الفصل الأول

فرغ الرجلان من صلاة العصر، ومما تعوَّدا في أعقاب الصلوات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ودعاء، ثمَّ تحوَّلا عن مجلسيهما إلى مصطبة في ناحية من نواحي الحجرة لا تخلو من ترفٍ؛ فهي لم تُتَّخذ من الطين واللَّبِن، وإنِّما اتُّخِذتْ من الآجُرِّ، وفُرِشَتْ بالرُّخام، وأُلقيت عليها بُسُطٌ ونمارقُ، كدأب البيوت التي كان يسكنها المترفون من التجار وأوساط الناس، الذين كانوا يجدون شيئًا من الكبرياء في تقليد السادة من الترك. ولم يكد الرجلان يأخذان مجلسيهما حتى أقبل الخادم يحمل إلى أحدهما غليونه الطويل، وأقبل خادم آخر من ورائه يحمل إليهما القهوة، وكان واضحًا أن أحدهما، وهو الذي حُمل إليه الغليون، لم يكن من أهل الإقليم، وإنما كان من أهل القاهرة قد جاء إلى الإقليم زائرًا لصاحبه، أو زائرًا وتاجرًا معًا، وقد يقبل من القاهرة إلى الإقليم في زيارته وتجارته مرة أو مرتين في العام، ثمَّ شرب الرجلان قهوتهما في أناة وبطء، لا يقول أحد منهما لصاحبه شيئًا، وأقبل صاحب الغليون على تدخينه، وأخرج الآخر من جيبه علبة بيضية الشكل فأمالها على بعض أصابعه، ثم رفع أصابعه هذه إلى أنفه وتنفس تنفسًا عميقًا، ثم ردَّ العلبة إلى جيبه وأطرق كأنما ينتظر شيئًا، أو كأنما يريد أن ينعم في تفكير عميق، ولكن صاحبه القاهريَّ لم يُتِحْ له ذلك، وإنما قال له في أناة وصوت هادئ: ويحك أبا خالد! أخشى أن نكون قد ظلمنا أنفسنا وأرهقنا هذا الفتى من أمره عسرًا.

قال أبو خالد في صوت لا تظهر عليه العناية بما سمع: وما ذاك أبا صالح؟

قال أبو صالح: إني لم أرَ ابنتي قط منذ كان هذا الزواج إلَّا رحمتُ الفتى وأشفقت عليه، فما رأيت امرأة أقبح من ابنتي شكلًا، ولا أبشع منها منظرًا، ولا أقلَّ منها دعاء للرجال.

هنالك غضب أبو خالد، وقال لصاحبه في شيء من العنف: فإنَّا اجتهدنا لأنفسنا وأموالنا، واجتهدنا لهذين الشابين، ولا علينا بعد ذلك أن يسعدا أو يشقيا، أحدهما أو كلاهما. إنها ابنتك الوحيدة، وإنه ابني الوحيد، وإن لك ثروة ضخمة، وإن لي تجارة واسعة، وإن بيننا شركة بعيدة المدى، وإخاء قديم العهد، فلم يكن بد من أن يقترن هذان الشابان، ومن أن يصير إليهما هذا المال.

وأظنك في حاجة قبل أن يتقدم هذا الحديث إلى أن تعرف شيئًا من أمر هذين الرجلين اللذين كانا يتناجيان. فأما أبو صالح: فقد كان رجلًا من أهل القاهرة، من هذه الطبقة المتوسطة التي أخذ شأنها يظهر شيئًا فشيئًا في أواسط القرن الماضي حين رُدَّ إلى المصريين شيء من حرية، وحين أتاحت لهم النهضة المادية شيئًا من سعة العيش، وكانت أسرته تعمل في التجارة منذ عهد بعيد، نشأ أبو صالح هذا «عبد الرحمن»، فرأى أباه مصطفى تاجرًا، وتحدث إليه أبوه أنه رأى أباه تاجرًا، وأنه لم يعرف أنَّ أسرته احترفت شيئًا غير التجارة. ولكن تجارة الأسرة كانت يسيرة قريبة المدى، حتى جاء مصطفى «أبو عبد الرحمن» فقدمها شيئًا، ثم جاء عبد الرحمن هذا فقدمها كثيرًا، وتجاوز بها القاهرة إلى الأقاليم البعيدة والقريبة، وكان يتجر في البن والسكر والأرز والصابون، ولا يكاد يتجاوز هذه الأصناف إلى غيرها من العروض، وقد نشأ في بيت الأسرة «بحي الحرنفش» نشأة قاهرية عادية، فاختلف إلى الكُتَّاب، وحفظ شيئًا من القرآن، ثم اختلف إلى الأزهر ووعى شيئًا من العلم، ثم أعان أباه في التجارة، وتنقل بهذه التجارة في الأقاليم، ثمَّ آلت إليه تجارة أبيه فنماها نموًّا عظيمًا.

