رابعًا: الفلسفة والمذهب

تنشأ الحاجة إلى ترك الفلسفة والأخذ بالمذهب عندما ينشأ دافع الاستحواذ ورغبة التسلُّط والحاجة إلى الدفاع عن النفس ضد مخاطر الفلسفة التي تعني الفكر الحر والحوار المفتوح والتقدم المستمر. حدث ذلك مرات عدة في تاريخ الفكر البشري وفي عددٍ من الحضارات الإنسانية. حدث ذلك لأوَّل مرةٍ في الحضارة الغربية بعد نشأة المسيحية وأخذها الطابع الأخلاقي الروحي العملي وتحويلها لقلوب الناس، وتغييرها لأساليب حياتها. فجاء بولس ونظَّم العقائد، وصاغ النظريات، ووضع كل ذلك في مذهبٍ عقائدي صارم يكفِّر ما سواه، ويعتبر أصحابها من «العلماء الكَذَبة» حمايةً للعقيدة، وتأسيسًا للسلطة، ودفاعًا عن الكنيسة. فبذر بذور الشِّقاق الذي سيحدث فيما بعدُ بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، ثم داخل الكنيسة الغربية ذاتها بين البروتستانت والكاثوليك. ثم نشأت الحاجة مرةً ثانية في عصر آباء الكنيسة الأوائل، عندما تشعَّبت الفرق الدينية واختلف الناس في فَهْم طبيعة المسيح، فتدخَّلت السلطة الدينية مرة ثانية لتختار عقيدةً دون أخرى وتتبنَّى مذهبًا وتكفِّر ما عداه، وتصوغها في عبارات لا حَيْدة عنها كما فعلت في مجمع نيقيا الأول. ولما اشتدَّ الفكر الحر في العصر الوسيط المتأخر وبدأ العقل يأخذ سلطانه ويتبدَّد الشر ويظهر التناقض بين العقل والإيمان سارع علماء الكنيسة بوضع مذهبٍ لاهوتيٍّ جديد يقوم على سلاح الخصوم وهو العقل، وعلى أحدث فلسفات العصر وهو مذهب أرسطو. فكتب توما الأكويني «الخلاصة اللاهوتية» لصياغة مذهب جديد يحمي به العقيدة من هجمات اللاهوتيين العقليين وأنصار الفلسفة الإسلامية. وأخيرًا جاءت المحاولة الرابعة في بداية العصور الحديثة في عصر النهضة بعد أن تم تقويض كل النظريات القديمة والتصوُّرات السابقة للعالم التي سادَت العصر الوسيط والتي اكتشف العقل زيفها وتعارضها معه وتناقضها، وبعد اكتشافات العلم الحديث والثقة بشهادة الحس واطِّراد التجربة. ولما أعطى عصر النهضة تصوُّرات جزئية عن الإنسان والكون، وأصبح في القرن السابع عشر للعقل السلطان على كل شيء، بدأت الحاجة إلى المذاهب الفلسفية الشامخة لإعطاء تصوُّرات عامة وشاملة بديلة عن التصوُّرات الأولى التي انهارت وتم القضاءُ عليها تمامًا. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذا الكون دون تصوُّرات عامَّة، والمجتمع لا يستطيع أن يسلك أو أن يعيش دون رؤية شاملة له. نشأت هذه المذاهب الشاملة إذن كردِّ فعل على العقائد النظرية القديمة التي كانت تقوم بوظيفة التصوُّرات للعالم، لا تريد أن تتزحزح عن موقفها دفاعًا عن العالم ودفاعًا عن المكتسبات البشرية التي من أجلها سالت دماء الشهداء من المفكرين والعلماء. وقد حدث الشيء نفسه في تراثنا القديم عندما تمت صياغة العقائد على يد الأشعرية وأصبحت هي نموذج الإيمان الصحيح وتكفير عقائد كل الفِرَق حتى كثُرَت العقائد «النَّسَفية» و«الطَّحاوية» و«العضُديَّة»، يتم تلقينها جيلًا بعد جيل كأنها أشياء أو ميراث أو مقدَّسات لا يمكن الاقتراب منها أو العدول عنها.

