دالة القضية١
(١) الثوابت والمتغيرات
نقصد بهاتين الكلمتين: «الثوابت» و«المتغيرات» في المنطق، ما نقصده بهما في العلوم الرياضية، كالحساب.
فالرمز «الثابت» في الرياضة هو الذي لا يتغيَّر معناه رغم اختلاف مواضعه، فالأعداد: ١، ٢، ٣، ٤ … كلها ثوابت؛ لأن كل عدد منها له نفس المعنى أينما ورد، و«الصفر» ثابت لأن معناه كذلك لا يتغيَّر، والرموز «+»، «−»، «×»، «÷»، «=» كلها كذلك ثوابت؛ لأنها دائمًا ذات دلالة واحدة لا تتغيَّر بتغيُّر سياقها ووضعها.
وأما الرمز «المتغير» فهو عادةً يختار من أحرف الهجاء مثل أ، ب، ﺟ، س، ص … إلخ، وليس ﻟ «المتغيرات» معنًى بذاتها على الإطلاق، على عكس «الثوابت»، فبينما نعلم للثوابت معنًى محدودًا يُصاحبها أينما وردَت، ترانا لا نجعل ﻟ «المتغيرات» معنًى معلومًا محدودًا يُصاحبها أينما وردَت؛ فنحن نعلم — مثلًا — عن العدد «٢» أنه زوجي، وأنه عدد صحيح، وأنه هو الذي يتلو العدد «١» في سلسلة الأعداد، لكننا لا نعلم معنى الرمز «س»؛ لأن معناه يتغيَّر حسب ما نختاره له، فلو سُئلنا: هل العدد «س» زوجي أو فردي؟ أجبنا بأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا إذا عرفنا المدلول الذي جاءت «س» مُعبِّرة عنه في هذا الموضع أو ذاك، فقد يكون هذا الرمز «المتغير» دالًّا على عدد موجب، وقد يكون دالًّا على عدد سالب، وقد يكون دالًّا على صفر؛ ولما كانت الأعداد ليس فيها ما يجوز أن يكون أي شيء على هذا النحو، كان «المتغير» غير ذي معنًى، ويظل كذلك حتى نضع مدلوله مكانه.
(٢) دالة القضية
ما دامت المتغيرات ليس لها معنًى بذاتها، فإن العبارات المشتملة عليها مثل قولنا: «س عدد صحيح»، لا تكون قضايا منطقية، على الرغم من أن لها الصورة النحوية للجملة، وهي ليست قضايا لأنها تفقد الشرط الأساسي للقضية، وهو إمكان وصفها بالصدق أو الكذب؛ فأنت لا تستطيع أن تحكم على عبارة مثل: «س عدد صحيح» بصدق أو بكذب لأنك لا تدري ماذا تدل عليه «س»، وإلى أن تعلم ذلك، فالحكم مستحيل.
لا يكون لك من هذه العبارة «س عدد صحيح» قضية توصف بالصدق أو بالكذب، إلا إذا وضعت «ثابتًا» مكان «المتغير» س؛ فلو وضعت مكانها العدد «٢» مثلًا، فأصبحت: «٢ عدد صحيح»، تكوَّنَت بذلك قضية صحيحة، وإذا وضعت مكانها العدد ١ / ٢، فأصبحت ١ / ٢ «عدد صحيح» تكونت بذلك قضية كاذبة، وإذا وضعت مكانها كلمة مثل «أخضر» فأصبحت «أخضر عدد صحيح» تكونت عبارة فارغة من المعنى فلا تدخل في نطاق الكلام المفهوم، ولا يصح تبعًا لذلك أن توصف بصدق أو بكذب، لأن هاتين الصفتين مقصورتان على الكلام المفهوم الذي يمكن تحقيقه.
«المتغيرات» تظلُّ مجهولات، حتى نضع مكانها «قيمتها» — أي مدلولها الثابت — فتصبح معلومة، والضمائر في اللغة هي من قبيل «المتغيرات المجهولة»، فإذا قلت «هو في المنزل» دون أن تعرف مَن «هو»، كنتَ كالذي يقول «س في المنزل»؛ ولذا فإن العبارة التي فيها «ضمير» لا يمكن الحكم عليها بالصدق أو بالكذب؛ إلا إذا وضعت ﻟ «المجهول» «قيمة»؛ أي وضعت مكان الضمير اسم صاحبه أو مكان الرمز دلالته؛ وبالتالي لا تكون العبارةُ المشتملة على ضميرٍ قضيةً منطقية، إلا إذا عرفنا اسم صاحبه، كذلك قُل في العبارة التي تشتمل على فرد نكرة، كقولنا: «رجلٌ ما كان فيلسوفًا ومؤرخًا»، فليس يمكن في هذه الحالة أن تصف العبارة بصدق أو بكذب إلا إذا أحللتَ رجلًا مُعيَّنًا مكان الرجل النكرة، فنقول: هيوم كان فيلسوفًا ومؤرخًا، وعندئذٍ فقط يمكن الوصف بالصدق أو بالكذب؛ وبالتالي يمكن القول بأن العبارة قضية منطقية.
وإنما نسمِّي العبارة المشتملة على رمز مجهول القيمة «دالة قضية»، أو صورة قضية، ويمكن تحويلها إلى قضية بتحويلنا «المتغير» فيها إلى «ثابت» معلوم الدلالة.
