ثالثًا: انهيار الغرب
وإذا كنا نعيش في عصر الجماهير فإننا أيضًا نعيش في عصر انهيار
الغرب. وإذا كانت ظاهرة ثورة الجماهير سلبية فإن ظاهرة انهيار
الغرب أيضًا سلبية، ويكون الجدل بين الظاهرتين جدلًا بين سالبين أو
لا جدل. أما إذا كانت ظاهرة ثورة الجماهير إيجابية فإن الجدل يكون
بين الإيجاب والسلب، وهو الأقل احتمالًا. ومما يدل على ذلك أنه
يستحيل أن تتعاصر ظاهرتان متناقضتان إحداهما نفي للأخرى. فإذا كانت
فكرة انهيار الغرب لا خلاف عليها فإن ظاهرة الجماهير تكون أيضًا
سلبية وإلا وجد الغرب بعثًا له في حيوية الجماهير ودورها في
العصر.
يحاول أورتيجا التعرُّف على سِمات الحاضر للتحقُّق من صدق هذه
القضية: «انهيار الغرب»، تلك التي أعلنها اشبنجلر صراحةً في كتابه
المشهور «أفول الغرب» والتي لمسها معظم مفكري العصر، هوسرل، وشيلر،
ونيتشه، وبرجسون، وتوينبي، وسولوفييف على عكس ما قيل في القرن
الماضي من بلوغ الذروة والكمال عند هيجل أو ماركس. ومظاهر هذا
الانهيار عديدة مثل الضياع، والمدنية الزائفة، وغياب المسئولية،
وضعف الروح المعنوية، وفقدان الحياة، وقلب القيم، وضياع الأخلاق …
إلخ. يشعر العصر الحاضر شعورًا خرافيًّا بالقدرة على التحقق ولكنه
لا يدري ماذا يحقق. يسيطر على كل شيء ولكنه لا يسيطر على نفسه.
يشعر بأنه مفقود ضائع في وفرته التي ابتدعها. يحاول أورتيجا أن
يدرس موقف الأوروبي العادي أمام ظاهرة انهيار الغرب، أي قياس قدرة
الإنسان العادي على استمرار المدنية الحديثة ودرجة الْتِحامه
بالحضارة. ويتساءل عن المدنية والحضارة والعلم والديمقراطية
الليبرالية وكل ما أبدعه الغرب من تنظيمات. فإذا كان العالم مجموعة
من الإمكانيات تتجدد باستمرار، اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من
اليوم، فماذا يعني انهيار الغرب إذن مع زيادة إمكانياته وتجدُّدها؟
هل الانهيار في الحضارة أو في التنظيمات السياسية، في الروح أم في
تجلياتها المدنية؟ وإلى أي حد يجوز هذا التعميم؟ إن الانهيار لا
يكون إلا في نقص الحيوية، وهذا لا وجود له. ولكل عصر قدرة على
الحيوية لا يجوز قياسها على قدرة عصر آخر. إن العصر الحاضر عصر
اكتمال وملاء بل عصر غرور وخيلاء لأنه يعتبر نفسه أفضل من أي عصر
مضى. ومع ذلك يشعر بالفقد في وفرته، وبالضياع في جوده، وبالشقاء في
نعيمه، ويسير نحو المنحدر. وإذا كان كل شيء ممكنًا فالشر ممكن كذلك
بما في ذلك النكوص والسقوط والبربرية. وقد غابت عن أوروبا
المسئولية العقلية للمثقفين؛ وذلك لارتباط الثقافة بالنظام
الرأسمالي ولأن المثقفين أوروبيون أولًا ومثقفون ثانيًا. كما تعاني
أوروبا اليوم من انخفاض الروح المعنوية حتى أصبحت بلا أخلاق أو قيم
أو مُثُل أو معايير وتكافأت الأدلة، وأصبح كل شيء حقًّا وباطلًا في
آنٍ واحد، صوابًا وخطأً في نفس الوقت. المشكلة إذن أن أوروبا بلا
أخلاق، والعصر الآن عصر الادِّعاءات
الكاذبة Chantage تستعملها الحكومات لتسكين الشعوب. لا
تعني الأخلاق هنا القيم الحسنة والمبادئ القوية ولكن تعني المُثُل
