تاسعًا: خاتمة: القراءة إبداع

تبدو قراءة النص وكأنها تفكير على الماضي، وشروح على متون، وتهميش على نصوص قديمة؛ وبالتالي فهي أقرب إلى التقليد منها إلى الإبداع وكأن الإبداع يتمُّ وهو مقطوع الصلة بالجذور. والحقيقة أنه لا إبداع دون مصادر، ودون تطوير لبذور أولى، ودون تنويع على أشكال سابقة. فلولا سقراط لما كان أفلاطون، ولولا أفلاطون لما كان أرسطو، ولولا هيجل لما كان ماركس أو فيورباخ، ولولا هايدن لما كان موتسارت، ولولا موتسارت لما كان بيتهوفن، ولولا الفارابي لما كان ابن ماجة، ولولا ابن سينا لما كان ابن طفيل؛ لذلك يبدأ المبدعون بتقليد سابقيهم حتى يستقلُّوا بأسلوبهم، ويتميزون بأدائهم فيما بعد.

وإن لم ينشأ الإبداع من شيء ما ولم يكن قراءة للقديم وتدريبًا عليه، فإنه يتحوَّل إلى تقليدٍ لنص آخر من تراث آخر فينشأ التقليد مع وهم الإبداع؛ وبالتالي تقع الازدواجية في فكر الأمة وفنها وقوانينها بل وتاريخها. يظل الفكر والفن والتاريخ والقانون القديم تقليديًّا محافظًا وينغلق على نفسه لأنه لم يخضع للتطوير عن طريق القراءة، ويتجاور معه تقليد آخر بوهم الإبداع وباسم التجديد.

لذلك، كانت قراءة النص أفضل منهج للتربية والمران في الفكر والفن، يعكف من خلالها المبدع على روحه المدون في النصوص ويتعرف على تاريخه، ويكتشف قانون مساره. فعندما يدرك تطور ماضيه ويشعر بنقص حاضره يقرأ النص فيرى رواسب الماضي في الحاضر، ويرى مكونات الحاضر في الماضي. في القراءة يحدث التفاعل بين القديم والجديد، بين المبدع وعصره، فتنشأ إبداعات لا نهاية لها، ويتم الحفاظ على وحدة الأمة في التاريخ.١
١  د. حسن حنفي: التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، دار التنوير، ١٩٨١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