الفصل الثاني

رموز اللغة

(١) طبيعة الكلمات

الكلمات أحداث طبيعية كأي أحداث أخرى مما يقع في عالم الحس؛ فالكلمة المسموعة هي صوت كأي صوت آخَر، والكلمة المكتوبة هي قطرة من مداد أو من غير المداد من المواد التي قد تكون الكلمة مكتوبة بها؛ الكلمة — مسموعة أو مرئية — حَدَث يحدث في الطبيعة كأي حدث آخَر. وتكون وسيلة إدراكها هي الحواس التي هي نفسها وسيلة إدراك سائر أحداث الطبيعة، فليس للكلمة المعينة «سر» إلا ما يضيفه إليها الإنسان بإنفاقه واختياره.

على أن الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة «واحدة» إلا على سبيل التجوز؛ فكلمة «قلم» — مثلًا — وهي منطوقة إنما تخرج من فم المتكلم موجات من هواء، وعندئذٍ تكون كأي موجات هوائية أخرى، كائنًا فيزيقيًّا تقاس طول موجاته ويوزن الهواء المكون له، ويحلل إلى عناصره الذي هو مركب منها وهكذا، ثم تطرُق الكلمة أذن سامعها وعندئذٍ تتحوَّل إلى كائن آخَر ذي طبيعة أخرى، لأنها عندئذٍ ستكون اهتزازًا — لا في الهواء الخارجي — بل في أسلاك العصب وذرات المخ؛ إنها عندئذٍ فقط تكون «صوتًا» لأن الهواء الخارجي لا يكون له صوت حتى ينتقل إلى حركة في الأعصاب وخلايا المخ؛ فالكلمة باعتبارها صوتًا مسموعًا في الحقيقة حَدَث كغيره من الأحداث التي تطرأ على أجهزة الجسم؛ وبالتالي فهي إن اتخذت موضوعًا للبحث كانت من شأن علماء وظائف الأعضاء؛ والمهم هنا هو أن نشير إلى الفارق الكبير من حيث طبيعة التكون بين الكلمة وهي «منطوقة»، وبينها وهي «مسموعة»؛ فالحوادث الفيزيقية التي تحدث في العالم الطبيعي حين ينطق الناطق بكلمة «قلم» ليست هي بذاتها الحوادث الفسيولوجية التي تحدث في الجهاز العصبي حين يسمع السامع صوت هذه الكلمة.

أما إذا كتبتَ على الورقة كلمة «قلم» كنتَ في مجال آخَر مختلف عن المجالين السابقين كل الاختلاف، لأنك عندئذٍ تكون بصدد علامة من المداد؛ وليست ذرات المداد المتجمعة على الورق في كلمة «قلم» شبيهة أدنى شبه باهتزاز الهواء في حالة نطق الكلمة أو بحركة الأعصاب في حالة سمعها، وإذَن فاللفظة «المكتوبة» نوع من الحوادث الفيزيقية يقع في عالم الطبيعة كأشباهه من الحوادث التي تنتج عن تجمعات للذرات المادية في هذا الجسم أو ذاك؛ فإذا وقعت عليها عين الرائي بحيث أصبحت «مقروءة» نشأت مجموعة أخرى من الحوادث في الجهاز العصبي وذرات المخ، بادئة هذه المرة من العين؛ فللكلمة «الواحدة» — إذَن — أربع صور، وكل صورة منها مؤلفة من مجموعة معيَّنة من حوادث الطبيعة أو الجهاز العصبي، على أن هذه المجموعات الأربع تختلف إحداها عن الأخرى اختلافًا بعيدًا، بحيث لا يمكن أن يُقال عن إحداها إنها هي نفسها الأخرى إلا على سبيل التجوُّز وبمقتضى اتفاق خاص بين مَن يستخدمون هذه الرموز في التفاهُم؛ وإلا فهل تحتم البداهة أن يكون الهواء المتموِّج عند نطق كلمة «قلم» مقابلًا لقطرة المداد التي أخط بها على الورق كلمة «قلم» بهذه الصورة المعيَّنة؟ ولكن التلازم الشديد المطرد بين «نطق» الكلمة و«كتابتها» أو بين «سمعها» و«رؤيتها» قمين أن يخدعنا عن حقيقة الموقف بحيث نحسب أنها شيء واحد بعينه لا يتغير، فهو هو الكلمة الفلانية المعينة سواء جاءت نطقًا أو ترقيمًا على الورق، سمعًا بالأذن أو رؤيةً بالعين.

قارن بين الكلمة، «الواحدة» في حالتي النطق بها وكتابتها، تجدها في الحالة الأولى مجموعة من حوادث (اهتزازات في الهواء) تتعاقب على فترة معيَّنة من الزمن، بحيث إذا حدث آخر جزء من الكلمة كان أولها حدثًا ماضيًا، وأما الكلمة في حالة الكتابة فهي مجموعة من ذرَّات مادية تجمعت في حيِّز معيَّن من المكان؛ فلئن كان «الزمن» جانبًا هامًّا في الكلمة المنطوقة «فالمكان» جانب هام في الكلمة المكتوبة؛ الكلمة المنطوقة لا تكون أبدًا قائمة معًا في لحظة واحدة، وأما الكلمة المكتوبة فتكون كلها قائمة معًا في حيز مكاني واحد؛ العلاقة الكائنة بين أجزاء الكلمة المنطوقة، هي علاقتا «قبل» و«بعد» فتقول عن حَدَث من حوادثها إنه يقع في «الزمن» قبل حدث آخر أو بعده، وأما في الكلمة المكتوبة فالعلاقات بين أجزائها مكانية، فتقول عن جزء إنه «على يمين» جزء آخَر أو «على يساره» أو «فوقه» أو «تحته»، أرأيت، إذَن، أن الكلمة المنطوقة كائن طبيعي يختلف عن الكلمة المكتوبة التي هي أيضًا كائن طبيعي؟

