أولًا: مقدمة

لقد آن الأوان للأمة أن تكشف مسارها في التاريخ، وأن تنتقل من الرجوع إلى ماضيها إلى الاتجاه نحو مستقبلها دون أن يكون ذلك الانتقال تنكرًا إراديًّا لحاضرها وتناسيًا مقصودًا له أو تعويضًا لا شعوريًّا وهروبًا وجدانيًّا من أزمات العصر. والرجوع إلى الماضي أو الاتجاه نحو المستقبل قد يكون موقفًا مَرَضيًّا إذا كان فيه تجاهل للحاضر وهروب منه وعزاء عنه ونسيان له وتعويض عنه. وقد يكون موقفًا صحيحًا إذا كان الغرض منه البحث عن الجذور التاريخية لأزمات العصر حتى يمكن حلها من أساسها، أو التخطيط للمستقبل والإعداد له حتى لا نقع في التخبط والعشوائية والتردد والحيرة، فنقدم رِجْلًا ونؤخر أخرى، نكون مثل رجل ديكارت التائه في الصحراء الذي يغير اتجاهه دومًا دون أن يصل إلى غايته فيهلك.١

وإن كثيرًا من مشاكلنا اليوم لتتعقَّد أكثر فأكثر نظرًا لتراكمها واشتدادها لعدم قدرتنا على التنبؤ بها قبل وقوعها والإعداد لها. فكثيرًا ما تركنا المشاكل تتفاقم حتى تحوَّلت إلى أزمات ومصائب وبلاء وكرب، وطلبنا العون والغوث. لم تكن لدينا خططٌ طويلة الأمد قادرة على احتواء المشاكل وتدارك الأزمات؛ لذلك تعثرت الحلول، وضاقت السبل، ولم يعد الناس يصدقون الخلاص القريب. في نفس الوقت يواجهنا عدو يخطط منذ أمدٍ بعيد لاحتلال الأرض لحوالي قرن من الزمان منذ نشأة الصهيونية السياسية حتى احتلال فلسطين كلها. وقد كنا أقدر على ذلك التخطيط والإعداد للدفاع عن البلاد ولدينا تاريخ الأنبياء، ونزول الوحي على فترات، ولكننا عشنا خارج التاريخ وخارج الزمان، نطلب الخلاص منه إذا وجدنا أنفسنا فيه سواء بالوعود أو التمنيات أو بالتعويض والإيهام.

إن أهمية «الدراسات المستقبلية» في حياتنا لا ترجع إلى تقليدنا للغرب وإلى اقتفائنا لأثره وإلا كنا مقلدين ننقل آخر صيحات «الموضة» الفكرية، إذا تركها الغرب تركناها وإذا أخذ الغرب غيرها أخذناها. وتكون الدراسات المستقبلية في هذه الحالة أشبه بما روَّجنا له من قبل من مذاهب ومناهج غربية مثل الوجودية والبنائية والمنهج العلمي والمنهج الاجتماعي … إلخ؛ وبالتالي لن تؤثر في حياتنا ولن تساعدنا على التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل إعدادًا وتخطيطًا ومسارًا. إنما ترجع الدراسات المستقبلية إلى ضرورة ملحَّة في حياتنا وهو حساب المستقبل والتنبؤ بمشاكله وتوقعها وإعداد الحلول لها قبل تفاقمها وعصيانها من أي حلول وتحولها إلى أزمات طاحنة تعصف بأجيال بأكملها وتحول مجرى التاريخ. وهذا يأتي بزرع الدراسات المستقبلية واكتشاف جذورها، والقضاء على معوقاتها وتأصيلها، وبعثها من تاريخ الأمة وحضارتها حتى تكون لها فاعليتها وأثرها في وجدان العصر.

والدراسات المستقبلية تدخل في إطار أعم وأشمل وهي «الاستراتيجية الحضارية» وإلا تحولت الأولى إلى مجرد حسابات عن نضوب الثروات، وتراكم رءوس الأموال، وبحث عن أسواق الجديدة لمد الغرب بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن مصادر الطاقة والمواد الأولية في المناطق خارج حدود الغرب التي يعيش عليها الغرب تاريخيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. إنما الاستراتيجية الحضارية هي التي تضعها الشعوب غير الأوروبية بفضل علمائها الوطنيين لتحديد مسارها التاريخي والتعرف على مكونات ماضيها الحضاري سلبًا وإيجابًا من أجل العودة إلى أصالتها التاريخية ومنطقتها الحضارية، ووضع خطة للتنمية الحضارية الشاملة في مواجهة الغرب وليس لحسابه، لمصالح الشعوب التي استعمرها الغرب طويلًا وليس ضدها.٢
١  حسن حنفي: «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر»، المستقبل العربي، يناير ١٩٧٩م. وأيضًا «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١»، دار التنوير، بيروت، ١٩٩٥م.
٢  د. أنور عبد الملك: «ليخدم ما هو أجنبي ما هو عربي»، الإحياء العربي، ١٨ / ١ / ١٩٨٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