خامسًا: هل هناك معنى موضوعي للنص؟

بالرغم من أن النص مكتوب بلغة معينة، مقروءة ومفهومة، حتى ولو كانت لغة قديمة إلا أن النص، على غير الاعتقاد الشائع، لا يحتوي على معنى موضوعي وكأنه شيء. النص عمل إنساني خالص منذ تدوينه الأول حتى قراءته الأخيرة. النص قول صامت، نطق ساكت، حروف مرئية، مدونة حرفية، وَرَق ومِداد. والقراءة هي التي تحيله إلى معنى وتجعله قولًا معلنًا. ونطقًا مسموعًا، وتوجيهات عملية، ومعارك سياسية واجتماعية.

يخضع تدوين النص إذن لعدة عوامل كلها ذاتية مثل رؤية الوقائع، وقراءتها على نحو معين، وتوجيهها في اتجاه معين. النص عمل أيديولوجي صرف. وقد كان تدوين النصوص الدينية في العصر المسيحي الأول جزءًا من الصراعات المذهبية حول أقوال المسيح وأفعاله. ثم ظهر التدوين لتقنين هذه الأقوال والأفعال ضد التعدُّد والتضارب، كل فرقة تدون عقائدها لتُعطي نفسها شرعية تاريخية وصيغة قانونية ضد المذاهب الأخرى. وكان تدوين علم العقائد وتاريخ الفرق الإسلامية خاضعًا أيضًا لتوجيهات الفرقة الناجية وتدوينًا لتاريخ فرق المعارضة من خلال فرقة السلطة. وتواريخ مصر القديمة كانت لفرعون مصر وأمجاده وليس للسابقين عليه. يبدأ التاريخ من كل فرعون وينتهي إليه! التدوين قراءة واختيار. وإن تدوين تاريخ الأنبياء في آخر مرحلة من تطور الوحي إنما هي قراءة الماضي من خلال الحاضر، ورؤية للتطور من خلال البناء؛ وبالتالي أصبح كل الأنبياء مسلمين منذ إبراهيم حتى آخر الأنبياء. وهذا يسمَّى «التفسير النمطي» للنصوص وكما حدث في استعمال الشواهد النقلية من العهد القديم في العهد الجديد واختيار نصوص قديمة تتفق في معانيها ووصفها للحوادث مع رؤية العصر وحوادثه، فكل نص يشير إلى نبي يدخل مدينة على راكبة وبيده غصن زيتون يكون هو المسيح داخلًا القدس. فتدوين نصوص العهد القديم داخل الجديد ليست قراءة موضوعية لنصوص العهد القديم بل تفسير لها من منظور العهد الجديد.١ وقد يُستعمل الإطار التاريخي الموضوعي كبدايةٍ أو أرضيةٍ أو خلفيةٍ من أجل التعبير عن الرؤية الذاتية. وقد حدث ذلك في تسجيل حياة المسيح، أقواله وأفعاله، خاصة المعجز منها وإعطاء تحديدات زمانية ومكانية للولادة والصلب والبعث من أجل مزيد من الإقناع وإيحاء بصحة الوقائع؛ وبالتالي كان استعمال الحفريات في التفسير لا يدل على معنى النصوص. فليست الحقيقة في قراءة النص تطابق المعنى مع الواقع طبقًا للتعريف التقليدي للحقيقة وما يتفق مع الموضوعية التاريخية والعلمية التي ذاعت في القرن التاسع عشر الأوروبي بل تطابق المعنى مع التجربة البشرية بصرف النظر عن الزمان والمكان الحسيين اللذين يستخدمان كإطار مسرحي للخلق الفني وتدوين النص والذي يُعرف في تاريخ النصوص باسم «الانتحال».٢ ولذلك يصعب التمييز بين «مسيح التاريخ» و«مسيح الإيمان»؛ فالأول لا وجود له إلا من خلال الرؤية أي إيمان المؤمنين به. المسيح التاريخي افتراض ومسيح الإيمان واقعة. والأناجيل الأربعة لا تتحدَّث عن مسيح التاريخ ولكنها تعبِّر عن مسيح الإيمان.٣ وظهور العذراء يتوقف على مدى الإيمان به. فالإيمان هو الذي يخلق الواقعة كما أن العقيدة هي التي تخلق النص.