والغايات وتحقيق الرسالات العالمية. وقد لاحظ الأوروبيون أنفسهم
ظاهرة السقوط، وتصوروا أنها أزمة تنظيمات سياسية دون الذهاب إلى ما
وراء هذه الأزمة في الوعي الأوروبي نفسه. وكان دافعهم على ذلك أن
أول ما يندرج تحت هذه الظاهرة هو مجموعة الصعوبات الاقتصادية التي
تقابل كل شعب والتي لا تؤثر عادة في إمكانياته على الخلق، ولكن
يظهر السقوط في نمط الحياة العامة التي تتحقَّق فيها القدرات
الاقتصادية أو في عدم التناسب بين القدرات الحالية والتنظيمات
السياسية. قد تكون الأزمة في حصر القوميات، كل داخل حدودها لأن
أورتيجا لم يشهد عصر الشركات المتعددة الجنسيات التي تتجاوز حدود
القوميات والتي ظهرت منذ السبعينيات. وقد تكون أزمة السياسة
الداخلية وإفلاس المؤسسات الديمقراطية وبرامجها مثل: عدم فاعلية
المجالس النيابية، عدم تعرضها للموضوعات تعرضًا سليمًا. إلا أن
السبب المباشر للسقوط هو أن الفرنسي أو الألماني يشعر بأنه العالم
كله، ويصوغ المصلحة العامة في إطار المصلحة القومية بالرغم من
المناداة بالوحدة الأوروبية أو بما تم بعد ذلك باسم السوق
الأوروبية المشتركة. والحقيقة أنه لا يمكن إصلاح نظامٍ بالٍ لا
يسمح بالتطور نظرًا للحس القومي الدفين في كل شعبٍ أوروبيٍّ وعدم
قدرة الشعور القومي على تجاوُز حدود القومية إلى مستوى العالمية.
وأشهر مثل على ذلك صناعة السيارات الأوروبية أمام صناعة السيارات
الأمريكية أو ميل أوروبا إلى تحقيق الوحدة بين قومياتها المختلفة
مصطدمة بالروح القومية. ولم يعش أورتيجا ليرى أمثلة أخرى من صناعة
السيارات اليابانية والحاسبات الآلية اليابانية تغزو مثيلاتها
الغربية والأمريكية.
وبصرف النظر عن مدى دقة تحليلات أورتيجا لوصف مظاهر الانهيار
فإنه يشارك معظم الفلاسفة المعاصرين في التنبيه على نفس الظاهرة
وإن اختلفت أوجه تعبيرها. فأورتيجا مثل برجسون يعيب على العصر
الحاضر غياب «الروح» والالتصاق بالواقع المادي حتى أصبح مجال
الرؤية محدودًا للغاية. وهو النقد الشائع الذي يوجَّه عادة إلى
المادية الأوروبية. والمقصود بالروح هنا ليس الموجودات المتعالية
أو المفارقة على حد تعبير العصر الوسيط إلا من حيث دلالتها على
العموم والشمول والقدرة على تجاوز الحدود والتناهي. كما أن المقصود
ليس هو غياب الأخلاقيات بالمعنى الساذج بل غياب نسق للقيم عام
وشامل لا يتحدد بحدود الطبقات الاجتماعية أو الحدود القومية. إنما
المقصود عادةً هو المعنى الفنومينولوجي أي غياب عالم الحياة Lebenswelt أو التجربة الحية Enlebeniss. لقد كان كثير
من الفلاسفة المعاصرين أكثر وضوحًا وتعبيرًا من أورتيجا في وصف
ظاهرة الانهيار. فهي انهيار حضاري شامل ونهاية فترة في تاريخ
العالم عند اشبنجلر، وهي عدمية مطلقة وضياع كل شيء عند نيتشه، وهي
آلات تخلق آلهة عند برجسون، وهي قَلبٌ مطلق؛ قلبُ كل شيء رأسًا على
عقب عند شيلر، وهي احتضار للروح عند أونامونو … إلخ.
ويحاول أورتيجا تجاوُز هذه العموميات ويضع بنيةً للشعور الأوروبي
وتطورًا له.
