ثانيًا: الاتجاه نحو الماضي والإعداد للمستقبل في تراثنا القديم
-
(١)
ففي علم أصول الدين إذا كان الاتجاه نحو الماضي قد ظهر في مبحث النبوة فإن الاتجاه نحو المستقبل قد ظهر في مبحث المعاد، وكلاهما من السمعيات إجابة على سؤال: ماذا يحدث للإنسان بعد الموت؟ وكانت الإجابة بطبيعة الحال فناء الأبدان وبعثها وبقاء الأرواح ومعادها نظرًا لتمايز النفس عن البدن. لقد شغل القدماء أنفسهم بكيفية وضع حد لنهاية الزمان وكيفية موت الإنسان بالسيف أو بانتهاء الأجل الذي يأتي بغتة دون أي إمكانية لحسابه. وهذا يجعل الإنسان على استعداد دائم للرحيل «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.» فالنهاية ليست نهائية بل هناك استمرار نحو المستقبل، وحياة مستقبلية لا تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا بل تستمر في الحياة الأخروية، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (الأعلى: ١٦-١٧). كما شغل القدماء أنفسهم بعذاب القبر وضغطته، وبحساب الملكين منكر ونكير، وبتحلل الجسد كله إلا «عَجْب الذَّنَب» التي تبقى بلا تحلل ومنها يبدأ البعث والنشور وحياة المستقبل! كما فصَّل القدماء في شرائط الساعة وعلاماتها مثل نزول المسيح الدجال وقتل المسيح عيسى ابن مريم له، وشروق الشمس من المغرب وغروبها من المشرق، وخروج الدابة من جحرها، والحرب بين يأجوج ومأجوج مما يدل على اضطراب قوانين الطبيعة وعجز الإنسان عن السيطرة عليها والتنبؤ بمسارها لما كان موقف الإنسان في العالم هو السيطرة عليها والتنبؤ بحوادثها. فإذا حان الحساب يقدم الإنسان أفعاله ويجد كل ما قدم أمامه محضرًا. فالحاضر يمهد للمستقبل، والماضي لم يمت بل يحيا من جديد في المستقبل ويحكم على حاضر الإنسان الأبدي، وحياة الإنسان مستمرة لا توقف فيها، يحدد ماضيها حاضرَها ومستقبلَها. فإذا كانت المحصلة النهائية لعمر الإنسان إنما تتحدد نتيجة لأعماله إيجابًا أم سلبًا، خلاصًا أم هلاكًا فإن ذلك يدفع الإنسان لحسن الاستعداد للمستقبل، ويجعل المستقبل همه الأول ولكنه لسوء الحظ مستقبل خارج الدنيا يتجاوز الزمان. إن عملية الحساب ذاتها تتم وفقًا لقانون وليست طبقًا للأهواء والانفعالات مما يجعل موقف المعتزلة، أهل العدل والتوحيد، أكثر قدرة على تأصيل الاتجاه نحو المستقبل من الأشاعرة الذين يؤمنون بالشفاعة. ويغلب على هذه القوانين نفسها الطابع الحسابي الرياضي العقلي مثل قوانين الإحباط والتكفير، والاستحقاق والعوض مما يجعل حساب الاحتمالات ممكنًا. وكان الميزان رمز الحساب. وينكر المعتزلة الصراط الذي يسير عليه مَن تتساوى حسناتهم مع سيئاتهم فيسقطون في الجنة أو في النار عشوائيًّا ومصادفة بلا قوانين للاحتمال أو للترجيح.٢كما ظهر بُعدُ المستقبل في تصور أوصاف الله وصفاته، فالله بالإضافة إلى أنه قديم هو باقٍ، وهو كل الزمان لا أول له ولا آخر، لا بداية له ولا نهاية، يعلم ما يكون وما لا يكون، يضم الماضي والحاضر والمستقبل. بل إن الكرامية تصوَّرته على أنه محلٌّ للحوادث، متجدد باستمرار، «كل يوم هو في شأن» مما يوحي بإمكانية إعطاء الأولوية للجديد على القديم، وللمستقبل على الماضي في وجداننا القومي. وظهر المستقبل أيضًا في الحسن والقبح العقليين عندما تصور المعتزلة العالم الإنساني يسير طبقًا لغاية ووفقًا لقانون الصلاح والأصلح أو اللطف، وأن العالم ليس عشوائيًّا لا يخضع إلا لإرادات مشخصة مطلقة بلا قانون وبلا هدف. كما ظهر المستقبل أيضًا في الطبيعيات في نظرية التوليد عند المعتزلة ومسئولية الإنسان عن نتائج أفعاله في المستقبل مما دفع علماء المسلمين إلى حساب المستقبل وحركات القذائف. فالإنسان لديه استطاعة ليس فقط قبل الفعل أو مع الفعل بل أيضًا بعد الفعل. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في نظرية الإمامة عند الشيعة والسُّنة في خطين متمايزين ومتعارضين. فبينما الإمامة عند الشيعة اتجاه نحو المستقبل، وانتظار للإمام الغائب على ما هو معروف في تاريخ الأديان باسم المشيانية Messianism هي عند أهل السنة تدهورٌ وانحطاط من النبوة إلى الخلافة إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين. فالتاريخ يسير من الوحدة إلى التفرق، ومن الإيمان إلى الكفر، والخَلَف أفضل من السَّلَف فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ (مريم: ٥٩)، كما أن «خير القرون قرني …» كما قوى ذلك التصور للتاريخ المنهار حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، هي ما أنا عليه وأصحابي.» وهم أهل السنة والجماعة أي الدولة السنية الأشعرية، أو بلغة العصر كل الاجتهادات على خطأ وكل اتجاهات المعارضة على باطل ولا يوجد إلا رأي واحد صائب حق هو رأي الحكومة! ومن ثم ضاعت فرصة ظهور المستقبل على أنه ازدهار وانتصار بالرغم من وجود إمكانيات لذلك في الآيات والأحاديث مثل الآيات التي تحث على الأمل وترفض اليأس والقنوط، ومثل حديث المجددين «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها».٣
-
(٢)
وفي علم أصول الفقه إذا كان شَرْع مَن قبلنا لم يعد ملزمًا لنا؛ وبالتالي أمكن فك إسارنا من الماضي والاتجاه نحو الحاضر، وبدأنا شعورنا القومي على البراءة الأصلية فإن المصادر الأربعة للتشريع توحي بالزمان وبالمستقبل انتقالًا من القرآن إلى السنة إلى الإجماع إلى الاجتهاد، فكل مصدر يوحي بتقدم في الزمان عن المصدر السابق: السنة تعيُّن أول للقرآن، والإجماع تعيُّن ثانٍ له، والاجتهاد تعيُّن ثالث ومستمر له. فإذا تركنا القرآن والسنة للعلوم النقلية فإن الإجماع يضع مشكلة العصور والأجيال وإمكانية عدم التزام العصر اللاحق بأحكام العصر السابق نظرًا لتغير الظروف والأحوال واختلاف المصالح والحاجات، ولكن الذي يشير بصراحة ووضوح إلى بُعد المستقبل هو المصدر الرابع للتشريع وهو الاجتهاد. فقد أعطى المصدر الأول المبادئ العامة الصالحة لكل زمان ومكان. وأعطت السُّنة أول تحقق لهذه المبادئ العامة في التاريخ، في زمان ومكان معينين، وفي عصر معين ولأمة بعينها. كما أعطى الإجماع إمكانية الاتفاق على التطبيق العملي باسم مصالح الأمة ووحدتها. والآن يعطي الاجتهاد إمكانية احتواء كل الحوادث المستقبلة والتشريع لكل الظروف الآتية ابتداءً من جهد الإنسان العقلي وقدراته على الاستنباط والاستقراء، وبعد أن ميز الشاطبي بين تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط جعل الأول لا ينقطع إلا بانقطاع التكليف في حين أن الثاني والثالث مشروطان بوجود المجتهد. الأول مستمر إلى ما لا نهاية طالما أن هناك إنسانًا عاقلًا وقادرًا مكلفًا، باقٍ مع الإنسان إلى ما لا نهاية. ولما كان تحقيق المناط هو وجود علة الحكم في الواقع كان على الإنسان أن يبحث باستمرار عن هذا المناط. فالاجتهاد هو عصب الشريعة، وهو كما يسميه إقبال «مبدأ الحركة» في الإسلام. فالمستقبل وارد في الشريعة، وحساب المستقبل موجود في الاجتهاد. المستقبل ليس همًّا أو إشكالًا أو تأزُّمًا بل هو حاضر معاش يدخل في نظرية قادرة على أن تعطيه حكمًا يحل الإشكال ويقضي على الأزمات. فالمجتهد هو العالم المناط به تطوير الشريعة ونقل الماضي إلى الحاضر. والعلماء ورثة الأنبياء، والفقهاء أُمَناء الرسل. ولما كان الله هو عالم الغيب والشهادة ظهر ذلك في أحد جوانب المنهج الأصولي. وهو قياس الغائب على الشاهد. فمعرفة الغائب ممكنة وذلك بقياسه على الشاهد. ولما كان المستقبل أحد مظاهر الغيب أمكن معرفته.
