ثالثًا: المبادئ الأولية والمسلَّمات العامة
وتقوم المدرسة على عدة مبادئ أولية أو مسلَّمات عامة بصرف النظر
عن الفروق الفردية بين زعمائها وعن عددها وعن مدى تكوينها لخطوات
منهج محكم، وأهمها:
- (أ) نقد المصادر: يقبل زعماء المدرسة الأوائل النتائج التي انتهى إليها نقد المصادر إذ إن الاعتماد الأدبي المتبادل بين الأناجيل يمد المدرسة بمادة للبحث يسهل بعد ذلك العمل عليها ومعرفة كيف استخدم متى ولوقا ومرقص المصدر Q وكيف استخدم مرقص والمصدر Q المصادر الأولى. والحقيقة أن نقد المصادر مجرد مقدمة لنقد الأشكال (وهو الاسم المفضل لدى النقاد الأنجلوسكسون) لأنه إذا تمَّت بعد ذلك معرفة الوحدات الأولى بعد نقد الأشكال وتحديد التاريخ الأول لهذه الوحدات فإنه يسهل بعد ذلك معرفة الروايات المكتوبة.١
- (ب) الوحدات المستقلة: تكوِّن المصدران؛ مرقص، Q من وحدات مستقلة صغيرة كانت موجودة أولًا شفاهيًّا قبل أن تُدوَّن. ويمكن التعرف عليها في مرحلتها الشفاهية بالاعتماد على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا. وكُتَّاب الأناجيل هم الذين جمعوا بينها في أُطر مصطنعة وربطوا بين أجزائها في مجموعات أكبر. ومهمة الباحث معرفة هذا الربط المتأخر بعد الكشف عن هذه الوحدات الصغيرة السابقة على تكوين الأناجيل. وقد أثبت شميت وجود هذه المجموعات، وتعرف عليها ديبليوس في المرحلة الشفاهية كما هو واضح من قصة يائير وشفاء المرأة، والبعض منها كان سابقًا على تجميع كتاب الأناجيل. ويؤكد بولتمان على أن هناك حدودًا طبيعية لمثل هذه المجموعات في الفترة الشفاهية حتى لو لم يتم تحديدها تمامًا، وهي حدود يمكن تجاوزها بعد ذلك في مرحلة التدوين. هناك جزء واحد استثناء من القاعدة وهو «رواية الآلام»، فقد وجدت كوحدة واحدة غير مجمعة عن حياة عيسى في الفترة الأولى، ومتشابهة في الأناجيل الأربعة، لا توجد فيها مواقف أو حوار أو أقوال كثيرة، وتعبر عن شهادة عيانية. ومع ذلك فرواية مرقص ليست أقدم الروايات. وهي عند بولتمان وديبليوس نتيجة لعملية مبكرة لنقل التراث. لم تكن نواتها الأولى — لو تم العثور عليها — تاريخًا خالصًا؛ لأن الروايات الحالية في الأناجيل تنقل الحوادث في سياق أوسع. هي أقدم روايات الأناجيل، ووحداتها الصغيرة، إن وجدت، لا معنى لها إلا في سياقها وزمانها ومكانها. فقد أتت إجابة على سؤال الكنيسة الأولى: كيف تم إحضار عيسى إلى الصليب من الناس الذين باركهم وأجرى عليهم معجزاته وآياته؟