ويمكن تشبيه دالة القضية «باستمارة» فارغة لا تصبح أداة لنقل المعلومات إلا إذا مُلئت «خاناتها»، وإلى أن تُملأ تلك «الخانات» لا يمكن وصف الاستمارة بأنها صادقة في معلوماتها أو كاذبة، لأنه ليس بها معلومات، أما إذا «ملأتها» بالاسم والعنوان والعمر وما إلى ذلك، فعندئذٍ فقط يبدأ إمكان الحكم على ما فيها بالصواب أو بالخطأ، ومن ثَم كانت دالة القضية توصف أحيانًا بأنها «عبارة شاغرة» بالنسبة إلى القضية التي هي «عبارة مغلقة» — وإنما وصفت دالة القضية بأنها «شاغرة» لأن بها ثقوبًا أو فتحات خالية، ولا تصبح قضية إلا إذا مُلئت تلك الفتحات بكلمات أو رموز لها معانٍ ثابتة.
(٣) الاسم الكلي ودالة القضية
الاسم الكلي رمز دال على مركَّب وصفي، يجوز أن يكون له بين مفردات الأشياء الكائنة في الوجود الفعلي ما يتجسَّد فيه، ويجوز ألا يكون؛ أي إن المركَّب الوصفي بذاته لا يضمن وجود الكائن الفرد الذي يتحقَّق فيه؛ فالاسم الكلي «وحيد القرن» هو في حقيقته اختصار لمجموعة أوصاف نتصوَّرها مجتمعة في كائن مُعيَّن، ولا يدلُّ ذلك وحده على أن ذلك الكائن موجود فعلًا؛ ولا فرق في ذلك بين «وحيد القرن» و«إنسان» و«شجرة» والأسماء الكلية كافة؛ فكلٌّ منها هو بمثابة عبارة وصفية لا تتحقَّق بالفعل إلا إذا وجدنا الفرد المُعيَّن الذي تتمثَّل فيه الصفات المشار إليها بتلك العبارة؛ وأنت ترى من هذا أن ثمة فرقًا بين أسماء الأعلام (أو الأسماء الجزئية) وبين الأسماء الكلية، فبينما اسم العلم مستحيل منطقيًّا ما لم يكُن ذا مسمًّى فعلي؛ إذ بغير وجود هذا المسمى الفعلي لا يجوز إطلاق ذلك الاسم، فإن الاسم الكلي لا يضمن وحده وجود الشيء الذي يصدق عليه.
ذلك لأن الاسم الكلي إذا حلَّلناه وجدناه دالة قضية، أي إنه في حقيقته عبارة فيها مجهول، ولا تكمل دلالتها إلا إذا وُضع معلوم مكان ذلك المجهول؛ فقَوْلي «إنسان» مساوٍ لقَوْلي «س يتصف بكذا وكذا من الصفات البشرية»، وهي عبارة تظل ناقصة الدلالة حتى نجد فردًا مُعيَّنًا نضع اسمه مكان الرمز «س» فتصبح العبارة — مثلًا — «سقراط يتصف بالصفات البشرية»، وهنا تتحوَّل دالة القضية إلى قضية؛ إذ يصبح في مستطاعنا أن نطابق بين هذه الجملة وبين الواقعة الخارجية.
وهذا مقياس يعينك على معرفة الكلمة التي أمامك إنْ كانت كلمة حقيقية ذات مدلولات، أم هي شبه كلمة، أخذت صورة الكلمة ولم تفعل فعلها، فلا يجوز استعمالها في أي مجال علمي، خُذ مثلًا كلمة «عنقاء»، فإذا أردتَ تحديد مدلولاتها، فضع دالة القضية الآتية: س عنقاء، ثم ابحث عن مفردات تضع كلًّا منها مكان س، لترى هل تتحوَّل دالة القضية إلى قضية صحيحة أو لا تتحوَّل وفي هذه الحالة لن تجد أفرادًا، فتعلم بذلك أن الكلمة جوفاء.
(٤) تعميم القول ودالة القضية
القول الدال على تعميم، مثل: المصريون ساميون، ومسرحيات شيكسبير من روائع الأدب، هو قول يحمل لنا نبأ العلاقة بين فئتَين من الأشياء، من حيث دخول الواحدة في الأخرى دخولًا يشمل أفرادها جميعًا أو بعض أفرادها دون بعض، وكذلك من حيث انفصال الواحدة عن الأخرى — إنْ كانتا منفصلتين — انفصالًا يشمل جميع أفرادها أو بعض أفرادها دون بعض.
ونحن إذ نتناول بالبحث هذه الأقوال العامة التي تحدثنا عن علاقة الفئات بعضها ببعض من حيث الاتصال أو الانفصال، نجد أنفسنا مع المنطق الأرسطي التقليدي على طرفَي نقيض.