١ فالوعي الأوروبي له صورتان: سلمية ونضالية. من الأولى
يأتي السلام ومن الثانية تندلع الحرب، ولكن أورتيجا لا يفصِّل في
البنية أكثر من ذلك ولا يحدد اتجاهات الوعي الأوروبي نحو الطبيعة
ونحو التعالي ونحو الإنسان. مع أن هوسرل كان قد كتب رائعته عن
«محنة العلوم الأوروبية» سنة ١٩٣٥م مفصلًا بنية الشعور الأوروبي
وواصفًا لمساره، ولكن أورتيجا يعطي تفصيلات أكثر عن تطوُّر الشعور
الأوروبي منذ أصوله الأولى عند اليونان والرومان حتى تطوره الأخير
ووصوله إلى مرحلة الانهيار في ثورة الجماهير التي يعتبرها أحد
مظاهر السقوط باعتبارها انهيارًا معنويًّا للإنسانية كلها. ويضع
أورتيجا تقابلًا بين الوعي الأوروبي الدينامي الحركي وبين الوعي
اليوناني الروماني الثابت الساكن. فلم يكن سهلًا على الفكر
اليوناني الروماني إدراك الواقع باعتباره حركةً فتصوَّر الطبيعة
ثابتة، والله محرِّكًا لا يتحرك، والإنسان قوى متناسقة. أما
الدينامية الأوروبية فإنها ترجع في الحقيقة إلى عصر النهضة ورفض كل
مصدر للقوى الطبيعية خارج العالم، ورفض كل تصور للعالم لا يصدر عن
الإنسان نفسه برؤيته للأشياء وتعقُّله لها؛ لذلك أصبحت قوة العالم
منه وإليه. ويعتبرها أورتيجا مثل هوسرل وديكارت بداية الوعي
الأوروبي في مساره الحديث. استمرَّ العقل الديكارتي ثلاثة قرون،
وهو عقل رياضي طبيعي بيولوجي مما جعل الوعي الأوروبي في البداية
وعيًا عقليًّا يصعب فيه الفصل بين العقل والوعي، وهذا ما يقوله
هوسرل وفيبر
M. Weber عن قدرة
الوعي الأوروبي على التنظير وتصوُّر الواقع تصورًا عقليًّا
رياضيًّا صرفًا حتى أخرج هوسرل كل حضارات الشرق القديم من حسابه في
تطوُّر التاريخ لارتباطها بالدين والأساطير والتكيُّف مع الحياة.
وقد كان أفلاطون وسقراط أكثر فلاسفة اليونان تأثرًا بالشرق في
الإشراقيات الدينية عند أفلاطون والأخلاقيات العملية عند سقراط.
يبدأ تاريخ العلوم الأوروبية بنقطة أرشميدس. ويجعل فيبر سيادة
العامل العقلي السبب المباشر في تفوق الجنس الأوروبي وعلى ظهور
البروتستانتية كفكر عقلاني حر ولَّد الرأسمالية من براثن
الكاثوليكية الرومانية التي كانت ركيزة الإقطاع.
٢ وقد تميز القرن الخامس عشر بنهضة الآداب تحت أثر العلم
والعقل. ومنذ القرن السابع عشر والوعي الأوروبي يعيش تجربة مشتركة.
ثم ظهرت إنسانية الوعي الأوروبي في فلسفة التنوير في القرن الثامن
عشر حيث إن الحصول على دساتير مماثلة حق طبيعي لكل الشعوب. وبصرف
النظر عن مدى دقة هذا الوصف لتاريخ الوعي الأوروبي فإن ما يبقى هو
هذا الدافع نحو التقدُّم منذ بدايات عصر النهضة والبحث عن الحقيقة
بعد أن تم إسقاط الأغطية النظرية القديمة حتى أصبح هذا البحث
مرادفًا للحقيقة نفسها على ما يقول لسنج.
٣ يكشف تاريخ الوعي الأوروبي عن قدرتِه على التحرُّر من
الماضي ثم وضع بدائل متعددة بدلًا من الاختيارات القديمة. وقد لاحظ
جيزو
Guizot من قبلُ أنه لم
تنتصر أية جماعة أو أي مبدأ أو أية فكرة أو أية طبقة اجتماعية على
نحو مطلق، ولم تحسم المعركة لصالح أحد في الوعي الأوروبي. وهذا هو
السبب في أنه في تطوُّر دائم وفي تقدُّم مستمر. إنما قد يخف
الدافع، ويبطؤ المسار حتى ينتهي إلى التوقف التام بعد الانتهاء إلى
الحيرة والشك وتكافؤ الأدلة وعدم الاستقرار والتطرُّف وأحادية
النظرة والتجزئة.
