أولًا: الكتاب، والأسلوب، والمنهج،
والنسق
يعتبر أونامونو وتلميذه أورتيجا أشهر ممثلين للوجودية الإسبانية
وللفلسفة الإسبانية على الإطلاق منذ سواريز
Suarez في القرن السادس عشر. جعل الأستاذ فلسفته
كلها تدور حول الفرد كما يتصوره كيركجارد ونيتشه وبسكال مأساة
تنتهي في حشرجة الموت.
١ كما يعتبر أورتيجا أشهر فيلسوف إسباني معاصر. قال عنه
كامو: «ربما يكون أورتيجا إي جاسيه بعد نيتشه هو أعظم كاتب أوروبي
وفي الوقت نفسه يصعب أن يوجد كاتب أكثر إسبانية منه.»
ولد أورتيجا عام ١٨٨٣م في مدريد. وبعد دراسة جادة للفلسفة في
إسبانيا سافر إلى ألمانيا، ودرس الفلسفة، وتأثَّر بالفلسفة الحيوية
عند دريش ودلتاي وكذلك بعلم الاجتماع الحيوي عند زِمل Zimmel ونيتشه. كما تأثَّر بمدرسة
ماربورج والتي كثيرًا ما يشير إلى أعلامها مثل بول ناتورب وهرمان
كوهين وإن لم يشر إلى كاسيرر. وبعد رجوعه إلى مدريد عين أستاذ كرسي
للميتافيزيقا في الجامعة المركزية وظل يشغله حتى أتت الهجمة
الدكتاتورية على الجامعة لإذلالها والقضاء على حريتها
واستقلالها.
ثم أسَّس عام ١٩١٥م مجلته «إسبانيا» وجعلها منبرًا له يعبِّر من
خلالها عن فكره، ويقوم بدوره كباعث للفكر الإسباني سواء في ميدان
الفلسفة الخالصة أو في ميدان العلوم الاجتماعية والسياسية. ثم
أسَّس عام ١٩٢٤م «مجلة الغرب» فأصبحت أكثر المجلات تعبيرًا عن
الحياة العقلية في إسبانيا كما فعل جان بول سارتر الشيء نفسه في
«الأزمنة الحديثة». وبجوار المجلة قام بنشر مؤلفات عدة تضم مقالاته
التي نشرها في المجلة من قبل مع مقدمات جديدة. وفي عام ١٩١٨م قَبِل
دعوةً للذهاب إلى بوينس آيرس بالأرجنتين لإلقاء عدة محاضرات في
الجامعات الأرجنتينية لاقت رواجًا ضخمًا خاصة في عامي ١٩٢٨-١٩٢٩م.
وبعد سقوط الدكتاتور بريمودي ريفيرا عاد أورتيجا إلى إسبانيا ليشغل
كرسي الفلسفة الذي تركه من قبل بسبب عدائه للدكتاتورية. وبدأ في
كتابة سلسلةٍ من المقالات تتعلَّق بالحياة العامة في مجلة «الشمس»
وتركِّز كلها على نقدٍ صريحٍ للنظام الملكي، ومقالات أخرى حتى آخر
ديسمبر ١٩٣٠م كان لها أبلغ الأثر في إسبانيا ما قبل الثورة. ومنذ
ذلك الحين أصبح أورتيجا شخصيةً سياسيةً عامة، وكوَّن مع الدكتور
مارانون Maranon والكاتب
بيريز دي
أيالا Perez de Ayala جماعة سياسية بعنوان «في خدمة الجمهورية».
وقد كان لهذه الجماعة حوالي عشرة نواب في البرلمان الدستوري، ومن
بينهم أورتيجا نفسه، ومنذ ذلك الوقت عُرف أورتيجا خطيبًا، وكاتبًا،
وسياسيًّا، ومفكرًا، ورجل دولة. وبعد رفضه تولي كل المناصب التي
عرضتها عليه الحكومة آثر أن يظل أستاذًا جامعيًّا، ومفكرًا حرًّا،
كاتبًا وناقدًا. وتوفي أورتيجا عام ١٩٥٥م.
