الفصل الثالث

وحدات التفكير

القضية هي وحدة التفكير، أعني أنها الحد الأدنى من الكلام المفهوم، فإذا حللت جزءًا من مجرى الفكر، كفقرة من مقالة مثلًا، كانت الوحدات التي ينتهي إليها التحليل هي ما نسمِّيه بالقضايا؛ فهي من بناء الفكر كالأسرة من بناء المجتمع؛ فكما أن الحد الأدنى للمجتمع هو الأسرة، مع أن الأسرة في ذاتها مؤلَّفة من مجموعة أفراد ارتبط بعضُهم ببعض على نحو ما، فكذلك الحد الأدنى للتفكير هو القضية، مع أن القضية في ذاتها مُؤلَّفة من مجموعة ألفاظ أو رموز يرتبط بعضها ببعض على نحو ما؛ أو قُل إن القضية من بناء الفكر كالخلية في الكائن العضوي، هي وحدته التي لا يمكن تحليلها إلى عناصر أبسط منها، مع احتفاظها بصفة الحياة، كذلك القضية لا يمكن تحليلها إلى عناصر أبسط منها مع احتفاظها بصفة الفكر؛ لأنها الحد الأدنى للتفكير، فليست العناصر التي تتألَّف منها القضية تفكيرًا، إذا عزلنا كل عنصر منها على حِدة.

والقضية هي العبارة التي يجوز وصفها بالصدق أو بالكذب وصفًا ولا نقوله جزافًا.١
لكن الصدق والكذب يختلف معناهما باختلاف نوع القضية: أإخبارية هي أم تكرارية؟٢ فمقياس الصدق في الأولى هو التطابُق، أي إن تطابق الصورة المرسومة بألفاظ القضية، الواقعة الكائنة في عالَم الطبيعة؛ ومقياس الصدق في الثانية هو عدم تناقُض أجزاء القضية بعضها مع بعض، وذلك إنما يتوافر إذا ما اتسقت تعريفات الألفاظ التي تستخدمها في تكوين القضية، بحيث لا تؤدي تلك التعريفات إلى تنافُر.

وسبيلنا الآن أن نوضِّح طبيعة القضية الإخبارية وطبيعة القضية التكرارية ليتسنَّى لنا أن نفهم كيف يكون الصدق أو الكذب في كلٍّ من النوعَين.

(١) القضية الإخبارية

افرض أنك تحدِّثني عن شيء ما، رمزه «س»، ثم نفرض أنني أعلَم عن «س» أنها بحُكم تعريفها تعني «أ، ب، ج» فإذا قلت لي عن «س» إنها «ص»، جاء قولك هذا مُضيفًا لعنصر جديد إلى العناصر التي كنت أعرفها من قبلُ عن «س» بحُكم تعريفها؛ أعني أن قولك «س هي ص» سيضيف إلى علمي علمًا جديدًا، لم يكُن من قبلُ جزءًا من معنى «س»؛ ومثل هذا القول الذي يضيف إلى موضوع الحديث علمًا جديدًا، يُسمَّى بالقضية الإخبارية؛ لأنه يُضيف عنصرًا آخَر إلى مجموعة العناصر المعروفة عن معنى كلمة مُعيَّنة، مثال ذلك أن تقول لي عن الضوء: إنه يَسير بسرعةٍ تقرب من ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية، ولم تكُن كلمة «الضوء» بالنسبة لي تعني، فيما تعنيه، أن سرعة الضوء هي هذه؛ وإذَن فقد أضيف جانب جديد إلى معنى كلمة الضوء، والقضية التي أضافت هذا الجانب الجديد، تكون قضية إخبارية؛ وهناك مثلًا آخَر للقضية الإخبارية: «أحمد شوقي أول مَن كتب المسرحية الشعرية في الأدب العربي.» فها هنا قضية، موضوعها هو «أحمد شوقي» وليس في معنى هذا الاسم — باعتباره اسمًا أطلق على رجل مُعيَّن — أن مسمَّاه لا بد أن يكون من صفاته أن يكتب المسرحية الشعرية في الأدب العربي لأول مرة؛ وإذَن فذلك علم جديد أضيف إلى معنى الاسم حين تفهم به مُسمَّاه، وتكون القضية التي جاءتنا بهذا العلم الجديد قضية إخبارية.