وأمضي في المقارنة بينهما ليزداد الفرق وضوحًا؛ إذ يزداد اتساعًا؛ فقد كانت الكلمة المكتوبة (إلى ما قبل التسجيل الصوتي) أبقى وأدوَم وأوسَع انتشارًا من الكلمة المنطوقة؛ لأن الأولى حالة في حيِّز من مكان على قطعة من الورق مثلًا، فستبقى ما بقيت هذه القطعة من الورق، ثم ستتسع نطاقًا كلما انتقلت قطعة الورق من مكان إلى مكان؛ وأما الكلمة المنطوقة فمحدودة الزمن لأنها تزول بزوال فترة نطقها، ومحدودة الانتشار لأنها مقيَّدة بقدرة الأذن على السمع؛ ولكن جاء التسجيل الصوتي — وهو في الحقيقة ضرب من الكتابة بوجه من وجوهها، لأنه تخطيط على شريط — فقدت الكلمة المكتوبة شيئًا من أهميتها بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة؛ إذ يمكن للكلمة المنطوقة الآن أن تسمع في أرجاء العالم كله دفعة واحدة، وأن تبقى مسجلة على شريطها أمدًا طويلًا؛ ومَن يدري؟ فلعل يومًا يجيء حيث تسجل الوثائق والمعاهدات على أشرطة وأسطوانات، وتكون التوقيعات فيها صوتية فينطق كل متعاقد باسمه، وربما جاء وقت قريب يسجل فيه المؤلف أفكاره لا بالكتابة على الورق، بل بالنطق أمام جهاز التسجيل الصوتي … إننا نقول هذا كله للتفرقة بين الكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة، ويمكن أن نقول شيئًا كهذا للتفرقة بين مجموعة الحوادث التي تكون الكلمة وهي مسموعة وبينها وهي مقروءة، نقول هذا كله لننتهي بالقارئ إلى التفرقة الواضحة بين الكلمة «الواحدة» في صورها المختلفة ليعلم أنها ليست في الحقيقة «واحدة».١

على أن هذه الوحدانية المزعومة للكلمة «الواحدة» تَمَّحي حتى في كل صورة على حدة من الصور الأربع التي ذكرناها؛ أعني أننا لو أمعنَّا النظر في الكلمة وهي منطوقة فحسب، وجدناها أبعد ما تكون عن «الكلمة الواحدة»؛ وخُذ مرَّة أخرى كلمة «قلم» — مثلًا — فأولًا ليست هي حدثًا واحدًا بسيطًا يعز على التحليل الطبيعي إلى ما هو أبسط منه، بل النطق بهذه الكلمة مرة واحدة هو في الحقيقة مجموعة من حركات يهتز بها اللسان والحلق والأحبال الصوتية، هي مجموعة من حركات متتابعة كما تكون القفزة — مثلًا — مجموعة من حركات، وكما يكون المشي مجموعة من حركات، والأكل مجموعة من حركات، وهكذا.

هذا والكلمة منطوقة مرة واحدة، ولكن الإنسان الواحد ينطق بها مرات عدة، دع عنك الحالات التي لا تُحصى حين ينطق بها سائر الأفراد؛ أتقول مثلًا إن هناك في عالم الحوادث قفزة واحدة، أو مشية واحدة، أو أكلة واحدة، ما دامت مجموعات الحوادث التي تتكون منها كل قفزة أو كل مشية أو كل أكلة، شبيهة بمجموعات الحوادث التي تتكون منها سائر القفزات والمشيات والأكلات؟ إنني أجمع حالات القفز كلها في كلمة واحدة على سبيل التجوز والتيسير، وإلا فلكل حالة فردية من حالات القفز مجموعة من الحركات قائمة بذاتها، قد تختلف، بل لا بد أن تختلف قليلًا أو كثيرًا عن حالات القفز الأخرى؛ قُل هذا في كل فعل، بما في ذلك الأفعال التي هي حالات النطق بكلمة معيَّنة، كالنطق بكلمة «قلم»، فها هنا أيضًا تكون كل حالة من حالات النطق مجموعة حركية قائمة بذاتها، قد تختلف، بل لا بد أن تختلف قليلًا أو كثيرًا عن حالات النطق بها في لحظات أخرى؛ فنحن إذ نقول إن الكلمة المنطوقة «قلم» كلمة «واحدة» فإنما نعني في الحقيقة أنها أسرة كبيرة من أفراد متشابهة، فوحدانيتها أمر اتفاقي نُراعي فيه تيسير التفاهم والتعامل، ولا نُراعي فيه دقة التحليل.

وكما أن اللفظة الواحدة «قلم» هي في الحقيقة ملايين الحالات من اللفظ المنطوق التي ليست هي بالبداهة متطابقة تطابقًا ذاتيًّا، بل هي متشابهة تشابهًا أجاز لنا أن نقول عنها بأنها لفظة «واحدة»، فكذلك قُل في الحالات الثلاثة الأخرى للكلمة، أعني حالات «سمعها» و«كتابتها» و«قراءتها»؛ إذ إنها في كل واحدة من هذه الحالات الثلاث ليست «واحدة» بل هي ملايين الصور التي تتشابه، فأنت تسمع كلمة «قلم» سمعًا يختلف كل مرة باختلاف طريقة نطقها، ومع ذلك نراك تتجاهل الفوارق بين هذه المسموعات المختلفة، تتجاهل الفوارق لأن أوجُه الشبه أقوى من أوجُه الاختلاف. وتُعد هذه المسموعات الكثيرة المختلفة كأنما هي حالة سمعية واحدة، وهي ما تسميه لفظة «قلم»، وقُل هذا بعينه في حالتَي الكتابة والقراءة، فملايين الناس يكتبون كلمة «قلم» على صور تُعد بالملايين، لاختلاف الناس في طريقة الكتابة حتى في اللغة الواحدة، اختلافًا يمكِّن الخبراء من معرفة الكاتب بطريقة كتابته كما يعرفونه بملامح وجهه وبصمات أصابعه؛ ولكن أوجُه الشبه بين هذه الصور الكثيرة لكتابة الكلمة أقوى من أوجه الاختلاف، ولذلك نعد هذه الصور كلها وكأنها هي صورة واحدة لكلمة واحدة.