فلم يكُن المنطق الأرسطي يفرِّق بين القول الذي يعبِّر عن دخول فرد واحد في فئة ما، والقول الذي يعبِّر عن دخول فئةٍ في فئة، بل كان يجعلها على السواء نوعًا واحدًا من الكلام، يطلق عليه اسم القضية الحملية، مع أن الفرق بين النوعَين بعيدٌ غاية البُعد في نظر المنطق الرمزي الحديث، فالقول الذي يُدخل فردًا جزئيًّا في فئة ينتمي إليها، هو وحده القول الذي يصف الحقيقة الواقعة وصفًا مباشرًا، لأن الواقع مُؤلَّف من جزئيات مفردة، وتصديق الأقوال التي تعبِّر عن حالات تلك الجزئيات، أو تكذيبها، يرجع مباشرة إلى كون تلك الأقوال صورة مطابقة أو غير مطابقة للواقع الذي تقرِّره وتصوره بألفاظها، ولذلك فالقول الذي يعبِّر عن حالة فرد جزئي هو وحده القضية بمعنى الكلمة الدقيق، لأنه هو وحده الذي يمكن وصفه مباشرة بالصدق أو الكذب، فقَوْلي: «القمر يدور حول الأرض» و«النيل يفيض في أغسطس» قول يُحقَّقُ مباشرةً بالمطابقة بين الصورة التي يرسمها عن فرد ما، وبين الفرد نفسه في الخارج.
وليس الأمر كذلك في القول الذي يعمم الحكم على أفراد كثيرة في وقت واحد، مثل «كل مسرحيات شيكسبير منظومة» و«بعض مسرحيات شيكسبير مترجم إلى العربية» — فالتصديق أو التكذيب ها هنا لا يكون إلا بتحليل القول العام إلى قضايا فردية الموضوع؛ إذ يستحيل عليَّ أن أعلم إنْ كانت «كل مسرحيات شيكسبير منظومة» أو لم تكُن، إلا بالنظر إليها مسرحيةً مسرحية، لأن الواقع الخارجي مؤلف من أفراد؛ وما دام الأمر كذلك في القول العام، فليس هو بالقضية بالمعنى الصحيح، بل هو دالة قضية لأنه بمثابة القول الذي يحدِّثني عن مجهول «س»، لا أعرف كيف أحكم عليه بصدق أو بكذب إلا إذا وضعت مكان المجهول «س» الفردَ الذي يدلُّ عليه ذلك المجهول.
إن القول العام قول شرطي لا قولٌ تقريري؛ أي إنه لا يقرِّر شيئًا عن الواقع تقريرًا مباشرًا على نحو ما تفعل القضية البسيطة التي تُحدِّثنا عن فرد واحد مُعيَّن، فإن قلت قولًا عامًّا مثل: «قصائد الشعر الجاهلي تذكر الأطلال» كان ذلك بمثابة قول شرطي، هو «إذا كانت «س» قصيدة من الشعر الجاهلي، فهي تذكر الأطلال»؛ ولا يتحتم منطقيًّا أن يكون هنالك فعلًا قصائد للشعر الجاهلي، فقد تكون بادت كلها، وانتفى وجودها، ومع ذلك يبقى الشرط قائمًا، وهو: إذا كانت «س» قصيدة من الشعر الجاهلي، فهي تذكر الأطلال، مما يدل على أن تصديق هذا القول أو تكذيبه متوقف على وجود القصيدة «س»، أي على وجود فرد جزئي.
نقول إن الفرق بعيد غاية البعد بين نظرة المنطق الرمزي الحديث إلى الأقوال العامة، وبين نظرة المنطق الأرسطي، فبينما ترى المنطق الأرسطي يحصر القضايا بكافة أنواعها في الأقوال العامة، حتى القضية التي تتحدث عن موضوع فردي جزئي، يعاملها معاملته للقضية الكلية، ترى المنطق الرمزي الحديث لا يعدُّها قضايا إطلاقًا؛ لاستحالة وصفها مباشرة بالصدق أو بالكذب.
لقد أسلفنا لك القول بأن دالة القضية هي العبارة التي بها ثغرة فيها رمزٌ لمجهول، ولا تصبح ممكنة التحقيق صدقًا أو كذبًا — أي لا تصبح قضية — إلا إذا مُلئَت الثغرة بمعلوم؛ فقولنا: «س إنسان» دالة قضية لأن «س» هنا رمز لمجهول، وما دامت كذلك فمحال أن توصف بأنها صادقة أو كاذبة إلا إذا أحللنا معلومًا مكان هذا الرمز، فتصبح — مثلًا — «العقاد إنسان»، وعندئذٍ تكون قضية صحيحة، أو تصبح «أبو الهول إنسان» وتكون بذلك قضية كاذبة ويسمى المعلوم الذي نضعه مكان الرمز ﺑ «قيمة» الرمز «س».
وعلى هذا الاعتبار، تكون كل معادلة رياضية فيها رموز؛ مثل س + ص = ٥ دالة قضية، وتتحوَّل إلى قضية حين تضع القيم الثابتة مكان الرموز المتغيرة، وتوصف القضية الناشئة عن استبدال القيم برموزها، بالصدق أو بالكذب حسب القيم التي نضعها مكان الرموز، ففي المعادلة السابقة، لو وضعنا ٢، ٣ على التوالي مكان س، ص بحيث تصبح ٢ + ٣ = ٥، كان الناتج قضية صحيحة، أما إذا وضعنا ٣، ٣ على التوالي مكان س، ص، بحيث تصبح ٣ + ٣ = ٥، كان الناتج قضية كاذبة.
