالم. ظهرت الطبيعة لديهم غايةً في ذاتها، ولم تنفصل فكرة الله عن فكرة الطبيعة في وعيهم بالعالم. يتولَّد العالم ولكنه غير مخلوق. فالحَدْس النظري في أصله حَدْس جمالي، والجمال هنا هي الفلسفة الأولى. وكما يقول أنكساجوراس: لقد وُلد الإنسان كي يتأمَّل العالم. والموقف النظري هو التجانُس مع العالم والتآلُف معه، ولكن لما كانت الذاتية تحتوي على خيال حسيٍّ فقد تم تصوُّر الطبيعة خادمةً للمصالح الأنانية والتعبير النظري عن هذه الرؤية الأنانية العملية القائلة بأن الطبيعة في ذاتها ولذاتها ليست إلا عدمًا، فالطبيعة أو العالم مصنوع، إنتاج الإرادة.

    المنفعة هي الأساس الأقصى في اليهودية. إن الإيمان بالعناية والإيمان بالمعجزة يقومان أيضًا على المصلحة الشخصية، فلا توجد معجزة مضادة لمن يؤمن بها. أصبحت الطبيعة موضوعًا للحكم الحر وللفعل الأناني الذي يصدق عليها: تحول الماء إلى جامد، والتراب إلى قمل، والعصا إلى ثعبان، والنهر إلى دم، والحجر إلى ماء، والشمس تقف أو تسير إلى الخلف، كل ذلك يحدث لمصلحة إسرائيل بإمرة «ياهوه» الذي لا يهتم إلا بإسرائيل، أنانية مشخصنة لشعب إسرائيل مُستبعِدة كل الشعوب الأخرى مع التعصُّب المطلق لإله إسرائيل. وبينما كان اليونان يُدركون الطبيعة بحسهم النظري ويسمعون أنغامًا سماوية في حركة الكواكب، لم يتعامل الإسرائيليون مع الطبيعة إلا بحسهم المِعوي أي ببطونهم، ولم يدركوا الله إلا بمتعتهم بأكل المن. بينما كان اليوناني يدرس الإنسانيات، الفنون الحرة وعلى رأسها الفلسفة، كان الإسرائيلي يعكف على دراسة الطعام لاهوتيًّا «بين المساءَين يجوز أكل اللحم، وفي الصباح تشبع بالخبز وتعلم أنني الرب إلهك.» ويدعو يعقوب أنه إذا ما حرسه الله وهو في الطريق، وإذا ما أعطاه خبزًا ليأكل ولباسًا ليلبس، وإذا ما أوصله سالمًا لأبيه إذن يكون الله ربه. الطعام أهم عمل ديني في اليهودية، وبالطعام يحتفل الإسرائيلي بفعل الخلق «ورأى الإسرائيليون الله، وبعد ذلك أكلوا وشربوا.» وهم على هذا الحال حتى الآن، يُعطيهم الله المنفعة، ويتمثلون الأنانية في ثوبها الديني. الله هو الأنانية التي لا تسمح بفناء عبادها. الأنانية في جوهرها توحيد، الواحد الأنا، الإنسان حول الإنسان. لا ينشأ الفن إلا في كنف تعدُّد الآلهة لأن تعدد الآلهة ضد الأنانية. الطبيعة عند العِبْرانيين نتيجة لكلمة تسلطية، لأمر مطلق، ولقرار سحري. كل ذلك ضد العقل، وهدم له، وضياع للنظر. أما قِدَم العالم عند الفلاسفة الوثنيين فيعني أن الطبيعة لها مدلول نظري لأنهم يتأمَّلون الطبيعة ولا ينتفعون منها كما يفعل المسيحيون المعاصرون الذين يأخذون الطبيعة موضوعًا لأبحاثهم. إن عبادة الطبيعة هي صورة لتأمل الطبيعة وكلاهما لا ينفصلان، فدراسة الطبيعة عبادة الطبيعة. الوثنية بداية البدائية الطبيعية وبالتالي فالخلق من عدم ليس موضوعًا للفلسفة لأنه يقضي على التأمل من أساسه بالإضافة إلى أنها نظرية غير متَّسقة مع نفسها من الناحية النظرية، وتؤكد المنفعة والأنانية، ولا تحتوي إلا على أمر، ليست موضوعًا للتأمل بل موضوع للمنفعة واللذة. هي فارغة بالنسبة للفلسفة التأملية. وخطؤها في أنها ترى الله هو الأول، والإنسان هو الثاني فتغلب الوضع الطبيعي للأشياء. في حين أن الإنسان هو الأول، وماهية الإنسان التي تتمَوْضع أي الله هو الثاني.