وكتاب «ثورة
الجماهير»
La Révolte des Masses٢ هو أشهر كتاب لأورتيجا. ولا يكاد يُذكر اسم أورتيجا
إلا ويُذكر معه أنه هو مؤلف «ثورة الجماهير». وإذا ما أراد الناشر
التعريف بكتابٍ أقل شهرة منه فإنه يشير إلى أن صاحبه هو مؤلف «ثورة
الجماهير» حتى أصبح الكتاب نقطة إحالة لكل مؤلفات أورتيجا مثل
«الإنسان والناس»، «الإنسان والأزمنة»، «موضوع عصرنا الحديث»،
«رسالة الجامعة». ويعتبر، على حد قول إحدى المجلات الأمريكية
بالنسبة للقرن العشرين بمثابة «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو
بالنسبة للقرن الثامن عشر و«رأس المال» لماركس بالنسبة للقرن
التاسع عشر. وهو ليس كتابًا مؤلَّفًا منذ البداية، يحتوي على مذهب
متسق، بل هو مجموعة من المقالات نشرها أورتيجا في جريدة يومية تصدر
في مدريد عام ١٩٢٦م كما هي العادة مع كثيرٍ من الفلاسفة المعاصرين
الذين استعملوا أساليب المقال واليوميات والتأملات والرواية والقصة
والمسرحية … إلخ، دون اللجوء إلى الأسلوب العقلي التقليدي القائم
على تحليل التصوُّرات والمفاهيم وبناء الأنساق. استعمل أورتيجا
الكتابة الصحفية كأداة للتعبير. فالقدر الأعظم من مؤلَّفاته إن لم
تكن كلها قد نُشرت في الأصل في صحف إسبانية، خاصة في المجلة التي
أسَّسها وهي «مجلة الغرب» التي ذاعت واشتهرت بفضل كتاباته. لم يكتب
أورتيجا كتابًا واحدًا ذا أبواب وفصول. ولم يدرس موضوعًا واحدًا
دراسة تصورية محضة أو تاريخية صرفة للجمهور الخاص بل كتب في معظم
الموضوعات العصرية بأسلوب المقال للجمهور العريض. فهو بهذا المعنى
كاتب
Essaiste أكثر منه
فيلسوفًا. خاطَب أورتيجا عامة الناس لا خاصتهم، أساتذة كانوا أو
رهبانًا. ربما استطاع أورتيجا أن يجمع بين الأدب والفلسفة والصحافة
في أسلوبٍ جديدٍ أعطاه شعبية كبيرة، وجعله أقرب إلى فلاسفة الشارع
ومفكري الرصيف منه إلى أستاذ الجامعة وفيلسوف الرواق. كما أنه ربما
استطاع الجمع بين أساليب الأدب والخطابة وبين طرق الفلسفة والبرهان
بغية التأثير على الجماهير وكسبها في صف تياره الجديد. وهذا النوع
من الكتابة يعطي صاحبها شهرة فائقة وجمهورًا عريضًا داخل وطنه
وخارجه. وقد تُصيب هذه الشهرة صاحبها ببعض الغرور فيتكلم في كل
شيء، ويعرض الأفكار اعتمادًا على مجهودات الآخرين. يكتب أي شيء؛
فالصحيفة موجودة، والقراء ينتظرون اعتمادًا على سلطة الكاتب وبصرف
النظر عن تحليل الموضوع. ونتيجة لقوة الدفع التي تتولَّد عن اتصال
الكاتب بجمهوره قد تنشأ لديه رغبةٌ لتملُّق الجماهير واكتساب
ولائهم متنازلًا عن الدقة الفلسفية والتحليل العلمي الرصين. وهنا
يتحوَّل الكاتب إلى فنانٍ يحرص على جمهوره حتى وإن تنازل عن فنه،
فيصبح الجمهور هو الذي يوجِّه الكاتب كما أن شباك التذاكر هو الذي
يوجِّه الفنان. وقد يصبح الموضوع ذاته غامضًا في الذهن بحيث لا
يستطيع القارئ المتخصِّص أن يعرف ماذا يريد أورتيجا أن يقول فينتقل
بين عديد من الموضوعات، يُسهب في البعض دون البعض، ويغيب التركيز
على صلب الموضوع. وتكثر أسماء الأعلام والشخصيات والدول والعواصم
طلبًا للعصرية وإيحاءً بالأمثلة التي تصوِّر تحليلات نظرية غامضة
أو غائبة؛ لذلك غلبت على كتابات أورتيجا التحليلات السريعة،
والانتقال من موضوع إلى موضوع بلا تعمُّق كافٍ. يذكِّر القارئ بما
قيل سالفًا وبما سيُقال آنفًا. ثم يعود ويرجع إلى الموضوع الأول
بعد استطراد طويل وكأن ما يخطر بباله يعبِّر عنه دون ما بنية
للموضوع أو تصور له؛ ومن ثم كانت كتاباته أقربَ إلى الأدب الصحفي
منها إلى المقال الفلسفي. مهمتها تنوير القرَّاء وتثقيف العامة
وخلق تيار فكري سياسي عن طريق الفلسفة واعتمادًا عليها. فكانت أشبه
بكتابات رسل المتأخرة عن السعادة والجنس والتربية والسلطة والفرد
والحرب والسلام والبلشفية … إلخ بعيدًا عن الدراسات المتخصصة
لجمهور متخصِّص. ومن جرَّاء التعامل مع الفلسفة باعتبارها
محاولات
Essais فقد غاب
المقال الفلسفي الذي يعتمد على مقدمات وينتهي إلى نتائج ويقوم على
براهين واستدلالات، تطبيقًا لخطوات منهج وانتقالًا طبيعيًّا من
فكرةٍ إلى أخرى. ومع أن معظم الموضوعات المدروسة ملموسةٌ وعصرية
ويمكن الوصول فيها إلى نتائج محددة، إلا أن أورتيجا تعامل معها على
نحوٍ مجرد واسعٍ وشاملٍ بالرغم من انتسابه إلى المنهج الظاهرياتي
لوصف الموضوعات باعتبارها تجارِب شعورية حية، فردية واجتماعية مثل
«ثورة الجماهير»، ولكن ليست كل كتابة وصفية ظاهريات. فالظاهريات
للماهيات لا للوقائع، وإدراك للدلالات لا للأحداث، وذلك من أجل
الوصول إلى بنيتها أو إلى مناطقها الوجودية.