وكذلك كل العبارات الرمزية الشائع استعمالها في المنطق، مثل كل س هي ص، أو بعض س هي ص، دالات لقضايا لا قضايا؛ إذ من غير المستطاع أن يوصف قولنا: كل س هي ص بصدق أو بكذب، حتى تحل القيم الثابتة مكان المجهولين س، ص؛ فإذا وضعنا كلمتَي: إنسان، فانٍ، على التوالي مكان س، ص، بحيث تصبح: كل إنسان هو فانٍ، أمكن عندئذٍ أن نعرف الفئة التي نختار منها الأفراد التي تبين لنا إن كانت العبارة صادقة أو كاذبة.
وليس ثمة تناقض بين قولنا: إن دالة القضية «تصدق على كل الحالات» وقولنا في الوقت نفسه: إن دالة القضية ذاتها لا تكون صادقة أو كاذبة.
والذي نعنيه حين نقول عن دالة قضية إنها تصدق على كل الحالات هو أن جميع القيم التي يجوز أن توضع مكان المجهول في دالة، تجعل الدالة قضية صحيحة، فلو كان لدينا دالة قضية «س هي م» قلنا إنها تصدق على كل الحالات لو كانت أية جزئية «أ» من الجزئيات التي إذا وُضعت إحداها مكان «س»، بحيث نقول «أ» هي «م»، تكون لنا قضية صحيحة.
ينطبق هذا الكلام على ما «سمي» في المنطق التقليدي بالقضية الموجبة الكلية والقضية السالبة الكلية على السواء، فكلاهما قول يصدق على كل الحالات، وإذَن فكلاهما بمثابة دالة قضية؛ الفرض فيها هو أنها تصبح قضية صحيحة لو أحللنا مكان الموضوع الكلي أي جزئي من جزئياته، وهذا هو بعينه ما نقصد إليه حين نقول: إن العبارة الكلية فيها عنصر الشرط.
ونضيف إلى ما قلناه عن دالة القضية التي تصدق في كل الحالات، حقيقة هامة، وهي أن كل قضايا المنطق على الإطلاق، هي من هذا القبيل؛ إن المنطق لا يُعنى — حين يقرر مبادئه العامة — بهذا الفرد الجزئي أو ذاك، إنه لا يُعنى بهذا الطائر الجزئي أو بهذه البقعة الجزئية من اللون، أو بهذه العلاقة الجزئية التي أراها الآن تربط الكتاب بالمنضدة، حين أقول: هذا الكتاب على هذه المنضدة؛ بل يُعنى المنطق بما هو عام إلى أقصى درجات التعميم، بحيث يجيء كل مبدأ عام من مبادئه ممكن التطبيق على كل حالة جزئية من حالات الوجود، فقولي مثلًا: «إذا كانت س يلزم عنها ص، ثم تبيَّن صدق س، لزم أن تكون ص صادقة» قول عام صادق على كل حالة تشير إليها س، ص كائنة ما كانت س أو ص، وعلى هذا الاعتبار تكون مبادئ المنطق كلها دالات لقضايا مما يصدق على كل الحالات.
فماذا نقول إذَن في دالة القضية التي تصدق على «بعض» الحالات؟ هنا نذكِّر القارئ بالمعنى الذي حدَّدنا به كلمة «بعض» وهو: «هنالك واحد على الأقل»، فإذا قلت: «بعض العلماء فقراء»، كان المراد «هنالك على الأقل عالِم واحد؛ بحيث يوصف هذا العالِم بالفقر» وهذا موقف لا يتوافر إلا إذا كانت هناك حالة جزئية من هذا القبيل، قد لوحظ وجودها فعلًا ولو لم يكُن هذا هكذا لما جاز للمتكلم أن يقول: «هنالك على الأقل عالم واحد بحيث يوصف هذا العالم بأنه فقير.»
ونتناول الآن بعض ما تصوره المنطق التقليدي فيما أسماه بالقضية الكلية والقضية الجزئية، لنرى مقدار بُعده عن التحليل الصحيح، ولنضرب لذلك مثلًا هذه الصورة الرمزية للقضية الكلية «كل ص هي ك»، هذه عند المنطق القديم قضية من أبسط الأوليات التي ينحل إليها الفكر، ولا يمكن أن تنحل إلى ما هو أبسط منها.
- (١) «كل ص هي ك» معناها: «قولنا {[س١ هي أ] يلزم عنها [س١ هي ب]} هو قول صادق دائمًا.»
- (٢) «بعض ص هي ك» معناها: «قولنا {[س١ هي أ] تصاحبها [س١ هي ب]} هو قول صادق أحيانًا.»
- (٣) «لا ص هي ك» معناها: «قولنا {[س١ هي أ] يلزم عنها [س١ هي ~ ب]} هو قول صادق دائمًا.»
- (٤) «بعض ص ليس ك» معناها: «قولنا {[س١ هي أ] يصاحبها [س١ هي ~ ب]} هو قول صادق أحيانًا.»
وكذلك قل في الجزئيتين الموجبة والسالبة: «بعض ص هي ك» و«بعض ص ليس ك»، فها هنا كذلك تتحد العبارتان في التركيب الصوري، ولا تختلفان إلا في الرمز الذي يرمز به للحد «ك» في كلٍّ من الحالتين.
(٥) وجهة النظر التقليدية للقضية الحملية
ويجمل بنا أن نقول كلمة موجزة غاية الإيجاز في أقسام «القضية الحملية» عند المنطق الأرسطي، ليلم القارئ بوجهة النظر التقليدية في ذلك، حتى يكون أقدر على مقارنة القديم بالحديث في غضون الحديث.