(٢) القضية التكرارية

أما القضية التكرارية فهي التي تكرِّر عناصر الموضوع — بعضها أو كلها — فلا تضيف إلى علمنا به شيئًا جديدًا، سوى إبرازها لتلك العناصر، بحيث تصبح مذكورة ذِكرًا صريحًا بعد أن كانت مُتضمَّنة؛ ولتوضيح ذلك بصورة رمزية نقول: إنه في قضية مثل «س هي ص»٣ لو كانت عناصر «س» المعروفة هي «ص، ط، ع»، إذَن فالقضية لم تفعل سوى أنها أبرزت لنا عنصرًا من عناصر الموضوع؛ أي إنها لم تُنبِئ بجديد عن الموضوع الذي تتحدَّث عنه، مثال ذلك قولي: «إن الأرامل كُنَّ متزوجات»، لأنني لو سُئلتُ: ما معنى كلمة «أرامل» لَاستحالَ عليَّ توضيح معناها بغير أن أذكر هذه الصفة عنهن، وهي أنهن كن متزوجات، وإذَن فالقضية لم تَزِد على تحليل معنى كلمة أرامل، أو هي بعبارة أخرى وضعت الحقيقة نفسها في صورة لفظية أخرى تُساويها، ولو اكتفى القائل بقوله كلمة «أرامل» وحدها، لَمَا خسر السامع شيئًا، ما دام هذا السامع يعرف معنى هذه الكلمة في الحديث.

وباختلاف القضية من إخبارية إلى تكرارية، يتغيَّر معنى الصدق والكذب، فهو في القضية الإخبارية متوقِّف على مطابقة القضية أو عدم مطابقتها للعالَم الخارجي؛ وهو في القضية التكرارية متوقِّف على صحة تحليل الموضوع إلى عناصره أو عدم صحته، والعلوم الطبيعية كلها على اختلافها تتألَّف من قضايا إخبارية؛ إذ المفروض أنها تُنبِئ عن الأشياء التي تتحدَّث عنها بحقائق كشف عنها العلماء في أبحاثهم، فهي جديدة ويحتاج تصديقها إلى مراجعة الطبيعة؛ وأما الرياضة والمنطق فهما يتألَّفان من قضايا تكرارية، لأنهما يقومان بتحليل الصيغ الرمزية إلى ما يُساويها، أو إلى ما يمكن أن يستدل منها، بغض النظر عن مطابقة تلك الصيغ الرمزية للواقع أو عدم مطابقتها له.

وها نحن أُولَاء نفصِّل القول بعد إيجاز:

(٢-١) معنى الصدق و«الكذب» في القضية الإخبارية

ما دمنا قد اشترطنا في صلب تعريفنا للقضية أن تكون عبارة يمكن وصفها بالصدق أو بالكذب، فلا بد أن تكون هناك طريقة ممكنة للتحقُّق من ذلك الصدق أو الكذب؛ فقولي: «إن السكر يذوب في الماء العذب» يقبله المنطق قضية، لأنه يمكن للإنسان في حدود خبرته أن يلجأ إلى قطعة من السكر، وإناء فيه ماء عذب، ليرى هل يذوب السكر في الماء أو لا يذوب، وبذلك يصبح في مقدوره أن يحكم على العبارة بأنها صادقة أو كاذبة حسب ما رآه في تجربته، وكذلك يقبل المنطق عبارة مثل هذه: «يسيل الماء من أسفل الجبل إلى أعلاه» لأن خبرة الإنسان فيها ما يتصور به كيف يكون سيلان الماء وما أسفل الجبل إلى أعلاه، وبهذه الصورة يستطيع أن يلجأ إلى الطبيعة ليرى هل صدقت العبارة فيما زعمت أو لم تصدق، فإن صدقت كانت قضية صادقة، وإلا فهي لم تزَل قضية، وإن تكُن كاذبة.