ويركز أورتيجا على موضوع الوحدة والتنوُّع في الوعي الأوروبي
متسائلًا: هل الشعور الأوروبي وحدة متجانسة أم شتات من قوميات
متعددة؟ يرى أورتيجا أن الشعور الأوروبي حقيقة متجانسة مهما اختلفت
الظروف التي تكتنف بوحداته الصغرى كما تبدو في القوميات. الشعور
الأوروبي حقيقة واقعة أو ظاهرة ملموسة تتميز بخصائص فريدة أهمها
التنوع في الوحدة والوحدة في التنوع، وذلك كوحدة الدين المسيحي
وتنوع نظام الكنائس ووحدة الإمبراطورية الرومانية وتعدُّد شعوبها،
وكوحدة العقل الخالص وتنوُّع الأنساق الرياضية، ووحدة الفلسفة
وتعدُّد مذاهبها، ووحدة شعوب أمريكا اللاتينية بالرغم من تعدُّد
لهجاتها، ووحدة الشرق وتنوُّع الدول الشرقية. وهذا ما لم تدركه
فلسفة التنوير التي تصوَّرت العالم كله إنسانيةً واحدة متجانسة
عاقلة، حرة ومستقلة. ولم تستطع الحروب الطاحنة بين الشعوب
الأوروبية النيلَ من وَحْدتها وتجانسها. فلكل شعب أوروبي خاصيتان؛
الأولى: عبقريته الخاصة المتمايزة عن عبقرية الشعب الآخر،
والثانية: اشتراكه في خصائص عامة تجمعه مع باقي الشعوب. فأوروبا
أمة Nation مكوَّنة من عدة
شعوب peuples على ما لاحظ
مونتسكيو من قبل. الوحدة المتجانسة مصدر قوة وباعث حركة، والتنوير
والتعدُّد مصدر خلق وإبداع وتخصص وتفرد. أوروبا حقيقة اجتماعية
أولًا قبل أن تكون حقيقة تاريخية، أي مجموعة من العادات والنظم
والتقاليد تكوِّن مجتمعًا واحدًا دون أن يكون بالضرورة مترابطًا
اجتماعيًّا. المجتمع موجود طبيعي. أما الترابط الاجتماعي فاصطناعي
بناء على عقد إرادي. ولا يوجد الترابط الاجتماعي قبل أن يوجد
المجتمع المترابط. القانون نتاج طبيعي للمجتمع وليس سابقًا عليه.
فأورتيجا من أنصار الحق الطبيعي مثل هيجل لا من أنصار العقد
الاجتماعي عند اسبينوزا وروسو. يتكوَّن المجتمع الأوروبي من دول،
وكل دولة ممثلة في سلطة تعبر عن الرأي العام. هناك رأي عام أوروبي
وإن لم توجد دولة أوروبية. قد تكون الدول الأوروبية المتحدة محض
خيال ولكن وحدة المجتمع الأوروبي موجودةٌ بالفعل كما هو الحال في
الأمة الإسلامية التي تجمع وجدانيًّا وفكريًّا وعقائديًّا
وتنظيميًّا وتشريعيًّا الدولَ الإسلامية. ويقول أورتيجا إنه بالرغم
من أنه قاوم المثالية طيلة حياته وكرهها إلا أن الواقعية التاريخية
تثبت أن وحدة أوروبا ليست مثالًا بل واقعة قديمة جدًّا في الحياة
اليومية مثل ضفائر الصيني عندما تطل من وراء الأورال أو «المجمع»
الإسلامي! إن الدولة الأوروبية التي تتجاوز حدود الأوطان هو تصوُّر
يرجع إلى طريقة الإدراك اليوناني الروماني التي لا تستطيع أن ترى
إلا الوقائع الثابتة لا الوقائع المتحركة. أما التصور الأوروبي فإن
الأشياء فيه قوى كامنة تكشفها وتكوِّن حقيقتها. والسلطة العامة
الأوروبية قوة حركية تحكمها قوانين الميكانيكا وأهمها قانون توازن
القوى. وبهذا المعنى تكون هناك وحدة أوروبية سلطتها العامة ميزان
تعادل القوى والذي يرجع الفضل في وجوده إلى هذه الخاصية، الوحدة
والتنوع في الوعي الأوروبي. وما قاله أورتيجا عن أوروبا كميزان
للقوى قاله فيشته من قبل على ألمانيا كتوازنٍ للقوى بين شرق أوروبا
وغربها بوجه خاص، وبين الشرق والغرب بوجه عام.
