موضوع المنطق
لعلَّه من الخير أن نبدأ الكتاب بتعريفٍ للمنطق، ليرى القارئ منذ البداية على أيِّ موضوع هو مُقبِل؛ وإنْ كنا نعلم أن التعريف الذي يجيء قبل دراسة الموضوع، لا يكون له في الذهن وضوح التعريف الذي يجيء بعد دراسته؛ لكن تحديد معالم الموضوع الرئيسية قبل البدء في بحثه، قد يهدي القارئ بعض الهداية، وله أن يعود إلى التعريف بعد دراسة الموضوع، ليُكمِل لنفسه النقص ويوضِّح الغموض.
(١) المنطق علم يبحث في صورة الفكر
فحين زعمنا في تعريفنا للمنطق بأنه «علم» فإنما أردنا بهذه الكلمة أن له موضوعًا خاصًّا يبحث فيه عن المبادئ والقوانين التي تنطوي عليها الأمثلة الجزئية التي نصادفها في نطاق ذلك الموضوع الخاص، فماذا عسى أن يكون موضوع المنطق؟ قلنا في التعريف إنه صورة الفكر، فماذا نريد بهاتَين الكلمتَين؟
(٢) معنى كلمة «صورة»
تتكوَّن صورة الشيء من العلاقات الكائنة بين أجزائه، بغض النظر عن مادة تلك الأجزاء؛ فنقول عن الشكل المعين إنه على صورة الهرم، إذا كانت العلاقات التي بين أجزائه ممَّا يجعله على تلك الصورة الهرمية، مهما تكُن مادته؛ إذ قد يصنع الهرم من حجر أو خشب أو ورق أو غير ذلك من مواد؛ والساعة مادتها تروس وزنبرك وعقارب، إلى آخِر هذه الأجزاء، وأما صورتها فهي العلاقة التي تكون بين تلك الأجزاء، ولو فكَّكنا أجزاء الساعة وكوَّمناها على المنضدة بغير زيادة أو نقص، لما بقيت ساعة كما هي، لأنها فقدت صورتها حين تغيَّرَت العلاقات التي كانت بين أجزائها.
والمادة التي تعنينا في بحثنا هي الكلمات وما إليها من رموز؛ وها هنا كذلك تكون صورة الكلام هي العلاقات الكائنة بين الأجزاء، بغض النظر عن تلك الأجزاء نفسها، ولذا فقد تكون الصورة واحدة في عبارتَين مع اختلاف العبارتين في اللفظ والمعنى، مثال ذلك «مسألة صعبة» و«مدينة كبيرة».
فالعلاقة التي تربط جزأَيْ كلٍّ من العبارتَين، هي علاقة صفة بموصوف، ولو رمزنا في كلتا العبارتين بالرمز «س» للشيء الموصوف كائنًا ما كان، وبالرمز «ص» للصفة كائنة ما كانت، استطعنا أن نرمز لكلٍّ من العبارتين السابقتين بالصورة الرمزية ص (س) [ومعناها ص تصف س] ومن ثَم يتبيَّن كيف يتحدان في الصورة رغم اختلافهما في اللفظ والمعنى.
فهما مختلفتان لفظًا ومعنًى، لكنهما متحدتان في الصورة لاتحادهما في العلاقات الكائنة بين أجزائهما؛ ولو استبدلنا بأسماء الأشياء رموزًا في العبارة الأولى، مع احتفاظنا بالعلاقة، وجدنا الصورة متمثلة في الصيغة الرمزية: «س بين ص، ط»، وهي صيغة رمزية تصلح صورة للعبارة الثانية كذلك.
وخُذ مثلًا ثالثًا عبارتين أخريين مختلفتين مادة ومتحدتين في الصورة:
فالصورة في كلتا العبارتين هي: «س إما ص أو ط».
- (١)
أوغندة بلد استوائي، وكل بلد استوائي يمطر طول العام، إذَن فأوغندة ممطرة طول العام.
- (٢)
هكسلي كاتب معاصر، وكلُّ كاتب معاصر يُعنى بقضية السلام، إذَن فهكسلي يُعنى بقضية السلام.
ضع رموزًا مكان الألفاظ في كلتا العبارتين، تخلص لك صورة مشتركة بينهما هي: «س هي ص، وكل ص هي ط، إذَن س هي ط».
وواضح من هذه الأمثلة التي أسلفناها، أننا كلَّمَا أردنا استخراج الصورة من عبارة مُعيَّنة، استبعدنا ألفاظًا واستبقينا أخرى، ومن هذه التي نستبقيها تتألف الصورة؛ ففي عبارة «النيل بين القاهرة والجيزة» — مثلًا — استبعدنا كلمات «النيل» و«القاهرة» و«الجيزة» واستبقينا كلمتَي «بين» و«و» فلما أن وضعنا رموزًا بدل الكلمات المبعدة نتجت لنا الصورة الآتية: «س» بين «ص» و«ط».