- (جـ) تكوين الأناجيل: هذه الوحدات الصغيرة المستقلة لها حياتها منذ نشأتها في الشعور التاريخي للجماعة الأولى ونقلها شفاهيًّا ثم تدوينها ثم الجمع بينها في وحدات أكبر حتى جاء كُتَّاب الأناجيل وربطوا بين الأجزاء في إطار وتصور واحد لخدمة أهداف معينة. مهمة الباحث إذن الصعود أو الرجوع إلى الأشكال الأولى لكل تراثٍ ورصد التغيرات التي طرأت عليه ثم المقارنة بين نصوص الأناجيل والنصوص المشابهة المحيطة في الآداب الشعبية القديمة أو في أدب الأحبار. كتاب الأناجيل ليسوا إذن مؤلِّفين بل هم مجمِّعون ومحرِّرون لمادة موجودة سلفًا نسقوا بينها. وكل مادة لها تاريخ سابق استعملتها الجماعة الأولى تحقيقًا لمصالحها، لها قلب أو نواة أو محور ثم حدثت إضافات عليها فيما بعدُ طبقًا لقوانين تطور العمل الأدبي ونقل الرواية الشفاهية، وأهمها قانون الإيجاز والإطناب. فالإيجاز هو الأصل، ثم تُضاف الأسماء والتفاصيل كما هو الحال في قصة الغني الباحث عن عيسى (مرقص، ١٠: ١٧–٢٢). فهو عند لوقا رئيس وعند متى شاب، وفي إنجيل الناصريين Nazaréens أن أحدهما هز رأسه بعدما سمع مطلب عيسى. ويبين إنجيل العِبْرانيين أن الرجل صاحب اليد الجافة كان بنَّاء، يكسب قوته من عمل يديه، ويتمتم بصلاة متكيفة مع الموقف؛ وبالتالي تكون عملية النقد هي تخليص الرواية من هذه الزيادات من أجل الحصول على النواة الأولى. كل مقطع له نقطة مركزية مثل مسح بطانيا (مرقص، ١٤: ٣–٩). كما أن نداء التلاميذ (مرقص، ١: ١٦–٢٠) مقطع تحول في لوقا (٥: ١–١١) إلى حكاية خيالية ابتداءً من قول عيسى «سأجعلكم صيادي بشر.» ويعترف كلٌّ من ديبليوس وبولتمان أن المقاطع لم يتم حفظها في حالتها الأصلية بل زادت عليها التحديدات الزمانية والمكانية فيما بعد. وقد لاحظ جونكل القانون نفسه وطبَّقه على روايات العهد القديم. وقد لا تخضع جميع المقاطع للقانون ذاته؛ إذ قد ينطبق الإيجاز على أحدها بينما ينطبق الإطناب على آخر.
- (د) الموقف الحياتي Sitz im Leben: هذه الوحدات الصغيرة نشأت في بدايتها كمواعظ تبشيرية لخدمة إيمان الجماعة الأولى ونشر عقائدها. فهي في الأصل مواعظ وليست تاريخًا، هدفها التبشير، وليس رصد الوقائع؛ ومن ثم فهي وحدات تعيش في شعور الجماعة، ولا يمكن فهمها إلا في وضعها الحياتي في إطار البواعث والوظائف والأهداف والمصالح التي تحرك الجماعة. فالجماعة تحركها عواطف وانفعالات، ولها تصوُّراتها للعالم، وعقائدها وولاءاتها المتباينة والتي يمكن على أساسها معرفة كيفية تكوين الأناجيل والربط بين الوحدات الصغيرة والبواعث على خلق الروايات ومصالح الجماعة وتفسير الاختلافات بينها. فقد كان هدف متى إثبات عيسى كمخلِّص Messia وإثبات شرعية الكنيسة. وكان هدف مرقص تصوير عيسى على أنه أحد الفقراء Ebionit حتى يحظى بإيمان