ثانيًا: نشأة «نقد الأشكال الأدبية»
استرعى انتباه كثير من النقاد تعدُّد الروايات حول تاريخ عيسى،
وحاولوا التأليف بينها لرؤية ما بينها من اتفاق واختلاف. قام بذلك
طيطيانوس في القرن الثاني في «الدياطسرون» أي «الرباعي» ثم
أوزياندر A. Osiander في
القرن السادس عشر. واستمرت المحاولات حتى اليوم وانتهت إلى نتائج
عدة وأولها أن الاتفاق بين الأناجيل الثلاثة الأولى (متى ومرقص
ولوقا) أكثر من الاختلاف بينها؛ ولذلك سُميت الأناجيل المتفقة أو
المتقابلة synoptic في مقابل
الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا الذي يمثِّل رواية مستقلة، الاختلاف
بينها وبين الروايات الثلاث الأولى أكثر من الاتفاق بينها. ثم بدأ
الاهتمام بتفسير أسباب الاتفاق والاختلاف بين الأناجيل المتقابلة
قبل القرن التاسع عشر بزمن طويل. وكان أوغسطين أول مَنْ لاحظ
العلاقات الأدبية بين الأناجيل، وفسَّرها بتتابعها ونظامها (متى،
مرقص، لوقا، يوحنا)، وأن اللاحق كان على علم بالسابق. فمتى هو أقدم
الأناجيل، ومرقص مختصر له، والإنجيلان الآخران معتمدان على
الأولين. وبالرغم من وجود نظرياتٍ أخرى مخالفةٍ في القرن التاسع
عشر إلا أن نظرية أوغسطين كانت تعبِّر عن الموقف الرسمي. بل إن
شتراوس في «حياة عيسى» قد سلَّم بها.
ثم توصَّل النقاد في القرن التاسع عشر إلى نظرية أخرى وهي أن
مرقص أقدم الأناجيل وكان متى ولوقا على علم به، وهو ما يفسِّر
التشابه بينهما وبينه. ثم استعملا مصدرًا آخر مفقودًا يرمز إليه
بالحرف Q اختصارا لكلمة الألمانية
Quelle التي تعني «منبع» أو
«مصدر» لتفسير وجود روايات في إنجيلَيْ متى ولوقا غير موجودة في
مرقص؛ ومن ثم أصبحت نظرية المصدرين هي السائدة في الدراسات
النقدية. ولما كانت هناك روايات لا يمكن تفسيرها بالمصدرين افترض
شتريتر BP. H. Streeter وجود
مصادر أربعة: مرقص L, Q «مادة
لوقا» M «مادة متى». وزادت
الافتراضات إلى ستة مصادر وإلى عشرة وإلى اثني عشر، وكلها تدور حول
المصدر الكتابي.
ثم لاحظ النقاد مثل فلهاوزن Wellhausen أن مرقص نفسه ليس أقدم الروايات وأن
المصادر الكتابية مجموعات مركبة أصلها وحدات صغيرة متعددة ليس لها
عدد معين، مستقلة عن بعضها البعض، تم التأليف بينها فيما بعد لخدمة
أغراض عقائدية، وتلبية لحاجات الجماعة المسيحية الأولى، جعلها فرده
Werde «السر المشياني» Messianic وأيَّده في ذلك
شفيتزر A. Schweitzer. فقد
احتفظ عيسى عن قصدٍ بهذا السر وكشف عنه تدريجيًّا، ولم يدركه
التلاميذ إلا بعد بعثه. ثم أثير سؤال؛ وما مصادر هذه الوحدات
المستقلة الأولى؟ افترض فيس Weiss
أنها ذكريات بطرس. وسرعان ما أدَّى هذا الافتراض البسيط إلى نظرية
أعمق وأشمل وهي نظرية المصدر الشفاهي. إذ إن وراء هذه الوحدات
المستقلة تراثًا شفاهيًّا نبَّه عليه من قبل كروماخر، وجيزلر،
وشليرماخر، وسابق على مرحلة التدوين.