    يخلق الإنسان الله على صورته ومثاله بغير إرادته وعلى غير وعيٍ منه، ثم يخلق اللهُ الإنسانَ على صورته ومثاله بإرادته وبوعي منه. قوانين الطبيعة هي قوانين الله لمصلحة بني إسرائيل، والأرض تدور حول التوراة عند فيلون. لقد أعطى الله لموسى قدرة على الطبيعة من أجل الخلاص العام لبني إسرائيل. هو نار الغضب والانتقام المدمر، الله هو الإسرائيلي بقوة الطبيعة في قوة الله أي بقوة الله أي بقوة أناه ووعيه بذاته. الله هو الذات، أنا إسرائيل. الله خلاصنا، الله قوتنا، الله يطيع البطل يشوع لأن الله يحارب مع إسرائيل. فالله إله محارب. أما الله العام، إله يونس فلم يكن يعبِّر عن دين إسرائيل.

  • (١١)
    القادر قدرة مطلقة في العاطفة أو سر الصلاة: إن وعي إسرائيل هو نموذج الوعي الديني باستثناء المصلحة الوطنية. ويكفي إسقاط حدودها حتى ترى الدين المسيحي. اليهودية هي المسيحية الأرضية والمسيحية هي اليهودية الروحية. المسيحية هي اليهودية بعد تطهُّرها من الأنانية الوطنية وهي في الوقت نفسه دين جديد لأن كل تطهير يعبِّر عن رؤيةٍ جديدة. في اليهودية الإسرائيلي هو الواسطة بين الإنسان والله، ولم يكن «ياهوه» إلا شعور الإسرائيلي بذاته بعد أن تموضع في موجود مطلق وفي وعي وطني وفي قانون شامل وفي مركز سياسي. بعد إسقاط الحدود الوطنية يصبح الإنسان من حيث هو إنسان هو الواسطة بين الإنسان والله. وكما يضع الإسرائيلي ذاته يضع المسيحي ذاته في الإنسان المتحرر، وكما يضع الإسرائيلي احتياجاته كذلك يفعل المسيحي. فهناك معجزات في المسيحية مشابهة للمعجزات في اليهودية، ليس الهدف فيها مصلحة الأمة بل خير الإنسان. المؤمن هو المسيحي فحسب وليس الإنسان العام الحقيقي. لقد دخلت المسيحية الروحانية في الأنانية اليهودية برفعها إلى الذاتية حتى ولو تحوَّلت الذاتية إلى أنانية مسيحية أخرى. حولت المسيحية الخير الأرضي إلى هناء سماوي. لقد تركَّز إله الشعب السياسي في اليهودية، في التوراة، وهو المطلق الإلهي، ولكن في المسيحية تحول القانون إلى الحب، الحب الذي يقتضي التضحية بكل شيء من أجل الحبيب. الله هو الحب الذي يُشبع رغبات الإنسان، هو يقين القلب وتأكيد الذات. ولا توجد حدود في الحب، بل هو المطلق اللانهائي. العاطفة إذن هي إله الإنسان، والله هو تمنِّي القلب. والصلاة هي التي تسمع العاطفة التي تدرك ذاته. هي مدى الأنا الداخلية، يتخارج الألم فيها كما هو الحال مع قيثارة الفنان فيمحو الألم ويتحوَّل إلى لَحْن، ويصبح الألم ماهيةً شاملة. ولما كانت الطبيعة لا تستمع إلى آلام الإنسان فإنها تتحوَّل إلى الطبيعة اللامرئية، إلى الطبيعة الباطنية، يشكو إليها الإنسان آلامه، فيتخفَّف منها بهذا العزاء القلبي، بهذا التعبير عن الألم وهذا هو سر الله. الله دمعة حب تُذْرَف سرًّا على الشقاء الإنساني. الله تنهُّد دفين في قرار النفس. وهنا تولد دلالة الصلاة، وهي ليست أقل من دلالة التجسُّد، صلاة الحب والألم. ففي الصلاة يحادث الإنسان الله ويسمِّيه أنت. فالله هو الآخر المغاير، الأنا الآخر، يعترف الإنسان له كما يعترف أمام ماهيته الخاصة، ويعبِّر أمامه عن أفكاره الخاصة التي يخجل عن التعبير عنها أمام الناس. الصلاة هي التماثل بين الذاتي والموضوعي. الصلاة هي صلة القلب الإنساني مع ذاته وفيها ينسى الإنسان أن هناك حدودًا لرغباته، ويعيش في سعادة بنسيانِه هذه الحدود. الصلاة هي قسمة الإنسان لذاته إلى قسمين، انقلاب الإنسان على ذاته، وعلى قلبه. والكلمة اللاتينية Oratio تعني ما يئنُّ القلب بحمله. في الصلاة يعبدُ الإنسان قلبَه الخاص.