كما نجد في مباحث الأصول الأخرى حضور المستقبل وإن كان مغلفًا في أطر اللغة والتشريعات. فمثلًا المبادئ اللغوية التي وضعها الأصوليون لتفسير النصوص مثل: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد … إلخ، كلها تهدف إلى احتواء الحوادث المستقبلة مثل الاجتهاد تمامًا عن طريق تأويل الألفاظ؛ وبالتالي يظل النص صالحًا باستمرار متحركًا في الزمان والمكان، ممتدًّا من الماضي إلى الحاضر، ومتجهًا من الحاضر نحو المستقبل. وفي مباحث الأحكام وتحليل المقاصد نجد أن الوحي مَقْصد، والقصد اتجاه وغاية. فقد قامت الشريعة من أجل تحقيق مقاصد وأهداف ابتداء وهي المصالح العامة، وأفهامًا حتى يعقلها الناس، وامتثالًا حتى يطيعونها، وتكليفًا حتى يطبقونها. وفي سلوك الفرد ارتبط الفعل بالنية، والعمل بالهدف. والغاية والقصد من بدايات الاتجاه نحو المستقبل.٤ -
(٣)
وفي علوم الحكمة التي يُضرب بها المثل في التجريد والصورية ظهر الاتجاه نحو المستقبل في التركيز على العلة الغائية من العلل الأربعة في الإلهيات والطبيعيات، وأن العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقة وكأن العالم كله يتحرك نحو غاية بالعشق. والله هو العلة الغائية للعالم، المحرِّك الذي لا يتحرك الذي ينزع العالم نحوه بالعشق. وفي الطبيعيات ظهرت القوة كامنة في الطبيعة، انتقال من القوة إلى الفعل، والنفس كمال أول. وفي الإلهيات يظهر الاتجاه نحو المستقبل في نظرية الاتصال حيث تتصل النفس المفارقة بالعقل الفعال. فالنفس قادرة على كشف غياهب المجهول واختراق الحجب، لا فرق في ذلك بين الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا وبين الفلسفة العقلية الخالصة عند ابن رشد. بل إن الفلسفة الإشراقية خاصة عند ابن سينا قاربت علوم التصوف، وتناولت مقامات العارفين، ووصفت طريق الحكمة على أنه طريق إلى الله يرتقي فيه الحكيم من مقام إلى مقام، ترتفع روحه صعودًا، والأعلى في الفكر الديني هو الأمام في الفكر العلماني. فالمفارقة أو العلو قد يكون إلى أعلى وقد يكون إلى الأمام. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في علوم التنجيم وما يتعلق بها من علم وقراءة المستقبل مثل الطير والفأل التي وصل إليها الحكماء عن طريق حساب دورات الأفلاك وآثار ذلك على ما يقع على الأرض من حوادث وإمكانية التنبؤ بها إذا ما تم حساب الدورات، فلا شيء يقع على الأرض لا يحدث بفعل دورات الأفلاك. وبالرغم من تحذير القرآن من هذه العلوم وتحريمه للأزلام والأنصاب إلا أن الحكماء تابعوا في ذلك علوم التنجيم القديمة دون ما مراعاة لتكذيب الحديث للمنجمين «كذب المنجمون ولو صدقوا.» بل إنهم وضعوا علومًا لقراءة الطالع — واستمر ذلك حتى الآن — من اليد والفنجان وضرب الودع وخط الرمل ورمي الحصى للتطير. كل ذلك يدل على كشف حساب المستقبل ولكن بطريق السحر والتنجيم.٥
-
(٤)
