ثانيًا: ماذا تعني قراءة النص؟

لا تعني القراءة المعنى الشائع لها الوارد في مناهج التعليم والكتب المدرسية، أي إصدار الأصوات طبقًا لمخارج الحروف وكما هو الحال فيما بعد في الجامعات في علم الأصوات، ولكن القراءة هنا تعني الفهم. والنص هو موضوع الفهم. إذن قراءة النص تُعادل نظرية المعرفة في الفلسفة التقليدية تحديدًا للعلاقة بين الذات والموضوع؛ فالقراءة هي الذات والنص هو الموضوع. وإن أول سورةٍ نزلت في القرآن هي اقْرَأْ كفعل أمر. ولما كانت الإجابة «ما أنا بقارئ» أي القراءة بمعنى مخارج الحروف وإصدار الأصوات بالفم بعد التعرُّف على الحروف بالعين تم تصحيح هذا المعنى الصوتي بمعنى آخر في: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: ١) أي افهم وأدرك وتصوَّر. فالقراءة نطق، والنطق بداية الوعي باعتباره فهمًا.

وقراءة النص بمعنى فهمه تتضمن تفسيره وتأويله. الفهم المباشر بغير ما حاجة إلى تفسير أو تأويل. فإذا استعصى الفهم البديهي المباشر نشأت الحاجة إلى التفسير أي إلى فهم من الدرجة الثانية اعتمادًا على منطق اللغة أو توجه النص (السياق) أو ضرورة الموقف أو روح العصر. فإذا ما اصطدم التفسير بمنطق اللغة، وقوي توجيه النص، وفرضت ضرورة الموقف نفسها، وعمَّت روح العصر ظهرت الحاجة إلى التأويل باعتباره إخراجًا للفظ من معناه الحقيقي إلى معنًى مجازي لشُبْهةٍ أو قرينة. أما الشرح فإنه يتضمَّن كل ذلك: الفهم والتفسير والتأويل. الشرح هو العلاقة بين القراءة والنص، بين الذات والموضوع باعتبارها موقفًا معرفيًّا شاملًا.