لكن افرض أن مُتكلِّمًا زعمَ لك أن «العدالة وزنها ثلاثة أمتار» أو «أن زوايا الإنسان تساوي قائمتين»، فلا شك أنك سترفض قبول هاتين العبارتين؛ إذ هما عندك ليستا بالكلام المفهوم، أي إنهما بلغة المنطق ليستا قضيتين؛ لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن ترسم لنفسك صورة تهتدي بها عند مراجعة الطبيعة لتعلم أصَدَقَ المتكلِّم فيما زعمَ أم كذبَ؛ فلستَ من خبرتك تعرف أن العدالة ممَّا يُوزَن، وليس ما يُوزَن يُقاس وزنه بالأمتار، ولذلك استحال التصوُّر؛ وبالتالي استحال التحقُّق من الصدق أو الكذب؛ وكذلك قل في العبارة الثانية.

بل إن العبارة التي لا ترسم لنا صورة نستعين بها في المطابقة بين ما تزعمه وبين ما هو في الطبيعة، لا يكون لها معنًى على الإطلاق؛ هي جلبة أصوات كالتي يُحدثها سَيْر العجلات في الطريق؛ لأن معنى الكلام هو طريقة تحقيقه؛ فلو قلتُ لتلميذ صغير: إن الإسكيمو يلبسون الفِراء، ويعيشون في بيوت من الثلج، ثم أردتُ أن أتبيَّن هل فَهِمَ التلميذ معنى ما قلتُه له، فليست هناك وسيلة إلا أن أطلب إليه أن يصف ما عساه راءٍ بعينَيه أو لامسٌ بأصابعه إذا ما أتيح له أن يخَبُرَ بنفسه ما أنا مُحدِّثه به؛ وحين تُقال لك عبارة فتقول: إني لا أفهمها، فإنما يعني عدم فهمك لها أنك لا تتصوَّر كيف يمكنك تحقيقها لتتبيَّن صوابها أو خطأها، مثل ذلك أن أخبرك بأن «في هذا الصندوق مسكفًا» فلا تفهم، ومعنى عدم فهمك أنك لا تستطيع أن ترسم لنفسك الصورة الحسية التي تُلاقيها بحواسك لو نظرتَ في الصندوق.
إن معنى القضية وكيفية إثبات صدقها شيء واحد، فما يستحيل علينا أن نثبت صدقه من القضايا، لا يكون ذا معنًى على الإطلاق، إننا إذا سألنا: ما معنى هذه العبارة؟ كان سؤالنا معناه بصيغة أخرى: كيف يمكن أن نحقِّق هذه العبارة؟ أي: ما نوع الحاضرات الحسية التي نتقبَّلُها من الخارج لو كانت العبارة صادقة، ذلك لأن أية قضية إخبارية هي «صورة للواقع»،٤ وإذا أردت أن تعلم ما نقصده بقولنا هذا، «فارجع إلى الكتابة الهيروغليفية التي تصوِّر الوقائع التي تصفها»٥ تصويرًا حقيقيًّا، فترسم طائرًا ليدلَّ على الطائر، وشجرة لتدل على الشجرة، وهكذا، حتى إذا ما أراد الكاتب أن يقول: «إن طائرًا على الشجرة» رسم صورة لطائرة على شجرة؛ وهذه الصفة التصويرية للغة ما زالت قائمة في كلماتنا التي نصف بها الوقائع، فنحن نكتب كلمة «طائر» بدل أن نرسم طائرًا، ونكتب كلمة «شجرة» بدل أن نرسم شجرة، ونكتب كلمة «على» لنرسم بها علاقة الفوقية التي تصل الطائر بالشجرة، وهكذا تستطيع أن تحلل أية قضية مما يصف شيئًا في الطبيعة، تحليلًا يردُّها إلى صورة مرسومة، وعندئذٍ يصبح طريق تحقيقها مُعبَّدًا، فما عليك إلا أن تُطابق بين الصورة والأصل المصوَّر، لترى مدى صدق التصوير، وذلك هو ما حدا ﺑ «فتجنشتين» أن يقول: إنه «يجب أن يكون في القضية عدد من الرموز مساوٍ بالضبط لعدد الأشياء التي في الواقع الذي تتصدى القضية لتصويره»،٦ ففي حالة الطائر الذي على الشجرة، هناك في دنيا الأشياء شيئان: طائر وشجرة، وبينهما علاقة، ولذا جاءت القضية التي تصوِّر الموقف مُؤلَّفة من كلمتَين: «طائر» و«شجرة» وبينهما كلمة «على»؛ لتدلَّ على العلاقة.

