مقدمة الطبعة الثالثة

في المقدمة القيِّمة التي قدَّم بها الأستاذ الدكتور عبد الحميد صبرة ترجمته العربية لكتاب «نظرية القياس الأرسطية» تأليف يان لو كاشيفتش،١ تفضَّلَ فذكر كتابي هذا «المنطق الوضعي» ذكرًا ما كان فيه شيء من التساؤل، وشيء من الاعتراض والنقد؛ وأرى لزامًا عليَّ أن أجيب هنا عمَّا قد تساءل عنه، وأن أوضِّح رأيي فيما تناوله بالاعتراض والنقد.

يتساءل صديقنا الدكتور صبرة ماذا تُراني أقصد بعنوان الكتاب «المنطق الوضعي» قائلًا إنني «لم أشرح ما أقصده بالضبط من هذه العبارة التي استحدثتها»، على أنه يذكر في الهامش أنني قد سبقَ لي أن قرَّرتُ في مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب أنني قد قصدت بهذا العنوان أنه كتاب يعرض الموضوع من وجهة نظر الوضعيين المنطقيين؛ وقد كانت هذه الإشارة — في ظني — كافية، لأن ما يقصده أيُّ مؤلف من كتابه هو المادة نفسها المعروضة في كتابه من أول صفحة فيه إلى آخِر صفحة، ولا أرى أن يُطالَب مؤلِّفٌ بأن يوضِّح مقصده في كتابة أخرى خارج الكتابة الواردة في كتابه؛ على أن صديقنا لو أراد مزيدًا من القول في توضيح المراد بعنوان كتابي «المنطق الوضعي» لأجبته بأنه ما من موضوع من موضوعات المنطق إلا وتختلف النظرة إليه باختلاف المذهب الفلسفي الأساسي الذي يتجه إليه الباحث؛ فليس الفيلسوف المثالي كالفيلسوف التجريبي، بل وليس المثاليون — على اختلاف فروعهم — وليس التجريبيون — على اختلاف فروعهم — سواءً في وجهة النظر، ومذهبي الفلسفي هو فرع من فروع المذهب التجريبي، يمكن تسميته بالوضعية المنطقية، أو بالتجريبية المنطقية، أو بالتجريبية العلمية؛ ولا بد أن يكون لمَن يأخذ بهذا المذهب اتجاهٌ خاص عند نظره إلى مباحث المنطق؛ وهذا الاتجاه الخاص هو الذي حاولتُ أن أنظر به إلى تلك المباحث عندما ألَّفتُ «المنطق الوضعي» فأطلقتُ على الكتاب هذا الاسم، لأدل به على أنه منطق منظور إليه بعين ترى الأمور بمنظار المذهب الوضعي.

وينتقل صديقنا الدكتور صبرة إلى إشارة يُشير بها إلى أنني أصدر الكتاب بما يوحي بأنني أقصد منطقًا يُعارض منطق أرسطو. غير أني، من وجهة أخرى، أعرِّف المنطق في الفصل الأول من كتابي بأنه: علم يبحث في «صورة الفكر»، وهو نفسه التعريف الذي قيل كثيرًا في تعريف منطق أرسطو الصوري؛ وبعبارة أخرى فإن صديقنا يرى تناقضًا في موقفي بين معارضة المنطق الأرسطي، وتعريف المنطق بما يعرف به المنطق الأرسطي؛ والذي فات الصديق — فيما أرى — أن العبرة كلها هي في المعنى الذي تُفسر به كلمة «فكر»؛ فهذه كلمة يقولها كل فيلسوف: المثالي والتجريبي على السواء، لكنَّ كلًّا منهما يقصد إلى معنى غير الذي يقصد إليه الآخَر، وبهذا يختلف المذهب الفلسفي بينهما، فالفكر عند المثالي تصوُّرات عقلية ترتد آخِر الأمر إلى حقائق أولية يُدركها الإنسان بحدسه الصادق، ولا حاجة به في إدراكها إلى حواس؛ على حين أن الفكر عند التجريبي تصوُّرات ترتد آخِر الأمر إلى معطيات حسية؛ وعلى هذا فأنت المثالي وأنا التجريبي قد نقول عن المنطق إنه «صورة الفكر»، ويكون مرادك حقائق أولية في الذهن، ويكون مرادي انطباعات على الحواس؛ وهكذا يكون الاتفاق في التعريف ظاهريًّا وسرعان ما يبين التحليل أنه منطوٍ على اختلاف جوهري في وجهة النظر.