للقضية الحملية في المنطق الأرسطي تقسيم رباعي تقليدي مشهور، يقوم على أساس الكم والكيف.
فالقضية من حيث الكم تخبرنا بأحد أمرين:
-
(١)
علاقة فئة بأسرها مع فئة أخرى، على أن يحسب الفرد الواحد فئة بأسرها إذا كان موضوع القضية فردًا واحدًا.
-
(٢)
علاقة بعض أفراد فئة ما، مع فئة أخرى.
فإن كانت الأولى سميت القضية قضية كلية؛ وإن كانت الثانية سميت القضية قضية جزئية.
- (١)
دخول أفراد فئة ما في فئة أخرى، دخولًا يشمل جميع الأفراد أو يقتصر على بعضهم.
- (٢)
عدم دخول أفراد فئة ما في فئة أخرى، بحيث يشمل هذا الانفصال جميع أفراد الفئة أو يقتصر على بعضهم.
فإن كانت الأولى سميت القضية قضية موجبة، وإن كانت الثانية سميت القضية قضية سالبة.
ومن هذين التقسيمين معًا، جاء التقسيم الرباعي المشهور، وهو أن تنقسم القضية إلى:
-
(١)
قضية كلية موجبة مثل: كل طير ذو جناحين.
-
(٢)
قضية جزئية موجبة مثل: بعض الطيور جارحة.
-
(٣)
قضية كلية سالبة مثل: ليس من الطير ما يلد.
-
(٤)
قضية جزئية سالبة مثل: بعض الطيور لا يهاجر.
- (١) كل س − ص وصورتها في المنطق الرمزي هي س ~ ص = صفر.
- (٢) بعض س − ص وصورتها في المنطق الرمزي هي س ص ≠ صفر.
- (٣)
لا س − ص وصورتها في المنطق الرمزي هي س ص = صفر.
- (٤)
(٥-١) صور القضية
ترى من الصور الأربع السالفة، أن كم القضية وكيفها يتحدَّدان بأداة معيَّنة، فكلمة «كل» (أو ما في معناها) تحدد القضية موجبة كلية، وكلمة «بعض» (أو ما في معناها) تحددها موجبة جزئية؛ وكلمة «لا» (أو ما في معناها) تحددها سالبة كلية، وكلمة «ليس بعض» (أو ما في معناها) تحددها سالبة جزئية.
وتُسمى كل أداة من هذه الأدوات اللفظية، «صورًا»، لأنها تحيط بالقضية إحاطة السور بقطعة الأرض، فتحدد كمها وكيفها.
لقد كنا — في فاتحة الفصل الخامس — قد قسمنا ألفاظ اللغة نوعين، فلفظ نسمي به شيئًا ما، مثل: «قط»، و«كلب»، و«فرنسا»؛ ولفظ لا نسمي به شيئًا قط في عالم الأشياء، لكننا نستعمله في بناء العبارة الكلامية، فهو إذَن يكون من القضية بمثابة إطارها، أو صورتها، أو قالبها، الذي يحدد نوع المادة التي تصب فيه ومقدارها.
ومن أهم الألفاظ البنائية، هذه الكلمات التي تكون للقضايا بمثابة أسوارها: كل، بعض، لا، ليس بعض، فهذه كلمات لا تسمي قط شيئًا في عالم الواقع؛ إذ ليس بين الأشياء في الخارج شيء تستطيع أن تشير إليه قائلًا: هذا «كل» أو هذا «ليس» على نحو ما تشير إلى القط قائلًا هذا «قط».
(٥-٢) الاستغراق
يجري الاصطلاح على أن نقول عن الفئة التي تشير إلى كل أفرادها، بأنها «مستغرقة» وعن الفئة التي نشير إلى بعض أفرادها بأنها «غير مستغرقة»، وواضح أن الكلية — سالبة كانت أو موجبة — تستغرق موضوعها، وأن الجزئية — سالبة كانت أو موجبة — لا تستغرق موضوعها؛ فإذا قلت: «كل حيوان ثديي يلد» كانت فئة الحيوان الثديي مستغرقة، وكذلك إذا قلت: «لا حيوان ثديي يبيض» كانت فئة الحيوان الثديي مستغرقة، أما إن قلت: إن «بعض الحيوانات الثديية يتسلق الأشجار»، أو قلت: «بعض الحيوانات الثديية لا يمشي على قدمَين» كانت فئة الحيوان الثديي غير مستغرقة.
وأما المحمول، فالرأي التقليدي هو أن القضية الموجبة (كلية كانت أو جزئية) لا تستغرق محمولها، لأننا لا نريد من أفراد ذلك المحمول إلا عددًا يساوي عدد أفراد الموضوع، وما تبقى بعد ذلك من تلك الأفراد لا يكون مشمولًا في الحكم، وإذَن فليس المحمول كله مستغرقًا؛ وأما المحمول في القضية السالبة (كلية كانت أو جزئية) فهو مستغرق، لأننا نريد بالحكم السلبي أن ننفي المحمول كله بجميع أفراده عن الموضوع، وإذَن فهو مستغرق.
ونضع ذلك في قائمة تلخصه:
نوع القضية | الموضوع | المحمول |
---|---|---|
موجبة كلية | مستغرق | غير مستغرق |
موجبة جزئية | غير مستغرق | غير مستغرق |
سالبة كلية | مستغرق | مستغرق |
سالبة جزئية | غير مستغرق | مستغرق |
فالموضوع في الكليتين مستغرق، وفي الجزئيتين غير مستغرق.