اليهودية. وقد تدخلت هذه البواعث في طريقة صياغة الأناجيل والربط بين الوحدات الصغيرة في مجموعات أكبر. بل لقد استقل هذا الموضوع في نقد مستقل سُمي «نقد التدوين» Redaction criticism في كيفية تدوين الإنجيل وبواعث الكاتب وأهداف الجماعة. فالأناجيل ليست تواريخ حياةٍ لعيسى بل تحتوي على عقائد وآراء متأخرة ظهرت في الجماعة المسيحية المتأخرة، وتم تدوين الأناجيل طبقًا لها بحركة ارتدادية Retrograde عن طريق قراءة الحاضر في الماضي وترائيه فيه كما يقول برجسون. لقد لبَّى التراث حاجات الكنيسة وحقَّق أغراضها. وهذه إحدى مسلَّمات ديبليوس الرئيسية التي على أساسها يُعيد بناء الأناجيل طبقًا لحاجات الجماعة المسيحية الأولى. وبالرغم من أن بولتمان يبدأ بتحليل النص ويذهب منه إلى الكنيسة، إلا أنه يؤكد عدم الاستغناء عن الصورة المؤقتة للجماعة المسيحية الأولى وتاريخها حتى يمكن تفصيلها بعد تحليل النص النهائي. وهنا تبدو أهمية تاريخ الأديان المقارن واعتماد «تاريخ الأشكال الأدبية» على ما يقدِّمه من مقارنات بين الأديان. يرى ديبليوس أن الحركة المسيحية بدأت من دائرة آرامية فلسطينية حول عيسى. ثم أتت بعد ذلك مسيحية هلينية سابقة على بولس وقريبة من اليهودية؛ إذ كانت الكنائس المسيحية السابقة على بولس في مناطق تتحدث اليونانية دون أن تقطع صلاتها باليهودية. ثم أتت بعد ذلك كنيسة بولس أقل ارتباطًا باليهودية. فالأناجيل المتقابلة عند ديبليوس لم تحصل على شكلها من الكنيسة الفلسطينية التي تتحدث الآرامية أو من كنيسة بولس المتأخرة بل من الكنائس الهلينية السابقة على بولس والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا باليهودية. وقد أكدت هذه الكنائس أن إيمان اليهودية وآمالها قد اكتملت بقدوم المسيح؛ عيسى المسيح. فقد اهتمت هذه المسيحية بتراث عيسى من وجهة نظر أن الخلاص المنتظر طويلًا قد أتى. لم يكن الهدف إذن تاريخيًّا بل مشيانيًّا Messianic. وقد قام المبشرون والوعَّاظ والمعلمون بنقل هذا التراث. فالتبشير هو أساس التراث ومصدر التاريخ وعلى أساسه تم تكوين المواد وتوجيهها طبقًا للأغراض التي تهدف إلى تحقيقها من أجل خدمة التبشير والوعظ طبقًا لحاجات الكنيسة. ولهذا السبب كتب ديبليوس «الرسالة والتاريخ» Botschaft und Geschichte. ولم يستغن بولتمان عن هذه الصورة المؤقتة لحياة الجماعة المسيحية الأولى قبل تحليل الوحدات الصغيرة في الأناجيل المتقابلة ولكنه اقتصر على تقسيم المسيحية الأولى إلى قسمين رئيسيين؛ المسيحية الفلسطينية والمسيحية الهلينية. ولهذا كتب بولتمان «المسيحية الأولى في إطار الديانات القديمة».