ويُكثر أورتيجا من الحديث عن أوروبا والغرب كمترادفين ولو أن
الحديث عن أوروبا أكثر من الحديث عن الغرب وإن كانت المجلة التي
أسسها عنوانها «مجلة الغرب». ويشعر بأوروبيته شعوره بإسبانيته إن
لم يكن أكثر. ويتضح ذلك صراحةً في كثرة استعماله لألفاظ مثل
فلسفتنا، عصرنا، جيلنا، حضارتنا، تاريخنا … إلخ. هناك شعوب أوروبية
وأخلاق أوروبية، وأعراف أوروبية، وعلم أوروبي، وقانون أوروبي …
إلخ. وفي داخل أوروبا يُكثر من الحديث عن فرنسا وإنكلترا وألمانيا
وإسبانيا. ويشخص كل دولة أوروبية في ثقافتها ثم يشخص ثقافتها في
أهم عَلَمٍ فيها جسَّد روحها وعبَّر عن شخصيتها؛ هوجو في فرنسا،
وشكسبير في إنكلترا، وجوته في ألمانيا، وسرفنتس في إسبانيا،
والإنسانية جمعاء في بلاد ما بين النهرين! وهنا تبدو سخرية أورتيجا
من النظريات العامة والمثاليات غير المشخصة والتي يصفها
بالديماغوجية.
ويبدو أن أورتيجا قد وقع ضحية المركزية الأوروبية
Eurocentrisme. ففي «ثورة الجماهير»
تتردَّد ألفاظ أوروبا، وأوروبي، والمغرب، وإسبانيا، وفرنسا،
وإنكلترا، وأمريكا، وروما، واليونان عشرات المرات.
٤ أوروبا مركز الصدارة ومحور تاريخ
الشعوب. ويستشهد أورتيجا
بالمؤرخ الفرنسي
Guizot الذي يضع
الحضارة الأوروبية في كفة وباقي حضارات العالم في كفة أخرى!
فالحضارة الأوروبية استطاعت منذ خمسة قرون، ابتداءً من عصر النهضة
حتى الآن إعادة بناء التفكير الإنساني من جديد وتأسيس قواعد
التفكير العلمي وما نتج عن ذلك من تطبيقات عملية أفادت الإنسانية
جمعاء. وينسى أورتيجا أن أوروبا في عصورها الحديثة إنما استفادت من
تراكم خبرات طويلة، من حضارات الشرق القديم في الهند والصين وفارس
ومصر ومن خلال الحضارة الإسلامية وترجمات علومها عبر إسبانيا
وإيطاليا وتركيا. وإن مؤامرة الصمت التي يضربها الوعي الأوروبي على
مصادره القصد منها الإيهام بالعبقرية الخاصة وبالنموذج الذي على
غير منوالٍ كأحد مكونات العنصرية وهي الداء الدفين فيه. وفي الوقت
نفسه يطبِّق الوعي الأوروبي منهج الأثر والتأثُّر ويكشف عن المصادر
التاريخية للثقافات غير الأوروبية حتى يقضيَ على إبداعاتها
ومساهمتها الأصيلة في تاريخ الثقافة الإنسانية. هذه الازدواجية
والمعيار المزدوج والكيل بمكيالين هي إحدى خصائص الوعي الأوروبي.
فالإنسانية لديه إنسانيتان، والمبادئ لديه نوعان، واحد لأوروبا
وآخر لغير أوروبا!