وليس يشترط أن تكون طريقة التحقيق مُمكِنة فعلًا الآن، بل يكفينا أن تكون هنالك طريقة مُمكِنة للتحقيق من الوجهة النظرية، لكي يكون الكلام مقبولًا منطقيًّا، فإذا قلت مثلًا: إن الوجه الآخَر من القمر فيه جبال ووديان (أعني الوجه الذي لا يقابل الأرض أبدًا؛ إذ القمر يواجه الأرض دائمًا بنصفٍ واحد لا يتغيَّر) فهذا كلام يصلح أن يكون قضية، على الرغم من أننا الآن لا نملك الوسيلة الفعلية لتحقيقه؛ لكننا مع ذلك نستطيع أن نتصوَّر نوع المعطيات الحسية التي تقع للمُشاهد لو كان الكلام صحيحًا، وما دام رَسْم الصورة المتوقَّعة مُمكِنًا نظريًّا، فلا يهمُّ كثيرًا بعد ذلك — من الناحية المنطقية — أن يكون إمكان مطابقة الصورة المرسومة للواقع مُمكِنًا فعلًا أو غير مُمكِن.

وواضح أن صورة العالم لا بد أن تختلف بين حالتَي صدق القضية الإخبارية وكذبها؛ فإذا قلت: إن النيل يفيض في شهر أغسطس من كل عام، فالعالَم الخارجي له صورة مُعيَّنة في حالة صدق هذا الكلام، وأخرى في حالة كذبه، أما إذا لم تجِد فرقًا في تصوُّرك للحالتَين، كانت العبارة التي أمامك كلامًا فارغًا خاليًا من كل معنًى، لا يحمل إليك عن العالَم خبرًا؛ انظر مثلًا في العبارة التي تقول: إن لكل شيء جوهرًا غير معطياته الحسية، فللبرتقالة — مثلًا — جوهر هو البرتقالة في ذاتها، فوق ما تراه منها الحواس وما تذوقه وما تشمه وما تلمسه؛ وحاول أن تتصور البرتقالة في وجود جوهر لها غير ما تُدركه منها بحواسك، ثم حاول أن تتصوَّرها في حالة عدم وجود هذا الجوهر، فلن تجد اختلافًا بين الصورتَين؛ وإذَن فلا معنى إطلاقًا للعبارة التي قدَّمناها؛ إذ يستحيل علينا أن نجد صورة تهدينا إلى تبيُّن صدقها أو كذبها، ما دمنا لم نجد في الصورة التي رسمناها لحالة الصدق شيئًا يُميِّزها عن الصورة التي رسمناها لحالة الكذب.