والفرق بين هذين النوعين من الألفاظ هو هذا: فأما الكلمات المُستبعَدة فأسماء تسمى أشياءً في عالَم الواقع، ولذلك فهي تُسمى بالكلمات الشيئية، وأما الكلمات الأخرى التي منها تتكوَّن صورة العبارة فهي لا تسمي شيئًا في عالَم الواقع؛ إذ ليس في عالَم الأشياء شيء اسمه «بين» أو شيء اسمه «و»؛ وإنما نضيف أمثال هذه الكلمات لنربط بها الأسماء الشيئية في بناء واحد، ولذلك جاز لنا أن نسميها بالكلمات البنائية، أو بالكلمات المنطقية؛ إذ على الرغم من أنها لا تدلُّ على شيء في عالم الواقع، إلا أنه يستحيل علينا بناء فكرة بغيرها؛ ولئنْ كانت الألفاظ الشيئية من شأن العلوم الأخرى، فالكلمات البنائية هي على وجه التحديد موضوع المنطق، فهو وحده الذي يحلِّل أمثال هذه الكلمات «إذا» و«إما … أو …» و«كل» و«بعض» و«ليس» … إلخ، وكلها — كما ترى — كلمات يستحيل الاستغناء عنها في صياغة كلامنا — أي في تكوين أفكارنا — مع أنها بذاتها لا تدل على مسميات بعينها في عالم الأشياء.
فإذا قلنا إن المنطق يبحث في صورة الفكر، أردنا بذلك أنه يستخلص العلاقات التي تربط أجزاء الكلام؛ ثم يصنف تلك العلاقات ليميز فيها بين المتشابه والمتباين، ومن ثَم قيل عن المنطق إنه علم صوري؛ أي إنه يُعنى بصورة الكلام دون مادته ومعناه.
نقول إن الصورية يشترك فيها المنطق وسائر العلوم، ولكن بدرجات؛ فكلما ازداد العلم تعميمًا في أحكامه، ازداد صورية، فالرياضة أكثر صورية من علم الطبيعة لأنها أكثر منه تعميمًا، أعني أن القوانين الرياضية تنطبق على علم الطبيعة كما تنطبق على غيره من العلوم؛ والمنطق أكثر صورية من الرياضة، لأنه أعم منها؛ إذ الرياضة نفسها قائمة على أُسُس منطقية.
(٣) معنى كلمة «الفكر»
قُلنا إن المنطق يبحث في صورة الفكر، وشرحنا «الصورة» بقولنا إنها العلاقات الكائنة بين أجزاء الكلام، فماذا نريد بكلمة «الفكر»؟ نريد به الصيغ اللفظية (بما في ذلك الرموز الرياضية وما إليها) ولا شيء غير ذلك.
عملية التفكير إنْ هي إلا رموز نستخدمها، كألفاظ اللغة أو كرموز الرياضة، ونركِّبها في صور شتى، و«فهمنا» لعبارة لفظية أو رمزية، معناه إمكاننا أن نضع العبارة في عبارة تساويها … والتفكير «الصامت» هو كذلك ألفاظ تجري في تركيبات معيَّنة، وإن تكُن الألفاظ في هذه الحالة غير مسموعة إلا لصاحبها؛ لأن الحركات التي تحدثها أضعف من أن تُحرِّك اللسان والشفتين في صوت مسموع للآخرين.
قد يُقال: لكن هنالك من التركيبات اللفظية ما فيه تفكير، ومنها ما ليس فيه شيء من ذلك، وإلا فأين يكون الفرق بين هاتين العبارتين مثلًا؟
-
(١)
المنطق يبحث في صورة الفكر.
-
(٢)
صورة في يبحث الفكر المنطق.
ألا نرى أن العبارة الأولى دالة على شيء، بخلاف العبارة الثانية؟ فإن كان الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر ولا أقل، فما الفرق بين العبارة الأولى والعبارة الثانية؟
الفرق بينهما هو أن العبارة الأولى يمكن ترجمتها إلى عبارة ثانية تساويها، إما في اللغة نفسها أو في لغة أخرى، لأن لها صورة أو هيكلًا، ويمكن الاحتفاظ بالصورة وتغيير الألفاظ بسواها، وأما العبارة الثانية فلا يمكن فيها ذلك.
وفرق آخَر بين العبارتين، هو أن الأولى يمكن أن نستدل منها عبارة أخرى، فأقول مثلًا: إذا كان المنطق هو صورة الفكر، فالشيء الذي لا يكون صوريًّا لا يكون جزءًا من المنطق، وأما العبارة الثانية فلا يمكن أن نستدل منها شيئًا.
فلك — إذا شئت — أن تقول إن الفكر هو الصيغ اللفظية أو الرمزية مشروطة بشروط، منها إمكان وضع الصيغة في صيغة أخرى تُساويها، ومنها إمكان استدلال صيغة أخرى تلزم عنها، وما لا تتوافر فيه هذه الشروط من تركيبات اللفظ والرمز، يكون صوتًا غير دال على شيء، أو ترقيمًا غير ذي معنًى، ولا يكون فكرًا.
ونعود الآن إلى تعريفنا للمنطق بأنه صورة الفكر، فنقول: إنه ما دامت «الصورة» هي هيكل العلاقات بعد تفريغه من مادة المتعلقات، وما دام «الفكر» هو العبارات اللفظية (أو الرمزية) التي تتوافر فيها شروط مُعيَّنة، فقد بات واضحًا أن مبحث المنطق هو دراسة العلاقات الكائنة بين أجزاء الكلام المفهوم، أو بعبارة أخرى: هو دراسة العلاقات الكائنة بين القضايا أو بين أجزاء القضية الواحدة، على اعتبار أن «القضية» هي وحدة الكلام المفهوم كما سيجيء ذكره في موضعه.
كذلك يقول «كانت»:
فهذه وغيرها من تعريفات للمنطق، تؤيدنا في وجهة النظر التي بسطناها في تحديد موضوع الدراسة.