  • (١٢)
    سر الإيمان، سر المعجزة: الإيمان هو اليقين بالواقع أي بالشرعية وبالحقيقة غير المشروطة للذات في مقابل حدودها أي قوانين الطبيعة والعقل. موضوع الإيمان هو المعجزة، والإيمان هو الإيمان بالمعجزة، وما هو موضوعي معجزة هو ذاتيٌّ إيمانًا. المعجزة هي الواجهة الخارجية للإيمان، والإيمان هو الروح الباطني للمعجزة. الإيمان معجزة الروح، معجزة العاطفة التي تتمَوْضع في أن لا شيء يستحيل على الإيمان. والمعجزة هي التي تُثبت استحالة هذه الاستحالة. لا يوجد شكٌّ في الإيمان؛ ولذلك يتحوَّل الذاتي من خلاله إلى موضوعي، والنسبي إلى مطلق. ليس الإيمان إلا الإيمان بألوهية الإنسان، والشجاعة على كشف ذلك. الإيمان هو يقين الإنسان بذاته. يقين الإنسان الذي لا شك فيه بأن وجوده الذاتي النسبي هو وجوده الموضوعي المطلق. لا توجد حدود للإيمان؛ فالإيمان هو الذاتية المتحررة من حدودها، ولكن بقدر ما يرتفع الإيمان يسقط العالم. الإيمان إذن سقوط فعلي للعالم. ليست المعجزة الأرضية خارقةً للعادة قد تحقَّقت، هو نشاط نمائي من أجل عظمة الله. إن فعل المعجزة ليس فعل فكر لأنها نفي للفكر، وليس فعلًا حسيًّا طالما أن المسيحية الحقيقية موجودةٌ وخاليةٌ من النفاق والزيف والمساومة. الإيمان بالمعجزات في نهاية الأمر إيمان ميت — والمسيحية دين حي — لأنه إيمان بالتاريخ والأشخاص والواقع، وهو التاريخ الميت، ويكون ذلك خطوةً لعدم الإيمان. لا يكفي إذن تفسير المعجزة بالعاطفة والخيال دون الكشف عن أساسها في الإيمان، فالإيمان لا يكون إيمانًا إلا بالمعجزات.
