سادسًا: متغيرات النص

وعند قراءة النص، لا يذهب القارئ إلى تاريخ النصوص منذ تدوينها الأول ليفهم معانيها التاريخية وتطور معاني الألفاظ قاضيًا الأيام والسنين في بطون المراجع وأمهات المصادر وقواميس اللغة والموسوعات بل يقرأ النص وفي غمضة عين يفهم معناه ويستعمله كحجة. النص بهذا المعنى ليست له ثوابتُ بل هو مجموعة من المتغيرات، يقرأ كل عصر فيه نفسه. فالعصر هو الذي يفسِّر النص في القراءة كما أن النص هو الذي يفسر العصر في التدوين. ولما كانت العصور متغيرةً جاءت التفسيرات متغيرةً طبقًا لها. وقد تبعد المسافة للغاية بين النواة الأولى للنص وبين قراءته الأخيرة كمًّا من حيث حجمه وكيفًا من حيث معناه. ولا يستطيع التفسير الحرفي للنص الأول الحفاظ على معنى وحيد للنص لأن التفسير الحرفي موتٌ للنص، وإيثار للفظ على المعنى، وللثبات على التغيير، وللسكون على الحركة. التفسير الحرفي للنصوص هو محاولة لتثبيت الزئبق بالأصبع فيفر المعنى منه خارج القصد. وقد يتغير معنى النص حسب الأحوال النفسية للقارئ الواحد وحسب الفروق بين الأفراد وتبعًا للبيئات الثقافية والحضارات والعصور. وقد يأخذ النص الواحد معاني مختلفة طبقًا لمراحل العمر للفرد الواحد وطبقًا لتجاربه المكتسبة حتى ليبدو النص مساوقًا وتابعًا لتطور الفرد في مراحل عمره، وكأن أعماق الشعور تطابق موضوعيًّا مستويات النص، والحقيقة أن النص مجرد قالبٍ يتشكل طبقًا لمستويات الشعور؛ لذلك لا يوجد تفسير صحيح وتفسير خاطئ بل يوجد تفسير قَصْدي سواء في انتقاء النص أو في موضوع تطبيقه أو ما سماه القدماء «المناط». وليست مناهج التفسير إلا تبريرات للذات أمام النفس وأمام الجماعة وأمام التاريخ.١

قراءة النص بهذا المعنى هو إيجاد تطابق بين الحاجة والنص، بين الذات والموضوع. فالمعنى يأتي من النفس أولًا كحاجة أو رغبة أو أمنية ثم تجد ما يقابلها في النص فتتطابق معه وتتشبث به على أنه التفسير الصحيح. في الظاهر يبدو أن المعنى الموضوعي قد انتقل من النص إلى الذهن، وفي الحقيقة ينتقل المعنى الذاتي من الشعور إلى النص. القراءة إذن هي إيجاد ما ترغب فيه النفس متحققًا في الخارج فتقع في وهم الحقيقة بمعنى تطابق الرغبة مع النص، واتفاق الحاجة الشخصية مع السلطة الشرعية.

هذه المتغيرات هي السبب في وجود النصوص المتشابهة. فالمتشابهات هي النصوص التي تتضمن تفسيرات متعددة طبقًا لمختلف العصور؛ إذ يختار كل عصر أحد التفسيرات فيرتكن النص عليها كما يرتكن المضَلَّع على أحد جوانبه. ثم يأتي عصر آخر فيرتكن النص على جانب آخر. وهكذا يتقلَّب النص على جوانبه المختلفة طبقًا لتغير العصر. فالمتغير هو الجانب والعصر، والثابت هو إمكانية تأويل النص طبقًا لكل عصر، وكأن هذا التطابق بين النص والعصر هو الثابت الوحيد.

١  H. Kelsen: Théorie pure du Droit, Trad. Ch. Eisenmann pp. 453–463; Dalloz, Paris, 1962; p. Amselok: Méthode Phénoménlogique et Théorie du Droit, pp. 8–24, L. G. D. J. Paris, 1964.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