مقدمة الطبعة الثانية
لقد سعدتُ بما لقيه هذا الكتاب من قبول في طبعته الأولى، فليس هو بالكتاب الذي يعرض منطق الفكر عرضًا يخلو من وجهة النظر الخاصة، بل هو كتاب يبسط الموضوع بسطًا ينتهي بدراسة — الذي يرضى عمَّا به — إلى تأييده لمذهب دون مذهب؛ وذلك لأنه يعرض الموضوع من وجهة نظر الوضعيين المنطقيين الذين يتميَّزون من سائر المدارس الفلسفية التقليدية والمعاصرة ببعض النتائج التي أدَّت إليها طريقتهم في التحليل الفلسفي.
فمن أهم ما قد انتهت إليه هذه الطائفة من نتائج، نتيجة لعلَّها أن تكون أخطر كشف فلسفي في العصر الحديث كله، وهي التمييز الواضح الفاصل بين القضية في العلوم الرياضية والقضية في العلوم الطبيعية، تمييزًا يجعل الأولى تكرارية لا تُنبئ بخبر جديد، ويجعل الثانية إخبارية يتعرَّض فيها الخير الذي تحمله للصواب أو الخطأ، ومن ثَم كان اليقين في الرياضة، وكان الاحتمال في العلوم الطبيعية، فالصيغة الرياضية يقينية لأنها تحصيل حاصل لا يضيف جديدًا، وأما القانون الطبيعية فاحتمالي لأنه وصفي، وكل وصف يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب.
هذه التفرقة الواضحة قد أسقطت من أيدي الفلاسفة العقليين أرهَفَ أسلحتهم وأحَدَّها؛ إذ كانوا يحتجُّون على أنصار الفلسفة التجريبية بأن للعقل قدرة على بلوغ العلم اليقيني بغير رجوع إلى الحواس، وذاك بما قد يُدركه من حقائق الرياضة التي لا يأتيها الشك؛ أما وقد تبيَّن أن هذا اليقين مَردُّه إلى تكرار الرمز مرَّتَين في صورتين مختلفتين، لكنهما متساويتان بحُكم تعريف الرموز نفسها تعريفًا اشتراطيًّا، فلم يعُد للرياضة سحرها الأول، ولم يعُد يقينها يصلح حُجَّة تدحض قول القائلين بضرورة الاعتماد على التجربة الحسية في دراسة الطبيعة.
وكذلك من المعالم الرئيسية في هذا الاتجاه الوضعي الذي يعرضه هذا الكتاب إصرارنا على أن تُفهَم الأسماء الكلية بمفرداتها الجزئية، فإذا ما تبيَّن أن الاسم بغير مسميات جزئية تقع في خبراتنا الحسية فعلًا أو إمكانًا، كان لفظة فارغة من المعنى مهما يكُن لها من وَقْع في آذاننا بسبب طول استعمالها.
إن دارس هذا الكتاب إذا ما رضي عمَّا ورد فيه لا بد أن تنتهي به الدراسة إلى نظرة علمية تجريبية هي في رأينا شرط لا مفرَّ منه إذا أردنا لأنفسنا نهضة فكرية صحيحة.
أكتوبر، ١٩٥٦م