وفي علوم التصوف ظهر الاتجاه نحو المستقبل في تحليل المقامات والصعود فيها من مقام إلى مقام حتى الوصول إلى آخر الطريق، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ومن فترة إلى فترة حتى الوصول إلى الغاية. ويبدأ الصوفي من البداية في الوقت حتى يصل إلى النهاية في الأبدية. وعادة ما يتحول الأعلى إلى الأمام في عمليات النهضة الحضارية، ويتم اكتشاف التقدُّم. وقد غلب على الصوفية تحليل اللحظة الحاضرة وهو الوقت، ما بين الحاضر والمستقبل ولكن لسوء الحظ كل ما يحدث فيه متوهم وليس حقيقيًّا مما يجعله ظاهرًا لا حقيقة؛ ومن ثم يصبح الزمان كله هباء وتوهمًا، ولا يبقى إلا الفناء في الأبدية حيث لا زمان ولا تقدم. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في وصف الصوفية لمراحل النبوة التي توازي مراحل التجلي الإلهي كما فعل ابن عربي في «فصوص الحكم» والتي توازي أيضًا مراحل الكشف بل ومراحل الخلق ابتداءً من آدم حتى آخر الأنبياء. فالتقدم هنا من الماضي إلى الحاضر، من أعلى إلى أسفل، من الخلف إلى الأمام. بل إن ابن عربي قد وضع مرحلة أخيرة للكشف الصوفي وهي المرحلة ما بين محمد بن عبد الله ومحمد بن سنان، وهي مرحلة مستمرة لا تنتهي، وهي مرحلة الولاية، فالأولياء ورثة الأنبياء، والإلهام استمرارية للنبوة. فإذا كانت النبوة تنقطع فإن الولاية لا تنقطع. كان لدى الصوفية إمكانية ظهور المستقبل ولكنه كان كشفيًّا نظريًّا فرديًّا وجدانيًّا وهميًّا خياليًّا صاعدًا إلى أعلى.٦
-
(٥)
وفي العلوم النقلية ظهر الاتجاه نحو المستقبل في علوم القرآن في موضوع النسخ، ورفع الحكم السابق بحكم لاحق طبقًا للتطور في الزمان، وتغير الظروف والأحوال، وحسب الأهلية والقدرة. كما ظهر أيضًا في نزول الوحي على فترات ونزول القرآن ذاته منجمًا على مدى ثلاث وعشرين عامًا وقسمته إلى مكي ومدني، تصور ونظام، عقيدة وشريعة، أيديولوجية ودولة. وهما مرحلتان ضروريتان لبناء أي نظام جديد. ومن دلائل الإعجاز عند البعض إخبار القرآن بالغيب والتنبؤ بالمستقبل وإن كان القرآن ذاته قد حرَّم جميع أنواع السحر والفأل والطيرة والتنجيم. إنما التنبؤ بالمستقبل يكون ممكنًا فقط باستقراء أحوال الأمم الماضية، واستعراض حوادث التاريخ، واستنباط قوانينه العامة التي تكمن وراء قصص الأنبياء.٧وفي علوم الحديث تكشف الرواية عن انتقال الخبر في الزمان، جيلًا بعد جيل، والانتقال من التراث الشفاهي إلى التراث المدوَّن حرصًا على صحة الخبر وحماية له من الزيادة أو النقصان أو من التحريف والتغيير والتبديل. ونشأ معه علم «ميزان الرجال» أو علم «الجرح والتعديل» لمعرفة سير الرواة جيلًا بعد جيل. وأصبح من شروط التواتر التجانس في الزمان أي تجانس انتشار الخبر عبر الأجيال منعًا للتكتم على الخبر الصحيح أو ذيوع الخبر الكاذب. كما تنتشر في الإصحاحات أبواب بدء الخلق وعلامات النبوة مما يوحي ببداية الزمان ونهايته وأبواب الهجرة والخلاص، وتقبل الحوادث المستقبلة كضرورة لا مفر منها، والدعوات، والوعود، والنذور وكلها تكشف عن أن المستقبل مطوي في الحديث تتناوله السنة دون أن ينكشف في وعينا التاريخي.٨وقد اعتمدت علوم التفسير على الرواية عن السابقين، وتناولت أخبار الأمم السابقة وانتشار الدعوة في الزمان وبدايات التاريخ حتى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فكان التفسير بالمأثور اتجاهًا نحو الماضي. ولم ينشأ تفسير لحاضر الأمة أو لمستقبلها ينفعها وهي في الزمان وفي التاريخ. ودخلت الإسرائيليات التي تروي أخبار الأمم الغابرة دون ما سند من رواية أو منطق أو حس. في حين هاجم القرآن التقليديين والمقلِّدين واقتفاء آثار الأمم السالفة حتى يجعل كل أمة متجهة نحو مستقبلها لا نحو ماضيها.