وقد يكون أحد مظاهر الانهيار هو تحوُّل قيادة العالم من أوروبا
إلى خارجها. ويعطي أورتيجا لسؤال: مَن الذي يقود العالم اليوم؟
أهميةً بالغة ومكانة بارزة في «ثورة الجماهير» إذ إن من أهم خصائص
العصر انتقال السلطة الذي يدل أيضًا على تحول في الروح. فمن الذي
يقود العالم اليوم؟ أو بتعبيرنا لمن الحكم اليوم؟ منذ القرن السادس
عشر قادت أوروبا الإنسانية إبان ما نُسميه بالعصور الحديثة. كما
قادت روما من قبل منذ أوائل العصر الوسيط. ولا تعني هنا القيادة
المادية القائمة على القوة. فهناك فرق بين العدوان والقيادة. قد
يعتدي أحد دون أن يقود، وقد يقود أحد دون أن يعتدي. القيادة هي
الممارسة الشرعية للسلطة القائمة على الرأي العام وهو اليوم القوة
الموجهة للقيادات. وقد قال تاليران Talleyrand من قبل لنابليون: «سيدي، إن العصا
تستطيع أن تفعل كل شيء سوى الجلوس فوقها!» فالقيادة لا تعني
الاستيلاء على السلطة بل ممارستها في هدوء ووعي. ومع أنه في
المجتمعات الحالية يصعب وجود رأي عام موحد إذ ينقسم المجتمع إلى
فئات، ولكل فئة رأي، فإن السلطة تأتي لتحل محل جميع الآراء، ولكن
لا يمكنها القيادة ضد مجموع الرأي العام لأن القيادة هي سيادة فكر
أي القيادة الروحية كما مَثَّلتها الكنيسة من قبل، ولكن كيف تأتي
الفكرة ومعظم الناس في عصر الجماهير لا أفكار لهم؟ إذن تأتي الفكرة
من الخارج. وهذا بالضبط هو معنى تحول قيادة العالم من أوروبا إلى
خارجها. منذ الحرب العالمية الثانية يُقال إن أوروبا لم تعد قائدة
للإنسانية. لقد قادت طيلة ثلاثة قرون ولكنها لا تستطيع اليوم أن
تقود. بدأت هي نفسها تشك في قيادتها كما بدأ الآخرون يشكُّون في
قيادتها لهم. وهذا هو ما عناه اشبنجلر بأفول الغرب، وما قصده آخرون
بسقوطه. لقد بدأت الاتجاهات الوطنية داخل أوروبا وخارجها رفض
قيادتها، وعمَّت الثورات سائر الشعوب التي تمت السيطرة عليها إبان
قيادة أوروبا، وبعد سيادة الجماهير ورفضها أي مظهر من مظاهر السلطة
بل واستردادها حق السلطة لنفسها. وإذا كانت الجماهير دون برنامج
حياة حتى على الرغم من ظهور أجيالٍ جديدة فمن الذي سيحل محل أوروبا
في القيادة؟ إذا كان المعنى الاشتقاقي للقيادة هو القيام بمهمة،
فالقائد هو الذي يقوم بمهمة، فإنه دون القيادة يكون الفراغ.
فالحياة هي القيام بشيءٍ وأداء شيء. إن أوروبا اليوم لا تستطيع
تكليف الشعوب الأخرى بالقيام بالمهام نيابة عنها. وإن انتصار
الماركسية في بلد غير صناعي لا يدل على انتصار لأن الشعب يظل يعيش
في تاريخه القديم. وأمريكا لا تقود بل الذي يقود فيها هو
التكنولوجيا. وماركس والتكنولوجيا خرجا من أوروبا، وهي بدائل
أوروبية تحمل الفناء نفسه الذي تحمله أوروبا. وإذا كانت السلطة
مغتصبة في دولة — كما هو الحال في إسبانيا — فإن هذه الدولة لا
يمكن أن تقود. لم تعد هناك بدائل داخل أوروبا لقيادة العالم. وهذا
هو السبب في أن أوروبا تسير في مكانها لا تتحرَّك.
وهنا يأتي دور العالم الثالث وما يمثِّله من وعي جديد لشعوب
القارات الثلاث والتي تكوِّن أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم.