وكان عبد الرحمن قد اشترى من سوق الرقيق في القاهرة جارية حبشية، أو جارية زعموا له أنها حبشية، ولكنها كانت سوداء على كل حال، وأكبر الظن أنها لم تخل من عنصر زنجي قليل أو كثير، وقد أحسن عبد الرحمن سيرته مع هذه الجارية، فأعتقها واتخذها له زوجًا، ورُزق منها ثلاثة بنين: غلامين، أحدهما صالح — وبه كان يكنى — وكان يعمل معه في تجارته بعد أن نشأ نشأة أبيه؛ والآخر: محمد، وقد وجهه أبوه وجهًا مدنيًّا، فلم يحصِّل علمًا، ولم يمل إلى تجارة، وإنما كان فتى متعطلًا، كان ضحية من هذه الضحايا التي تكثر في أوقات التطور والتجديد، حين تلتقي حضارة قديمة مستقرة بحضارة جديدة طارئة. والثالثة: فتاة سماها نفيسة، وقد أراد الله أن يجمع ما كان يمكن أن تتوارثه هذه الأسرة من ناحيتيها من قبح الصورة ودمامة الشكل على هذه الصبية البائسة، وقد نشِّئت هذه الصبية تنشيئًا فيه كثير من الترف وكثير من العناية. وكأن عبد الرحمن وامرأته السوداء قد رفقا بهذه الصبية واختصَّاها بكثير من العطف؛ لما رأيا من قبح صورتها ودمامة شكلها، وكان استهزاء أخويها بمنظرها البشع وصورتها المنكرة يزيد رفق أبويها بها وعطفهما عليها، فنشأت الفتاة وفي أخلاقها شيء كثير من التعقيد: تحب الترف وتكلف به؛ لأنها نشئت عليه، فأصبح لها طبيعة وأسلوبًا في الحياة، وتحس الأشياء إحساسًا دقيقًا جدًّا ولا سيما حين تتصل بها من قريب أو بعيد، وتتأذى بما يؤذي وما لا يؤذي، ويخيل إليها أنَّ في كل حديث يساق إليها أو يساق عنها تعريضًا بها أو محاولة لإيذائها. فكانت سعيدة بين أبويها، شقية بين أخويها وبين الناس، مضطربة أشد الاضطراب إذا خلت إلى نفسها، لا تعرف إلى أي الأمرين تستقر: أإلى هذا الحب الذي يملؤه الحنان والعطف، والذي تجده من أبويها كلما خلت إليهما بل كلما لقيتهما، بل تحس آثاره حين لا تلقاهما ولا تخلو إليهما، أم إلى هذا الازورار الذي كانت تجده من أخويها والتودد المتكلف الذي كانت تجده من الناس حين تلقاهم زائرين للأسرة، أو تلقاهم حين كانت تصحب أمها في بعض زياراتها. والشيء الذي لا شك فيه هو أن أخلاق هذه الفتاة لم تكن مطردة ولا منسجمة ولا ملائمة للمألوف من أخلاق أترابها، وإنما كانت تثب من الرضا إلى السخط ومن السخط إلى الرضا، وربما اضطرت إلى شيء بين ذلك ليس فيه اطمئنان ولا ثورة، وإنما هو قلق متصل، وضيق بكل شيء، وإعراض عن كل شيء. وكان هذا كله يزيد عطف أبويها عليها، وإيثارهما لها بالحب والحنان، حتى كانت من غير شك آثر الثلاثة عند أبيها وأمها.

ثم امتحنت الأسرة بفقد ابنيها جميعًا في خطوب لا أعرض لها الآن، فأصبحت الفتاة وحدها مركزًا لكل ما كان الأبوان يملكان من حب وبر.