إذا كان الذي بين أيدينا هو مجموعتان من الأشياء — وإن شئتَ دقة في التعبير فقُل: إن بين أيدينا مجموعتين من الأحداث — فمجموعة منها هي الصور والحالات التي تكون عليها الكلمة، ككلمة «قلم» مثلًا، ومجموعة أخرى هي أفراد الأقلام؛ ثم إذا كنا قد جعلنا المجموعة الأولى دالة على المجموعة الثانية، فلنا الآن أن نسأل: ما الذي يبرِّر لحدث من أحداث الطبيعة أن يكون «اسمًا» ولحدث آخَر أن يكون مُسمًّى؟

الجواب هو: الاتفاق الصرف، فليس في أية لفظة في الدنيا سر خفي يحتم أن تدل على ما تدل عليه، اللهم إلا ما قد تواضع عليه الناس من أن يكون «صوتٌ» معيَّن دالًّا على شيء معيَّن، أو أن تكون صورة مدادية معيَّنة دالة على شيء معين؛ فاللفظة المنطوقة هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخَر، هي صوت كما أن حفيف الشجر صوت، وزمجرة الهواء على صخور الجبل صوت، وخرير الماء أو هديره صوت، وقرقعة الرعد صوت، وهكذا؛ هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخَر مما يخرج من حنجرة الإنسان، كصرخة الصاروخ وقهقهة الضاحك؛ فما الذي يميِّزها من سائر الأصوات؛ بحيث تصبح — دونها — لفظًا ذا مدلول؟ الجواب هو: الاتفاق الصرف ولا شيء غير ذلك، وللناس أن يغيروا من اتفاقهم كيفما شاءوا، وفي أي وقت شاءوا؛ إنه لا فرق بين أن يتفقوا على أن تكون كلمة «أحمر» دالة على اللون الذي نطلق عليه هذه التسمية، وبين أن يتفقوا على أن يكون النور الأحمر في علامات المرور دالًّا على وجوب الوقوف عن السير؛ في كلتا الحالتين كان يمكن أن يتغيَّر الاتفاق، لأنه في كلتا الحالتين ليس في طبيعة «الرمز» شيء يحتم أن يكون دالًّا على ما اتفق الناس أن يدل عليه.

وجدير بنا في هذا الوَضع أن نفرق بين «العلامة الطبيعية» و«الرمز الاتفاقي» فإذا كان البرق علامة طبيعية تدلُّ على أن صوت الرعد وشيك الوقوع في الأسماع؛ أو كان شحوب الوجه علامة طبيعية على المرض وهكذا، فإن أمثال هذه العلامات الطبيعية ليست من صناعة الإنسان ولا رهن اتفاقه؛ بل إن العلامة ودلالاتها كليهما من الحوادث الطبيعية المقترنة سواء أراد لها الإنسان أن تقترن أو لم يُرِد؛ وأما «الرمز الاتفاقي» فغير ذلك، فالناس هم الذين اتفقوا على أن يكون الثوب الأسود رمزًا للحِداد، وأن يكون الأبيض رمزًا للنقاء، وأن يكون صوت جرس معيَّن رمزًا لعربة الإسعاف، وصوت جرس آخَر رمزًا لقيام القطار؛ كل هذه رموز اتفاقية لم يكُن هنالك في طبائع الأشياء ما يحتم أن نجعلها دالة على ما هي دالة عليه، ولا يمنع أن نستبدل بها رموزًا أخرى تدلُّ على ما هي دالة عليه، وكلمات اللغة هي من قبيل الرموز الاتفاقية في دلالتها، وليست من قبيل العلامات الطبيعية.

يقول الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»: إن الكلمة المفردة في دلالتها على معناها ليست من إملاء العقل، بل هي محض اتفاق «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدِّي إلى فساد».٢ وليس هنالك «صواب» أو «خطأ» في دلالة الكلمة على مسماها الذي اتفق الناس على أن تدلَّ عليه؛ وإنما يبدأ الصواب أو الخطأ في استعمال الناس لهذه الكلمة بعد أن تم بينهم الاتفاق على استعمالها، فإذا كنا قد اتفقنا على أن يكون لفظ «قلم» دالًّا على هذه الأداة المعيَّنة التي نكتب بها، أصبح من الخطأ أن نستخدم هذه اللفظة لغير ما وُضِعَت له، إلا إذا نبهنا السامع أو القارئ للتغيير الذي أحدثناه في معناها.

(٢) الحدود المنطقية

العالم من ناحية، وفكر الإنسان عن العالم من ناحية أخرى، يمكن تحليلهما إلى المقومات البسيطة التي يتكوَّن منها كلٌّ منهما؛ حتى إذا ما تم لنا هذا التحليل، وكان لدينا مجموعة المفردات التي يتألف منها — في رأينا — عالَم الأشياء من جهة، وعالَم الفكر من جهة أخرى، كان لدينا بذلك ما نسميه «بالحدود»، فالحد هو الكائن الواحد المفرد، الذي نطلق عليه كلمة تسمية، فيصبح صالحًا أن يَرِد في جملة وأن يكون مدارًا للتفكير؛ فالفرد الواحد من الناس، واللحظة الواحدة من الزمن، والنقطة الواحدة من المكان، والعدد الواحد من الأعداد، والفئة الواحدة من الفئات، والعلاقة الواحدة من العلاقات، وأي مفرد واحد شئت من مفردات الموضوع الذي تتحدَّث فيه، يكون «حدًّا»؛ وكلمات اللغة إنما أطلقناها على هذه الحدود ليمكن التفاهم بين الناس، فأصبحت هذه الكلمات التي تقابل مفردات العالَم، هي «الحدود» المنطقية؛ أي إنها هي المفردات في عالَم الكلام، التي تقابل المفردات في عالم الأشياء والتصورات.٣

ولئنْ كان علم النحو يقسِّم الكلمات إلى أسماء وأفعال وحروف، فللمنطق تقسيم آخَر؛ إذ يجعلها إما كلمات تُسمَّى مفردات، وهذه هي أسماء الأعلام، أو كلمات تُسمَّى أفكارًا، وهذه هي بقية ألفاظ اللغة، لأن هذه الألفاظ كلها إنما ترتدُّ إلى أداء مهمة منطقية واحدة، وهي أن تشير إلى نوع العلاقات القائمة بين «الأعلام»، أي بين المفردات؛ لا فرق في ذلك بين فعل وحرف وصفة؛ فإذا فرضنا أن المفردات هي أ، ب، ج، ثم أردت التحدث عنها، فقد تقول عن «أ» إنها على يمين «ب»، أو إن «أ» قتل «ب»، أو إن «أ» و«ج» متشابهان في كذا، أو مختلفان في كيت؛ وكل هذه أقوال تحدِّد علاقات بين المفردات المذكورة؛ فالفكرة كائنة ما كانت، تنحلُّ آخِر الأمر إلى «حدود» — أي إلى «أطراف» — وما بينها من علاقات.