تموت الفلسفة إذن إذا ما تقوقعت وتكورت على ذاتها، وتحوَّلت إلى مذهب مغلق يكون بديلًا عن الواقع ذاته. كل ما يتفق مع المذهب يكون صحيحًا، وكل ما خالفه يكون باطلًا. فالمذهب هو المعيار الذي يُقاس به كل شيء، وهو القالب الذي تُقَدُّ عليه كل فكرة. المذهب عالم مغلق لا مداخل إليه ولا مخارج منه، دائرة مغلقة لا فجوات بها؛ لذلك فإنه لا يقبل التطوُّر أو التغيُّر مهما تغيَّرت الظروف والأحوال. مذهب أبدي شامخ كالطَّوْد، حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، يدور الأفراد في فلكها. بل إنه لا يقبل التعديل أو النقد من أنصاره، وإلا كان ذلك نهاية له وانفتاحًا وتطورًا. يؤخذ كله أو يُرفض كله. لا يمكن الدخول في حوارٍ معه فهو بناءٌ متكاملٌ لا يقبل إعادة النظر أو المراجعة.١

وتكون النتيجة التخشُّب والتصلُّب والموت للفلسفة وللفكر وللحياة. ابتعدت المذاهب عن واقع الحياة وحركتها وتحجَّرت حتى لم يعد يشعر فيها أحد بنبض إنسان بلحمه وعظمه. بل كانت مجموعة من الأطر الهيكلية والمقولات والتصوُّرات تتركَّب فيما بينها بطريقةٍ آليةٍ لتُعطي صورة للوجود دون مضمونه حتى لقد جعل كيركجارد من حياته كلها صراعًا ضد المذهب، ضد العملية الكونية التاريخية دفاعًا عن الفرد، هذا الكائن الحي بلحمه وعظمه كما يقول أونامونو. وإن الجبال كلها إذا وقعت عليه وهشَّمته وكسرت ضلوعه فإنه أقوى منها لأنه يشعر أنه يتحطَّم وهي لا تشعر بشيء. وهو ما قصد إليه القرآن الكريم بقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: ٧٢)، فالإنسان أعظم من السموات والأرض والجبال لأنه حرية ودعوة ورسالة وإمكانية وتحقق ومشروع.

ولما تعددت المذاهب طبقًا لمزاج الفيلسوف وتربيته ورؤيته للواقع وأهدافه تحوَّلت المذاهب المختلفة إلى حقائق نسبية بعد أن ادَّعى كلٌّ منها أنه الحقيقة المطلقة، ولما كانت الحقيقة المطلقة لا تتعدَّد فقد نشأ بينها أي (المذاهب) التصادُم والصراع فضاعت الحقيقة المطلقة التي كانت في البداية الدافع على نشأة المذاهب وبنائها. وللتغلُّب على هذه النسبية يتحول البعض منها إلى أيديولوجيات سياسية ومذاهب اقتصادية أو تنظيمات حزبية تعيد الحياة إليها، وتلجأ إلى الواقع باعتباره المحكَّ الأول لصدقها دون غيرها. فتتحول إلى دجماطيقية أكثر، وتتعصَّب وتتحزَّب. والروح الحزبية في نهاية الأمر على النقيض من الروح الفلسفية. فقد تحول الجدل من مجرد مذهب إلى أيديولوجية سياسية ثم إلى تنظيم حزبي ثم إلى نظام سياسي ثم إلى دولة ثم إلى معسكر غابت عنه حرية الفكر، وضاعت منه حرية النقاش والحوار، وخفتت فيه أصوات المعارضة. وأصبحت هذه الدول توصَف بالنظم الشمولية التسلُّطية تعلو فيها أصوات المنشقِّين، وتكثُر فيها محاولات هروب الفنانين والأدباء، وتنتهي بسجن العلماء والمناهضين. تُسيطر فيها الدولة على جميع مظاهر الإبداع البشري في الفن والعلم والفلسفة، وقد يزداد خطر الحرب لحل الصراع المذهبي بين النظم السياسية المتعارضة مثل النظم الاشتراكية والرأسمالية. كما قد تكون وسيلة الحوار بين المصالح الطبقية المتعارضة هو الصراع الطبقي واستعمال العنف وإراقة الدماء. فتسيل الدماء بدل أن تسيل الأقلام، وتتصارع السيوف بدل أن تتقارع الحجج.٢