وتعبير «ثورة الجماهير» يلقى هوًى في النفوس خاصة لدى شعوب
العالم الثالث في مرحلتها الراهنة وبعد الثورات الإسلامية في إيران
وثورات السودان وهايتي والحركات الشعبية في كوريا الجنوبية
ومظاهرات الطلاب والانتفاضات الشعبية في مصر والعالم العربي
والإسلامي في السنوات الأخيرة والتي قد تستمر في التسعينيات ردًّا
لاعتبار ثوراتها في الخمسينيات والستينيات وبعد انحسار الثورة
المضادة في السبعينيات والثمانينيات. فالعنوان «ثورة الجماهير»
مبهر؛ إذ إننا نعيش في عصر الجماهير. ومَن منَّا لا يود ثورة
الجماهير؟ ولكن العنوان البرَّاق قد يخفي موضوعًا أقل بريقًا وأكثر
غموضًا. ونتيجة لإعطاء الأولوية للأسلوب على الموضوع أصبح الموضوع
غامضًا مسطحًا، وأصبحت معظم العناوين خادعة، عناوين براقة وموضوعات
عادية مثل «ثورة الجماهير» «الإنسان والأزمنة»، «الإنسان والناس»،
«التاريخ باعتباره نسقًا»، «التطابق والحرية»، «ما هي الفلسفة؟»
«نشأة الفلسفة». وقد يكون أهم ما في الكتاب هو العنوان الذي أثار
في الغرب الأذهان من قبلُ منذ الثورة الفرنسية وثورة ١٨٤٨م في
ألمانيا، وثورات الشباب في العالم كله في ١٩٦٨م والذي ما زال يشدُّ
الانتباه بالنسبة للشعوب المقهورة غير المنظمة التي تسيطر عليها
النظم الحاكمة بأجهزة الأمن والجيش والشرطة والأمن المركزي وأجهزة
المخابرات العامة والخاصة.
ويبدو أن تعبير «ثورة الجماهير» تعبير اشتباهي يوحي بالإيجاب
والسلب في آنٍ واحد. فهل «ثورة الجماهير» ظاهرة سلبية، وقد يكون
هذا هو المعنى الذي يقصده أورتيجا، أم ظاهرة إيجابية وهو المعنى
الذي يُثير هوى النفس أشجانًا وأحزانًا؟ تعني «ثورة الجماهير»
بالمعنى السلبي الجماهير في مقابل الفرد، والأغلبية في مقابل
الأقلية، والدَّهْماء في مواجهة الصفوة، والديماغوجية نقيض
الأرستقراطية، التسطيح والتفاهة، الإنسان الآلي الأصم في مقابل
العميق والنبيل، الإنسان العظيم الحركي الحر. في حين تعني «ثورة
الجماهير» لدى شعوب العالم الثالث أملًا وحركةً وحياةً. إذا كان
المعنى السلبي هو المقصود فهل يجعل ذلك أورتيجا من دُعاة النظريات
العنصرية والفاشية والنازية والقائمة على الصفوة المختارة، القادرة
بما تتمتع به من مزايا أن تقود الجماهير الصماء؟ هل هو من أعداء
النظم الاشتراكية بوصفه للعامة بأنها دهماء آلية صماء؟ وماذا عن
«ثورة الجماهير» التي طالما تغنَّت بها شعوب العالم الثالث في
مرحلة التحرُّر من الاستعمار في القارات الثلاث؟ هل يقصد الوضع
الراهن للجماهير في البلاد النامية وصلة طبقات الشعب الكادحة
بالطبقات الجديدة في عصر ما بعد التحرُّر وبدايات الحركات الشعبية
منذ أواخر السبعينيات حتى الآن؟ يمكن الإجابة على هذه الأسئلة
بالبحث عن الظواهر الاجتماعية والسياسية التي يراها أورتيجا حاملةً
لثورة الجماهير. هناك احتمالان؛ الأول: أن ثورة الجماهير يشير
أورتيجا بها إلى ثورات الشعوب في القرن العشرين، البلشفية في
روسيا، وصعود النازية (الفاشية) في ألمانيا. وهو الاحتمال الأرجح
نظرًا إلى إشارات أورتيجا الدائمة إلى هاتين الثورتين دون الإشارات
إلى ثورات سابقة مثل الثورة الفرنسية أو ثورة ١٨٤٨م في ألمانيا.