ولقد بدأ المفكرون في العالم الثالث من قبلُ دراسةَ الوعي الأوروبي
كظاهرة مستقلة، فأصبح المدروس هو الدارس، والملاحَظ هو الملاحِظ،
والموضوع هو الذات، طبقًا لتبادل الأدوار بين السيد والعبد. لقد
استطاع العالم الثالث تحقيق إنجاز ضخم في هذا القرن ألَا وهو
التحرُّر من الاستعمار واستطاع تكوين رأي عام جديد مناهض للعنصرية
وللتفاوت بين الأغنياء والفقراء، وللتسلح النووي وللحرب الباردة،
مقاومًا الدخول في الأحلاف العسكرية وحالًّا محل أوروبا كميزان
للثقل في العالم بين الشرق والغرب فيما عُرف باسم «عدم الانحياز»
أو «الحياد الإيجابي». استطاع العالم الثالث أن يُبلور وعيًا
إنسانيًّا جديدًا ناشئًا في مقابل الوعي الأوروبي القديم الآفل.
ونظرًا لأن شعوب العالم الثالث شعوبٌ تاريخية كما هو الحال في
الصين والهند ومصر، فإن ريادتها اليوم إنما هو لحاق بريادتها
الأولى وكأن التاريخ يكرر نفسه مرتين، وكأن الإنسانية ترى نهضة
جديدة لشعوب الشرق بعد أفول الغرب.
٥ إن أزمة الغرب ليست أزمة القيادة السياسية وحدها بل
أزمة حضارية في أساسها، أزمة تصور وسلوك، أزمة نظر وعمل بعد أن
جرَّب الوعي الأوروبي كل شيء وانتهى إلى لا شيء. إن شعوب العالم
الثالث بما تملكه من وعي إنساني جديد يمثل إنسانية جديدة قادرة على
أن تقوم بدور القيادة محل الغرب، فهي التي ما زال لديها مشروع جديد
بدلًا من المشروع الأوروبي القديم الذي انتهى إلى الفشل: مزيد من
الإنتاج لمزيد من الاستهلاك لمزيد من السعادة. أما المشروع الجديد
فهو التنمية في مواجهة التخلُّف، والتحرر في مواجهة الاستعمار،
والحرية ضد القهر، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستعمار،
والحرية ضد القهر، والعدالة الاجتماعية في مواجهة التفاوُت الطبقي
بين الأغنياء والفقراء، بين مَنْ يملكون كل شيء ومَن لا يملكون
شيئًا، والتأكيد على الهوية في مواجهة التغريب، والدعوة إلى الوحدة
في مواجهة التجزئة، وتجنيد الجماهير ومبادرات الشعوب في مواجهة
القيادات البيروقراطية والحاسبات الآلية وتحليل المعلومات.
إن انخفاض الروح المعنوية في الغرب إنما هو إحساس طبيعي نتيجةً
لانتقال القيادة من أوروبا إلى غيرها. لم تعد أوروبا واثقةً من
قيادة نفسها أو غيرها. تبعثرَت سيادتها التاريخية في عصر البعثرة
والتفكُّك، وتفكَّكت عرى الروابط بين الأوروبيين. وقد حاولت تغطية
ذلك بإحياء العواطف القومية التقليدية ولكن المحاولة انتهت إلى
طريق مسدود في عصر الكيانات الكبيرة. أما الشيوعية فلم يتمثَّلها
أحد لأنها تصطدم بالفردية. قد تستطيع البلشفية تغيير الروح
الأوروبية وإنعاش الوعي الأوروبي وإعطاء أمل جديد ولكنها أيضًا تقع
في البيروقراطية وتصبح فريسة للطبقات الجديدة ولجهاز الدولة باسم
السيطرة المركزية والسلطة الواحدة. أما ثورات الشباب فقد كانت
الوهج الأخير قبل انطفاء الشمعة، حشرجة الموت. لم تحقق شيئًا
وتحوَّلت الثقافة المضادة إلى برامج الإعلام في الثقافة
والفن.
