رابعًا: ضرورة النص

وبالرغم من عيوب استخدام النص كحجة سلطة طبقًا لأهواء جماعات الضغط وأغراض الفئات الاجتماعية، فإن النص له قوة سحرية في الاستشهاد به كقول مأثور أو حكمة شعبية أو مثل عامي أو بيت شعر، وكأن الخطاب العقلاني المعاصر لا يكفي للإقناع إلا بعد تطعيمه بسلطة النص. فإذا استطاعت الخاصة فهم الخطاب العقلاني فإن العامة في حاجة إلى المَثَل والحكمة الشعبية والنص الديني أو الأدبي أو القول المأثور أو سير الملاحم والأبطال للإيحاء بالمعنى وإقناع الجمهور العريض. وإذا كان البرهان وسيلة لخطاب الخاصة فإن الخطابة هي الطريق إلى قلوب العامة؛ لذلك كثرت في كتب الديانات الأمثالُ والحِكَم والأشعار والأناشيد والأقوال المأثورة والمزامير وسجع الكُهَّان نظرًا لقدرتها على التخييل والتعبير بالصور الفنية عن المعاني لأكبر عددٍ ممكن من الناس بصرف النظر عن مستويات ثقافاتهم.١
وفي مرحلة الانتقال من مجتمع النص إلى مجتمع العقل يتم استخدام النص من قبل الخاصة والعامة على درجات متفاوتة بناءً على ضرورة خارجية، أي ضرورة تأتي من خارج النص متمثلة في طبيعة المجتمع ومستواه الثقافي، ويكون للنص في هذه الحالة وظائفُ ثلاث:
  • (١)
    الاعتماد على حجة السلطة في مجتمع للنص فيه سلطة. فالنص هنا سلاح أيديولوجي وحجة جدلية ضد الخصوم، سلاح مزدوج يستعمله كل فريق لنصرة مذهبه ولنقد المذهب المخالف. النص هنا أشبه بالشرطة والجيش وأجهزة الأمن على مستوى الفكر والثقافة٢ وفي ميدان القيم الأخلاقية والعقائد الدينية.
  • (٢)

    إيجاد التواصل بين الماضي والحاضر استمرارًا لتاريخ الأمة وثقافتها، وحفاظًا على الأمة من الوقوع في خطأَيِ المحافظة والعلمانية، النص المغلق على نفسه وكأنه حقيقة في ذاتها، ورفض النص كلية بداية بالعقل والطبيعة.

  • (٣)

    إكمال الخطاب العقلاني بالنسبة للقارئ لنقص في اتساقه ومنطقه الداخلي اعتمادًا على سلطة خارجية لتقوية منطق البرهان بكسره ونقله من مستوى الاتساق إلى مستوى الأمر، وجمعًا لمنطق العقل ومنطق العاطفة، للخطاب العقلاني والإحساس الوجداني، لمنطق البرهان وأساليب الخطابة.

  • (٤)

    إيجاد جمهور أوسع ونشر للفكر على نطاق عريض نظرًا لوجود جمهور مؤمن إيمانًا مسبقًا بالنص يستعمله كأساس نظري لفهم العالم وكموجِّه عملي للسلوك.

وبالإضافة إلى هذه الضرورة الخارجية في مجتمع النص هناك ضرورة أخرى داخلية في بنية النص ذاته وفي تكوين الشعور. فالنص ضروري لأن التدوين واقعٌ بشري متمثِّل في كتبٍ مقدسة وأعمال أدبية ووثائق تاريخية وموسوعات قانونية. قراءة النص إذن ضرورة يحتمها الإيمان الديني والحسي الجمالي والمعرفة التاريخية ومحاجَّات الخصوم. استخدام النص هنا ينبع من ضرورة داخلية في بنية الفكر والواقع وليس مجرد سلاح خارجي في مجتمعاتٍ نصية تراثية. وقد تكون سلطة الماضي أحيانًا أكثر إقناعًا من سلطة الحاضر. وقد يكون سلطان الآباء والأجداد أكثر مدعاة للطاعة من سلطان الأبناء والأحفاد.