على أن أهم ما يلاحظه الأستاذ الدكتور صبرة في مقدمته عن كتابه هذا، هو قوله: «ومهما يكُن المعنى الذي يقصده المؤلف من عبارة المنطق الوضعي، فقد كان من آثار استخدامها عنوانًا لكتابه أن ربط بعض الناس يبين المنطق الرياضي الذي تشغل مسائله حيزًا كبيرًا من الكتاب وبين الفلسفة الوضعية الجديدة التي يتشيَّع لها المؤلف ويكاد لا يخلو أحد فصول كتابه من الدفاع عنها؛ وربما ترتَّب على ذلك نوع من الاعتقاد بتلازُم المنطق الرياضي والفلسفة الوضعية الجديدة؛ ولو نشأ هذا الاعتقاد في ذهن أحد من الناس لكان اعتقادًا خاطئًا لا شك في ذلك.» وأنا أوافق الكاتب على كل حرف من هذه العبارة، ولست بطبيعة الحال مسئولًا عن أخطاء هؤلاء الذين يرون أنصار الوضعية المنطقية يستخدمون المنطق الرياضي، فيقولون إن هذا هو تلك، أنا ذا رأيت جرَّاحًا يشق العضو المريض بمبضع — والمبضع ليس من صنعه هو — قلت إن الجراح والمبضع شيء واحد؟ كلا، فقد يكون صانع المبضع من أية طائفة شئت، لكن هذا لا يتناقض مع أن يأخذ الجراح صناعة ذلك الصانع، ليستخدمها على أي نحو ينفعه؛ وهكذا نحن مع المنطق الرياضي، فهو أداة فعَّالة في تحليل المدركات تحليلًا ينتهي إلى نتائج تؤيد وجهة النظر التي يأخذ بها الوضعيون المنطقيون، فتراهم يستخدمونها، دون أن يكون معنى ذلك أن المنطق الرياضي والوضعية المنطقية شيء واحد بعينه؛ ولست أدري ما الذي كان بوسعي أن أصنعه لأزيل هذا الخلط سوى أنني في مواضع متفرِّقة من كُتبي — كلما سنحت لذلك فرصة — أبيِّن ذلك في وضوح؛ ففي كتابي عن برتراند رسل، استهللت مقدمته بقولي إنني لست أذهب مذهبه الفلسفي، لكني أستخدم تحليلاته الرياضية؛ وفي كتابي «نحو فلسفة علمية» شرحت الفرق بين الجانبين، حتى لقد ذكرت أن المنطق الرياضي والوضعية المنطقية قد يلتقيان في شخص واحد، وقد يفترقان، فيأخذ رجل بالأول دون الثانية، ويأخذ رجل آخَر بالثانية دون الأول، وذكرتُ أسماءً معيَّنة لأستشهد على ذلك (راجع «نحو فلسفة علمية»، ص ٦–١٨٥)؛ فإذا سُئلت بعد هذا كله: وما موقفك أنت؟ أجبتُ: إنني آخذُ بالمنطق الرياضي أداةً للتحليل وبالوضعية المنطقية مذهبًا.

وأخيرًا أراد صديقنا الدكتور صبرة أن ينبِّه إلى وجوب التمييز بين الفلسفة التي قد تؤثر في المنطق أو يؤثر هو فيها، وبين موضوعات المنطق ذاته؛ وهذا واضح لأنه إذا لم يكُن هنالك فرق على الإطلاق بين النظرية المنطقية من جهة، والمشكلات الفلسفية الأخرى من ميتافيزيقا وأخلاق وسياسة وغير ذلك من جهة أخرى، لكان من العبث أن نُطلق على كلٍّ من هذه الفروع اسمًا يميزه؛ فهذه الفروع كلها ذوات «مادة» بعينها تجعلها مدارات لبحوثها، وأما المنطق «فصوري» دائمًا، يستخلص «الصورة» الفارغة من تلك المادة الفكرية المليئة بمضموناتها؛ إذَن فلا خلاف بيننا في أن المنطق متميِّز من المشكلات الفلسفية، لكن إذا كان الكاتب يريد بذلك أن المنطق لا تختلف نظريته باختلاف الفلسفات المختلفة، فها هنا تختلف معه في الرأي؛ فليس منطق أرسطو هو منطق بيكن، ولا هذان هما منطق فريجة ورسل، ولا هذه كلها معًا هي منطق هيجل أو منطق بيرس وديوي، فما الذي يجعل هذه النظريات المنطقية مختلفة فيما بينها؟ الذي يجعلها مختلفة هو الأسس الأولى التي يبني عليها كلٌّ منها بناءه: فهل العالَم واحد أو كثير؟ فإنْ كان واحدًا رأيت منطقًا مثل منطق برادلي، وإنْ كان كثيرًا وجدت منطقًا مثل منطق رسل؛ وهل المعرفة أساسها حدس أو حس؟ إنْ كانت الأولى كان المنطق الأرسطي أصلَح ما يكون، وإنْ كانت الثانية كان منطق بيكن هو الذي يُلائم الموقف، وهكذا وهكذا.