وقراءة النص ثانيًا لا تختلف عن تدوينه أولًا حيث إن كل قراءة إنما هي اختيار للمقروء وإعادة بناء له بصرف النظر عن المواقف الأولى التي منها نشأ وعليها قام. فالنص في تدوينه وفي قراءته سلاح أيديولوجي خاصة في مجتمعات سلطوية فكريًّا وسياسيًّا، كل جماعة ترى نفسها في النص، وتسقط أمنياتها عليه. ترى فيه دفاعًا عن مصالحها وهجومًا على خصومها. ومهما أوتي الإنسان من معلومات وافرة عن الظروف التاريخية الأولى التي منها نشأ النص فإنها تكون محدودة وناقصة ولا يمكن الاعتماد عليها في تفسير النص. وإذا حدث فإن التفسير يكون قائمًا على النزعة التاريخية التي تحيل النص إلى موضوع تاريخي صرف، نشأته ومكوناته ومصادره كما هو الحال في النقد الأدبي القائم على هذه النزعة وكذلك في نقد الكتب المقدسة لمعرفة مصادرها التاريخية. أما قراءة النص في ظروف جديدة قد تتشابه مع الظروف القديمة التي منها نشأ وقد تختلف معها فإنها إعادة تدوين وخلق غير معلن بإعادة توظيفه وقراءته. القراءة خلق جديد للنص واكتشاف لمكونات فيه ربما لم تكن مقصودة في نشأته الأولى. وهكذا يصبح النص حاملًا لخبرات عدة أجيال من خلال التفسيرات والشروح. وقد يمَّحي الفرق بين الأصل والشرح، يصبح كلاهما أصلًا واحدًا. فلا فرق بين أصل صحيح وزيادة منتحلة. النص عمل جماعي وخبرة مشتركة وراء وحدة العمل الأدبي ووحدة النص الديني.٤ وقد حدث نفس الشيء في تاريخ الفلسفة في قراءة فيلسوف لاحق لفيلسوف سابق حيث تكتشف قراءة اللاحق معاني ومقاصد لم تكن في نص السابق. فالحاضر هو الذي يخلق الماضي ويعيد بناءه. والأمثلة على ذلك كثيرة من قراءة برجسون لأفلوطين، وقراءة هيدجر للفلاسفة السابقين على سقراط ولكانط ونيتشه، ومثل قراءة هيجل لتاريخ الفلسفة وقراءة ماركس لديموقريطس. وقد سمى ذلك برجسون «ترائي الحاضر في الماضي» أو «الحركة المتراجعة للحقيقة» وسماه هوسرل «المنهج ذو الآثار الرجعية».٥
١  التفسير النمطي Typological interpretation. انظر: R. B. Laurin: B. Ramm: Protestant Biblical Interpretation of types pp. 215–240; The typological interpretation, in: Hermeneutics. pp. 118–129; A. B. Michelsen: Op. cit., Typology, pp. 236–264; R. Nicole: Old Testament quotations in the New Testament, in: Hermereutics, pp. 43–53.
٢  هذا هو المنهج التاريخي الذي استعمله الأب لاجرانج Largrange مؤسس مدرسة القدس لدراسات الكتاب المقدس L’ecole Biblique de Jerusalem.
E. M. Blaiklock: The use of Archeology in interpretation. in Hermeneutics, pp. 54–66; p. M. J. Lagrange: La Méthode Historique V. Lecoffre, Paris, 1904.
٣  C. E. Braaten: New Directions in Theology Today, Vol. II, History and Hermeneutics, pp. 53–102.
J. Jeremias. The problem of the historical Jesus, Fortress, Phila. 1964. R. Bultmann ;Jesus Christ and Mythology, Ch. Scribner New York, 1958; R. Bultmann: Jesus. J. C. B. Mohr, Tübingen, 1961; J. G. H. Hoffmann: Les vies de Jesus et Jesus de l’histoire, Upsala, 1947; A. Loisy: Histoire et Mythe à propos de Jesus-Christ. E. Nourry, Paris, X. Leon-Dufour: Les Evangiles de l’histoire de Jsus, Du seuil, Paris, 1963.
٤  H. G. Gadamer: L’art de comprendre: Hermeneutique et Historicité, pp. 49–89.
٥  ترائي الحاضر في الماضي Le mirage du présent au passé.
 الحركة المتراجعة للحقيقة Le mouvement rétrograde du vrai.
المنهج ذو الآثار الرجعية La Méthode retro-active.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