ويأتي سحر النص من عدة وظائف تقوم بها اللغة من خلال النص المدوَّن سواء للتعبير عن المعنى أو إيصاله، كما هو الحال في ألواح موسى والتوراة والقرآن كنماذج من نصوص محفوظة تصل قدسيتها إلى الأحبار والأوراق. ويمكن إجمال هذه الوظائف في ثلاث:
  • (١)
    البعد الجمالي للصورة الفنية: فاللغة قبل أن تكون ألفاظًا وعبارات هي صورة وتعبيرات، أشكال ورموز تتوجه إلى الخيال قبل أن تخاطب العقل، توحي بالمعاني من خلال طرق للتعبير تقوم على شتى أنواع المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه وضرب الأمثال مما يعطي اللغة قدرةً أكثر على التعبير وجمهورًا أوسع في الإيصال وتخفيفًا لحدة منطق البرهان وصورية الجدل. البعد الجمالي للغة يعطي للمعنى إمكانيات إيحائية أكثر مما يعطي البرهان الصوري؛ لذلك ارتبط المعنى بالدين منذ نشأته، وكان الفن أحد مظاهر التعبير عن الدين منذ بدايات التعبير البشري حتى أكثرها تطورًا في آخر الكتب المقدسة المدونة. البعد الجمالي للغة حلقة متوسطة بين النص كموضوع وبين الذات كفهم، تكشف عن ميدان الخيال. الصورة الفنية في النص تخاطب الخيال في الذات وتوقع التخييل في النفس. يعيش الإنسان في الحياة شاعرًا حتى ولو لم يقرض الشعر، ويتذوَّق الجمال حتى ولو لم يمارس أيًّا من الفنون الجميلة. بل إن الواقع ذاته خيال كما يبدو ذلك في الخيال العلمي والخيال السياسي والخيال العسكري.٣
  • (٢)
    المستوى الاشتباهي لمعاني الألفاظ: وذلك أن النص قد يحتوي على معنيين ليس فقط للمجاز والإيحاء بالمعنى ولكن أيضًا للسلوك والتوجه العملي داعيًا الأفراد والجماعات للفعل وتاركًا لهم حرية الاختيار في فهم عموم النص أو خصوصه، إطلاقه أو قيده، اعتمادًا على المواقف المحددة لهذا المعنى أو ذاك. النص بهذا المعنى إمكانية ذات وجهين ثم تأتي القراءة فتحدد هذا الوجه أو ذاك. النص بلا قراءة إمكانية بلا تحقُّق. ذخيرة بلا إطلاق. ولا يمكن أخذ الإمكانيتين معًا لأن النص لا يتركز إلا على جانب واحد حين قراءته. فمثلًا لا يمكن أخذ الجانب الإلهي والجانب الإنساني معًا في نصٍّ واحد يضم الإرادتين معًا لأن الإنسان هو القارئ وليس الله. وأخذ الجانب الإلهي هو ادعاء للإنسان وخروج عن حقه الشرعي وانحراف عن وضعه الطبيعي. وهذا هو ما سمَّاه القدماء المحكم والمتشابه؛ فالمحكم هو الذي يحتوي على معنى واحد والمتشابه هو الذي يوحي بمعنيين طبقًا لاختيار الإنسان الذي يحدده وضعه في العالم.
  • (٣)
    التوجه السلوكي نحو الأفراد والجماعات: وذلك أن النص هو اقتضاء فعل إيجابًا في صيغة الأمر «افعل» أو سلبًا في صيغة النهي «لا تفعل»؛ ومن ثم تنشأ الحاجة إلى تحديد عموم اللفظ وخصوصه. النص صورة بلا مضمون، روح بلا جسد، والقراءة هي التي تعطيه مضمونًا وجسدًا، تجعله يضم هذا الفرد أو هذه المجموعة، هذه الأمة أو البشرية جمعاء. القراءة هي التي تحدد مضمون الخطاب وتشير إلى من يتوجه إليهم النص. كما أنها هي التي تحدد نمط السلوك قولًا أو عملًا، فكرًا أو وجدانًا؛ لذلك كان الخطاب الديني أمرًا أو نهيًا، إعلانًا أو بشارة، دعوة إلى العمل أو الخلاص.٤
١  G. H. Gadamer: L’art de comprendre: Herméneutique et Tradition philosophiqe; V. Rhétorique, herméneutique et critique de l’idéologie. pp. 123–174.
٢  Ibid., X, Dialectique et sophistique dans la VII lettre de Platon, pp. 225–252.
٣  لذلك جعل جاداما أول باب له عن «تجاوز التجربة الجمالية» في كتابه المشهور «الحقيقة والمنهج». H. G. Gadamer: Vérité et Méthode: Les grandes lignes dune herméneutique philosophique; I, Degagement de la question de la vérité; l’experience de l’art, pp. 27–99.
وهناك أنواع عديدة للمجاز حسب نقاد الأدب وفقهاء اللغة وعلماء التفسير مثل المجاز القصير الذي يحتوي على المقارنة والربط والبعد الشخصي والزيادات والمبالغة أو الانتقاص، وقلب المعنى أو إكماله، والمجاز المعتم Opoque مثل الألغاز Riddles والأساطير Fables والأقوال الألغازية Enigmatic والمجاز الطويل مثل الأمثال Similitudes والحكايات Parables والقصص الرمزية Allegories.
A. B. Michelsen: op. cit.; pp. 178–211; D. H. WaIlace: lnterpretation of Parables, in: Hermeneutics, pp. 31–42, B. K. Ramm: Protestant Biblical lnterpretation, pp. 286–288.
٤  يسمي جاداما هذا المستوى «تحليل الشعور التاريخي بالفاعلية».
G. H. Gadamer: Vérité et Méthode: Analyse de la conscience de l’histoire de l’efficience, pp. 185–220; O. Kaiser & W. G. Kummel: Op. cit., pp. 9–11.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