ويشهد التاريخ على موت الفلسفة عندما تسود روح المذهب. فقد كان القديس بولس أول من «مَذْهَبَ» المسيحية ووضعها في صورة عقائد مُحكَمة في نظريات الخلاص والفداء والخطيئة إثر القديس يوحنا «اللاهوتي» فقضى على روح المسيحية كما عبَّر عنها المسيح في «الوصايا على الجبل» دعوة إلى المحبة والتواضُع والتأمُّل، وقضى على روح الحوار التي كان المعلِّم يتبعها مع تلاميذه، بل مع أعدائه من اليهود والمنافقين والكَتَبة والأغنياء والفريسيين. ثم تعقَّدت روح المسيحية من جديدٍ وتمذْهَبَت مرة ثانية في مَجْمع نيقيا الأول، وتم تكفير كل الآراء المعارضة واعتبارها هرطقاتٍ للرد عليها. وقد قام القديس أرينيوس بذلك بالفعل في «الرد على الهراطقة»، مع أن هذه العقائد كلها كانت مُعاشة بين الجماعات المسيحية الأولى بنفس الدرجة التي عاشتْها العقائد المسيحية الرسمية. بل ساهمَت في تكوين هذه العقائد الرسمية ذاتها لأنها لا تخلو من آثارها. وكانت النتيجة أن انشقَّت عن المسيحية الأرثوذكسية أولًا ثم البروتستانتية ثانيًا. وتوالت حركات الانشقاق كلها ترفض روح المذهب ونَسَق العقائد. ثم أعاد توما الأكويني صياغة المذهب من جديد في «الخلاصة اللاهوتية» ورفض كل ما عداه في «الرد على الأمم» معيدًا بناء المذهب ليس على أساس أفلاطوني كما كان الحال في عصر آباء الكنيسة الأوائل، بل على أساس أرسطي جديد، ولكن المذهب لم يتغير واستُعمل في مواجهة ما يُسمى بحركات الإلحاد في العصر الوسيط المتأخر الذي قاده أنصار الجدل مثل بيرانجيه التوري وانسيلم البساطي والفلاسفة العقلانيين تلاميذ المسلمين مثل أبيلار والرُّشديين اللاتين. وقد نشأ فرعٌ جديدٌ بأكملِه لهذا الغرض وهو «علم اللاهوت العقائدي» دفاعًا عن المذهب، تحوَّل فيه الدين إلى بناء ضخم. بل إن علوم الأخلاق والسياسة والاجتماع والقانون والتاريخ تحولت أيضًا إلى فروعٍ للاهوت في اللاهوت السياسي، واللاهوت الاجتماعي، واللاهوت القانوني، واللاهوت التاريخي. بل إن البروتستانتية التي قاومت روح المذهب من أجل الإعلاء من شأن الإيمان اللحظي الفردي القلبي الباطني، قد وقعت أيضًا تحت الإغراب المذهبي فلم يختلف اللاهوتيون البروتستانت عن زملائهم الكاثوليك في صياغة أكثر المذاهب إحكامًا. ففي هذا القرن أعاد كارل بارت بناء المذهب في «العقيدة» La Dogmatique حماية لها من تأويلات المحدَثين، ونظرات المجددين وتفسيرات اللاهوت الجديدة «لاهوت التحرُّر، ولاهوت الثورة، واللاهوت العلماني، واللاهوت الإلحادي».٣
وفي بدايات العصر الحديث تحوَّلت الدجماطيقية إلى مذهب فلسفي عند فولف يقوم على الفلسفة العقلية، وعلم النفس العقلي، والطبيعة العقلية، واللاهوت العقلي … إلخ، فتحولت الفلسفة إلى نسق محكم يطابق حتمية الطبيعة لا يمكن أن تهتزَّ أمام تحليل التجارب الإنسانية الحية أو المواقف الإنسانية الفردية … وقد دعا ذلك كانط إلى التصدِّي «للدجماطيقية» واضعًا في مقابلها الفلسفة «النقدية» مُبيِّنًا أن الفلسفة ليست في كمِّ المعلومات ونَسَق الأفكار بل في معرفة شروط المعرفة وإمكانياتها أولًا حتى لا يتجاوز الإنسان بقدراته المعرفية حدودها فيقع في الدجماطيقية. ثم بلغت المذهبية أوجها عند هيجل حتى لقد عُرفت فلسفته باسم المذهب Le systeme ضم الحسَّ والعقل والقلب، الفرد والأسرة والمجتمع، المنطق الذاتي والمنطق الموضوعي والمنطق الذاتي الموضوعي، الدين والأخلاق والفلسفة، الاجتماع والسياسة والقانون، الماضي والحاضر والمستقبل، الإنسان والعالم والله. لم يخلُ المذهب من شيء واحد لم يتعرَّض له حتى فقد الإنسان فرديته في العالم وحريته أمام الضرورة التاريخية مما سبَّب ثورة كيركجارد وجميع الوجوديين عليه.٤