(٣) أسماء الأعلام

تكون الكلمة رمزًا كاملًا حين يكون الشيء المرموز إليه بها محددًا معلومًا، ذا مكان وزمان مُحدَّدَين مُعيَّنَين، وتكون رمزًا ناقصًا حين لا يكون الشيء المرموز إليه بها محددًا معلومًا على هذا النحو؛ فكلمة «هذا» رمز كامل، لأن استخدامها على الوجه الصحيح لا يتم إلا إذا عرف المُخاطَبُ إلى أي شيء يُشير المتكلم حين يقول «هذا»؛ وكلمة «إنسان» رمز ناقص، لأن المُخاطَب لا يعرف بها وحدها إلى أي فرد من أفراد الناس يُشير المتكلم.

وأول ما يَرِد إلى الذهن مثلًا للرموز الكاملة هو أسماء الأعلام، أي الأسماء التي نُطلقها على هذا الفرد من الناس أو ذاك، على هذا النهر أو ذاك، وهكذا، كاسم «العقاد» يميز فردًا من الناس دون سائرهم، واسم «النيل» يميِّز نهرًا مُعيَّنًا، واسم «المقطم» واسم «القاهرة» إلى آخِر هذه الأسماء الجزئية الفردية التي يُقال إنها تشير بكل واحد منها إلى فرد واحد.

لكن نظرة تحليلية سرعان ما تبين لنا أن ما قد ظنناه «فردًا» ليس هو في الحقيقة إلا سلسلة طويلة من حالات جزئية، فليس «العقاد» فردًا بمعنى أنه حالة واحدة معيَّنة كانت بالأمس هي نفسها ما هي عليه اليوم، وما ستكون عليه غدًا، فلقد كان «العقاد» طفلًا فشابًّا فرجلًا، وكان آنًا مريضًا، وآنًا صحيح البدن، كان آنًا في السجن، وآنًا طليقًا، هو الآن سائر في الطريق وكان منذ لحظة جالسًا يقرأ، وسيكون بعد حين ممسكًا بقلمه يكتب … هي سلسلة من حالات لا ينتهي عددُها إلى حدٍّ معلوم؛ وكذلك قُل في «النيل» الذي ظنناه شيئًا واحدًا من أشياء العالم؛ إنه يغير من مائه في كل لحظة، بل في كل معشار من اللحظة الواحدة، إن ماءه متدفِّق فلا يكون الماء الآن في هذه النقطة المكانية من مجراه هو نفسه الماء الذي كان فيها منذ لحظة، ولن يكون هو الماء الذي سيكون فيها بعد لحظة، وما أصدق الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطس حين أشار إلى هذه الحقيقة المتغيرة بقوله إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين، مشيرًا بذلك إلى أن واضع قدمه في الماء إذا ما رفعها ثم غمسها مرَّة أخرى لقيت قدمه في هذه المرة الثانية ماءً جديدًا، كأنما هو بالنسبة إليها نهر جديد.

وإذا كان ذلك كذلك، فما تسميتنا ألوف الألوف من الحالات المتعاقبة باسم واحد، فنقول «العقاد» أو «النيل» كأنما نحن مُشيرون بكل اسم منها إلى حالة واحدة من حالات هذا العالم الزاخر؟ إننا لو أردنا مجموعة رمزية كاملة لنشير بها إلى حالات العالم واحدة واحدة، لجعلنا لكل حالة من سلسلة الحالات التي تُكوِّن «العقاد»، ولكل حالة من سلسلة الحالات التي تُكوِّن «النيل» اسمًا خاصًّا، وعندئذٍ فقط يكون لكل اسم مسمَّاه الجزئي الواحد، فلا تزدوج المسميات ولا تتعدَّد للاسم الواحد؛ وشيء كهذا هو ما يصنعه الجغرافيون حين يريدون تحديد نقطة مُعيَّنة من الأرض، إنهم لا يقولون «القاهرة» — مثلًا — لأن القاهرة مسطَّح كبير من الأرض، وإنما يقولون الْتِقاء خط طول ٣٢ بخط عرض ٣٠؛ لكننا إن استطعنا من الوجهة النظرية المنطقية وحدها أن نتصوَّر لكل حالة جزئية في هذا العالم رمزًا لغويًّا يُشير إليها دون سواها، بحيث لا يشير الرمز الواحد إلى أكثر من حالة جزئية واحدة في الشيء الواحد، وبحيث لا يكون هناك رمزان لغويان مُشيران كلاهما إلى حالة جزئية واحدة، أقول إننا لو تصوَّرنا إمكان ذلك من الوجهة النظرية المنطقية، فإن إجراءه من الناحية العملية متعذِّر أو مستحيل؛ ولذلك اكتفينا بأن نُطلِق اسمًا معيَّنًا كاسم «النيل» — مثلًا — على مجموعة من الحالات الجزئية والحوادث الفردية قد يكون بينها ما يبرِّر لنا أننا على استعداد دائمًا إذا ما طُلب إلينا أن نشير إلى المسمى الذي أطلقنا عليه اسمًا نجمعها معًا في حزمة واحدة لنطلق عليها اسمًا واحدًا؛ ومع ذلك فينبغي أن نكون على استعداد دائمًا إذا ما طُلب إلينا أن نشير إلى المسمَّى الذي أطلقنا عليه اسمًا مُعيَّنًا ﮐ «العقاد» أو «النيل» أو «المقطم» أو «القاهرة»، أن نجد الحالة الجزئية التي نشير إليها قائلين «هذا»؛ فليطلب مني مَن شاء أن أعيِّن له الشيء الذي أسميتُه «النيل»، وسأصطحبه إلى مكان مُعيَّن من نهر مُعيَّن؛ حيث سأكون وإياه إزاء إحدى حالات ذلك النهر، وعندئذٍ سأشير إليه بإصبعي قائلًا: «هذا»، فيعلم السائل أن لاسم «النيل» مُسمًّى، وأنه لذلك رمز كامل على سبيل التجوُّز المقبول؛ إذ إن الرمز الكامل هنا هو كلمة «هذا»، لأن هذه الكلمة هي وحدها التي تحدِّد الشيء المُشار إليه، ولا عجب أن جعله «رسل» اسم عَلَم بالمعنى الدقيق لاسم العَلَم؛ لأنه يستحيل عليك أن تستخدم اسم الإشارة «هذا» استخدامًا يؤدي إلى غرضه دون أن يكون هنالك الشيء الذي تُشير إليه به.