ويجيب هاملتن على ذلك بقوله بأن المحمول يمكن أن تحدد كميته بغض النظر عن كيف القضية، وذلك بأن نجعل له سورًا مستقلًّا غير سور الموضوع، فنقول مثلًا: «كل س هو كل ص» و«كل س هو بعض ص» وبذلك يكون للقضية الموجبة الكلية صورتان إحداهما يستغرق فيها المحمول، والأخرى لا يستغرق فيها المحمول، وكذلك في القضية الموجبة الجزئية يمكن تحديد كمية المحمول بصورتين، فنقول: «بعض س هو ص» أو «بعض س هو كل ص» وبهذا يصبح محمول القضية الموجبة الجزئية مستغرقًا في الثانية وغير مستغرق في الأولى، وهكذا، لكننا نرجئ الحديث في هذا إلى فصل تالٍ سنعقده للمعادلات المنطقية بين القضايا، لنرى أثر ذلك الاتجاه في المنطق الرياضي الحديث؛ إذ ما دمنا سنجعل للموضوع كمية وللمحمول كمية مستقلة، فقد تتساوى أو لا تتساوى الكميتان؛ وبالتالي تكون القضية معادلة أو لا معادلة.
(٦) أسوار الكم والكيف
(٦-١) معنى كلمة «كل»: للفظة «كل» معانٍ ثلاثة
-
(١)
المعنى الإحصائي؛٩ فافرض — مثلًا — أنك نظرت إلى كل الكتب الموضوعة على رف مكتبي، فوجدتها جميعًا كتبًا في الفلسفة، وقلت: «كل الكتب هنا كتب فلسفية»، فلفظة «كل» في هذا السياق معناها «جميع الأفراد واحدًا واحدًا»، وهذا هو المعنى الذي تستخدم به «كل» فيما يسمى بالاستقراء التام، الذي يصل إلى التعميم بعد إحصاء الأفراد الجزئية جميعًا؛ من هذا القبيل أيضًا قولك: «كل طلبة كلية الآداب تزيد أعمارهم على ستة عشر عامًا» و«كل ملك من ملوك فرنسا في القرن الثامن عشر كان اسمه لويس».
-
(٢)
المعنى الاحتمالي،١٠ وهو أن تخبر بعض الأفراد من نوع مُعيَّن، فتحكم بما خبرته في تلك الأفراد على النوع كله، مثال ذلك أن تجري التجربة العلمية على بعض عينات الماء وتراها مكونة من إيدروجين وأوكسجين بنسبة معينة فتقول هذا عن الماء كله، والقوانين العلمية (ما عدا قوانين الرياضة والمنطق) هي من هذا القبيل.
ولما كنا نستعمل كلمة «كل» بهذا المعنى المشمل أفرادًا لم تقع في خبرتنا، كانت تدل على الاحتمال لا على اليقين.
هذان الاستعمالان السابقان لكلمة «كل» معتمدان كلاهما على التجربة، ولذا فالقضية المسبوقة بها في كلٍّ من الحالتين، قضية إخبارية بعدية (أي تأتي بعد الخبرة الحسية) وسبيل تحقيقها يكون بالرجوع إلى العالم الواقعي الخارجي ومدى صدقها هو الاحتمال لا اليقين.
-
(٣)
المعنى اليقيني،١١ وهو الذي نستعمل فيه كلمة «كل» لتعني تعميمًا مطلقًا بغير قيد أو شرط، كقولنا «كل مثلث متساوي الأضلاع متساوي الزوايا».
وواضح أننا لا نعتمد في هذا التعميم المطلق على الخبرة الحسية، لأن الخبرة الحسية محدودة بزمان معين ومكان معين، مع أننا ها هنا نطلق الكلمة لتشمل كل زمان وكل مكان، ومن ثَم كانت القضايا التي من هذا الضرب «قبلية» (أي تتكون قبل الخبرة الحسية) وكل قضايا الرياضة والمنطق هي من هذا القبيل. أمثال هذه القضايا تكون «تكرارية» لا «إخبارية»، أي إنها تكون تحصيل حاصل لا خَبَرَ فيها عن العالم الخارجي، وهي تحصيل حاصل لأنها تكرِّر لفظًا بما يساويه، ففي المثال السابق «كل مثلث متساوي الأضلاع، متساوي الزوايا» نرى حدين كليين: «مثلث متساوي الأضلاع» و«مثلث متساوي الزوايا». هذان الحدان مترادفان، لأنهما يشيران إلى نفس المسميات، فكأنك تكرِّر اللفظ نفسه مرتين، وتقول: «كل مثلث متساوي الأضلاع مثلث متساوي الأضلاع»، هكذا الحال في كل قضية رياضية يقينية إنها تكرر معنًى واحدًا في صيغتين مترادفتين، حتى لنجعلها في أغلب الحالات على صور معادلة تفصلها علامة التساوي (=)، فهي إذَن لا تقول شيئًا جديدًا، ومن هنا كان يقينها.
إن أكبر سند يتكئ عليه العقليون في فلسفتهم، لهو هذا النوع اليقيني من القضايا: يسألونك من أين جاء اليقين إن لم يكن من العقل، ما دامت الحواس ليست مصدره؟ وجوابنا هو: جاء اليقين من كون القضية تحصيل حاصل صورتها هي: أ = أ، فهي لا تقول شيئًا وبالتالي لا تتعرض للخطأ.