والنصوص متعدِّدة. فقد يكون النص أدبيًّا من الأعمال الأدبية أو قانونيًّا من مجموعات الدساتير والقوانين أو تاريخيًّا من الوثائق والسجلات والموسوعات أو دينيًّا من الكتب المقدسة. وبالرغم من هذا التعدُّد إلا أن هناك قضيةً مشتركةً تجمع بين هذه الأنواع كلها وهي قضية قراءة النص أو تفسيره؛ فالتعدد في الدرجة لا في النوع. ومع ذلك فالنص الديني أكثر النصوص تشابكًا نظرًا لأنه يفرض مشاكل أكثر مثل الصحة التاريخية للنص التي لا يفرضها النص الأدبي باستثناء ملاحم الأدب الشعبي وكما هو معروف في قضايا الانتحال في الشعر اليوناني (هوميروس) وفي الشعر الجاهلي (المعلقات) أي الخلق الجماعي للنص. أما النص القانوني والنص التاريخي فلا يفرضان مسألة الصحة التاريخية إلا في أقل الحدود فيما يتعلَّق بالحفريات والآثار القديمة، كما أن النص الديني أكثرُ توجيهًا للواقع وتأثيرًا في السلوك من النص الأدبي أو التاريخي نظرًا لإيمان الناس به كموجِّه للسلوك وكمصدر للقيم، كمعيار للعلم وميزان للعمل؛ ومن ثم تتعدد التفسيرات بتعدُّد المصالح، وتتصارع مناهج التفسير بتصارع القوى الاجتماعية والسياسية بل وتقع الحروب وتحدث الانشقاقات، وتسيل الدماء، وتطير الرقاب بسبب تفسير النصوص الدينية أو تأويلها في صالح فريق ضد فريق؛ لذلك أتت هذه الدراسة أساسًا ابتداءً من النص الديني نظرًا لأنه أكثر النصوص اتساعًا وتشابكًا. يمكن تعميم النتائج على باقي النصوص الأدبية والتاريخية والقانونية لأنها أقل تشابكًا واتساعًا وكأنها حالات خاصة داخل الإطار العام.١ ومن هنا أتت التفرقة الشائعة المشهورة بين الهرمنطيقا العامة والهرمنطيقا الخاصة أو الهرمنطيقا المقدسة، الأولى تضع القواعد العامة لتفسير أي نص والثانية تضع القواعد الخاصة لتفسير النصوص الدينية والكتب المقدسة وحدها.٢
وقد تكون القراءة من فرد لفرد، ينتسب كلاهما إلى نفس الحضارة، قراءة الحاضر للماضي، تواصلًا للتراث مثل قراءة ابن رشد للفارابي وابن سينا، وقراءة أرسطو لأفلاطون، وقراءة الكانطيين فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور لكانط، وقراءة الهيجليين، شترنر وباور وشتراوس وماركس لهيجل، وقراءة هيدجر لكانط ونيتشه وهوسرل … إلخ. وفي هذه الحالة تكون القراءةُ تصحيحًا وتجديدًا لروح العصر عن طريق التأويل. وقد تكون القراءة من فردٍ ينتسب إلى حضارةٍ لفردٍ آخر ينتسبُ إلى حضارةٍ مغايرةٍ أيضًا قراءة الحاضر للماضي وتواصلًا بين الحضارات مثل قراءة ابن رشد لأرسطو وقراءة برجسون لأفلاطون … إلخ. القراءة إذن عمل فردي وعمل جماعي. عمل فردي داخل كل حضارة وعمل جماعي بين الحضارات من أجل إكمال الموقف وإظهار البناء. فقراءة الفارابي لأفلاطون وأرسطو وقراءة ابن رشد لأرسطو هي قراءة الحضارة الإسلامية للحضارة اليونانية. وقراءة هيدجر للفلاسفة قبل سقراط هي قراءة روح العصر الحاضر للحضارات القديمة، وقراءة ميرلو بونتي لجولدشتين هي قراءة الروح الفرنسية للروح الألمانية، وقراءة كانط لهيوم هي قراءة الروح الألمانية للثقافة الأنجلو سكسونية وقراءة جوزيا رويس لهيجل هي قراءة المزاج الأمريكي للروح الألمانية … إلخ، وقراءة المسيح للتوراة هي قراءة أسينيه Essenian للعقلية الفريسية Pharisain. وهذا هو معنى قول المسيح «خمر جديد في أوعية قديمة».
وفي كلتا الحالتين، القراءة الفردية والقراءة الجماعية، ليست القراءة مجرد شرح أو تفسير أو تأويل للمقروء بل هي إعادة بناء له طبقًا لتصوُّر القارئ فردًا أو جماعة. هي قراءة وتحليل ونقد وتصحيح وإعادة بناء من أجل إكمال البنية أو اكتشاف القانون. فقراءة برجسون لكانط نقد للعقل الخالص وللأمر الجازم، وقراءة كيركجارد لهيجل قلب له وكشف عن الجانب الآخر للعقل والاتساق أي الحياة والتناقض والموجودات والموت بعد أن طواه هيجل داخل المذهب. وقراءة الكانطيين لكانط هي كشف للمستور ورفع الحجاب عن الشيء في ذاته، الأنا عند فشته والتصوُّر أو الفكرة عند هيجل، والروح عند شلنج، والإرادة عند شوبنهور. وقراءة الفارابي لأفلاطون وأرسطو هي جمع لرأيي الحكيمين من أجل التعبير عن التصوُّر الإسلامي الشامل الذي يجمع الصورة والمادة، المثال والواقع، الجوهر والعَرَض، الروح والبدن، الآخرة والدنيا، الأخلاق والطبيعة، الله والعالم، القلب والعقل، الإشراق والحكمة، العقل والحس، الاستنباط والاستقراء، المنهج النازل والمنهج الصاعد … إلخ. قراءة ابن رشد للتراث اليوناني كله هو اكتشاف لقانون تطوُّره، من الواقع عند الطبائعيين الأوائل إلى المثال عتد أفلاطون إلى الجمع بين الواقع والمثال عند أرسطو. وقراءة الإسلام لتطوُّر الوحي هي جمعٌ بين الشريعة اليهودية والعفو المسيحي؛ لذلك كان أرسطو والإسلام متشابهين لأن كلًّا منهما أكمل البنية في تراثه الخاص، أرسطو في التراث اليوناني والإسلام في تطوُّر الوحي وتاريخ الأديان.٣وقد تكون القراءة مزدوجةً أي قراءة لقراءة مثل قراءة التوسر لقراءة ماركس للاقتصاد الكلاسيكي عند ريكاردو وآدم سميث من أجل اكتشاف منهجٍ جديدٍ من خلال المنهج القديم. فقد اكتشف التوسر البنيوية من خلال الماركسية كما اكتشف ماركس من قبل — الماركسية — من خلال الليبرالية والاقتصاد الحر. والقراءة المزدوجة ترى ما رأته القراءة الأولى وما لم تَرَه، وتجد ما وجدته وما لم تجده؛٤ وبالتالي فإن القراءة ليست فنًّا بل علم، ليست نظرية في اللعب والحوار الفكري الخالص وأساليب الجدل بل هي عملية إكمال من خلال التراكم المعرفي من أجل اكتشاف البنية التي هي أصل النص سواء تم تشكيله مرة واحدة أو على فترات.٥ فالقراءة في الزمانين الوجودي والتاريخي من خلال شعور الفرد والجماعة وتراكم الخبرات فيهما معًا. وبعد كل تراكم معرفي يأخذ النص أبعادًا جديدة لم تكن مقروءةً فيه من قبل ولا موجودة في النواة الأولى للنص.٦ وهذا هو معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف أي مستويات تفسير النص طبقًا لأعماق الشعور وطبقًا لتراكم المعرفة من عصر إلى عصر.
١  يعطي جاداما الأولوية للنص القانوني على النص الديني.
H. G. Gadamer: Vérité et Méthode; La signification exemplaire de l’herméneutique juridique, pp. 166–184; W. Dilthey: Le Monde de l’Esprit, Vol. I, p. 388.
٢  التفسير العام General Hermeneutics  التفسير الخاص Special Hermeneutics  التفسير المقدس Hermeneutica Sacra.
B. L. Ramm: Biblical Hermeneutics, in Hermeneutics, p. 7; L. BerkhofL: Priciples of Biblical Interpretation. pp. 40–46; A. B. Michelsen: Interpreting the Bible; General Hermeneutics, pp. 99–197; Special Hermeneutics, pp. 178–368.
٣  د. حسن حنفي: «الفارابي شارحًا أرسطو»، دراسات إسلامية، ص١٤٥–٢١٨؛ وأيضًا ابن رشد شارحًا أرسطو، نفس المصدر، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٣م.
٤  L. Althusser: Lire le Capital, vol. I, pp. 29–37.
٥  H. G. Gadamer: L’historicité de la compréhension entendue comme principe herméneutique, pp. 103–148.
وهو أيضًا موقف شيلر في الفن كنظريةٍ في اللعب، انظر د. وفاء محمد إبراهيم: «مفهوم النفس الجميلة في فلسفة فردريش شيلر» (مخطوط)، القاهرة، ١٩٨٣م.
٦  Ibid., pp. 27–55.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