وبهذا المعنى يشير أورتيجا إلى ظاهرة أوروبية صرفة هي الفاشية
والبلشفية دون الحديث صراحة عن النازية. ويدعم هذا الاحتمال نقد
الاتحاد السوفياتي والدفاع عن الليبرالية الفردية، صراحةً أو ضمنًا
دون أي نقد لأمريكا والغرب، باستثناء نقد أخلاقي شائع بالخواء
الروحي والأخلاقي والمعروف عند برجسون وشيلر وغيرهما ممن بيَّنوا
«قلب القيم» في الوعي الأوروبي المعاصر. والاحتمال الثاني: هو ثورة
الجماهير في الحرب الأهلية الإسبانية خاصة وأن أورتيجا عُرف بأنه
مفكر الجمهوريين وناقد الملكية في إسبانيا. والغريب أنه لا توجد
شواهد على ذلك من نصوص أورتيجا. بل لا يكاد يُشير إلى الحرب
الأهلية الإسبانية وموقفه من الجمهوريين ضد الملكيين. أما كتابه
«إسبانيا بلا عمود
فقري» The lnvertebrate Spain فقد كُتب قبل الحرب الأهلية دفاعًا عن
وَحْدة البلاد. فإذا كان أورتيجا مفكر الجمهوريين فإنه يكون لثورة
الجماهير معنى إيجابي والحال ليس كذلك. في حين ألهبت ثورة
الجمهوريين خيال المفكرين والأدباء كما هو الحال في رواية «لمن
تُدَق الأجراس» لهمنغواي. حتى هذان الاحتمالان غير واضحين في «ثورة
الجماهير». بل إن السؤال النهائي في الفصل الختامي «إلى أين ينتهي
السؤال الحقيقي» والذي هو أشبه بخاتمة للكتاب كله لا يتضح منه غرض
الكتاب، ولا يحتوي على الإجابة الرئيسية على: ماذا تعني ثورة
الجماهير؟ أية ثورة وأية جماهير؟ وبالنسبة لنا في العالم الثالث لا
نجد أيضًا إجابة لهمومنا وهي حركات التحرر الوطني وما تولَّد عنها
من ثورات مضادة في القرن العشرين. وماذا عن انتحار الشعوب وموتها
جوعًا وعطشًا كما هو حادث في أثيوبيا وتشاد والسودان؟ وماذا عن نقل
الشعوب خارج أوطانها ووضع شعوب أخرى محلها كما هو حادث في
فلسطين؟
ومهما يكن من شيء، هل يمكن العثور على نسقٍ موحد يمكن على أساسه
فهم ماذا تعني «ثورة الجماهير»؟ إن نقطة البداية في فلسفة أورتيجا
هي «العقل الحيوي» في مقابل العقل المجرد أو العقل النظري كما
تصوَّره المثاليون. العقل الحيوي يثبت الفرد وواقع الأشياء في حين
أن العقل النظري يقضي على واقعية الأشياء، هو العقل الرياضي الذي
يحيل العالم إلى معادلات أو العقل الطبيعي الذي يحيله إلى رموز أو
العقل الفلسفي الذي يحيله إلى تصوُّرات. في مقابل هذا العقل
التقليدي يضع أورتيجا العقل الحيوي، وهو أسلوب في التعامل، طريقة
في الحياة أو الحياة نفسها. هو الفعل Le Faire أو تحقيق الحياة باعتبارها مشروعًا. العقل
الحيوي هو «الأنا في موقف»، يختار بين الممكنات، مهمته إدراك هذا
العالم السابق على الحكم الذي حاول هوسرل في «التجربة والحكم»
الكشف عنه وإعادة تكوينه. بل إن العقل المجرد نفسه هو إحدى صور
العقل الحيوي. على هذا النحو يشير أورتيجا مع معظم الفلاسفة
المعاصرين الذين يجعلون من الحياة انطلاقًا لهم كما هو الحال عند
برجسون، ووليم جيمس، وماكس شيلر، واشبنجلر، وجويو، وفوييه
استمرارًا لهذا التيار الذي بدأه دلتاي ودريش من قبل في القرن
الماضي وجولد شتين في هذا القرن. والحياة هي الموضوع المشترك بين
جميع الفلاسفة المعاصرين — كما كانت الرياضة هي العامل المشترك بين
فلاسفة القرن السابع عشر — بصرف النظر عن أسمائها: «تصور العالم»
عند دلتاي، «العضو» عند جولد شتين، «الدافع الحيوي» أو «التطور
الخالق» أو «الذاكرة» أو «المُعطَى البديهي للوجدان» عند برجسون،
«الإحساس الدرامي» عند أونامونو، «عالم الحياة» عند هوسرل، «الشخص»
عند شيلر ومونييه، «الجسم» عند ميرلو بونتي، حتى الحرية أو العدم
عند سارتر، والوجود أو الموت عند هيدجر هي أيضًا بعض صور الحياة.
