ثامنًا: الفلسفة والعلوم الإنسانية
تموت الفلسفة إذا ما انعزلت عن الإنسان، وتنتهي الحكمة إن لم
ترتبط بالعلوم الإنسانية؛ فالفلسفة بناء إنساني يقوم بها الإنسان
ليتكيَّف من خلالها مع الواقع إذ إنها تفسر له العالم، وتشرح له
ألغازه، ولكن لمَّا كان الإنسان البدائي يُصارع من أجل البقاء فإنه
قد نسي ذاته في مواجهة الطبيعة وأخذ الحل ونسي المشكلة. ولما كانت
المشكلة مخاطر الطبيعة، وكان الحل القوى الخفية والآلهة والأرواح
المسيطرة عليها التي يمكن استرضاؤها بالسحر والقرابين ركز الفكر
الإنساني على الله ونسي الإنسان، وجعل الله محوره واهتمامه ونسي
ذاته، وكأن الذهن البشري يصل إلى النهاية وينسى البداية، يفرح
بالحل وينسى الأزمة. وفي ذلك موت للفلسفة لأن السحر والقرابين
ومظاهر العبادة تكيُّف عملي دون طرح نظري. ولما كان العمل في حاجةٍ
إلى من يقوم به نشأت طبقة الكهنة من أجل تنظيم العمل، وتولَّدت
منها الكنيسة، وخرج منها رجال الدين، ونشأت عنها السلطة الدينية
التي أصبحت فيما بعد أكبر خطر يهدِّد الفلسفة.
١
وبيقظة الوعي الإنساني واكتشافه قدرته على النظر العقلي وعلى وصف
الظواهر الطبيعية اتجه نحو العقل، هذا الذي أنقذه من الخرافة
والسحر والأساطير والأوهام، وحاول البحث عن النظري الخالص، واستمر
في التجريد شيئًا فشيئًا حتى غاب الجانب الإنساني منه، وأصبحت
النظرية هي كل شيء والصورة الخالصة هي المطلب الأساسي كما حدث في
«البنيوية» أخيرًا وسيطرتها على «علم الإنسان». كما اتجه نحو
الطبيعة من خلال التجربة والمشاهدة والمدركات الحسية. واستمر في
المشاهدة حتى نسي الجانب الإنساني في العلم، وطغت «المادة» على كل
شيء وكأن المادة تُدرك وتتحدَّث وتدل. ثم تحولت الطبيعة إلى صورة،
والظواهر إلى معادلات كما هو الحال في الطبيعيات الحديثة التي لا
تفترق عن الرياضيات البحتة، وأصبح التجريب الآن هو نوع من حساب
الاحتمالات النظرية الخالصة. وأصبح الإنسان في نهاية الأمر، وهو
الخالق لهذا كله، للدين والسحر والأسطورة والعقل والعلم، أصبح يعيش
شيئًا فشيئًا في عالم لا إنساني.
٢ ويشهد التاريخ على موت الفلسفة إذا ما ارتبطت بشيء آخر
غير الإنسان، سواء كان الله أو الطبيعة، الصورة أو المادة، بصرف
النظر عن أسسها الإنسانية في العقل والحس في النظر والمشاهدة، في
الرؤية والإدراك. فقد ماتت الفلسفة بعد أن أصبحت أحد فروع علم
اللاهوت فتحزَّبت وتحجَّرت، وتمذْهَبت وضاع منها روح البحث وحرية
الفكر واستقلال الرأي والقدرة على التغيير والإبداع. وعلم اللاهوت
ذاته هو علم إنسان «مقلوب» يعبِّر عن وعي الإنسان بذاته على نحوٍ
مغترب، خارجًا عنه، عابدًا إيَّاه. حدث ذلك في العصر الوسيط وفي
الفلسفة المدرسية. كما حدث لدينا في علم الكلام أو في علم العقائد
بالرغم مما قاله المهندسون في الإلهيات ومحاولتهم إرجاع اللاهوت
إلى تجاربه الحسية، وبالرغم من قول أبي شعيب: إن الإنسان هو العالم
القادر الحي بالحقيقة، والله هو العالم القادر الحي بالمجاز.