إنه لا يكفي أن يتخذ الكلام صورة مقبولة في علم النحو ليكون كلامًا مقبولًا عند المنطق؛ فليس في التركيب النحوي فرق بين العبارة القائلة: «إن الذهب عنصر بسيط»، والعبارة القائلة: «إن العقل عنصر بسيط»، هما عبارتان متساويتان صورةً وتركيبًا، والنحو يقبلهما، لكن المنطق يقبل الأولى ويرفض الثانية، لأننا نتصوَّر نوع المعطيات الحسية التي نلقاها في حالة صدق العبارة الأولى، ولا نتصوَّر ذلك في حالة صدق العبارة الثانية، ولأننا نستطيع أن نتبيَّن فرقًا في العالَم الخارجي بين حالتَي الصدق والكذب في العبارة الأولى، ولا نتبيَّن فرقًا في العالَم بين حالتَي الصدق والكذب في العبارة الثانية؛ وإذَن فالعبارة الأولى فيها شرط القضية المنطقية، وهو إمكان أن تُوصَف بالصدق أو بالكذب، حسب مطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع، على حين تفقد العبارة الثانية هذا الشرط؛ فإذا كان الشرط المحتوم لقبول العبارة الإخبارية هو إمكان وصفها بالصواب أو بالخطأ وصفًا يقوم على أساسٍ من خبراتنا الحسية، خرجت بذلك من حسابنا مجموعتان من العبارات الكلامية:
  • الأولى: العبارات التي لا تحمل خبرًا، كالأمر والاستفهام والتعجب؛ فالأمر لا يُوصَف بصدقٍ أو بكذب؛ لأنه لا يصوِّر شيئًا في عالَم الواقع، ولا يُخبرنا بخبر عن شيء ما، حتى نقول إن تصويره صادق أو كاذب، أو إن الخبر الذي جاءنا به صواب أو خطأ؛ فأنت حين تأمرني قائلًا: «افتح النافذة»، كان معنى الأمر هنا رغبة منك في إحداث شيء ليس حادثًا، أو إيجاد وضع جديد للأمور ليس موجودًا؛ وإذَن فالأمر لا يُقابله مُقابل من عالَم الواقع يُمكِّنني من أنْ أطابق بين الأصل والصورة؛ بحيث أقول: إن الصورة قد صدقت في التصوير أو كذبت، لكن قارن ذلك بالجملة التقريرية التي تقرِّر شيئًا ما عن العالَم الخارجي، كقولي: «النافذة مفتوحة» فها هنا خبر، يزعم أنه يصور أصلًا في عالَم الأشياء، وأستطيع المطابقة بين الأصل والصورة، لأحكم بالصدق أو بالكذب.
    ومن النتائج الخطيرة التي تترتَّب على هذا، حذف علم الأخلاق من ميدان العلوم، لو كان المراد به أن يبحث فيما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان، لأن ما يجب أن يكون ليس كائنًا، بتعريف كلمة «يجب»؛ والعبارة التي تحتوي على كلمة «يجب» هي بمثابة الأمر الذي يأمرنا بفعل هذا أو بترك ذاك؛ وإذَن فالعبارات الأخلاقية بهذا المعنى لا تصلح أن تكون قضايا، لأنها لا تصلح أن تُوصَف بالصدق أو بالكذب؛ إذ هي لا تصور شيئًا واقعًا، حتى نتمكَّن من المطابقة بين التصوير والواقع المصوَّر.
    وقُل مثل ذلك في علم الجمال، إذا أراد أن يبحث في المعيار الواجب أن يتحقَّق وجوده، لا في الأشياء الموجودة فعلًا؛ بل قُل مثل ذلك في كل عبارة يُعبِّر عن «قيمة» شيء ما في نظر الإنسان، فإذا قلت عن شيء إنه أفضل من شيء آخَر، أو أجمل منه، أو إذا قلت عن شيء إنه خير أو شر أو جميل أو قبيح، فليس قولي ممَّا يجوز أن يكون قضية في حُكم المنطق، لأنه قول يعبِّر عن شعور ذاتي، ولا يصور شيئًا من عالَم الواقع الذي يشترك في ملاحظته أكثر من فرد واحد، «إن كل شيء في العالم هو كما هو واقع، ويحدث كما يحدث، وليس بين الأشياء الواقعة شيء اسمه القيمة»٧ «ومن هنا استحال أن يكون ثمَّة قضايا أخلاقية، لأن القضايا لا تصف ما هو أسمى من الواقع»٨ بل تصف الواقع نفسه.
  • والثانية: هي العبارات التي يستحيل أن ترسم لنا صورة بحيث نستطيع أن نطابق بينها وبين الأصل المُخبَر عنه، لنرى إنْ كانت الصورة صادقة التصوير أو غير صادقة؛ فأمثال هذه العبارات خالية من المعنى، ولا تصلح أن تكون قضايا من الوجهة المنطقية، كقولي مثلًا: إن وزن الفضيلة ثلاثة أمتار.