وفي تراثنا القديم ظهرت النزعة المذهبية في كتب العقائد سواء عقائد الإمامية أو عقائد الأشعرية، وكلتاهما تعبر عن مجموعة من المطلقات المغلقة التي لا يمكن الخروج عليها، للعقل نقدها أو للواقع دحضها. مع أنها في نشأتها كانت أوضاعًا اجتماعية تعبر عن جماعات من المضطهدين خارج السلطة أو عن أقليات من المضطهدين من أصحاب السلطان كل منهما يبرِّر نفسه ويدافع عن شرعيته في التاريخ باستعمال سلاح العقيدة، فخرجت العقائد الإمامية للدفاع عن الفريق الأول مثل الإمامة والغيبة والعصمة والتقية لإبقاء الجماعة في التاريخ كأصابع ديناميت أو قنابل موقوتة تنفجر إذا ما حانت ساعة الخلاص. وخرجت عقائد الأشاعرة مثل العقائد النَّسَفية، والعقائد العضدية، والعقيدة الطحاوية، والعقيدة السنوسية إلى آخر هذا التنميط للعقائد الإسلامية ابتداءً من «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة حتى عقائد الدردير واللقاني. تحوَّل الإسلام إلى مذهب أي عقائد ثابتة تكون حقيقة الإيمان ومضمونه، من يعتنقها يؤمن، ومن يخرج عليها يكفر؛ وبالتالي ضاعت الفلسفة وانتهى روح التأمُّل وطرح المسائل وإعطاء مختلف الحلول على قدم المساواة، مع أن هذه العقائد ذاتها مثل عقائد الإمامية، من وضع التاريخ. لم تكن هناك عقائد في البداية بل كانت هناك حركةٌ في التاريخ وتحقيق «رسالة التوحيد» فيه. فلما انتصرت الدولة السنية أفرزت «الأشعرية» كفكر السلطة، وبدأ تقنينها في نسق عقائدي في مواجهة الخصوم ثم تبنَّتْها الدولة دفاعًا عن التصوُّرات المطلقة للعالم ولتكفير كل العقائد الأخرى التي تُفسح المجال للحرية الإنسانية وللعقل الطبيعي ولاستقلال قوانين الطبيعة. وتم تكفير كل العقائد الأخرى بالاعتماد على بعض الأحاديث الضعيفة مثل حديث «الفرقة الناجية» التي يتمُّ فيه تكفير كل فرق الأمة الثلاث والسبعين باستثناء فرقةٍ واحدة هي الفرقة الناجية، فرقة الحكومة! والمتتبِّع لهذه العقائد نشأة وتطورًا يجد أنها تعكس ظروف المجتمع وتاريخ الأمة من حيث العدد والصياغة؛ فقد بدأت بستِّ عقائد في الذات الإلهية وبسبعٍ في صفاتها. ثم انقسمت الصفات إلى اسم وفعل مثل عالِم بعلم، وحي بحياة، وقادر بقدرة فتضاعفت. ثم نفي الضد مثل عالم وليس بجاهل، بعلمٍ وليس بجهل … إلخ، فتضاعفت مرة أخرى فأصبح المجموع ٦ + ٦ (نفي الضد) + ١٤ + ١٤ (نفي الضد) فأصبح مجموع العقائد في الله أربعين عقيدة، وفي الرسول أربعًا تنفي أضدادها فيكون المجموع ثماني وأربعين عقيدة يجب على المسلم الإيمان بها. وقد تزيد في جيلنا أو في الأجيال القادمة. كل ذلك من عمل المذهب نتيجة للانغلاق على الذات والانعزال عن الواقع فتعيش العقيدة على ذاتها حتى تتآكل في النهاية.٥ إنما تحيا الفلسفة بكسر حدَّة المذهب والخروج من حصاره والإفلات من دوائره. غابت روح المذهب عن الفلسفة اليونانية وبالتالي ازدهرت الفلسفة، وأصبح طريقها هو الحوار الذي خلَّده أفلاطون في «المحاورات» والذي وضعه المعلم سقراط، دون وضع نظريات مسبقة بل التساؤل عن المعتقدات الشائعة ومطالبة المعارضين بالبرهان فيكتشف الإنسان الصواب أو الخطأ من نفسه. وهو الطريق الذي وضعه القرآن بقوله: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات: ٢٠-٢١). بل إن أرسطو نفسه لم يضع مذهبًا. وقد وصفه برجسون بأنه «عبقرية كل العصور لكنه لم يضع مذهبًا.» بل كانت عينه مفتوحة على الطبيعة كما هي يدرك حركتها ولرؤية الفردي والضروري في آنٍ واحد