ويقترح «كارناب»٤ الاستغناء منطقيًّا عن اسم العَلَم حتى نخلص من غموض معناه، والاستعاضة عنه بما هو أدَقُّ منه في تحديد اللحظة الجزئية الواحدة التي تريد الإشارة إليها من سلسلة الحالات التي قد تضمها جميعًا تحت اسم العَلَم، وذلك بتحديدها على نحوٍ ما، محدَّد المكان بتلاقي خطِّ طوله وخطِّ عرضه دون حاجة منا إلى ذكر اسمه، فيمكنك أن تستغني عن اسم العَلَم «جرينتش» بقولك: نقطة تلاقي خط طول صفر بخط عرض ٥٢؛ «إن طريقة التعيين بأسماء الأعلام طريقة بدائية، وفي المرحلة المتقدمة من مراحل العلم، يكون التعيين بواسطة تحديد المكان»، وعلى هذا الأساس يمكنك أن تتصور «العقاد» سلسلة من حادثات وحالات، لكلٍّ منها مكان معيَّن وزمان معيَّن، وبدل أن تستعمل اسم «العقاد» لتشير إلى حالة واحدة منها، تشير إلى النقطة الزمانية المكانية المرادة من حياته على وجه التحديد، وبذلك تتحوَّل عبارة مثل: «كان العقاد في الخرطوم سنة ١٩٤١م» إلى نقطة تلاقي خطين: م، ن، على اعتبار أن «م» ترمز إلى خط حوادث «العقاد» و«ن» ترمز إلى «خط حوادث الخرطوم.»٥

فرأى «رسل» رأيًا في أسماء الأعلام، يعدل به رأي «كارناب» وهو أنه لا بد من الاحتفاظ باسمين على الأقل من أسماء الأعلام هما: «هذا» و«الآن»، الأول يُشير إلى نقطة معيَّنة من المكان، والثاني يشير إلى لحظة معيَّنة من الزمان، وهو يعتبرهما اسمَي عَلم بمعناه الحقيقي الدقيق، لأن طريقة «كارناب» في تقاطُع الإحداثيات لا تكفي وحدها؛ إذ لا بد من نقطة معيَّنة معروفة يبدأ عندها خط الحوادث، كما هي الحال في خطوط الطول وخطوط العرض التي يستشهد بها «كارناب»، فهي لا تُفهَم بغير معرفة مكان الصفر في خطوط الطول، ومكان الصفر في خطوط العرض، وهما خط جرينتش وخط الاستواء، أما إذا أردت الاستغناء عن اسم «جرينتش» بقولك: تقاطع خط طول صفر مع خط عرض ٥٢، فأنت مطالب بتحديد مكان الصفر، وإذَن فلا مفر من الإشارة إلى مكان ما، بقولك «هذا»، وهو اسم عَلم.

فلا مناص لنا من اسمَي علم — على الأقل — محدَّد بهما البدايات التي تبدأ منها المحاور الإحداثية التي نحدِّد بتقاطعها الحالات الجزئية المراد تحديدها، فإن كان المحور مكانيًّا استخدمنا لتحديد بدايته كلمة «هذا»، وإنْ كان محورًا زمانيًّا استخدمنا لتحديد بدايته كلمة «الآن».

ومع ذلك كله، فحتى إذا عَدَدْنا أسماء الأعلام — «كالعقاد» و«النيل» وما إليهما — رموزًا كاملة على سبيل التجوُّز، فهذه الأسماء نفسها قلة قليلة بالنسبة إلى سائر الرموز اللغوية التي يستخدمها الناس فيما بينهم من تفاهُم واتصال، لأن الكثرة الغالبة من هذه الرموز هي ما يطلق عليه رجال المنطق «الكلمات العامة» أو «الأسماء الكلية»، مثل «إنسان» و«نهر» و«جبل» و«مدينة» … إلخ، وسنحلِّل لك فيما يلي هذه الكلمات وأمثالها لنُبيِّن أنها رموز ناقصة.

(٤) الأسماء الكلية

الاسم الكلي أو الكلمة العامة التي نُطلقها لا لتدل على فرد بعينه، بل لتدل على مجموعة من الأفراد تجمع بينها صفات مشتركة، هي في الحقيقة جملة بأسرها ضغطت في كلمة واحدة، ولو حلَّلنا مكنونها وأخرجناه لكان لنا بذلك عبارة وصفية مجهولة الموصوف، وقد يكون هذا الموصوف الذي تشير إليه العبارة الوصفية المضغوطة في الاسم الكلي ذا وجود فعلي، وقد لا يكون له وجود؛ فكلمة «إنسان» — مثلًا — تحليلها هو أن فردًا ما غير متعين صفاته هي كذا وكذا وكيت، مما يجعل الإنسان إنسانًا؛ لكن مَن هو هذا الفرد؟ الجواب هو: أي فرد تلقاه مما يوصف بهذه الصفات؛ ولكن ماذا لو بحثتُ عن فرد يحقِّق هذه الصفات فلم أجد، كما هي الحال في اسم مثل «عفريت» أو «جبل من الذهب»؟ الجواب هو: إذا بحثت عن فرد يحقِّق الصفات المقصودة من الاسم الكلي فلم تجد، ظلَّت الكلمة دالة على مجموعة من الصفات لا تجد ما يلبسها من أفراد العالم الخارجي؛ أي إنها تظلُّ كالقالب الفارغ الذي لا يجد المادة المتعينة التي تملؤه؛ وإذَن فالاسم الكلي — كما قلنا — هو عبارة وصفية مجهولة الموصوف، فكأننا نقول إذ نقول اسمًا كليًّا: «س» يتصف بكذا وكذا من الصفات، دون أن يقتضي ذلك وجود «س»، وهذا هو معنى قولنا إن الاسم الكلي في الحقيقة رمز ناقص لا يدل بذاته على وجود الفرد الذي يحقِّق مجموعة الصفات التي يدل عليها ذلك الاسم.