وقد يبدو الجمع بين العقل والحياة مستحيلًا طبقًا لمنطلق «إما …
وإما …» على التبادل كما هو الحال عند كيركجارد ومعظم اتجاهات
الفلسفة المعاصرة. إلا أن أورتيجا يشير بالعقل الحيوي إلى شيء أشبه
بالدافع الحيوي على ما يقصده برجسون وكأنه يريد الإبقاء على لفظ
العقل تحت تأثير مدرسة ماربورج ودراسته للفلسفة الألمانية. يكفيه
ربطه بالحياة ودون اللجوء إلى تراجيديا الحياة كما فعل أستاذه
أونامونو. والحقيقة أن إحساس العصر بالحياة كنقطة بداية عند معظم
الفلاسفة المعاصرين إنما نشأ بسبب حربين عالميتين كان مصير الإنسان
فيهما معلقًا بين الحياة والموت، ومن رغبة البحث عن معنى الأشياء
بالعودة إليها بعد رفض عصر النهضة والفلسفات العقلية وعصر التنوير
كل قيم مسبقة، وبعد انهيار القيم البديلة التي وضعها القرن التاسع
عشر؛ إذ تحوَّل العلم إلى آلة، والتقدم إلى غزو، والقوة إلى
استعمار، والإنتاج إلى استغلال، والتضخُّم إلى حروب، والوفرة إلى
انتحار، والتقدم إلى يأس.
ونتيجة لذلك، أعطى أورتيجا الأولوية للعقل العملي على العقل
النظري كمعظم الفلاسفة المعاصرين. فالأفكار
ldées لديه أقرب إلى العقائد
Croyance منها إلى التصوُّرات
النظرية، والفكر
Pensée أقرب إلى
الحياة منه إلى المعرفة
المجردة
Connaissance٣ وهنا يبدو أورتيجا مثل معظم الفلاسفة المعاصرين مع
التحليل الوجودي الشائع الذى بدأه كيركجارد والقائم على تعارض
الفكر والوجود. كلما فكرت ابتعدت عن الوجود أي عن الحقيقة، وكلما
اقتربت من الوجود ابتعدت عن التفكير أي عن الزيف، وهو الموقف الذي
لخَّصه كيركجارد في عبارته المشهورة «أنا أفكر فأنا إذن غير
موجود»، ردًّا على عبارة ديكارت الأكثر شهرة «أنا أفكر فأنا إذن
موجود». ولما كان كل فيلسوف معاصر يثبت موقفه المقابل للعقل بأخذ
فيلسوف عقلي والجدال معه حول وظيفة العقل وضرورة الحياة كما هو
الحال في الجدال بين كيركجارد وهيجل، هيدجر وكانط، سارتر وديكارت،
هوسرل وديكارت، برجسون وكانط فإن أورتيجا سار على المنوال نفسه في
حواره مع ليبنتز حول «فكرة المبدأ».