وقد ارتحل عبد الرحمن في بعض شأنه التجاري إلى مدينة من مدن الأقاليم بعيدة عن القاهرة بعدًا شديدًا، في ذلك الوقت الذي لم تكن فيه القُطُر ولا السيارات، والذي كان يرتحل الناس فيه على ظهور الدواب أو على ظهور السفن التي تشق بهم النيل مصعدة حينًا وهابطة حينًا آخر. وكان عبد الرحمن لا يسافر إلى الأقاليم إلا بعد أن يقدم بين يديه طائفة من السفن قد حملت ما شاء الله أن تحمل من عروض التجارة، حتى إذا بعد عهده شيئًا بإقلاع هذه السفن وظنَّ أنها قد كادت تبلغ غايتها سافر هو من القاهرة سفرًا غير قاصد، وبلغ الغاية قبل أن تبلغها السفن، وهناك يتلقى سفنه ويعمل في تجارته، فيبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويرد سفنه إلى القاهرة وقد تخففت مما كانت تحمل، ولكنها أُثقلت بعروض أخرى تُحمل من الأقاليم إلى القاهرة. وكان هذا كله يضطره إلى أن يبقى في مدن الأقاليم أوقاتًا تطول وتقصر، فلم يكن له بد من أن يتخذ الأصدقاء من عملائه التجار، ومن أن يتخذ الأصفياء الذين يئوونه إذا كان في هذه المدينة أو تلك، والذين يئويهم حين كانوا يهبطون إلى القاهرة لمثل ما كان يرحل له من البيع والشراء، وكان عميله في هذه المدينة أبا خالد بن سلام. وكان علي كصديقه وعميله تاجرًا بعيد التجارة، نشأ في قرية من قرى الريف في مصر السفلى، وفي أسرة من هذه الأسر التي كانت تتجر بالماشية وتحصِّل من هذه التجارة مالًا عظيمًا، ثم رأى أبوه سلام ذات يوم أنَّ أهل القرى يُستكرَهون على امتلاك الأرض واستثمارها، وكان أبغض شيء إليه أن يكون صاحب أرض وزراعة، يتعرَّض لما يتعرض له الفلاحون من الظلم والعنف، ومن القسوة والشدة، ومن هذه السياط التي كانت تأكل أجسامهم حين يُقَصِّرون مع سادتهم أو مع الحكومة، أو حين يتهمهم سادتهم وتتهمهم الحكومة ظلمًا بالتقصير، ففرَّ سلام بأسرته وذهبه وفضته إلى مصر العليا، واستقر في مدينة من مدنها، واستأنف فيها حياة التجارة، ولكنه لم يتجر في الماشية، وإنما اتجر في البن والسكر والأرز والصابون. وقد نمت تجارته، واستطاع أن يترك لابنه عليٍّ ثروة ليس بها بأس. وكأن سلامًا هذا قد أورث ابنه ما كان يمتاز به من حب الحرية، وتجنب السلطان، والاجتهاد في ألا يخضع لحياة تفرضها عليه القوة أو النظام فرضًا، فقد شب عليٌّ فرأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يعملوا في الجيش، فلم يتحرج من أن يطيح إبهامه، حتى إذا تقدم للفرز رُدَّ؛ لأنه ليس صالحًا للخدمة العسكرية.

ووُلد له ابنه خالد، فدفعه إلى الكُتَّاب كما دفعه أبوه هو إلى الكُتَّاب. ولكنه رأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يتعلموا في المدارس النظامية، وكان يرى هذه المدارس إثمًا من الإثم وزورًا من الزور، فهرَّب ابنه من المدينة وجدَّ في تهريبه حتى علمه التعليم الموروث، فحفظه القرآن جالسًا على حصر الليف، ونزهه عن هذه المدارس التي لا يتعلم الصبيان فيها شيئًا، وإنما يلوون ألسنتهم بالتركية، وبلغة أخرى يسمونها لغة الفرنسيس. وكان علي يكره الترك كرهًا شديدًا، لا يتصور التركي إلا ظالمًا غاشمًا، لا يعرف عدلًا ولا دينًا ولا قانونًا ولا احتشامًا، وكان يكره الفرنسيس كرهًا شديدًا، يذكر ما كان الناس يتحدثون به عنهم من الشر، ولكنه كان يحب الدنانير الفرنسية ويؤثرها على غيرها من النقد ولا يكاد يجتمع له شيء من ذهب أو فضة إلا استبدل به دنانير نابوليون.