  • (١٣)
    سر البعث والولادة الخارقة للطبيعة: لقد تحولت المعجزات إلى عقائد ولم تصبح فقط مجرد حوادث. فمثلًا نجد سر البعث في الرغبة في عدم الموت، وفي غريزة حب البقاء. هذه الرغبة الذاتية تتحول إلى رغبة موضوعية، الرغبة في الأمل. والعقل غير قادر على تحقيق هذه الرغبة. فكل البراهين على الخلود غير كافية. والعقل غير قادر على معرفتها أو البرهنة عليها. العقل لا يعرف إلا البراهين المجرَّدة العامة ولا يمكن إعطاء يقين خاص شخصي. وبعث المسيح هو يقين الإنسان بخلوده بعد الموت، الخلود الشخصي. وأصبح إنكار البعث جريمةً في المسيحية. فمَنْ ينكر البعث ينكر بعث المسيح ومن ينكر بعث المسيح ينكر المسيح، ومن ينكر المسيح ينكر الله؛ وبالتالي يتحول الدين المسيحي الروحي إلى دين بلا روح. بل إن الوثنيين استطاعوا الوصول إلى خلود الروح أو النفس ولكن على نحو مجرد لا يكفي المسيحيين. ويضم التاريخ المقدس أيضًا الولادة المعجزة، فكلما كان الإنسان غريبًا على الطبيعة كانت رؤيته أيضًا كذلك. الإنسان الذاتي يُعارض قوانين الطبيعة، ويجعل نفسه مقياسًا لكل شيءٍ ولما يجب أن يكون. فالأم العذراء ووليدها بين ذراعيها صورة تعجبه، والعذرية تصوره الخُلُقي الأسمى. ولما كانت العذرية والأمومة متناقضتين فقد أصبحت الولادة المعجزة في قلب المسيحي مأساة ومضمونًا للإيمان. يحول المسيحي والفيلسوف الولادة والموت إلى موضوعين صوريين. أما الإنسان الحر فيعترف بهما كصورة طبيعية في حدود الطبيعة وطبقًا لقانون الطبيعة في مقابل الخطيئة. وبينما يعظِّم الكاثوليك هذه العقيدة ويعتبرونها أساسًا للحياة وللإخلاص، يقلل البروتستانت من أهميتها ويقيمون الأخلاق على العقل أو القلب؛ ومن ثم فرفض العقيدة فيما بعد كما هو واضح من الخطاب الموجه إلى القديس برنارد الذي يرفضها ليست فقط رأيًا لمدرسة بل هو أساس للأخلاق.
  • (١٤)
    سر المسيح أو الله الشخصي: إن العقائد الأساسية في المسيحية هي رغبات للقلب يتم تحقيقها، فجوهر المسيحية هو جوهر العاطفة. والسلب يتفق مع العاطفة أكثر من العمل، وأن يتم الإنقاذ بواسطة آخر وليس بواسطة الذات، وأن يتوقَّف الخلاص على الآخر وليس على الذات، وأن يحب بدل أن يصارع، وأن يكون محبوبًا من الله أكثر من كونه محبوبًا من نفسه. فالعاطفة هي الأنا كمفعول به. لقد وصل فشته إلى النتيجة نفسها ولكن أنا فشته ليس بها عاطفة لأن المفعول به هو الفاعل ولا يمكن تعريفه. العاطفة تقلب الفاعل إلى مفعول، والموجب إلى سالب؛ لذلك تكون السعادة في الحلم، والحلم على الضد من الشعور اليقظ، عند الحالم يكون الفاعل سالبًا والسالب فاعلًا. الحلم هو مفتاح أسرار الدين. والقانون الأسمى للعاطفة هو الوحدة المباشرة بين الإرادة والفعل، بين الرغبة والواقع. والمخلِّص وحده هو الذي يحقِّق هذا القانون. لقد تحدَّث الفلاسفة جميعًا عن التوسُّط كعامل مهدئ للشعور المتوتر. فاللوجوس عند فيلون معلق في الهواء بين السماء والأرض، مرة كموجود فكري، ومرة كموجود واقعي. ظل فيلون متأرجحًا بين الفلسفة والدين، ولكن في المسيحية تجسَّد هذا اللوجوس؛ وبالتالي تحوَّل الدين نحو الموضوع. الله مخبَّأ ولكن المسيح كشف عنه. وفي المسيح تكون العاطفة على يقينٍ من ذاتها. وتنفرد المسيحية بذلك لأن التجسُّد لم يكن له أية دلالة خاصة عند الشرقيين وبخاصة الهنود. المسيحية وحدها هي التي جعلت إنسانية الله شخصيته، فالله موجود شخصي واقعي فالله إنسان. الرغبة ضرورة العاطفة، والعاطفة تريد إلهًا شخصيًّا، وهذه الرغبة لا تكون حقيقةً إلا إذا كانت رغبة شخص. وآلام المسيح هي اليقين الأسمى، اللذة الذاتية القصوى، العزاء الأقصى للعاطفة لأنه في دم المسيح تنطفئ الرغبة في الإله الشخصي.