فالاسم الكلي العام شأنه في دلالته شأن العبارة الوصفية كائنة ما كانت، وليس شأنه في الدلالة شأن أسماء الأعلام التي يتحدَّد لكل اسم منها مُسمَّاه؛ غير أن العبارات الوصفية نوعان، فمنها ما ليست تنطبق الصفات الواردة فيها إلا على فرد واحد، مثل قولنا: «أول الخلفاء الراشدين»، ومنها ما تنطبق الصفات الواردة فيها على أي فرد من مجموعة معينة، مثل قولنا: «خليفة المسلمين»، وفي كلتا الحالتين لا تحتم العبارة الوصفية بذاتها أن يكون لها مُسمًّى في عالَم الكائنات الفعلية، بل تدلُّ على تركيبة وصفية قد تجد وقد لا تجد المُسمى الذي يحقِّقها في الوجود الفعلي.

فالرمز اللغوي — كلمة كان أو عبارة — إن دلَّ على مجموعة من الصفات فهو لا يقتضي بالضرورة أن يكون مُسمَّاه موجودًا وجودًا فعليًّا؛ إذ قد يكون هنالك المسمى الذي تنطبق عليه تلك الصفات، وقد لا يكون؛ فقل — مثلًا — «حصان أبيض ذو ذيل أصفر وغُرَّة سوداء» يكن لك بذلك بناء وصفي، لكن هذا البناء الوصفي لا يقتضي بالضرورة أن يكون الكائن الموصوف موجودًا بالفعل أو غير موجود؛ فالحواس وحدها هي التي تدلُّني إنْ كان لمثل هذا الكائن وجود بين الكائنات أو لم يكُن.

والأمر شبيه بذلك في أي اسم يكون مدلوله مجموعة من الصفات، فعندئذٍ تجد مَن يثبت وجود المسمى، وقد تجد مَن ينكر؛ فكم من الباحثين في تاريخ الأدب مَن يقرر أن اسم «هومر» لا يُسمِّي أحدًا بذاته، وكم منهم مَن يقرِّر أنه يسمي؟ ذلك لأن «هومر» — وإن يكُن اسمًا على هيئة أسماء الأعلام — إلا أنه في الحقيقة دال على مجموعة وصفية، منها مثلًا إنشاء الإلياذة، ومنها التجوال في القرى، وهكذا، ولكن السؤال لا يزال قائمًا: أتكون هذه المجموعة الوصفية قد تجسَّدَت في شخص بعينه هو الذي نُطلق عليه اسم «هومر» أم تكون مجرد بناء وصفي بغير المسمى الواحد الذي تجسَّدَت فيه؟ ولقد قامت في مصر مشكلة من هذا النوع بين دارسي الأدب وتاريخه حول امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية؛ فمنهم مَن ذهب إلى أن امْرَأَ القيس اسم وهمي اختُرِع اختراعًا ليُنسَب إليه ما يُنسَب من الشعر، ومنهم مَن يردُّ هذا الزعم بما ينفيه وما يؤيد الوجود التاريخي الفعلي لامرئ القيس؛ فما معنى هذا فيما نحن الآن بصدده؟ معناه أن مجموعة الصفات التي هي كلُّ ما يُقال عن امرئ القيس، قد يكون لها — منطقيًّا — مَن يلبسها من الأفراد وقد لا يكون؛ ذلك لأن البناء الوصفي في حد ذاته لا يقتضي بالضرورة أن يكون هنالك الفرد الذي يجسده؛ فالبناء الوصفي كالثوب تراه معلقًا، وإما أن يكون للثوب بعد ذلك لابسٌ أو لا يكون.

(٥) المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف

يمكن التمييز بين هذين النوعين من الحدود: ما هو جزئي، وما هو كلي، إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، وهي التفرقة بين نوعَين من أنواع المعرفة الإنسانية «معرفة الشيء عن طريق الاتصال المباشر به، ومعرفة عن الشيء بالوصف»٦ دون لقائه لقاءً مباشرًا؛ وأوضح ما يوضح المعرفة المباشرة، هو أن تُشير إلى الشيء الذي تعرف محدثك به، فتقول — مثلًا — هذا فيل؛ ولذلك يَعتبر «رسل» أن اسم الإشارة إلى موضع معيَّن من المكان، وكلمة «الآن» التي تشير إلى لحظة معيَّنة من الزمان، هما الاسمان الجزئيان بأدق المعاني للكلمة، لأنهما يصلانك بالشيء المُشار إليه — مكانًا كان أو زمانًا — صلة مباشرة وعن غير طريق أوصافه.

وأما المعرفة التي من النوع الثاني، فهي معرفة الشيء عن طريق الوصف؛ بحيث لا تعود بك حاجة أن تراه؛ فبدل أن أصطحب محدثي إلى «فيل» وأشير له إليه بقولي: «هذا»، بغية تعريفه إياه، أصف له ما هو، فيتصوَّر الوصفَ تصورًا؛ بحيث إذا لقي فردًا أو شيئًا توافَرَت فيه الصفات، قال لنفسه: هذا فيل.