    ومن النتائج الخطيرة التي تترتَّب على هذا أيضًا، حذف الميتافيزيقا من ميدان العلوم لأنها بحكم تعريفها تتحدَّث عمَّا ليس في الطبيعة؛ إذ تتحدَّث عن شيء بعد الطبيعية أو وراءها، ولكنه ليس جزءًا من الطبيعة على كل حال، ولما كان محالًا على إنسان أن يتصوَّر صورة لما يستحيل بحكم تعريفه أن يكون جزءًا من خبرته — لأن خبرة الإنسان محدودة بما في الطبيعة من أشياء — كانت العبارات الميتافيزيقية كلها ممَّا يفقد شرط القضية، وهو إمكان أن يُوصَف الكلام بالصدق أو بالكذب.

(٢-٢) معنى الصدق و«الكذب» في القضية التكرارية

أما الصدق (أو الكذب) في القضية التكرارية فله شأن آخَر، لأن القضية التكرارية تحصيل حاصل، ولا تُنبئ عن العالَم بشيء جديد، فإذا قلت — مثلًا — عن المثلث إنه سطح مُستوٍ محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، كان قولي تعريفًا للكلمة لا أكثر، وإذَن فالصدق في القضية التكرارية متوقِّف على تعريفنا للألفاظ التي تتألَّف منها القضية، فلو عَرَّفت «الكوكب» بأنه الجرم السماوي الذي يتحرَّك حول الشمس، كانت القضية القائلة بأن «كل الكواكب تدور حول الشمس» يقينية، لا لأننا راجعناها على الطبيعة ورأينا تطابُقها مع الأصل الواقعي، بل لأننا لم نقُل فيها شيئًا أكثر من التعريف الذي اتفقنا عليه لكلمة «كواكب»، بل إن التجربة الحسية يستحيل أن تنقض مثل هذه القضية، لأننا إذا وجدنا جرمًا سماويًّا لا يدور حول الشمس، لم يكُن من حقِّنا أن نُطلق عليه اسم «كوكب» ما دمنا قد اتفقنا على أن يكون لفظ «كوكب» مقصورًا على الأجرام التي تدور حول الشمس وحدها، اللهم إلا إذا عُدنا فاتفقنا على استعمال جديد للفظ.

ومن أجل هذا كانت القضايا التكرارية «قَبْلية» والقضايا الإخبارية «بَعْدية»؛ أي إن القضايا التكرارية يتقرَّر صدقها قبل استطلاعنا للطبيعة، وقبل رجوعنا إلى أية خبرة أو تجربة؛ إذ لماذا نستطلع الطبيعة، وفيمَ نرجع إلى خبرة أو تجربة ما دمنا لا نقول عن الطبيعة شيئًا؟ إن كل ما نقوله في أية قضية تكرارية هو — كما قدمنا — تحديد لمعنى لفظ أو رمز أو عبارة قد اتفقنا عليه جزافًا، وكان في مستطاعنا أن نغيِّر المعنى لو أردنا.

والقضايا الرياضية تكرارية كلها لأنها تحصيل حاصل، فقولنا «٦ + ٤ = ١٠» معناه أننا قد اتفقنا على أن نستعمل رمزين بمعنًى واحد، «٦ + ٤» و«١٠»، كما اتفقنا — مثلًا — أن نستعمل لفظَي «الليث» و«الأسد» بمعنًى واحد، فلا فرق بين أن تقول إن عندي «٦ + ٤» من القروش، وأن تقول إن عندي «١٠» قروش، بل لك أن تقول إن هذه العبارة الرمزية «٦ + ٤ = ١٠» ليست قضية، وإنما هي قاعدة اتفقنا عليها، مؤداها: أنك حيثما وجدت الرمز «٦ + ٤» جاز لك أن تستبدل به رمزًا آخَر، هو «١٠».

