خامسًا: الفلسفة والابتسار
وكما أن الفلسفة تموت إذا ما سادت المذهبية والشمول والغطاء ووضع جميع البشر تحت القبة السماوية التي لا منافذ منها، فإن الفلسفة تموت أيضًا من قصر النظر والابتسار والرد والاقتضاب والتجزئة. فإن ضيق الأفق والالتصاق بالموضوع إلى حد محو المسافة بينه وبين الذات اللازمة للإدراك يؤدي إلى غياب النظرة الشاملة وعدم رؤية العلاقات بين الأجزاء. ولما كان الجزء بمفرده ليس قانونًا ولا نظامًا ولا تصورًا حدثت الأزمة في العلوم، فينتقل الوعي إلى جزء آخر يجرِّبه إلى حين وهو الجزء المقابل للأول وكرد فعل عليه فتنفرج الأزمة مؤقتًا ولكن سرعان ما تظهر من جديد. فيتم تجريب جزء ثالث في الوسط يجمع بين الجزءين السالفين قدر الإمكان، ولكنه يظل أيضًا جزءًا أو كلًّا مصطنعًا مجزَّأً مفككًا، ويتم الانتقال من جيل إلى جيل بطريقة المحاولة والخطأ حتى تصبح الحيرة سمة عامة للوعي فيقع في نهاية الأمر في النسبية والشك، أو ينتهي به المطاف إلى العدمية المطلقة.
وقد حدث ذلك في الوعي الأوروبي ويعرف باسم الابتسار أو الرد أو الاقتضاب، رد الكل إلى أجزائه، وتقليص الشيء أو ابتسار الواقع وتقطيعه إلى أجزاء، وبتكرار هذا الرد يتحول إلى عادة في الوعي، فلا يواجه كلًّا إلا إذا ردَّه إلى الأجزاء خوفًا من الوقوع في الكليات التي لا تدعمها شهادة الحس. فاليقين المادي على الأقل يمكن رؤيته وقياسه كمًّا، والبرهنة عليه حسًّا، وليس ظنًّا أو سرابًا أو وهمًا كما كانت الكليات السابقة من قبل. عظُم شأن الاستقراء، وتوارى الاستنباط، وتحول كل شيء إلى كمٍّ يُقاس، وإلى أجزاء تُعد حتى لم يعد هناك وجود لكيف أو لمعنى أو لقيمة أو لفكر أو لتصور. كان من الطبيعي أن يجرِّب الوعي الأوروبي الجزء بعد أن اكتشف زيف الكل الذي ورثه من العصر الوسيط والذي سرعان ما تهرَّأ وتهاوى بعد اكتشاف عصر النهضة والعلم الجديد. وقد حدث هذا الانهيار في كل العلوم لأنها كانت في معظمها كليات نابعة من العقائد، والعقائد من الكنيسة، والكنيسة من التاريخ. ولم يكن لها ما يصدقها من الحس أو المشاهدة أو التجربة أو العقل أو الاستدلال.
وقد يكون الابتسار من ناحية العقل عندما لا يرى من الواقع إلى جانبه الصُّوريِّ ولا يرى في العالم إلا المقولات والتصوُّرات. فالعالم فكرة، والمادة رؤية، ولا وجود إلا للذات. وقد وقع في هذا الابتسار كل التيار العقلي في العصور الحديثة الذي خرج منه ديكارت وسار فيه اسبينوزا وليبنتز ومالبرانش. فالعالم حركة وامتداد، مفهومان رياضيان لعلمَي الميكانيكا والهندسة. والله فكرة العالم، والروح فكرة البدن كما هو الحال عند اسبينوزا. والعالم كله قوانين عقلية ثابتة يمكن معرفتها وحسابها كما هو الحال عند ليبنتز في «المونادولوجيا». وقد انتهى هذا الابتسار إلى الوقوع في الصُّوريَّة الفارغة وإنكار العالم المادي وإغفال منطق الحس والتجربة، ونشأ الصراع بين الابتسار الحسِّيِّ وبين الابتسار العقلي، كل يريد رد الكل إلى الجزء، وضاعَت الحقيقة بشَقِّها إلى نصفين.
وعلى العكس من ذلك، تحيا الفلسفة بالنظرة الشاملة للكون وبالقدرة على بُعد الرؤية وإدراك المعاني المستقلة والماهيات والحقائق التي تنكشف من خلال التجربة وبالاستقلال عنها. وقد كانت الفلسفات الشرقية القديمة نموذجًا لهذا البحث. لم تقع في الابتسار وظلَّت مرتبطة بالنظرة الشاملة للكون، وبواقع الناس اليومي؛ ومن ثَمَّ اتَّحدت بحياتهم، وعبَّرت عن تاريخهم، وكوَّنت تراثهم ووعيهم القومي. كما كانت الفلسفة اليونانية نموذجًا آخر لهذا البحث الكلي الشامل باتجاهاتها الثلاثة، فقد بحث سقراط معاني الخير والفضيلة والجمال والصداقة والمحبة بصرف النظر عن وقائعها المادية وظروفها الاجتماعية وحالاتها الخاصة، حتى إنه لَيُمكن لعشرات الأجيال بعد سقراط إدراك مقاصده وفَهْم معانيه دون أن تَبلى وتقدم. كما كانت هناك محاولاتٌ في العصر الوسيط لإعطاء تصوُّرات شاملة للكون ولكن لم يكن لها سَنَد من عقل أو تجربة بل كانت مضادة للعقل ولشهادة الحس، مناهضة للفكر الحر وللعلم الحديث. وإبَّان العصور الحديثة قامت محاولات أخرى لضم الأجزاء من أجل الحصول على نظرة شاملة للكون. حاول ذلك كانط ولكن جاءت محاولتُه مصطنعةً بطريقة الأدراج والعلب والمراتب. فوضع الحس أولًا، ووضع فوقه الذهن ثانيًا، ثم وضع فوقه العقل ثالثًا. وكل طبقه دنيا تدخل في الطبقة العليا بطريقة المضمون والشكل. وما أسهل أن يتفكَّك الرباط المصطنع فينشأ منه المذهب الحسي وحده أو العقلي وحده أو الإيماني بمفرده، وكل مذهب ينتسب إلى كانط. كما حاول هيجل بعد ذلك الشيء نفسه فوضع الحركة في البناء، وأعطاه الوحدة الداخلية بين الحسِّ والذهن والعقل، كلها ثلاث لحظات للتصور. ربط بين الفلسفة والدين والعلم، بين الوجود والماهية والصيرورة، بين الإنسان والعالم والله. ولكن خرجت المحاولة أسطورية كونية بلا فردية، فتحول الجميع ضحايا للمذهب وغرق الأفراد في بحر الشمول.
Hume: A treatise on human Nature, Baltimore, 1969. Leibnitz: Noueaux Essais sur l’entendement human, Paris, 1907. J. Monnerot: Les faits sociaux ne sont pas des choses, Paris, 1946.
ابن حزم: «الفصل»، ج١، ص٤–٩، صبيح، القاهرة، بدون تاريخ؛ الإيجي: «المواقف»، ص٢٦٦–٢٧٠، عالم الكتب، بيروت.
A. O. Lovejoy: The Revolt against Dualism, Illinois, 1960.
Kohlen: The Task of Gestalt psychology, New York, 1969. Gestalt psychology, New York, 1947. E. Hussere: Recherches logiques II p. 5–81, PUF, Paris, 1962. G. Marcel: Existence et objectivité, journal Metaphysique, pp. 309–329, NRF. Paris, 1949.