هذه معانٍ ثلاثة لكلمة «كل»، تختلف باختلاف الأساس الذي نبني عليه رأينا في صدق (أو كذب) القضية المسبوقة بها؛ لكننا نريد هنا تحديدًا لمعناها في كل سياق منطقي، ولذا سنجعل معناها دائمًا هو المعنى الشرطي: إذا وجد فرد س، فهذا الفرد يكون كذا؛ مثال ذلك: «كل إنسان فانٍ»، هذه القضية معناها:
أي فرد س نلقاه، إذا كان إنسانًا، فهو كذلك فانٍ، ويعبر عن القضية الكلية في المنطق الرمزي بالصيغة الآتية:
(س): س (ص).
ومعناها: (عن كل فرد من أفراد س)، إذا كان الفرد س فهو كذلك ص.
(٦-٢) معنى كلمة «بعض»
- (١)
فهي أحيانًا تستعمل بحيث تدل على «أكثر من واحد وأقل من الكل» — وهذا هو الاستعمال الجاري في لغة الحديث؛ فإذا قلت — مثلًا — بعض المصريين يجيدون ثلاث لغات أجنبية، فَهمَك السامع على أنك تعني أن هناك أكثر من مصري واحد يجيد ثلاث لغات أجنبية، وأن ذلك الوصف لا يُوصَف به المصريون جميعًا.
- (٢)
وأحيانًا تستعمل — حتى في كتب المنطق نفسها — لتعني أي عدد يقع بين: «لا أحد» و«كل»؛ فهي تخرج الطرفين، طرف النفي التام، وطرف التعميم التام؛ فإذا قلت — مثلًا — إن بعض الهنود مسلمون، كنت بذلك تخرج احتمالين: (أ) الاحتمال بألا يكون بين الهنود مسلمون إطلاقًا. (ب) والاحتمال بأن يكون جميع الهنود من المسلمين؛ والفرق بين هذا الاستعمال والاستعمال السابق، هو أن الاستعمال السابق يخرج من حسابه في تفسير كلمة بعض إمكان أن يكون هنالك مسمى واحد، في حين يشمل التفسير الثاني لكلمة بعض إمكان أن يكون هنالك واحد على الأقل.
- (٣)
ثم هي تستعمل أحيانًا لتخرج فرضًا واحدًا فقط، وهو «لا أحد»، فإذا قلت: بعض صخور المقطم رملي، كان المعنى المراد هو تكذيب القول بأن المقطم ليس فيه صخرة واحدة رملية؛ وهي بهذا المعنى لا تنفي «كل» فهنالك احتمال أن يكون من صخور المقطم ما هو رملي، ومنها ما ليس برملي؛ وهنالك أيضًا احتمال أن تكون صخور المقطم كلها رملية، وهذا المعنى الأخير هو الذي سنستعمل به الكلمة في المنطق، فيكون معناها هو: «على الأقل واحد …»
فإذا قلت: بعض الوزراء فقراء، كان المعنى المراد هو: «هنالك على الأقل وزير واحد من الفقراء» وهذا بالطبع لا ينفي أن يكون كل الوزراء فقراء.
والاصطلاح في المنطق الرمزي أن يُشار إلى العبارة المسبوقة بكلمة «بعض» بالصيغة الآتية:
(E س): س (ص)ومعناها: «هنالك على الأقل فرد واحد س؛ بحيث تكون س هي كذلك ص.»
(٦-٣) معنى كلمة «لا» أو «ليس»
فرغنا من تحديد معنى «كل» و«بعض» وكلاهما يستعمل حين يراد الإثبات، وبقي أن نحدِّد كلمة «لا» (أو «ليس») أو ما في معناهما من عبارات النفي ورموزه.
فإن كان الإثبات دالًّا على الهوية، فالنفي يدل على الاختلاف بين الأشياء، فحين أقول: «كل س − ص» أو «بعض س − ص» فإنما أعني بذلك أفرادًا معينة أرمز لها بالرمز س هي بذاتها نفس الأفراد التي أراها داخلة في فئة أخرى أرمز لها بالرمز ص، فإذا اجتمع الرمزان س، ص معًا في الإشارة إلى فرد واحد بعينه، كان في اجتماعهما توضيح لذاتيته التي يحتفظ بها رغم اختلاف الظروف المحيطة به؛ وأما النفي فعلى خلاف ذلك، لأنه بدل أن يبين التطابق الذاتي بين س، ص، تراه يبرز الفرق بينهما؛ بحيث إذا كان الفرد المعين س، فلا يجوز وصفه في الوقت نفسه بأنه كذلك ص.
فكيف يُتاح لنا أن نقول عن عبارة مثل «ليست السماء خضراء» إنها صادقة أو كاذبة؟ لا سبيل إلى ذلك سوى أن أرسم لنفسي صورة إيجابية للحقيقة الواقعة: «السماء زرقاء» وأحفظها في الذاكرة، حتى إذا ما قيل لي: «السماء خضراء» ركبت صورة أخرى مستعينًا بتجربتي عن اللون الأخضر، وهذه الصورة الأخرى إيجابية كذلك؛ حين أقول: «ليست السماء خضراء» يكون معنى النفي هو أن الصورتين مختلفتان وليستا متطابقتين تطابقًا ذاتيًّا، ومن ذلك ترى أن الحكم الإيجابي لا بد من وجوده أولًا، لنستطيع بعد ذلك أن ننفي.