٩وتناولت علوم السيرة علامات النبوة وظهورها قبل ميلاد النبي وقبل البعثة وما أُوتي النبي من قدرات خاصة لقراءة الماضي والمستقبل، مثل الإسراء والمعراج وتبشير أهل الجنة والحكم على أهل النار والكرامات. وقد ارتبطت كلها بشخص النبي. ولم يتحوَّل المستقبل منها إلى تيار في وعينا القومي يجعلنا أكثر قدرة على رؤية المستقبل باستثناء ما يستشري فينا من الرؤى والأحلام.١٠وبالرغم من تناول علوم الفقه الموضوعات العملية إلا أنها تعرضت أيضًا لبعض الموضوعات التي تكشف عن المستقبل فيما يتعلق بأحكام السوق وماذا يحدث في الأسعار والتسويق نتيجة التلاعب والاحتكار أو فيما يتعلق بأنظمة الحكم وما قد يعتريها من وهن وضعف إذا ما حادت عن الشريعة. ووقد ورد لفظ «التدبير» في بعض كتب الفقه السياسي والتي تعني الإعداد والتخطيط لرعاية الأمة ومصالح الدولة.١١ فالعلوم النقلية كلها على هذا النحو بالرغم من أنها تعتمد على النقل إلا أنها لم تسقط المستقبل من حسابها وأخذته ضمن موضوعاتها وإن كان مغلَّفًا بطابع فقهي.
-
(٦)
وبالرغم من أن العلوم العقلية ذات طابع رياضي خالص إلا أن حساب اللامتناهي والواحد واكتشاف الصفر، والمكان اللامتناهي، والخط اللامتناهي، والدائرة اللامتناهية الحركة: كل ذلك يجعل اللامتناهي بداية اكتشاف الإنسان للاتجاه نحو المستقبل في المكان والزمان والعدد وإطلاق قوى الخيال العلمي الرياضي لحساب اللامتناهي كما هو واضح في العلوم الرياضية الإسلامية مثل الجبر والمقابلة وجداول «اللوغاريتمات» و«تقدمة المعرفة».١٢وفي العلوم الطبيعية ظهرت الغائية في علوم الحياة وعلوم الطب. كما ظهرت مفاهيم للتحول والتغير والقوة والفعل في علوم الطبيعة. ارتبطت العلوم بالحياة العملية وكان الهدف منها السيطرة على قوانين الطبيعة لتسخيرها لمصلحة الإنسان ومنفعته تعبيرًا عن تصور الوحي لعلاقة الإنسان بالطبيعة، وكأن الطبيعة عاقلة حية مريدة فاعلة واعية وهو معنى التسبيح بحمد الله.١٣
-
(٧)
وفي العلوم الإنسانية، خاصة في علم التاريخ، كان الاهتمام واضحًا ببدايات التاريخ وقصص الأنبياء. كما وضح الاهتمام بالحوليات وتوالي السنين وتتابع الأجيال والطبقات وإن لم يظهر قانون لحركة التاريخ أو تصور لتقدم الأجيال وعلاقات بعضها بالبعض الآخر؛ وبالتالي خلا التاريخ من فلسفة التاريخ، وخلت الوقائع من قانون عام يضمها.١٤ حتى أتى ابن خلدون وحاول صياغة قانون عام لتطور الدول نشأة ونموًّا واكتمالًا ثم اضمحلالًا وانهيارًا. فقد ظهر ابن خلدون في نهاية الطور الأول للحضارة الإسلامية من القرن الأول حتى القرن السابع ولم يعاصر فترتها الثانية من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر؛ ولذلك غلب على «المقدمة» النهاية أكثر من البداية. وتكون مهمتنا نحن هو إكمال فلسفة التاريخ التي تركها لنا ابن خلدون مكمِّلين قانون التطور بإضافة قانون النهضة وربما التنبؤ بمسار الأمة في المستقبل بناءً على رصد دورتيها في الماضي. كما لم ينس ابن خلدون التطرق إلى «حقيقة النبوة والكهانة والرؤية وشأن العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب» معتمدًا على نظريات الفلاسفة في الاتصال والنظريات الفيزيولوجية في عمل الدماغ. كما تحدث عن أهمية النبوة في الأمة ومبينًا «أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.» فالنبوة هي التي تعطي خبرة الماضي وتؤسِّس الحاضر وتستبصر المستقبل. كما تحدَّث عن «علم تعبير الرؤيا» بناء على قصة يوسف وتفسير الأحلام والإعداد والتخطيط لخير مصر وتجنب المجاعة. كما تعرَّض لعلوم السحر والطلسمات كعلوم قديمة مهمتها التأثير في قوى الطبيعة والتنبؤ بالغيب.١٥