٤ فكل فكرة فشل للحقيقة، وكل تصور خيانة للأشياء،
والحياة العامة ليست فقط عقلية بل هي حياة خلقية وسياسية واجتماعية
واقتصادية. إنما العقل محاولة للتقريب والفهم وليس بديلًا عن
العالم. إن التقابل بين العقل والوجود مثل التقابل بين الوهم
والحقيقة. والمثل على ذلك أنه في رأي العقلانيين وأصحاب دوائر
المعارف اللهُ مجرد تصوُّر أو تصور مجرد في حين أن أصحاب العقائد
يرَوْن أن التاريخ هو المطلق الحقيقي، وأن التاريخ هو واقع
الإنسان، والله هو هذا التاريخ لأن التاريخ هو كل شيء، الماضي
والمستقبل، الأول والآخر، البداية والنهاية؛ ومن ثم كان إنكار
الماضي تناقض ووهم. فالماضي هو طبيعة الإنسان، يفرض نفسه عليه ولا
يستطيع له دَفْعًا؛ لذلك نشأت الحركات الدينية الإصلاحية وكأنها
عود إلى الماضي وعود إلى البدائية والشيوع وكما هو الحال في
الإسلام الأول والمسيحية الأولى.
ثم طبَّق أورتيجا نقطة البداية لديه وهي «العقل الحيوي» على
الفرد والجماعة، الأنا والآخر، الإنسان والناس، الليبرالية
والاشتراكية … إلخ، كما انتقل هوسرل من الذاتية إلى العلاقات بين
الذوات والتجارب المشتركة، وكما انتقل سارتر من تحليل الشعور
الفردي في «الوجود والعدم» إلى تحليل الشعور الجماعي في «نقد العقل
الجدلي». بل إن «حياة الحوار» في لغة الأنا والأنت أصبحت من أهم
الموضوعات في الفلسفة المعاصرة عند جابريل مارسل، ومارتن بوبر،
وندونسل … إلخ. واختلفت الآراء حول الآخر بين «الآخر هو الجحيم»
وبين «الآخر هو النعيم». ويبدو أن أورتيجا من أنصار الرأي الأول
وكما يتضح ذلك من «ثورة الجماهير» وتأكيده على الفرد في مقابل
الجماعة، وعلى الذات ضد الإنسان الجماهيري، وعلى الليبرالية في
مواجهة النظم الجماعية. ولا وسيلة للانتقال من الفرد إلى الجماعة،
من الأنا إلى الآخر، ومن العزلة إلى المشاركة إلا عن طريق اللغة
بالرغم من قصورها وحدودها وعدم استطاعتها التعبير عن المعاني
وإيصالها إلا على وجه التقريب. يخرج الفرد من عزلته ويتصل بالآخرين
عن طريق اللغة التي هي في حقيقتها جدل وحوار ولكنه حوار خفي يجد
الفرد فيه نفسه وليس حديثًا لكل الناس. ليست وظيفة اللغة إعطاء
تعريفات منطقية فهذا يستحيل في حياة الجدل والحوار. فكل تعريف إن
لم يكن خاطئًا فإنه يدعو إلى السخرية إذ يتضمن بعض التحفظات في
الإعلان عن الأشياء الضمنية والتي لا يمكن الإفصاح عنها. تحديد
مفردات الألفاظ في اللغة إذن مدعاة للسخرية لأن وظيفة اللغة
التعبير والإفصاح، ووظيفة التعريف التغطية والإضمار. يعارض أورتيجا
التعريف التقليدي للحصول على التصوُّرات نظرًا لأن وظيفة اللغة
ليست في إعطاء معلومات بل في فك الحصار عن الفرد من أجل مشاركته مع
الآخرين. لا تخضع اللغة لمنطق البرهان بل لمنطق الجدل أي الحوار
بين الأنا والآخر، بين الإفصاح والإضمار، وبين الجلاء والخفاء،
خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. واللغة بطبيعتها قادرة على
التعبير عن المُحكَم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والمقيد والمطلق،
والمبين والمجمل على ما يقول الأصوليون وعلى ما هو معروف في علوم
البيان والبديع والبلاغة. تفترض اللغة وجود المتكلم ووجود السامع
ثم تأتي الكلمات بالمصادفة وقد يخون التعبير، ويُساء استعمال اللغة
بالحديث عن الكل ولا شيء أو الحديث للكل وليس لأحد كما هو في ظاهرة
الثرثرة. اللغة جدل وحوار، ولكنه حوار خفي يجد الفرد فيه نفسه. لا
يوجد حديث لكل الناس بل لفرد عين. والحديث عن الإنسانية والعموميات
والأقطار أقرب إلى ديماغوجية عصر التنوير ومثاليات المفكرين
الأحرار والرومانتيكيين مثل كانط ولسنج الذين لا يدركون حدودهم،
ويتجاوزون مصيرهم، ويخلدون فناءهم.