ومعظم معلوماتنا عن العالم معرفة بالوصف، ولو قد انحصر علمنا في حدود ما يمكن أن نعرفه معرفة مباشرة بطريق الإشارة والحس المباشر، لضاق محيط علمنا ضيقًا شديدًا؛ ويختلف هذان النوعان من المعرفة في أن المعرفة بالوصف تتفاوت دقَّتُها عند مختلف الأشخاص، فقد تعرف أنت بالوصف عن نهر اﻟﻤﺴﻴﺴﺒﻲ أكثر مما أعرف، لأن الوصف قد جاءك أكثر شمولًا وأوسَع تفصيلًا مما جاءني، وكلما ازداد الإنسان علمًا بتفصيلات الشيء الذي جاءه العلم به عن طريق الوصف، ازداد دقةً في علمه بذلك الشيء؛ أما المعرفة التي تأتي عن طريق الإشارة بالحس المباشر، فلا تتفاوت درجاتها إلا بمقدار تفاوُت الأشخاص في مدى ما يلاحظونه من الشيء في النظرة الواحدة.

والمعرفة التي تأتينا عن الطريق الأول، طريق الحس المباشر حين يُشار إلى الشيء بإيماءة أو بكلمةِ «هذا»، معرفة جزئية ولا شك، لأنها محدودة في الشيء المشار إليه دون غيره، والرموز التي نستعين بها على الإشارة إلى الجزئي الذي نريد هي رموز جزئية؛ وأما المعرفة التي تأتينا عن طريق وصف الشيء المقصود، فهي معرفة بشيء جزئي إذا استحال أن ينطبق الوصف إلا على شيء واحد فقط، وهي معرفة كلية إذا أمكن تطبيق الوصف على أكثر من فرد واحد، ولو من الوجهة النظرية؛ والكلمات أو الرموز التي نستعين بها على تحديد المراد في هذه الحالة، تكون كلمات أو رموزًا جزئية إذا كانت لا تنطبق إلا على فرد واحد، وتكون كلمات أو رموزًا كُليَّة إذا أمكن — ولو من الوجهة المنطقية وحدها دون الفعلية — أن تنطبق على أكثر من مُسمًّى واحد؛ ومن أمثلة العبارات الجزئية التي تأتينا بالمعرفة عن طريق الوصف ولا تنطبق إلا على فرد واحد عبارة: «الهرم الأكبر في الجيزة» و«النجم القطبي» ومن أمثلة الكلمات العامة التي تعرفنا بالأشياء عن طريق صفاتها، مع إمكان انطباقها على مسميات كثيرة «هرم» و«نجم».

(٦) الكلمات المنطقية

قدَّمنا لك حتى الآن نوعَين من الكلمات لنبيِّن حدود الدلالة لكل نوع منهما؛ وهما أسماء الأعلام من جهة والأسماء التي هي في حقيقة أمرها مركبات وصفية من جهة أخرى، وقلنا في اسم العَلم بمعناه الشائع، كاسم «العقاد» مثلًا، إنه في الحقيقة يجمع تحته ألوف الحالات التي هي الحالات التي مرَّت متتابعة فكوَّنَت تاريخ حياة رجل هو الذي نُطلق عليه اسم «العقاد»، وإذَن فما يُظَن أنه اسم يشير إلى فرد جزئي هو في الحقيقة رمز يشير إلى سلسلة طويلة من الأحداث، ولو شئنا اسم عَلم بمعناه الصحيح لجعلنا أسماءً لكل حالة جزئية من حالات العقاد، ولعلَّ اسم الإشارة «هذا» خير ما يدلُّنا على الحالة الجزئية الواحدة، فكل حالة نستطيع أن نشير إليها بقولنا «هذا» أو «هذه» تكون هي الحالة الجزئية الواحدة من حالات الفرد الواحد؛ ومعنى ذلك أننا إذا شئنا أن نتبيَّن إزاء اسم ما إنْ كان اسمًا يُطلَق على فرد ذي وجود فعلي أو لم يكُن، تحتَّم أن نتصوَّر لذلك الفرد حالة مُعيَّنة جزئية يمكن الإشارة إليها في نقطة معينة من نقاط المكان، وفي لحظة مُعيَّنة من لحظات الزمن؛ قائلين: «هذه».

وكذلك قلنا في الكلمات التي هي في الحقيقة مركبات وصفية، ومنها ما يكون المركب الوصفي فيه مُنطبِقًا على فرد واحد، كقولنا: «العدد الذي يقع بين ٣، ٤» أو «القائد العربي الذي فتح مصر»؛ ومنها ما يكون المركب الوصفي فيه مشيرًا إلى أي فرد من مجموعة متشابهة الأفراد، مثل قولنا «إنسان» و«نهر»، قلنا في أمثال هذه الرموز الوصفية إنها لا تقتضي بالضرورة وجود مسمَّاها وجودًا فعليًّا، فلا يكفي أن يكون الرمز اللغوي قائمًا بيننا لنقول إن له مُسمًّى في عالَم الأشياء الواقعة، بل لا بد أن يُضاف إلى ذلك وقوعنا على الفرد الموصوف في الحالة الأولى أو على أحد أفراد المجموعة الموصوفة في الحالة الثانية؛ إذْ لا فاصل هنا بين الكائن الوهمي والكائن الفعلي إلا شهادة الحواس.

وننتقل الآن إلى ضرب ثالث٧ من الكلمات هو أخطَرها جميعًا من الناحية المنطقية وإنْ لم تكُن كلماته مما يشير إلى شيء إطلاقًا في عالَم الواقع، وأعني به تلك الكلمات التي تصل أجزاء الكلام بعضها ببعض وصلًا تكون له دلالته في الاستدلال العقلي، ولا تكون له إشارة إلى شيء واقع، مثل واو العطف، وكلمة «أو» وكلمة «إذا» وكلمة «ليس» وكلمة «كل» وكلمة «بعض» وما إليها، فليس في العالم الخارجي شيء بين الأشياء اسمه «أو» أو شيء اسمه «إذا» أو «ليس»، فإذا قلت: إنني «رأيت البرق وسمعت الرعد»؛ كان الذي حدث في عالم الواقع حَدَثان هما «رؤية» و«سمع»، وأما «و» التي تصل بينهما فلم تكُن حَدَثًا ثالثًا ولم تكُن جزءًا من أيٍّ من الحدثين، وكذلك لو قلت: «الشمس إما طالعة أو غاربة» كان الذي هو حادث في عالَم الواقع أحد أمرين، ولما كنت أجهل أيهما، عبَّرتُ عن هذا الجهل بقولي «أو»، لكن عالَم الأشياء لا تردُّد فيه، إن فيه أمرًا واحدًا، ففيه الشمس طالعة، أو فيه الشمس غاربة، وأما التردُّد فحالة عقلية عندي أنا القائل الذي يعلم أن أحد الأمرَين لا بد واقع ثم لا يعلم أيهما يكون.