-
(٨)
ولكن يرجع الفضل إلى المصلحين الدينيين والمفكرين المُحدَثين وزعماء الإصلاح وروَّاد النهضة ودعاة التمدن إلى التفكير في أسباب انهيار المجتمعات الإسلامية وشروط النهضة الجديدة؛ فقد حاولوا تأسيس العلوم الاجتماعية، وصياغة قوانين لتطور الأمم ترجمة أو اقتباسًا أو تحليلًا أو علمًا. فظهرت فلسفات التاريخ تتحدث عن النهضة والتقدم والترقي، وتبحث عن سنن الله في الكون أو القوانين العامة للتاريخ، وتحاول التنبؤ بمستقبل الأمة على مستوى التمني، وتبين إمكانية تحقيق هذا الهدف على الأقل على مستوى الخطابة والوعظ وشحذ الهمم على طريقة الدعوات الإصلاحية ولم تختلف في ذلك التيارات الرئيسية الثلاث في فكرنا الحديث؛ التيار الديني الإصلاحي، والتيار العلمي العلماني، والتيار الوطني الليبرالي. فطريق التقدم هو الانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل، ومن التفرق إلى الوحدة، ومن الفتور إلى شحذ الهمم وتجنيد الجماهير. وهو أيضا الطريق من علوم القدماء إلى علوم المحدثين، من العلوم الكلامية إلى العلوم العصرية، من العلوم الدينية إلى العلوم الاجتماعية. إن الدين حركةٌ تقدمية في التاريخ لإذكاء الوعي وإكمال العقل واستقلال الإرادة. وهو قادر على الدخول في عصر العلم والمدنية لأنه يوفي بمقتضياتهما. إن الأمم تسير وفقًا لقوانين حتمية ذكرها الأنبياء ووصفها الوحي، وهي سنن الله في الكون. وقد اختارت كثير من الجمعيات الإصلاحية اسم «الترقي» للدلالة على هدفها في التقدم والعصرية. كما ركز التيار العلمي العلماني خاصة على الترقي من خلال العلوم الطبيعية وإرساء قواعد لنظُم اجتماعية جديدة تقوم على الحرية والعدالة والمساواة. وأخيرا ركَّز التيار الوطني الليبرالي على أن «حب الوطن من الإيمان»، وأنه لا فرق هناك بين الدين والوطنية والعصرية. وما زلنا حتى الآن ندرس موضوع التقدم، ونتحدث عن شروط النهضة، ونتلمس أسباب الرقي.١٦
الجويني: الإرشاد، ص٣٧٥–٣٨١، الخانجي، القاهرة، ١٩٥٠م.
الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص١٠٧–١١٨، صبيح، القاهرة، (بدون تاريخ).
الإيجي: المواقف، ص٣٧١–٣٨٤، المثنى، بغداد، (بدون تاريخ).
الآمدي: غاية المرام في علم الكلام، ص٢٨٣–٣١٥، القاهرة، ١٩٧١م.
القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج٦، ج١٤، الهيئة العامة للكتاب، ١٩٦٢–١٩٦٥م، القاهرة.
ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج٤، ص١٠٦–١٢٨، صبيح، (بدون تاريخ).
الإيجي: المواقف، ص٣٩٥–٤١٤، المثنى، بغداد، (بدون تاريخ).
ابن سينا: الشفاء، الإلهيات، وأيضًا النجاة، الإلهيات. وكذلك الإشارات والتنبيهات، القسم الرابع.
إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفا، القسم الرابع، ابن رشد: رسالة الاتصال.