- (هـ) تصنيف الأشكال: إن أية قراءة فاحصة للأناجيل تبين أن كتَّابها أخذوا وحدات من المواد كانت لها أشكال أدبية خاصة بها قبل أن تتشكَّل. ولا يعني ديبليوس بذلك المستوى الجمالي لفن روائي صاغه عبقري، بل يعني الأسلوب الأدبي، أسلوب الصورة التي خلقتها الجماعة المسيحية الأولى على منوال الأشكال الأدبية الموجودة في شعورها من تراثها الديني القديم أو من الآداب الشعبية الموروثة. فاستعمال الوحدة يحدد صورتها وليست نظرية نقدية مسبقة. وقد تطوَّرت الأشكال ذاتها ابتداءً من الحياة المسيحية الأولى وعبر حياتها في الكنيسة. لم تكن كاملة في البداية بل كانت ذكريات مليئة بالانفعالات حول التوبة ولنشر الدين والإكثار من المؤمنين. ثم أخذت أشكالًا كي تصبح أكثر قدرة على جلب التوبة والإيمان الأكثر تأثيرًا في النفوس. واعتمادًا على هذه المسلمات كلها أصبح الهدف الرئيسي لتاريخ الأشكال الأدبية هو تتبع تاريخ هذه الأشكال وتصنيفها اعتمادًا على مبادئ النقد الأدبي وبتحليل البيئة الشعبية والآداب القديمة، ولكن يظل الهدف الأساسي هو تحديد الأنواع الأدبية بصرف النظر عن مضامينها.٢ويختلف زعماء مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية حول تصنيف الأشكال وأسمائها، ولكن أشهر التصنيفات هي تلك التي أوردها زعيما المدرسة ديبليوس وبولتمان. كما يصعب التمييز بين مقاييس التصنيف والعوامل التي ساعدت على تحديد الأنواع الأدبية مثل طريقة عرض المادة (صورة ومضمونًا)، والباعث على وجودها الحالي (البيئة الحياتية التي ولدت فيها)، وأوجه الشبه بينها وبين الآداب الأخرى. كما يصعب تحديد الأنواع الأدبية من حيث الشكل فحسب دون أخذ المضمون في الاعتبار؛ إذ يمكن تحديد النوع الأدبي كما هو الحال في الأمثال التي لها ما يشابهها في العهد القديم وفي أدب الأحبار. فأمثال الرب لها شكل محدد؛ عبارة جبرية، صيغة استفهامية، خطاب أمري، تعجب نبوي، ولكن المضمون وحده هو القادر على تحديد نوع الفقرة أو المقطع أو أغلب الروايات التي ليس لها شكلٌ واضح مثل الحكايات الخيالية أو الأساطير. ويكون هذا التصنيف مثاليًّا لو أن النص الأدبي يطابقه تمامًا، ولكن الحال ليس كذلك. فالتصنيف يعطي الشكل الأدبي في حالته الخالصة، ولكن في أغلب الحالات تكون الأشكال متداخلة Mishform.
١
استعمل النقاد الأنجلوسكسون
Curtis, Easton, Grant,
Lightfort, Talyor تعبير
«نقد
الصورة» Form Criticism.
Hoffmann, op. cit., p. 167.
E. V. McKnight. op. cit., pp. 17–20; Bultmaan, Form Criticism pp. 25–31; Hoffmann, op. cit., pp. 168–175; Dibilius, From Tradition …, pp. 9–36, 178–217, 218–232; R. H. Fuller, op. cit., pp. 83-84; N. Perrin op. cit., pp. 15-16; S. Kistmaker, The Gospels in Current Study (Michigan, Baker House, 1972), pp. 38–50; R. H. Fuller. The New Testaments in Current Study (New York, Scribner and Sons, 1962), pp. 70–85; A. Robert and A. Feuillet, Introduction â la Bible I. Ancient Testament (Belgium, Desclée, 1957), pp. 324–330.
Hoffmann, op. cit., p. 167.
E. V. McKnight. op. cit., pp. 17–20; Bultmaan, Form Criticism pp. 25–31; Hoffmann, op. cit., pp. 168–175; Dibilius, From Tradition …, pp. 9–36, 178–217, 218–232; R. H. Fuller, op. cit., pp. 83-84; N. Perrin op. cit., pp. 15-16; S. Kistmaker, The Gospels in Current Study (Michigan, Baker House, 1972), pp. 38–50; R. H. Fuller. The New Testaments in Current Study (New York, Scribner and Sons, 1962), pp. 70–85; A. Robert and A. Feuillet, Introduction â la Bible I. Ancient Testament (Belgium, Desclée, 1957), pp. 324–330.
٢
Dibilius, From Tradition …
pp. 37–69; E. V. Mcknight, op. cit., pp.
21-22.