وليس في وسع شيء من التجربة الحسية أن يدحض القضية التكرارية، لأنها لا تقصد أن تصوِّر شيئًا مما يقع في تلك التجربة، بل — هي كما قدَّمنا — تسجيل لاتفاق تواضَعَ عليه الناس من حيث معاني الألفاظ والرموز التي يستعملونها؛ «وكما أن صدق القضية التكرارية لا يتوقف على طبيعة العالم الخارجي، كذلك هو لا يتوقف على طبيعة عقولنا، فقد كان يجوز لنا أن نستعمل أوضاعًا لغوية أخرى غير هذه الأوضاع التي اتخذناها.»٩
وما قلناه عن قضايا الرياضة، نقول مثله عن قضايا المنطق، فهي كذلك تحدِّد طريقة استعمالنا للألفاظ والرموز، ولا تُنبئنا بشيء جديد عن العالَم، أو قل إنها «تنبئنا بما هو مفروض فينا العلم به من قبل»؛١٠ خُذ مثلًا قضية منطقية كهذه: «ق تلزم عنها ك»، فهي بمثابة التحديد والتحليل لعناصر «ق» وإبراز «ك» باعتبارها عنصرًا ملازمًا، ولو «ق» وحدها لَتضمَّنَ ذلك قولك «ك» أيضًا، سواء ذكرت «ك» ذكرًا صريحًا أو لم تذكرها.
إن كل قضية يحكم المنطق بضرورتها يكون معنى الضرورة فيها أنها قد سبق إثباتها، «فإذا وجدنا أن قضيةً ما لا بد لنا من تصديقها بالضرورة، كان معنى ذلك أنه قد سبق بالفعل إثباتها»،١١ انظر مثلًا قولنا: ««أ» أكبر من «ب»، «ب» أكبر من «ج»، إذَن «أ» أكبر من «ج».» هذه النتيجة الأخيرة ضرورية، لماذا؟ لأننا أسلفنا إثباتها ضمنًا في المقدمات.

وممَّا يدلُّك على أن القضية التكرارية في المنطق وفي الرياضة لا تُنبئ بشيء أبدًا عن العالم، أنها صادقة في كل الظروف، في حين أن ما يُنبئك بشيء عن العالَم يحتمل نبؤه الصواب أو الكذب، خُذ مثلًا لذلك قضية كهذه:

إما أن تمطر السماء غدًا أو لا تمطر؛ هذه بالطبع قضية صادقة حتمًا، لأنه يستحيل أن يكون هناك احتمال غير هذين، فإما أن تمطر وإما ألَّا تمطر، لكن هل تعرف عن الجو شيئًا لا تعرفه، حين يقال لك إنه إما أن تمطر السماء وإما ألا تمطر؟١٢ لا شيء على الإطلاق، وإنما تعلم عن الجو إذا أُخبرتَ عنه خبرًا، بأنه سيُمطر، أو بأنه سوف لا يمطر، على الرغم من أن مثل هذا الخبر أو ذاك فيه احتمال الصدق واحتمال الكذب.

قضايا المنطق وقضايا الرياضة كلها تحصيل حاصل، هي وضع ما نعرفه في صياغة جديدة، فالمعادلة الرياضية هي تفسير الصيغة التي تقع على يمين علامة التساوي، بصيغة ترادفها على يسار علامة التساوي، والنظرية في الهندسة نستخرجها من النظريات السابقة، فكأننا نحلِّل ما قد عرفناه في القضايا السابقة تحليلًا يُظهر بعض مكنونه، ويُخرج بعض نتائجه؛ إنه لو كانت لنا القدرة العقلية النافذة الشاملة، لأمكن في لحظة واحدة أن ندرك كل النتائج الرياضية التي تترتَّب على تعريفنا لبعض الألفاظ في بداية الأمر، فنقول مثلًا: إنه ما دامت «النقطة» قد حدَّدنا معناها بكذا، و«الخط» قد عرَّفناه بكيت … فلا بد إذَن أن ينتج لنا من هذا التعريف كذا وكذا وكذا من النتائج؛ ولما كانت معادلات الرياضة وقضايا المنطق لا تقول شيئًا جديدًا، كانت يقينية في شتى الظروف.

وقد كان اليقين في الرياضة والمنطق من أهم الدعائم التي يستند إليها الفلاسفة العقليون حين يُنكرون على أصحاب المذهب التجريبي اعتمادهم على الحواس في كسب المعرفة؛ إذ كانوا يقولون من جهةٍ: إن القضية التي نعتمد فيها على معطيات الحواس لا تبلغ درجة اليقين، ومن جهةٍ أخرى: إن يقين الرياضة أقوى دليل على أن العقل — لا الحواس — هو مصدر المعرفة الصحيحة.

