مقدمة الطبعة الأولى

أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يُجدي على أصحابه ولا على الناس شيئًا؛ وعندي أن الأمة تأخذ بنصيبٍ من المدنية — يكثر أو يقل — بمقدار ما تأخذ بنصيبٍ من العلم ومنهجه.

فإنْ كان نتاج العاطفة من فن وأدب، وما إليهما، قد صاحب المدنية الإنسانية في كل أدوارها؛ فلأنه علامة تدلُّ على وجودها، أكثر منه عاملًا من عوامل إيجادها.

ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة — والوضعي المنطقي الجديد بصفة خاصة — هو أقرَب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم؛ فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه؛ وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها — لنفسي — ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه.

وكالهرة التي أكلت بنيها، جعلت الميتافيزيقا أول صيدي، جعلتها أول ما أنظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية، لأجدها كلامًا فارغًا لا يرتفع إلى أن يكون كذبًا، لأن ما يوصف بالكذب كلام يتصوَّرُه العقل، ولكن تدحضه التجربة؛ أما هذه فكلامها كله هو من قبيل قولنا: إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار — رموز سوداء تملأ الصفحات بغير مدلول — وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ليكشف عن هذه الحقيقة فيها.

ولقد أعددتُ نفسي للقيام بشيء من هذا التحليل، ما وسعني الجهد — وإنه لجهد الضعيف — مُوقنًا بأني إذا ما هدمتُ ركنًا من أركان هذا البناء المتداعي، وأقمتُ مكانه في عقول شبابنا دعامة من دعائم التفكير العلمي الوضعي فقد بذلتُ ما أستطيع بذله من الفكر توجيهًا منتجًا.

لكن الأمر محتاج أولًا إلى وضع قواعد المنطق الذي ينتهي بصاحبه إلى مثل هذه النظرة العلمية، فكان هذا الكتاب الذي أضعه بين يدي القارئ ليكون بمثابة الأساس من البناء الذي صحَّ مني العزم على إقامته طابقًا في إثر طابق، تجيء كلها تدعيمًا للمذهب الوضعي في شتى نواحيه.

على أنني قد وسَّعتُ مدى البحث في مواضع كثيرة، ليُلائم حاجة طلاب المنطق في دراستهم؛ فلئن أردتُ لهم أن يصطبغوا باللون الوضعي في تفكيرهم، فلا بد لي إلى جانب ذلك أن أهيِّئ لهم فرصة الإلمام بأصول المنطق الأرسطي، لتزداد قدرتهم على المقارنة والنقد، ثم على الهدم والبناء.

أرجو أن أكون قد أصبتُ بعض التوفيق فيما أردتُ.

زكي نجيب محمود
القاهرة، في مارس، سنة ١٩٥١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