كما فعل برجسون بالحَدْس، هذا التعاطف الوجداني مع الواقع والاتحاد به لإدراك ماهياته المستقلة من خلال التجربة. كما أعطى أوغسطين نموذجًا آخر لروح التفلسف في مواجهة المذهب بالرغم من استعماله هذه الروح دفاعًا عن العقائد الرسمية للكنيسة. استعمل الحوار السقراطي الأفلاطوني وغاص في التجارب البشرية التي تكمن وراء العقائد. فكان فيلسوفًا أكثر منه عقائديًّا. وأمكنَه الدفاع عن المسيحية باسم السلطة حتى لو كانت سلطة الروح أو سلطة الاختيار. ولم يكن ذلك فقط في «المحاورات الفلسفية» التي كتبها في شبابه بل أيضًا في كتبه العقائدية الصرفة مثل «كتاب التثليث» حيث لا يكاد يرفض أي فيلسوف المظاهر الثلاثية في الحياة مثل: الحس والعقل والقلب، الشهوة والغضب والعقل، الأب والأم والابن، السماء والأرض وما بينهما، المتكلم والمخاطب والغائب … إلخ، كما نجح الجدليون في العصر الوسيط المتأخر في التخفيف من روح الأنساق العقائدية بالاعتماد على العقل وكسر حدَّة المذهبية العقائدية، ولو أن استعمال العقل كان جدليًّا أكثر منه دعوة للحوار المفتوح دون تعصُّب أو هوى، فالجدل إحدى وظائف العقل وليس عمله الرئيسي وهو البرهان. إنما يكفي أن الجدل قد أعطى للآخر الحق في تناول العقيدة وجعلها محور النقاش، وموضوعًا للأخذ والرد، وللقبول والرفض. وقد بدأت العصور الحديثة بروح التفلسف المعادية للمذاهب العقائدية والفلسفية القديمة. فكان ديكارت يتهكَّم على القدماء، ويفخر بجهله بعلمهم. واستمرت روح التفلسف ابتداءً من أن العقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس ويطلب الوضوح والتميز ويقين البَدَاهة. كما وضع كانط الفلسفة النقدية في مواجهة الفلسفة الدجماطيقية، وأن معرفة إمكانيات المعرفة أهم من نتائج المعرفة فازدهرت الفلسفة وحَيِيَت على يد الكانطيين، وأصبحت المشكلة الكانطية هي المشكلة الفلسفية بالأصالة. كما حَيِيَت الفلسفة بعد التحرر من المذهب عند هيجل، وازدهرت على أيدي الهيجليين الشبان منهم والشيوخ حتى أتت الفلسفة الوجودية، وانتعشت الفلسفة بل والميتافيزيقيا في فلسفة التساؤل والدهشة والبحث عن المعاني، والغوص في أعماق الوجود الإنساني. وقد قام المعتزلة بالشيء نفسه في تراثنا القديم فبمواجهة العقائد السلفية ومن أجل الدعوة إلى حرية البحث والنظر، فالنظر أول الواجبات، بل إن الشك واجب قبل النظر. النظر يولِّد العلم بل والعلم اليقيني، ولكن لسوء الحظ لم تَعِش هذه المحاولات وما زالت محاولاتُ بعثِها تصطدم بالمذهب الموروث الذي اتَّحدت معه السلطة فأصبح أكبر دعامة لها.٦
١  Kierkegaard: Post-scripts aux miettes philosophiques, Paris, 1949.
Unamuno: Les sentiments tragiques de Ia vie, pp. 11–27, Paris.
٢  Merleau-Ponty: Humanisme et Terreur, essai sur le problème communiste, Paris, 1947.
٣  K. Barth: Dogmatique. Vol. I–XVI, Génève, 1953.
وهو ما يُسمى أيضًا باللاهوت المذهبي.
٤  M. Stirner: L’Unique et sa propriété, Paris, 1960.
٥  محمد عبده: «رسالة التوحيد»، ص١٦٨–١٨٥، القاهرة، ١٩٥٦م؛ محمد الفضالي: «كفاية العوام في علم الكلام»؛ البيجوري: «تحقيق المقام على كفاية العوام»، الحلبي، القاهرة؛ المرزوقي: «عقيدة العوام»؛ النووي: «نور الكلام»، الحلبي، القاهرة، (بدون تاريخ).
٦  القاضي عبد الجبار: «شرح الأصول الخمسة»، ص٣٩–٧٤، القاهرة، وهبة، ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