والسؤال الآن بالنسبة لإسبانيا: إلى أي عالم تنتسب؟ إلى العالم
الأول كفرنسا وإنكلترا وألمانيا واليابان وأمريكا وروسيا، أم إلى
العالم الثالث ومجموع شعوب القارات الثلاث، أم إلى العالم الثاني
ومجموعة البلاد المصنعة حديثًا مثل كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ
كونغ وسنغافورة، أم إلى العالم الرابع، أثيوبيا وتشاد الذي يئنُّ
من أخطار المجاعة والقحط أو الذي يعيش تحت مستوى خط الفقر؟ واضح أن
أورتيجا يعتبر إسبانيا بلدًا أوروبيًّا ينطبق عليه ما ينطبق على
ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وسائر البلاد الأوروبية. لم يتحدث أورتيجا
عن خصوصية البحر المتوسط وقرب شاطئيه الشمالي والجنوبي كما فعل
فرناند بروديل F. Braudel
فلربما وجد إسبانيا هناك كحلقة اتصال بين الشاطئين؛ الشمال
والجنوب.
وختامًا، ما هي الدلالة السياسية لكتاب أورتيجا «ثورة الجماهير»؟
في حقيقة الأمر يظل الكتاب محيرًا ومثيرًا بعض التساؤلات
والاشتباهات التي يصعب الإجابة عليها. هل القصد هو نقد جماهيرية
القرن الماضي وثوراته دفاعًا عن فردية هذا القرن؟ هل القصد هو نقد
الماركسية دفاعًا عن الديمقراطية الليبرالية؟ هل القصد هو النقد
المبطَّن للاشتراكية دفاعًا عن الرأسمالية؟ هل ثورة الجماهير ضد
ذاتها أم ضد الآخر؟ هل هي مفهوم إيجابي أم مفهوم سلبي؟ هل هو حكم
واقع أم حكم قيمة؟ ألم يفصل أورتيجا بين السياسة والاقتصاد وجعل كل
تحليلاته سياسية أكثر منها اقتصادية بل في الفلسفة السياسية أكثر
منها في النظم السياسية؟ هل هناك طبقات بشرية أم طبقات اجتماعية
وإلا كان المقصود النقد المبطن لماركس؟ أليس أورتيجا فيبرًا آخر
مهمته وضع بديل للماركسية مرة بالتركيز على العقل الحيوي ومرة أخرى
بالتركيز على العقل النظري أو التنظير؟ وماذا عن نقد الدكتاتورية
المسيطرة على إسبانيا ونظام الملكية؟ وماذا عن الجمهوريين الذين
كان أورتيجا مفكِّرهم الأول؟ لماذا لا تصدق ثورة الجماهير على ثورة
الجمهوريين في مقابل الملكيين إبان الحرب الأهلية الإسبانية؟
ولماذا لا تكون ثورة الجماهير ديمقراطية بدلًا من التقابل بين
الجماهير كنظام جماعي وبين الديمقراطية الليبرالية كنظام فردي؟
أليست الديمقراطيات الجماهيرية المباشرة أكثر فعالية من
الديمقراطيات الصورية القانونية؟ يصعب الإجابة على ذلك كله؛ إذ إن
معرفة المقاصد أصعب بكثيرٍ من معرفة الألفاظ. يبدو أن أورتيجا يرفض
كل شيء ويميِّع كل المتناقضات. فلا التاريخ يسير حتمًا نحو
الليبرالية الديمقراطية ولا هو يسير حتمًا نحو الاشتراكية. لا
اليمين بقادر على القيادة ولا اليسار نظرًا لأن كل فريق يلعب لعبة
الآخر ويزايد عليه. اليمين واليسار كلاهما نصف شلل خلقي، يطمس
معالم الواقع، اليمين يَعِد بالثورات واليسار يقدم الدكتاتوريات!
إن مجموع هذه الاشتباهات التي تحوط بأورتيجا تجعله أقل وضوحًا من
أستاذه أونامونو الذي أخذ موقفًا واضحًا وناقدًا من الغرب. أورتيجا
بنياته المعلنة قد يكون أقرب إلى الوجودية اليسارية مثل سارتر
وكامو وميرلو بونتي، وبأهدافه غير المعلنة قد يكون أقرب إلى
الوجودية اليمينية مثل جابريل مارسل وكارل ياسبرز.
٦ وفي النهاية يبدو أن موقف أورتيجا، مفكر الجمهوريين
الأول، لا يختلف كثيرًا عن مصير الحرب الأهلية الإسبانية!