ونحن نردُّ على المشكلة الأولى بأننا لا ينبغي أن نطلب أكثر من الاحتمال والترجيح في القضايا العلمية التي نَبنيها على معطيات الحس؛ فإذا قيل: إنه ليس منطقيًّا أن نؤمن بصدق قضية لا ضمان لصدقها، كان جوابنا — على عكس ذلك — إن هذا هو المنطق بعينه إذا كان هذا الضمان مُحالًا؛ لا بل إنه ليس من المنطق أن نطلب ضمانًا لليقين حيث لا ضمان، وحيث احتمال الصواب هو كل ما يمكن الحصول عليه بحكم طبيعة الموقف.

وأما موقف الفلسفة التجريبية إزاء النقطة الثانية — أعني استناد العقليين إلى يقين الرياضة والمنطق يقينًا ليس مصدره الحواس — فهو أن تردَّ بأحد جوابَين: فإما أن يقول الفيلسوف التجريبي: إن قضايا المنطق والرياضة ليست يقينية ولا ضرورية كما هو شائع عنها، وإما أن يعترف بيقينها وضرورتها لكنه يُضيف إلى ذلك أنها لا تصف شيئًا من الواقع، ومن ثَم كان لها ما لها من يقين وضرورة.

وقد أخذ «جون ستيوارت مل»١٣ بالجواب الأول، فزعم أن قضايا الرياضة والمنطق ليست ضرورية ولا يقينية، وأنها — كغيرها — تعميمات استقرائية قائمة على عدد كبير جدًّا من الشواهد الجزئية؛ وكَونُ عددِ الشواهد الجزئية كبيرًا جدًّا هو الذي جعلنا نؤمن بيقينها وضرورتها.
وأما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي، فيأخذون بالجواب الثاني، وهو أن هذه القضايا لا يتوقَّف تحقيقها — مثل قضايا العلوم الطبيعية — على التجربة؛ لأنها تحصيل حاصل، ولا تفيد شيئًا عن طبيعة الواقع، ومن ثَم كان لها اليقين والضرورة.١٤

ونُلخِّص ما قلناه عن القضية في أسطر قلائل، فنقول: إن القضية هي الكلام المفهوم الذي يمكن وصفه بالصدق أو بالكذب؛ غير أن معنى الصدق والكذب يختلف باختلاف نوع القضية، فهو في حالة القضية الإخبارية يعني تطابُق الصورة التي ترسمها ألفاظ القضية مع تركيب الواقع، وهو في حالة القضية التكرارية يعني تحليل لفظة أو عبارة أو صيغة، بحيث نضعها في صورة أخرى تُساويها، معتمدين في ذلك على ما تواضعنا عليه في طريقة استعمالنا للألفاظ والرموز وتحديد معانيها.

وصدق القضية الإخبارية لا يزيد على درجة مُعيَّنة من الاحتمال، وصدق القضية التكرارية يقين.

١  Johnson, W. E., Logic، ج١، ص١.
٢  تُسمَّى القضية التكرارية بالقضية التحليلية، والقضية الإخبارية بالقضية التركيبية.
٣  ليست هذه الصيغة الرمزية في الحقيقة قضية، بل هي ما نُسميه بدالة القضية، لكن تفصيل ذلك سيأتي في حينه.
٤  Wittgenstein, Ludwig, Tractatus Logico-Philosophicus، ١٠.
٥  المرجع نفسه، ١٦، ٤.
٦  المرجع نفسه، ٤، ٤.
٧  Wittgenstein, Ludwig, Tractatus Logico-Philosophicus، ٦، ٤١.
٨  المرجع نفسه، ٤٢، ٦.
٩  Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص١١٤.
١٠  المرجع نفسه، ص٩١.
١١  Prall, D. W., Implication, Univ. of California Publications in Philosophy، المجلد الثامن ص١٥٥.
١٢  Wittgenstein, Tractatus، ٦١، ٤.
١٣  A system of Logic، ج٢، فقرة ٥–٧.
١٤  راجع Ayer, A. J., Language, Truth and Logic، ص١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