٣
كما تموت الفلسفة إذا ما تحولت إلى مباحث نظرية خالصة أو إلى
علوم رياضية صورية كما هو الحال في المنطق الرياضي الحديث أو في
مدارس تحليل اللغة. فالصورية لا حياة فيها ولا دم ولا لحم ولا عظم،
ولا صراع ولا مواقف ولا تناقض أو اشتباه. تلغي الفردية وتتنكَّر
للخصوصية ولا تبحث إلا عن العموم والشمول. بل إن المفاهيم الرياضية
ذاتها لها أسسها النفسية في الشعور، والتجريد ذاته ما هو إلا ظاهر
يكشف عن مضامين شعورية. تموت الفلسفة إذا ما كانت بحثًا نظريًّا
مجردًا عن «الخالص» و«النظري» و«الحقيقي». فذلك لا وجود له إلَّا
بعد تجريد العقل للموضوع. وهنا تعيش الفلسفة على ذاتها وتصبح الذات
والموضوع في آنٍ واحدٍ.
وتموت الفلسفة أيضًا إذا ما أصبحت مَبْحثًا في الوقائع المادية
كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فالمادية وهم وخداع تحت ستار
الموضوعية وباسم التجرُّد والنزاهة والحياد. فلا ترى الطبيعة من
خلال منظورٍ إنساني، ولا تتمُّ الرؤية إلا من خلال الإدراك الحسي
أو العقلي. كما أنه لا يمكن التجرُّد من الأهواء والانفعالات
والمواقف الإنسانية بل والمراحل التاريخية والبناء النفسي للأجيال
وروح العصر. الموضوعية العلمية خرافة. بل إن النسق التصوري العلمي
كله من وضع الذهن. كما أن الاطِّراد الذي يتسم به القانون الطبيعي
ضد الفردية، والحتمية في الطبيعة ضد الحرية الإنسانية. وفي نهاية
الأمر لا يظهر العلم إلا في مجتمعٍ مستقر يريد أن يؤسِّس بنيانه
على نحوٍ علمي؛ ومن ثم ارتبط بالكيان الاجتماعي أي بالإنسان.
٤
ولكن تحيا الفلسفة إذا ما كانت تفكيرًا في الإنسان، وإذا ما
استمدَّت مادتها من العلوم الإنسانية. يتضح ذلك من الفلسفة
اليونانية باتجاهاتها الثلاثة: المثالية والواقعية والإنسانية،
وعلى وجهٍ خاصٍّ في «محاورات» أفلاطون وموضوعاتها الإنسانية:
المحبة، الصداقة، الجمال، العدالة … إلخ. كما أن الفلسفة عند أرسطو
قريبة الصلة بالسياسة والأخلاق، وليست فقط بالمنطق والطبيعة
والفلسفة الأولى. كانت الحكمة مطلبًا إنسانيًّا، وكان البحث عن
السعادة هدفًا إنسانيًّا. وقد لخَّص ديوجين حكمة اليونان حاملًا
مصباحه في بحثه عن «الإنسان».
٥
وربما ما بقي من الفلسفة المسيحية هو الجانب الإنساني فيها الذي
يتلخَّص في عقيدة الله — الإنسان. وربما ما بقي منها هو أريوس
وأوغسطين. أي الإنسان والتجربة الحية. وربما كان أكثر الموضوعات
حيوية في العصر الوسيط هو العقل والنفس والاتصال والخلود والمعاد،
أي الجوانب الإنسانية في الفلسفة، وكان نصرًا فعليًّا يوم بدأت
العصور الحديثة في القرن السادس عشر بالمذهب الإنساني عند «اراسم»
حيث ظهر الإنسان محور الكون. وكان البحث في البدن بداية للتعرف على
الإنسان الحي في مواجهة كل ما هو غير إنساني في السلطة أو في
العقائد أو في المناهج. وكان تتويج هذا النصر وبداية الوعي
الأوروبي «الكوجيتو» عند ديكارت حيث أصبحت الفلسفة مرادفةً للوعي
الأوروبي واعيًا ذاته والإنسانية معه، وأصبحت المثالية
الترنسندنتالية بعده تطويرًا للكوجيتو الديكارتي، وتأكَّد الإنسانُ
محورًا للكون في الثورة «الكوبرنيقية»: الذات في المركز والعالم
يدور حولها. ثم تحولت الذات إلى روح، والروح إلى تاريخ على يد هيجل
حتى أصبح الوعي الفردي مرادفًا للوعي الحضاري، وأصبح الإنسان هو
الإنسانية كلها. وكانت فلسفة التنوير قبل ذلك قد ربطت الفلسفة
بالعلوم الاجتماعية، وخرجت من دوائر المتخصصين والمهنيين في صياغات
البراهين على وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، بل تجاوزتها إلى
وضع الإنسان في المجتمع والتاريخ وفي أنظمة الحكم والمذاهب
السياسية. ثم أتى الكانطيون للتأكيد على الإنسان كما هو الحال عند
نيتشه ولكشف الشيء في ذاته واعتباره إرادة الإنسان عند شوبنهور.