ثم جاء جونكل
H. Gunkel وصاغ نظرية المصدر
الشفاهي وطبقها على «سفر التكوين» ليرصد هذه الوحدات المتفرقة،
ويبين نشأتها وتطورها، ويقارنها بالآداب الشعبية في عصرها، ويضعها
في إطار حياتها. فالأسفار الخمسة تشبه الأناجيل في نسبة الأولى إلى
موسى والثانية إلى عيسى، ولكن الدراسات النقدية تؤكد أنها أخذت
أشكالها الحالية على فترة طويلة، وأنها تشكَّلت طبقًا لعديد من
الوثائق المفقودة. وقبل نهاية القرن الماضي انتهى الباحثون إلى رصد
هذه الوثائق والتعرُّف عليها وإن لم ينتهوا إلى الوقائع المروية
ذاتها في الأسفار الخمسة. وفكروا في بعض الوسائل للذهاب إلى ما
وراء النصوص المكتوبة، وكان في مقدمتهم جونكل. فقد بدأ بالتسليم
بنقد المصادر ونتائجها، وهو أن سفر التكوين (وباقي الأسفار الخمسة)
نشأت من مصادر سابقةٍ عليه وهي:
(Jahwist)
J من القرن التاسع قبل الميلاد،
(Elohist) E من النصف الأول من
القرن الثامن،
(Priestly Writer) P
بين ٥٠٠–٤٤٤ق.م.، وقد تم تجميعها كلها من قبل كاتبٍ متأخر لتكون
الكتب الحالية. كما تم توحيد
E + J
في نهاية مملكة يهوذا (٥٨٧ق.م.)، ثم دخلت مع
P أيام عزرا (٤٤٤ق.م.). وقبل
هذه الوثائق كانت هناك رواياتٌ مكتوبة وجدت أولًا في صورة شفاهية
ثم وضعت فيما بعد في مجموعات لها أبنية وأشكال، وكانت وحدات مستقلة
منقولة شفاهًا قبل مرحلة التدوين تم التأليف بينها فيما بعد. هذه
المصادر الشفاهية تطوَّرت خلال حياة بني إسرائيل على فترة طويلة،
والبعض منها نشأ في أقطار مجاورة وتكيُّف حسب كل قطر، كما تغيَّرت
جيلًا بعد جيل. فبتغير الظروف والأفكار والأخلاق والعادات لا يمكن
أن تبقى الحكايات الخيالية الشعبية على المنوال نفسه. وصنف جونكل
هذه الروايات طبقًا لأهدافها، فمنها الهدف التاريخي الذي يعكس
ظروفًا تاريخية خاصة ولكن معظمها كان يهدف إلى شرح شيءٍ ما يريده
رواتها. وانتهى جونكل إلى تصنيف رباعي: حكايات إثنية
EthnoIogical Legends لشرح
علاقات الأسباط، وأخرى لغوية لبيان مصادر معاني الأجناس والجبال
والأنهار والمدن، وثالثة طقوسية
Ceremonial لشرح الاحتفالات الدينية مثل السبت
والختان، ورابعة جيولوجية لتفسير نشأة المكان. كما قارنها بالنصوص
المشابهة عند الشعوب المجاورة خاصة تلك التي تتعلق بالقوانين من
أجل التعرف على مصادرها التاريخية وأساليبها الأدبية والنظرات
العقائدية والبواعث الموجهة لتكوين النص مثل الميثاق والوعد ودور
الكاهن في التدوين. ثم انتقلت نتائج جونكل من العهد القديم إلى
العهد الجديد. وانتهت الدراسات في أوائل القرن العشرين على
الأناجيل المتقابلة إلى قبول نظرية المصدرين كأصلين لمتى ولوقا
وإلى الاعتراف بتأثر النظريات اللاهوتية للكنيسة الأولى على
تكوينها وإلى احتواء مرقص على مواد متأخرة أصلها في وحدات مستقلة
وجدت في تراث شفوي قبل التدوين. وانتهى نقد المصادر إلى هذا الحد.
١
وفي نهاية الحرب العالمية الأولى ظهرت مجموعة من الدراسات تعبِّر
عن اتجاه واحد، وتبشِّر بميلاد المدرسة وفي مقدمتها خمسة
كتب:
- (١)
ب. ديبليوس: تاريخ الأشكال الأدبية للأناجيل،
توبنجن، ١٩١٩م.