وقد تقدمت السن بابنه خالد حتى كاد يبلغ العشرين. وهو لم يصنع شيئًا إلا أنه حفظ القرآن، وجعل يعمل مع أبيه في تجارته يقبل عليها حينًا وينصرف عنها أحيانًا، ويُؤثر الاختلاف إلى المساجد يشهد فيها الصلوات، ويسمع فيها للشيوخ والوعاظ، فإذا كان الليل اختلف إلى مشايخ الطرق، فشاركهم في حلقات الذكر، وكان أبوه لا يكره منه هذا، وإنما يرى فيه طاعة وتقوى، وكان يجتهد في أن يحبب إلى ابنه طريقة بعينها هي التي اتخذها لنفسه طريقة، وحمل صديقه القاهريَّ عبد الرحمن على أن يأخذ بها العهد عن شيخه، وقد وُفِّق عليٌّ من ذلك لما أراد، فأصبح ابنه خالد يتعصب لشيخه وطريقته أكثر مما يتعصب للتجارة، حتى أشفق الشيخ نفسه على هذا الشاب أن يغرق في التصوف وينتهي إلى الانجذاب، فقال لأبيه ذات ليلة بمحضر صديقه عبد الرحمن قبل أن يقيم الذكر بقليل: يا علي؛ زوِّج ابنك، وليعنك على ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية وهو لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.

وانصرف الصديقان عن الشيخ بعد أن تفرَّقت حلقة الذكر، لم يقل أحدهما لصاحبه شيئًا في شأن هذا الأمر الذي صدر من الشيخ إلى عليٍّ أن يُزوِّج ابنه، وإلى عبد الرحمن أن يعينه على هذا التزويج. وراح عليٌّ إلى أهله، فلم يتحدث إليهم بشيء، وإنما أتم حياته العاملة كما تعود أن يتمها في كل يوم بركعتين كان يركعهما قبل أن يأوي إلى مضجعه، وبآية الكرسي التي كان يتلوها إذا استقرَّ في فراشه. والتقى الرجلان حين نشرت الشمس رداءها الرقيق الرقراق على الأرض، وألبست منه المدينة حُللًا رائعة مشرقة، فحيا علي صاحبه، وسأله عن ليله كيف قضاه؟ وعن نهاره كيف يريد أن يقضيه؟ وأقبل الخادم يحمل القهوة، فشرباها في رفق وبطء وصمت يقطعه حديث نزر يسير. ولكن عليًّا أقبل على صديقه فجاءةً يسأله: ماذا فهمت من الأمر الذي أصدره إلينا الشيخ قبل أن يقيم الذكر؟

قال عبد الرحمن متضاحكًا: فهمت أنه يخشى على ابنك من حياته هذه التي يحياها، ويأمرك بتزويجه؛ لينصرف إلى الدنيا عن الإغراق في أمر الدين؛ لأنه لم يُخلق ليكون شيخًا، وإنما خُلق ليكون تاجرًا مثلك، وفهمت أنه يكلفني معونتك على ذلك، وأنا من هذه المعونة عند ما تريد.

قال عليٌّ: معونتي على ماذا؟ ومعونتي بماذا؟

قال عبد الرحمن: ما أدري، ولكن للشيخ إشارات لا تفهم عنه غالبًا، ولولا أني أُشفق عليك لسألتك: أفي حاجة أنت إلى المال؟

قال علي وهو يضحك: وهل حال مثلي تخفى على مثلك؟ أتراني قصرت في بعض حقوق التجارة فأجلت لك أو لغيرك حقًّا؟ بل أَتُرَاكَ أحسست مني حاجة إلى التأجيل والمهلة؟

قال عبد الرحمن: فهذا ما سألت عنه نفسي منذ الليلة، وإنَّ كرام الناس مثلك ليعنفون بأنفسهم أشد العنف حتى لا يظهر أحد على ما يحبون أن يخفوا من الأمر، وقد عرفت ما بينك وبيني من الود والإخاء، فأنا عند ما تحب من المعونة إن احتجت إليها في تجارتك أو في تزويج خالد؛ فإن خالدًا عندي بمنزلة ابنيَّ رحمهما الله.