وهم يُسمُّون أمثال هذه الكلمات بالكلمات المنطقية أو بالكلمات البنائية، لأن عملها مقصور على بناء العبارة اللغوية بناءً يجعل منها فكرة؛ واستعمالها يقتضي وجود كلمات سابقة عليها في الوجود، فلا تستطيع أن تقول «مقعد أو منضدة» إلا إذا عرفت أولًا كلمتي «مقعد» و«منضدة»؛ ولذلك ترى أسماء الأشياء يأتي تعلمها أولًا في حياة الطفل ثم تأتي بعد ذلك أمثال هذه الكلمات، فيستحيل أن يبدأ الطفل تعلُّمه اللغة بكلمة «أو» أو كلمة «إذا»، لكنه يبدأ بكلماتٍ مما تسمِّي كلُّ كلمة منها شيئًا مما يقع في خبرته، ثم يتعلَّم بعد ذلك كيف يبني من هذه الكلمات الشيئية أفكارًا باستخدامه للكلمات المنطقية التي ذكرناها.

والكلمات المنطقية هي الركائز الثابتة التي تحدِّد «صورة» الفكرة، بينما تحدِّد الكلمات التي هي أسماء أو صفات «مادة» الفكرة؛ ففي قولنا — مثلًا — «صيف وشتاء» تستطيع أن تستبدل بكلمتَي «صيف» و«شتاء» كلمتين أخريَين فتتغير «مادة» الفكرة، فتقول — مثلًا — «حساب وهندسة» أو «قيس وليلى» لكنك لا بد أن تحتفظ بالكلمة المنطقية «و» إذا أردت أن تحتفظ للفكرة ﺑ «صورتها»، بل تستطيع أن تسقط الكلمتين اللتين تحدِّدان مادة الفكرة، وتضع مكانهما رموزًا متغيِّرة، مثل «س» و«ص» وتحتفظ بواو العطف، فتحتفظ بصورة الفكرة كما هي، والصورة في هذه الحالة هي («س» و«ص»)، ولعلك تعلم أن تجريد الأفكار عن «مادتها» وإبقاء «صورها» هو مما يبحث فيه المنطق، لذلك فهو كثيرًا ما يُسمَّى «بالمنطق الصوري» لأنه يهتم بالصورة بعد إفراغ مادتها، لأن مقارنة الصور الفارغة بعضها ببعض أيسَر من مقارنة الأفكار وهي مليئة بمادتها؛ وهو إنما يهتدي إلى صورة الفكرة لو اهتدى إلى متغيراتها من جهة، وثوابتها من جهة أخرى، فيُسقط الأولى واضعًا مكانها رموزًا، ويُبقي على الثانية، فتبقى له الصورة التي هي الإطار الأساسي المُعد لأي حشو يملؤه فيكوِّن هذه الفكرة أو تلك مما يقع كله تحت صورة واحدة؛ فالصورة واحدة في عبارتَي «حساب وهندسة» و«قيس وليلى»؛ والصورة واحدة في عبارتَي «الأربعاء أو الخميس» و«السينما أو المسرح» والصورة واحدة في عبارتَي «إذا رأيت البرق سمعت الرعد» و«إذا أمطرت السماء اخضرَّ الزرع» وهكذا؛ ولو اهتدى المنطقي إلى مجموعة الصور المختلفات في فكر الإنسان، اهتدى إلى العناصر الأساسية التي ينحل إليها ذلك الفكر.

وهذه الكلمات المنطقية وإنْ تكُن لا تُسمِّي شيئًا من أشياء الواقع، إلا أنها هي الإطار الذي يحدِّد صورة الفكرة، إنها أدوات يستخدمها الإنسان المُدرِك لينظم بها علمه عن الأشياء المُدرَكة؛ إن كلمة «أو» — مثلًا — لا تكوِّن شيئًا من الأشياء التي تحتل أجزاء المكان، ولكنها تكوِّن علاقة نربط بها أقوالنا التي نقولها عن تلك الأشياء؛ إنني إذ أنظر إلى المنضدة أمامي، وأقول: «ليس القلم على المنضدة» فلا أقول ذلك لأنني أرى «ليس» فيما أراه، بل كل ما أراه هو كتب وأوراق؛ إنني بكلمة «ليس» لا أسمي شيئًا أراه، وإنما أستخدمها «لأستدل» نتيجة ما أراه؛ إنني أرى ما هو كائن هناك مما تنطبع صورته على حاسة بصري، ولست أرى ما ليس هناك، لكني أستدلُّه، وإذَن فيستحيل عليَّ أن أستعمل كلمة «ليس» إلا إذا سبقت لي لغة أصف بها ما هو كائن فعلًا؛ وبالتالي لا أستطيع أن أستخدم النفي إلا إذا سبقته معرفة إيجابية هي معرفة ما تنطبع به الحواس.

١  Russell, Meaning and Truth، الفصل الأول.
٢  دلائل الإعجاز، ص٣٩.
٣  Russell, B., The principles of Mathematics، ص٤٣.
٤  Carnap, Rudolf: Logical syntax، ص١٢-١٣.
٥  راجع Russell, B., Human knowledge، ص٨٩–٩٤.
٦  Joseph, An Introduction to Logic، ص٦٨. وراجع كذلك الفصل الرابع من كتاب «مشكلات الفلسفة» ﻟ «برتراند رسل».
٧  جعلنا الكلمات المنطقية ضربًا ثالثًا رغبةً في تمييزها، لكنها في الحقيقة تندرج تحت الأسماء الكلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