- (٢)
ك. ل. شميت: الإطار لقصة عيسى، برلين، ١٩١٩م.
- (٣)
ر. بولتمان: تاريخ الأناجيل المتقابلة، جوتنجن،
١٩٢١م.
- (٤)
م. البرتز: أحاديث الصراع المتقابلة، برلين،
١٩٢١م.
- (٥)
ج. برترام: تاريخ آلام عيسى ودين المسيح، جوتنجن،
١٩٢٢م.
قبل شميت النتائج العامة لنقد المصادر وأهمها نظرية المصدرين،
ولكن أضاف أن مرقص يتكوَّن من عدة مقاطع قصيرة مرتبطة فيما بينها
بفقرات انتقالية تعطي بعض التحديدات الزمانية والمكانية لتاريخ
حياة عيسى وبشارته الأولى. ومرقص هو واضع الإطار أو البناء الشكلي
فحسب. هذا الإطار يكشف عن حياة الكنيسة وأفكارها وبواعثها وحاجات
الجماعة المسيحية الأولى. وقد انتقلت هذه المقاطع المتعددة في صورة
شفاهية ثم تحوَّلت إلى مقاطع مكتوبة طبقًا لحاجات الكنيسة
باعتبارها مجتمع عبادة.
ولكن ديبليوس (١٨٨٣–١٩٤٦م) هو أول مَن طبَّق «نقد الأشكال
الأدبية»، وهو واضع المصطلح. أراد أن يشرح بطريق التركيب مصدر تراث
عيسى والرجوع إلى فترة شفاهية سابقة على تدوين الأناجيل مع توضيح
قصد التراث واهتمامات الجماعة الأولى ووظائفها وكتابها. ويصنِّف
دعاتها مثل المبشرين والوعاظ الذين يعتمدون على بعض المواقف
الدرامية في وعظهم، والرواة الذين هم مصدر الروايات التفصيلية
للجماعة، والمنشدين الذين يؤلِّفون الروايات من أجل التهذيب
والتربية الدينية، ومؤلفي الأساطير أو الروايات اللاهوتية.
ولكن اسم المدرسة قد ارتبط ببولتمان (١٨٨٤–١٩٧٦م) الذي حاول بعد
سنتين اكتشاف هذه الوحدات الأولى قبل الأناجيل بل وقبل الأقوال
والروايات وإقامة سياقها التاريخي سواء كانت تنتمي إلى تراث أولي
أو ثانوي أو كانت نتيجة لنشاط التدوين. يرفض بولتمان البناء الصوري
عند ديبليوس، ويفضل تقطيع النصوص إلى وحداتٍ أوليةٍ ومعرفة مدى
تشابهها مع الوحدات المماثلة في البيئات المجاورة، وتاريخ كل فقرة،
والبواعث على نشأتها وتكوينها. فإذا كان منهج ديبليوس استنباطيًّا
بنائيًّا فإن منهج بولتمان استقرائيٌّ تحليلي بالرغم من اعتماده
على بعض المبادئ الفلسفية العامة مثل التفرُّد والرغبة في
التصوير.
وبينما يرتد ألبرت إلى الجماعة الأولى وإلى البيئة التي نشأت
فيها الأناجيل ويُرجع الاختلاف بينها إلى مناقشات عيسى مع الكَتَبة
والفريسيين، فإن برترام يرى أن العبادة
kult هي البيئة الوحيدة التي نشأت فيها
الأناجيل وتكونت، ولا يعتمد كثيرًا على تاريخ الأديان المقارن كما
يفعل بولتمان؛ وبالتالي يظل التأرجح قائمًا في المدرسة بين «نقد
المصادر» واللجوء إلى البيئة وبين «نقد الأشكال» والاعتماد على
الأشكال الأدبية.
٢
والحقيقة أنه يصعب ترجمة مصطلح
Formgeschichte فهو يعني في
الوقت نفسه ثلاثة أشياء:
- (أ)
«تاريخ الأشكال الأدبية»، أي تتبُّع الأشكال الأدبية
للكلام نشأةً وتكوينًا وتطورًا، هي المعروفة في علوم
النقد باسم «الأنواع» الأدبية، ومقارنتها بمثيلاتها في
الآداب القديمة. وهي أقرب الترجمات إلى المعنى الحرفي
للمصطلح، والشائع عند معظم الدارسين.