إنه لَيُخيَّل إليَّ أنني متهم عند صديقنا الدكتور صبرة بإنكار المنطق الصوري وبمحاولة التخلُّص من الصورية في المنطق الذي أناصره، لذلك تراه يؤكِّد آنًا بعد آنٍ، في مقدمته المذكورة، أن المنطق الصوري ما زال بخير؛ والحقيقة هي أني لا أعرف كيف يمكن أن يكون المنطق منطقًا دون أن يبلغ من الصورية أعلى درجاتها؛ فالعلوم كلها — كما قلت في الفصل الأول — صورية بدرجات، لأن قوانينها عامة، وكل قول عام هو صوري نقدر ما فيه من تعميم، وإذا لم يكُن القول صوريًّا لجاء وصفًا لتفصيلات موقف واحد بعينه، وعلى درجات التعميم إنما تجدها في مبادئ المنطق لأنها تشمل الوجود كله؛ فإذا قلت — مثلًا — «أ» لا تكون «ب» و«ليس ب» في آنٍ واحد، فقد قلت بذلك مبدأً منطقيًّا لا حدود لتطبيقه على كائنات الوجود بأسرها؛ وعند الحديث عن نظرية القياس الأرسطية (في أول الكتاب الثاني من هذا المؤلف، ص٢٤٢) قلت ما نصه: «إن نظرية القياس الأرسطية بداية قوية في بناء المنطق، أما أن تؤخذ على أنها هي البداية والنهاية معًا، فذلك هو موضع الخطأ عند أصحاب المنطق التقليدي.» وإذَن فالذي نسعى إليه هو التوسُّع في النظرية المنطقية لتشمل ما لم تكُن النظرية الأرسطية تشمله، وليس هو التنكُّر التام لها؛ وإن كاتب هذه الأسطر ليأبى أن يقسم المنطق إلى ما هو «صوري» وما هو «مادي» لأن المنطق كله عنده منطق صوري؛ وسيرى القارئ في الكتاب الثالث من هذا المؤلف (الجزء الثاني) بحثًا مستفيضًا في طبيعة العلم الصوري بشطرَيه الأساسيين: المنطق والرياضة، وإذَن فكاتب هذه الأسطر هو أبعَد الناس عن إنكار الصورية على المنطق حتى يُتَّهَم بذلك ثم يحاول المتهم أن يدافع عن الجانب الذي يظنه قد ظلم.

•••

أما بعدُ فهذه هي الطبعة الثالثة٢ من كتاب «المنطق الوضعي»، وقد اختلفت عن سابقتَيها اختلافًا بعيدًا يوشك أن يجعل هذه الطبعة قريبة من أن تكون كتابًا جديدًا، ولا سيما في «الجزء الثاني» الخاص بفلسفة العلوم؛ فالكتاب في هذه الصورة الجديدة يقع في جزأين منفصلَين، وكلٌّ من الجزأين يشتمل على كتابين؛ أما الجزء الأول فالكتاب الأول فيه يتناول منطق القضايا ومنطق الحدود ومنطق العلاقات ثم الاستدلال المباشر، والكتاب الثاني فيه يعرض نظرية القياس الأرسطية؛ وأما الجزء الثاني ففيه يقع الكتابان الثالث والرابع، أما الثالث فموضوعه فلسفة العلم الصوري من منطق ورياضة وما إليهما من البناءات الاستنباطية، وأما الرابع فموضوعه فلسفة العلم التجريبي بما في ذلك العلوم الإنسانية؛ ولقد راعيت في كل هذا — إلى جانب ما تقتضيه طبيعة المادة التي أبحثها وأعرضها — ما يحتاج إليه طالب الدراسات الفلسفية في هذا المجال، فلعلني أكون قد وُفِّقتُ فيما استهدفت من غرض وما سلكت من سيبل.
زكي نجيب محمود
الجيزة، في ٢٠ سبتمبر، ١٩٦١م
١  الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية، ١٩٦١م.
٢  لا اختلاف بين الطبعة الثالثة والطبعة الرابعة التي هي الآن بين يديك، وقد صدرت في يناير من ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