كما استمرَّ الكانطيون الجدد في هذا التوجُّه الإنساني والانتقال
من «الأنا أفكر» إلى الاجتماع والسياسة والأخلاق والقانون. وازدهرت
الفلسفة أخيرًا في مدرسة فرانكفورت، واستطاعت أن تتحد بالعلوم
الإنسانية خاصة علم الاجتماع وأن تصوغه كفلسفة، وأن تصوغ الفلسفة
كعلم اجتماع سواء في السياسة أو في الاجتماع أو في الفن أو في
الحضارة. بل إن الوجوديين أنفسهم ربطوا بين الفلسفة والعلوم
الاجتماعية والتاريخية. فارتبط سارتر بالسياسة والتاريخ وعلم
النفس. كما ارتبط ميرلو بونتي بعلم النفس وعلم الأحياء والعلوم
السياسية. كما كانت بدايات ياسبرز علم الأمراض النفسية والعام، بل
إنه لا يوجد أي فرق الآن بين الفلسفة والعلوم الإنسانية في أهم
التيارات الفلسفية العلمية المعاصرة وهي الماركسية والفرويدية والبنيوية.
٦
ثم قام الوعي الأوروبي بحركةٍ ارتدادية للكشف عن الجوانب
الإنسانية في اللاهوت وفي الطبيعة على السواء. فإذا كانت موضوعات
الفلسفة ثلاثة: الله والطبيعة والإنسان، وأن الفلسفة إما إلهية أو
طبيعية أو إنسانية، فقد كشف الوعي الأوروبي أن الفلسفتين الإلهية
والطبيعية هما في حقيقة الأمر فلسفة إنسانية، مرة مغتربة إلى أعلى
ومرة أخرى مغتربة إلى أسفل، وكلتاهما خارج المنظور الإنساني، مرة
فوقه ومرة تحته. فقد كشف فيورباخ خاصة «أن كل علم لاهوت هو علم
إنسان مقلوب» وأن كل ما قيل في أوصاف الله وصفاته هو في حقيقة
الأمر أوصاف وصفات إنسانية قذف بها الإنسان خارجًا عنه نتيجة
لاغترابه في العالم. كما كشف هوسرل أن العلوم الطبيعية ذاتها بناء
إنساني وأن العلم هو في الكشف عن البناء الشعوري للعلم في مرحلة ما
قبل الفهم. فإذا كان الوعي الأوروبي قد بدأ بالكوجيتو فإنه يكون قد
انتهى بالكوجيتاتوم
Cogitatum
فيصبح الإنسان هو الأنا أفكر وهو موضوع التفكير في آنٍ واحد.
٧
وقد حدث الشيء نفسه في تراثنا القديم عندما ارتبطت الفلسفة
بالعلوم الإنسانية وبالموسيقى عند الكندي والفارابي، وبعلوم
الأخلاق والسياسة عند الفارابي، وبالتشريع عند ابن رشد. بل إنها
ارتبطت أيضًا بعلوم الحياة مثل الطب والتشريح والنبات والصيدلة.
وقد وضح ذلك بصورة خاصة في «رسائل إخوان الصفا» حيث أضيف جزء أخير
عن «النفسانيات» على التقسيم الثلاثي التقليدي، المنطق والطبيعيات
والإلهيات. ومع ذلك ما زلنا لم نصل بعد إلى الكشف عن الإنسان في
تراثنا القديم وراء الإلهيات والطبيعيات، وأن نبدأ الوعي الحضاري
الجديد ابتداءً من الوعي الذاتي حتى تحيا الفلسفة من جديد.
٨