وكتاب «ثورة الجماهير» هو أشهر مؤلف لأورتيجا ضمن مؤلفات جاوزت
الثلاثين. ويمكن تصنيفها جميعًا ومن خلال المترجمات الإنكليزية
والفرنسية إلى مجموعات ثلاث يدور كلٌّ منها حول موضوعٍ رئيسي وبصرف
النظر عن ترتيبها الزماني.
٥
المجموعة الأولى تدور معظمها حول الاجتماع والسياسة. وتأتي في
مقدمتها «ثورة الجماهير» ١٩٣٠م، «الإنسان والناس» ١٩٤٠م، «موضوع
عصرنا الحديث» ١٩٢٨م، «الإنسان والأزمة»، «إسبانيا بلا عمود فقري»
١٩٢٨م.
والمجموعة الثانية تدور حول الفلسفة، وتأتي في مقدمتها «ما هي
الفلسفة» ١٩٢٩م، «نشأة الفلسفة» ١٩٤٣م، «بعض دروس الميتافيزيقا»
١٩٢٣م، «التطابق والحرية» ٤٤-١٩٤٥م، «التاريخ باعتباره نَسَقًا»
١٩٤١م، «تفسير التاريخ الشامل»، ٤٨-١٩٤٩م، «فكرة المبدأ في فلسفة
ليبنتز وتطور النظرية الاستنباطية»، «كانط» ١٩٣٠م.
والمجموعة الثالثة حول الفن والحضارة. وفي مقدمتها «محاولات
إسبانية»، «في الحب»، «القضاء على إنسانية الفن» ١٩٢٦م، «تأملات في
دون كيخوت» ١٩١٤م، «ظاهريات الفن»، «فالاسكويز، جويا»، «رسالة
الجامعة» ١٩٣١م.
ويمكن أيضًا تصنيف أعمال أورتيجا على مراحل ثلاث في حياته. طبقًا
لتطوُّر فلسفته. المرحلة الأولى «الموضوعية» وتشمل الكتابات قبل
١٩١٤م وهي تطابق أعماله الأدبية والفنية والتي فيها حاول أورتيجا
التخلُّص من موضوعية القرن التاسع عشر التي سادت العلوم الإنسانية
الاجتماعية. والمرحلة الثانية «المنظور»
Perspectivisme، وتشمل الكتابات بين ١٩١٤–١٩٢٣م وتضم
مرحلة الفلسفة. وهي المرحلة التي تميز فيها أورتيجا بفلسفة خاصة
مؤكِّدًا فيها أن الإنسان موجودٌ ظرفي
Circonstancial أي أنه ابن ظروف
عصره، وأن الحياة موقف والتزام معرفي وأخلاقي. المنظور ضد المعرفة
المطلقة والنظريات المسبقة، وتعبير عن موقف إنساني محدد. والمرحلة
الثالثة «العقل الحيوي» وتشمل الكتابات بعد ١٩٢٤م، وتشير إلى
مؤلفاته الاجتماعية والسياسة.
٦
وكتاب «ثورة الجماهير» يضم خمسة عشر مقالًا تسبقها «مقدمة للقارئ
الفرنسي» مثل مقدمة «ظاهريات الروح» لهيجل بالرغم من البون الشاسع
بين العملين من ناحية البنية الفلسفية والإحكام النظري والأهمية
التاريخية. وقد نشرت مادة هذه المقدمة من قبل في «إسبانيا بلا عمود
فقري» عن الوحدة والتنوُّع في أوروبا، وتظهر فيها المركزية
الأوروبية. وهي ثاني الأقسام من حيث الحجم. أما المقالات الخمسة
عشر فهي على النحو الآتي:
- (١)
«واقعة
التجمهر» Agglomération، ويعرض فيها أورتيجا
لثنائية الجماهير والصفوة أو العامة والخاصة وهي إحدى
سمات العصر.
- (٢)
«الصعود إلى المستوى التاريخي»، ويعني بذلك ظهور
الجماهير كمادة تاريخية وكحدث رئيسي من أحداث العصر
وكمحرك لأحداث التاريخ.
- (٣)
«قمة الزمان»، ويعني بذلك تعبير ظاهرة الجماهير عن
روح العصر وكونها إحدى لحظات التطوُّر في الزمان
وتراكم الأحداث في التاريخ حتى لحظة الانفجار في
الثورات.
- (٤)
«نماء الحياة»، ويعني بذلك رؤية العصر من خلال حركة
الجماهير ومن خلال العقل الحيوي مما يجعل أورتيجا
قريبًا من إقبال وبرجسون وباقي فلاسفة الحياة.
- (٥)
«مُعطى إحصائي»، ويقصد به أورتيجا الواقع الإحصائي
لحركة الجماهير من حيث تعداد السكان في أوروبا وأمريكا
خاصة كإحدى سمات العصر أو ما يسمى بالكثافة
السكانية.