  • (١٥)
    التمييز بين المسيحية والوثنية: المسيح هو الذاتية القادرة، القلب الذي تم خلاصه من قوانين الطبيعية، العاطفة التي تستبعد العالم كي لا تستبقي إلا ذاتها، تحقيق كل رغبات القلب، الصعود السماوي للخيال، عيد بعث القلب. المسيح إذن هو الذي يميز بين المسيحية والوثنية. في المسيحية لا يركِّز الإنسان إلا على نفسه وبالتالي يشعر أنه موجود لا حدود له، الذات والموضوع، في حين أن القدماء قد جعلوا الموضوع ضد الذات. المسيحيون أحرار أمام الطبيعة ولكن حريتهم ليست حرية العقل بل حرية العاطفة والخيال، حرية المعجزة. المسيحيون يحتقرون العالم ولا يعتبرون إلا الفرد في حين تضع الوثنية الإنسان مع الطبيعة، وتعتبر الإنسان الفرد في علاقته مع الجماعة. الله هو قصور الجنس (المنطقي) واعتباره شخصًا في المسيحية، وهو الشامل في الوثنية. يجعل المسيحيون العقل فرديًّا خالصًا ويجعله الوثنيون شاملًا. لم تدرك المسيحية الأجناس والأنواع، ويبدو ذلك في فكرة الخطيئة في كل إنسان. لقد جعلت المسيحية الإنسان إله الإنسان.
  • (١٦)
    المعنى المسيحي للرهبنة الإرادية ولحياة الرهبنة: مع اختفاء فكرة الجنس أو النوع من المسيحية فإنها لا تحتوي في داخلها على مقوِّمات الحضارة ما دام الله هو الفرد، هو الإنسان، والله لكل إنسان على انفراد. الله هو الذاتية المطلقة، الذاتية فوق العالم، منفصلة عنه، متحررة من المادة التي تجردت من حياة الأجناس وبالتالي من التميز بالأجناس والأنواع. غاية المسيحي الأساسية هي القطيعة الأساسية، هي القطيعة مع العالم والمادة وحياة النوع. وتتحقق هذه الغاية على نحو حسي في حياة الرهبنة. وإنه لخداعٌ نفسي أن يرغب الإنسان في أن يحيا حياة الرهبنة. ولم تصدر الرهبنة عن الشرق وحده لأنها تنشأ من الروح ومن طبيعة الغرب بوجهٍ عام. تنبع الرهبنة من الاعتقاد المسيحي الضروري بالسماء الذي تعده المسيحية للإنسانية. فحيث تكون حياة السماء حقيقة تكون حياة الأرض كذبًا. وحيث يكون الخيال وجودًا يُصبح الواقع عدمًا. تفقد هذه الدنيا قيمتها من أجل السماء، والإيمان بقيمة السماء هو إعدامٌ لقيمة الأرض. لقد فهم القديس أنطونيوس وحده عبارة المسيح «إذا أردت أن تكون كاملًا، اذهب وبِعْ كل ما تملك وأعطه للفقراء فسيكون لديك كنزٌ في السماء ثم تعال واتبعني.» وهذه حرية وهم وخداع. يقدِّس المسيحيون مبدأ العذرية والحَمْل العذري كمبدأ للخلاص، كمبدأ للعالم الجديد، العالم المسيحي. فإذا قيل: الحياة ازدواج، وقد أمر الدين بالتكاثر، وبأن ما ربطه الله في السماء لا يمكن حله في الأرض، وبالتواصي بالتزاوج في العهد القديم قيل: الله ذاتي شخصي، والحب كذلك. وهو حب غيور يرفض المشاركة مع آخر. حب الله حب حقيقي وحرفي وشخصي ووحيد. أما حب المرأة فزنا للروح. إن مَنْ يهتم بامرأة لا يهتم إلا بأمرها ومَنْ ليس له امرأةٌ يهتم بالله كما يقول بولس. يفكر المتزوج في إدخال السرور على زوجته أما العازب فإنه يفكر في إدخال السرور على الله. فكما أن المسيحي ليس في حاجة إلى حضارة فإنه ليس في حاجة إلى حب. الحب الجنسي حب خادع، حب دنيوي يُطرد من السماء، ومَن يُطرد من السماء يطرد ماهيته الحقيقية. في السماء أفراد بلا جنس، أفراد خُلَّص، ذاتية مطلقة. والحياة الحقة هي الحياة السماوية.