- (ب)
«تاريخ تكوين الإنجيل»، فالصورة هنا تعني
التكوين formation أو عملية «التشكيل» فالمهم
هو عملية تكوين الإنجيل ابتداءً من الوحدات المستقلة
المتفرقة شفاهًا أو تدوينًا وتاريخًا وليست الأشكال
النهائية للأناجيل والتي هي المظاهر الخارجية لعملية
التكوين، وهو معنى أوسع من المعنى الأول، وبمصطلح علوم
اللغة والأنثروبولوجيا يريد المعنى الأول تحليل الصور
في المعية
الزمانية synchronic بينما يريد الثاني تحليلها
في التتابع
الزماني Diachronic.
- (جـ)
«صور الشعور التاريخي»، فالأشكال الأدبية قد تخلَّقت
في شعور الجماعة الأولى وبالتالي فإنها في حقيقة الأمر
صور للشعور التاريخي لدى الجماعة الأولى. النص من وضع
الشعور، والصورة للشعور قبل أن تكون للنص. والشعور هو
الذي يدرك العالم ويتصوره ثم يعبر عنه في صورة مَثَل
أو قصة أو حكاية خيالية أو أسطورة، وتحركه بواعث
وغايات قَصْدية، وهو المعنى الأعمق والذي يربط المدرسة
برافدها الأساسي في علم الظواهر أو «الفينومينولوجيا».
طبقًا للمعاني الثلاثة للفظ يتكلم؛ اللفظ والمعنى
والشيء أي الصورة والمضمون والموضوعية. وللمدرسة ثلاثة
جوانب سنقتصر منها على الجانب الأول فقط
وهي:
- (١)
دراسة الأشكال الأدبية المختلفة التي تم
فيها تدوين أقوال عيسى وأفعاله ابتداءً من
التراث الشفاهي حتى التراث المدون، وطرق
صياغتها ابتداءً من الأشكال المماثلة في
الآداب القديمة اليونانية والعبرية
والشرقية القديمة، وكيفية تشكيل الوحدات
الصغيرة والربط بينها حتى أصبحت الأناجيل.
ومهمة هذا الجانب هو الكشف عن هذه الأشكال
الأدبية وتصنيفها وبيان نشأتها وتطورها
قبل أن تبدأ عملية الفهم أو التفسير أو
التأويل. وهو البديل عن النقد التاريخي
القديم لإثبات صحة النصوص إلا أنه لا
يتعلَّق بالسَّنَد ولكن بالمتن.
- (٢)
دراسة تكوين
الأسطورة Demythologisation: مثل أساطير الميلاد
أو الموت أو البعث. وقد نشأت ابتداءً من
عملية التأليه التي حدثت في شعور الجماعة
المسيحية الأولى ابتداءً من الإعجاب
بأقوال عيسى وأفعاله حتى التأليه المطلق
لشخصه. وقد تم نسج الأسطورة طبقًا
لمثيلاتها الموجودة لدى الشعوب المجاورة
وعلى منوالها مثل ديانة مترا في فارس أو
آلهة اليونان والرومان أو بعض معارج
الأنبياء عند بني إسرائيل.
- (٣)
تأويل
الأسطورة
Demythisation: لما كان تكوين
الأسطورة هو مجرد الكشف عنها في شعور
الجماعة المسيحية الأولى فإن تأويل أسطورة
هو إرجاعها إلى مصدرها في الوجود الإنساني
العام وليس في الشعور التاريخي للجماعة
الأولى وحدها. التواضع والتضحية والإخلاص
يدركها كل إنسان. والحياة والموت والألم
مكونات للوجود الإنساني. والذنب والمغفرة
والثواب والعقاب تتعلَّق بأفعال الإنسان.
ومن هنا أتَتْ أهمية فلسفات الوجود خاصة
عند هيدجر وتحليله لأبعاد الوجود الإنساني
الذي هو الأساس والمصدر لتأويل الأسطورة.
ومن هنا أيضًا تأتي أهمية الهرمنيطيقا
Hermeneutics.
٣