قال عليٌّ: بارك الله عليك في مالك وولدك! ولكن أفهمت معنى الآية التي تلاها الشيخ؟ قال عبد الرحمن: لم أفهمها، ولكني قدَّرت أنَّ الأمانة هي هذه الولاية التي يتعرض لها خالد على حين قد خُلق للتجارة والعمل فيما نعمل فيه من أمور الدنيا، وما ينبغي أن نتحرَّى الدقة حين نسمع شيوخنا يتحدَّثون أو يتلون القرآن ويروون الحديث؛ فإنَّ لهم آفاقًا لا نبلغها، ولو قد فَهِمْنَا عنهم كُنه ما يريدون لكنَّا مثلهم أساتذة وشيوخًا، وأنت تعلم أنه لم يُؤذن لنا في شيءٍ من ذلك. قال علي: لأراجعن الشيخ فيما أراد إليه.

وأنفق الصديقان يومهما كما تعودا أن ينفقا أيامهما، فلما صُلِّيَت العصر وشُربت القهوة، وكان التدخين والنشوق، سعيًا إلى الشيخ، فأقاما عنده بين التلاميذ والمريدين ما شاء الله أن يقيما، وعليٌّ يهم أن يراجع الشيخ فيما سمع منه، ولكنه لا يجرؤ. حتى إذا نُودي لصلاة المغرب التفت الشيخ إلى عليٍّ باسمًا، وقال له: يا عليُّ، زوِّج ابنك وليعنك علي ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية التي لم يُخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة. وهمَّ علي أن يسأله، ولكنه نهض فاستقبل القبلة وأقام الصلاة وصلى من خلفه تلاميذه ومريدوه.

وكان الشيخ إذا أقام صلاة المغرب لم يفرغ لأحد بعدها، وإنما يمضي في تسبيحه وتحميده حتى يتقدَّم الليل، فيقيم الصلاة الآخرة، ويمضي في تسبيحه وتحميده ساعة تطول أو تقصر حسب ما يكون من إقامة الذكر أو لا يكون، ولكنه على كل حال لم يكن يخلص لأصحابه إلا في ساعة متأخرة جدًّا من الليل. وقد حضر الصديقان مع شيخهما صلاة المغرب والعشاء وطرفًا غير قصير من تسبيحه ودعائه، ثمَّ انصرفا ولم يستطع عليٌّ أن يراجع الشيخ في شيء، وإنما عاد إلى أهله مشغولًا كثير التفكير، ولكنه على ذلك لم يتحدث إليهم في شيء، بل ركع ركعتيه وأوى إلى مضجعه، فتلا آية الكرسي وترك نفسه للنوم، ثم أصبح من غده كما أصبح من أمسه حائرًا يسأل نفسه عن هذه المعونة التي طلبها الشيخ إلى عبد الرحمن، ويُؤكد بينه وبين نفسه أنه سيراجع الشيخ لا محالة ليعرف منه ما أراد. وقد أقبل الصديقان على شيخهما، فصليا معه المغرب والعشاء، ومضيا معه في تسبيحه وتحميده ودعائه ينتظران حلقة الذكر، ولكن الشيخ التفت فجأة إلى الصديقين، وأعاد على عليٍّ للمرة الثالثة مقالته وتلا عليه الآية. وهمَّ عليٌّ أن يسأله، ولكن الشيخ قال باسمًا: سبحان الله! ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما شأن نفيسة؟! ثم أمر بإقامة الذكر، وقد فهم عنه الصديقان، ولم يستطيعا مع ذلك أن يقولا له شيئًا، أو يسألاه عن شيء، على أنهما لم يعودا صامتين بعد أن تفرقت الحلقة، وإنما قال عبد الرحمن لصاحبه: أفهمت الآن هذه المعونة؟ قال علي: قد فهمتها منذ الليلة الأولى، ولكني لم أكن أقطع بذلك ولا أجرؤ على تقديره عن أن أحدثك فيه. قال عبد الرحمن: فإنَّ هذا الخاطر لم يخطر لي، وما كنت أعرف أنَّ الشيخ يعلم أنَّ لي ابنة، وأنَّ اسمها نفيسة. قال عليٌّ: فإن الشيخ لا يخفى عليه شيء من أمر تلاميذه ومريديه، ولكن ما رأيك فيما أصدر إلينا من أمر؟ قال عبد الرحمن: سنستخير الله وسنتحدث إذا كان الغد. ودخل عليٌّ على أهله فرحًا مسرورًا يقول: أبشري يا أم خالد، فستزورين القاهرة بعد قليل. قالت أم خالد مبتهجة: شيئًا لله يا أهل البيت، ولكن زوجها كان قد استقبل القبلة ليركع ركعتيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