  • (١٧)
    السماء المسيحية أو الخلود الشخصي: إن حياة العذرية وحياة الزهد بوجهٍ عام هي الطريق المباشر إلى حياة الخلود السماوي. فالسماء هي الحياة الذاتية على الإطلاق والخارقة للعادة مع التحرُّر من الجنس والنوع. التمييز بين الجنسين خداع لأن الفرد موجود لا جنسي. الخلود هو الإيمان بالشخصية بلا حدود. الله هو السماء الروحي، والسماء هو الله الحي. الله هو السماء الذي لم يتطور، والسماء هو الله المتطور. الله هو مملكة السموات ولكنه في المستقبل هو السماء الذي هو الله. الله هنا في الوجود ولكنه في المستقبل هو المجرد، فالمستقبل هو ملخص السماء. الله هو تصوُّر الجنس (المنطقي) الذي لم ينفرد ولم يتحقَّق إلا هناك. الله هو الماهية السماوية الخالصة الحرة، هو تصور الماهية للحياة السماوية، هو الحياة المطلقة التي يتم التفكير فيها كسماء، فلا يوجد فرق بين الله والسماء. الله هو وجودي الدفين اليقيني، ذاتية الذوات، شخصية الشخصيات، أن أقيم مستقبلي على حاضري، وأن أحوِّل الفعل إلى مفعول. الله هو الوجود الذي يقابل عواطفي ورغباتي. الله هو القوة التي بها يحقق الإنسان سعادته الأبدية. وعقيدة الخلود هي آخر عقيدة في الدين. إن لم أكن خالدًا لما كان الله هو الله ولما كان هناك خلود، وما كان هناك إله. الخلود إذن حقيقة تحليلية تتضمن حقائق أولية أخرى. لو آمنت بالله لامتلكت الخلود أيضًا. ويتطلَّب الاعتقاد بالسماء المدح والذم، الثواب والعقاب؛ لأنه ذو طبيعة نقدية. الجنة للمسيحيين دون المسلمين، وللمؤمنين دون الكفار، وللأخيار دون الأشرار. ليست الحياة الأخرى إلا حياة الانسجام مع العاطفة، حياة يمَّحي فيها الشقاق، ويعيش فيها الإنسان في تآلفٍ ووئام مع نفسه. لقد كان الإيمان بالعالم الآخر عند الشعوب البدائية هو إيمان مباشر بالدنيا دون تجريد وعمومية، دون قطع معها. لا فرق إذن بين معتقد المسيحيين ومعتقد البدائيين إلا في أن الأولين ذوو حضارة والآخرين بلا حضارة، أي في درجة التجريد والعمومية. وكما أن الله ليس إلا ماهية الإنسان بعد أن يتم تطهيره من تحديدات الإنسان الفردي سواء من الفكر أو من العاطفة، كذلك فالآخرة ليست إلا الدنيا بعد تحريرها وتخليصها من حدودها. فإذا ما انفصل الإنسان عن ماهيته فإنه سرعان ما يعود إليها. الاعتقاد بالآخرة هو اعتقاد بحرية الذاتية، بخصوص حدودها في الطبيعة، وهي في الحقيقة إيمان الإنسان بذاته. الإيمان بالله هو إيمان الإنسان بماهيتِه الحقيقية المطلقة بعد أن نقذفها خارج العالم ونجعلها خارقة للطبيعة وفوق طاقة الإنسان. الإنسان هو بداية الدين، والإنسان هو النقطة المتوسطة فيه، والإنسان هو غاية الدين ونهايته.

    وهكذا ينتهي فيورباخ من هذا الوصف الصحيح للدين على أنه أنثروبولوجيا، أي وضع الإنسان قبل أن يصفه وهو مغترب زائف في ثيولوجيا الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