ولما كان الإثبات، يمكن تعريفه بالنفي، لأنه مُؤلَّف من نفي النفي، إذَن تبقى لنا فكرتان رئيسيتان: هما النفي، وعلاقة الفصل بإما … أو … وقد وفق في تحليل الثوابت المنطقية كلها إلى هاتين الفكرتين.
ويجمل بنا أن نفرق في حالات النفي بين العبارة السالبة والحد السلبي (أو العدول)، ففي الحالة الأولى حين تقول بالرموز «س ليست ص» يكون النفي مُنصبًّا على العبارة كلها كوحدة، فلو رمزنا للعبارة كلها برمز واحد هو «ق» كانت صورتها الرمزية في حالة السلب هي: − ق؛ ومعناها ق كاذبة.
فمعنى قولنا «س ليست ص» هو أنه من الكذب أن تنسب س إلى ص، دون أن يكون هذا التكذيب دالًّا على شيءٍ من حيث وجود س وجودًا فعليًّا واقعيًّا أو عدم وجودها، فالتكذيب هنا له احتمالات كثيرة فربما يكون مصدر الكذب أن س ليست موجودة إطلاقًا، وإذَن فمن الكذب أن ننسبها إلى ص، وربما يكون مصدر الكذب هو أن س — رغم وجودها — لا تنتسب إلى ص، وربما يكون مصدر الكذب هو أن ص التي تنسب إليها س، ليس لها وجود.
ولنضرب لذلك مثلًا ماديًّا، فنقول: «ملك المدينة الفاضلة ليس من آلهة الأولمب»، هذه قضية سالبة، معناها: من الكذب أن يُقال عن ملك المدينة الفاضلة إنه من آلهة الأولمب؛ فما مصدر الكذب؟ قد يكون مصدره أن ملك المدينة الفاضلة اسم على غير مسمى، وقد يكون موجودًا لكنه ليس إلهًا من آلهة الأولمب، التي لها وجود حقيقي؛ وقد يكون مصدر الكذب أن ملك المدينة الفاضلة موجود فعلًا لكن ليس هنالك آلهة للأولمب بحيث يصح نسبته أو عدم نسبته إليها.
هذا هو ما نعنيه إذ نقول: إن السلب حين ينصبُّ على العبارة ينفيها كلها كوحدة متماسكة.
أما الحد المنفي فهو يدخل جزءًا في قضية موجبة، وليس يدل النفي فيه إلا على نفي الحد وحده، فقولنا «س هي لا − ص» قول إيجابي يثبت لشيء ما هو «س» صفة ما هي «غياب ص».
والأقوال العامة السالبة — كالأقوال العامة الموجبة — فيها معنى الشرط وإنها لكذلك في لغة الحديث الجارية، فإذا قلت لخادمك: «الدخول غير مسموح به للزائرين اليوم» كان ذلك بمثابة قولك: «إذا جاء اليوم زائر فلا يسمح له بالدخول»؛ فهي لا تقرر حقيقة واقعة كالقضية البسيطة، إذ قد يجيء زائرون اليوم وقد لا يجيء؛ ولا تصبح العبارة السالبة تقريرًا لحقيقة واقعة إلا بوساطة قضية بسيطة مثبتة، وعندئذٍ يكون التفكير قد سار في خطوات ثلاث هي: (أ) الدخول غير مسموح به للزائرين اليوم. (ب) زائر ما جاء اليوم. (ﺟ) هذا الزائر لم يُسمح له بالدخول.
وقد تكتب العبارة السالبة بصورة رمزية على النحو الآتي الذي يبرز فيها عنصر الشرط:
(س): س (− ص)
وتقرأ هكذا: إذا كان هنالك أي فرد س فهذا الفرد ليس ص.
- (أ)
العدد الواقع بين ٣، ٤ ليس فرديًّا.
- (ب)
العدد الواقع بين ٣، ٤ ليس زوجيًّا.
لو قلنا إنهما كاذبتان، على نحو ما قلنا آنفًا عن قضية «ملك المدينة الفاضلة ليس من آلهة الأولمب»، باعتبار أن الكذب في هذه الحالة معناه أن الموضوع لا وجود له حتى يوصف بأنه ليس فرديًّا، أو ليس زوجيًّا، وجدنا أنه قول لا يستقيم؛ لأن العبارتين نقيضتان، ويستحيل أن تكذبا معًا، لأنه إذا كذب نقيض فلا بد أن يصدق النقيض الآخَر.
وإذَن فلا مناص من القول بأن هاتين العبارتين ليستا قضيتين بالمعنى الصحيح؛ إذ لو كانتا كذلك، لكان هنالك الأفراد التي نرجع إليها لنعرف هل صدقت الواحدة منهما أو كذبت؛ وهكذا يمكن القول عن العبارات السالبة ذات الفئات الفارغة: إنها كلها سواء من حيث الحكم عليها بالصدق أو بالكذب، فهي كلها صادقة إن شئت، وهي كلها كاذبة إن شئت، لأنها كلها تتحدث عما لا وجود له، فلا فرق فيها — إذن — بين صدق وكذب.