- (٦)
«أين يبدأ الفصل بين الإنسان والجماهير؟» والقصد من
هذا السؤال إثبات صعوبة الفصل بين الإثنين؛ فالإنسان
جماهيري، والجماهير لها سمات الشعور الجَمْعي.
- (٧)
«الحياة النبيلة والحياة التافهة أو الجهد والخمول»،
وهي إحدى الثنائيات التي يظهر فيها العقل الحيوي.
فالحياة النبيلة والجهد لدى الصفوة والتفاهة والخمول
لدى الجماهير!
- (٨)
«لماذا تتدخل الجماهير في كل شيء، ولماذا لا تتدخَّل
إلا بعنف»؟ والقصد من السؤال اتهام الجماهير بممارسة
العنف وكأن الصفوة لا تمارس عنفًا!
- (٩)
«البدائية والتقنية»، وهي ثنائية تميز بين الفطرة
والاكتساب، بين بدائية الجماهير والتحكم فيها من خلال
التقنية وتحققاتها في التصنيع والإنتاج.
- (١٠)
«البدائية والتاريخ»، وهي ثنائية أخرى تميز بين
الحاضر والماضي، بين غياب الذاكرة وتراكم الخبرات.
فالإنسان كائن تاريخي يحمله الوعي الفردي، والجماهير
عود إلى البدائية!
- (١١)
«عصر الإشباع الحسي»، والغاية منه نقد مجتمع
الاستهلاك وكأن الجماهير وحدها هي التي تستهلك دون
الصفوة على عكس ما تشير به الإحصائيات من نسبة استهلاك
الصفوة إلى استهلاك الجماهير.
- (١٢)
«بربرية التخصص»، وذلك من أجل نقد روح التخصص في
العلم الحديث وفقدانه للتصور الشامل حتى ضاع منه
المنظور.
- (١٣)
«أكبر خطر، الدولة»، وذلك من أجل نقد الدولة لما
تمثِّله من خطورة على حرية الفرد، وكأن أورتيجا يعيد
ثورة باكونين وشترنر ضد هيجل دفاعًا عن الفرد ضد
السلطة وثورة كاسيرر ضد الدولة النازية في «أسطورة
الدولة».
- (١٤)
«مَنِ الذي يقود العالم؟» وهي أطول المقالات من أجل
عرض قضية قيادة العالم الآن، من الغرب أم من خارج
الغرب، الصفوة أم الجماهير؟
- (١٥)
«إلى أين ينتهي السؤال الحقيقي؟» وهي أشبه بخاتمة
الكتاب كله لا يتضح منها غرض الكتاب، ولا تحتوي على
الإجابة على السؤال الرئيسي وكأن أورتيجا يصف الظاهرة
ولا يصدر حكمًا عليها.
وهكذا يبدو أن دراسة أورتيجا «ثورة الجماهير» وكما
يقول هو عن نفسه؛ هي دراسة من مثقف مستنير لا من سياسي
متخصص. يقدم لونًا جديدًا من ميتافيزيقا السياسة
لدراسة ما وراء المشاكل السياسية. بل إن أورتيجا يرى
أن مهمة المثقف ومهمة السياسي متعارضتان. مهمة المثقف
توضيح المشكلة ومهمة السياسي زيادة غموضها. الثقافة
السياسية تكشف الحاضر وتوضِّح الحقائق أما سياسة
السياسيين فهي على الضد من ذلك التمويه والخداع. وهذا
هو أحد معاني «ثورة الجماهير» أي عمل السياسيين الذي
يُفرغ الجماهير من حياتها الداخلية.
وتدور الفصول الخمسة عشر كلها حول موضوعين رئيسيين:
«الإنسان الجماهيري» و«انهيار الغرب». والظاهرتان
متداخلتان لأن الأولى علامة على الثانية، والثانية
إحدى نتائج الأولى. وتعني ظاهرة «الجماهير» في العصر
الحاضر سيادة الأغلبية وامِّحاء الفردية، وظهور العقل
الجمعي والرأي العام والنظم الجماعية حتى إنه ليقال إن
العصر الحاضر هو عصر الجماعة سواء في البحث العلمي أو
في العمل السياسي. ويعني «انهيار الغرب» هذا الخواء
الروحي الذي طالما نبَّه عليه معظم الفلاسفة المعاصرين
بصرف النظر عن التسمية: قلب القيم عند ماكس شيلر، ضياع
عالم
الحياة LebensweltverIoss عند هوسرل، والعدمية عند
نيتشه، والانهيار الحضاري الشامل عند اشبنجلر.