الفصل السابع

الفئات

(١) المفهوم والماصدق

إذا استثنينا من كلمات اللغة أسماء الأعلام، أي الكلمات التي تدلُّ كلُّ كلمة منها على فرد واحد متعين محدد المكان والزمان، كانت بقية كلمات اللغة أسماء كلية، يطلق الاسم الواحد منها على فئة من أفرادٍ يجمعها ما بينها من تشابه، والتشابه بين فردين معناه أن بينهما موازاة تجعل كل جانب أو علاقة في أحدهما مقابلًا لجانب أو علاقة في الآخر.

وإذا كانت الفئات مجموعات من مفردات، كانت هذه المفردات أسبق منها في الوجود؛ وإذن فليست الفئات كائنات أولية، بل هي كائنات يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها، ألا وهو الأعضاء التي منها تكوَّنَت الفئة؛ فلو تصورنا أننا قد استطعنا من الوجهة النظرية أن نطلق اسمًا على كل فرد جزئي من الأفراد الموجودة في العالم، لما أصبحت هناك ضرورة تستدعي بقاء الأسماء الكلية الدالة على فئات — مثل إنسان وشجرة — فكل اسم من هذه الأسماء يمكن تعريفه بأسماء المفردات المندرجة تحته.

وفكرة «الفئة» أساسية في المنطق، «وتحديد معناه هو من أصعب وأهم ما تتعرض له الفلسفة الرياضية»،١ وإن معناها ليختلف باختلاف المذاهب الفلسفية المختلفة — كما سيأتي بعد قليل — فإلى أي شيء يشير اسم الفئة، أو الاسم الكلي، مثل الاسم «إنسان»؟ إن في عالم الأشياء أفرادًا، هم زيد وعمرو وخالد … إلخ، وهي الأفراد التي تصدق عليها كلمة «إنسان» — ولذلك تسمى اصطلاحًا بالماصدق، أي الذي يصدق عليه الاسم من مسميات في الوجود الفعلي — فهل هذه الأفراد هي كل ما يشير إليه لفظ «إنسان»؟ لكن لو كان الأمر كذلك لما جاز لنا أن نستخدم كلمة دالة على «فئة فارغة» — وسيأتي شرحها في هذا الفصل — ككلمة «صفر» مثلًا أو كعبارة «جبل من الذهب»؛ إذ ليس هنالك أفراد تقابل أمثال هذه الأسماء، ومع ذلك فاستعمالها جائز ومفهوم، وإذن فليس معنى الاسم الكلي مقصورًا على إشارته إلى مفردات الفئة التي جاء ليسميها.
أم هل يشير اسم الفئة أو الاسم الكلي إلى «مفهوم» تلك الفئة، و«المفهوم» كلمة اصطلاحية يُراد بها التصور الذهني الذي نتصور به الصفات التي تميز أفراد فئة معينة من أفراد فئة أخرى، وبهذا يكون معنى كلمة «إنسان» ليس هو إشارة هذا اللفظ إلى أفراد الناس في العالم الخارجي، بل هو إشارته إلى تصور ذهني للصفات التي نراها مكوِّنة لحقيقة الإنسان، كالحياة، العقل، فكلما وجدنا كائنًا حيًّا عاقلًا، قلنا عنه إنه إنسان، لكن لو كان الأمر كذلك لما أمكن الإشارة إلى أفراد فئة معينة بمفهومين مختلفين، مع أن هذا ممكن، فالأفراد التي يشير إليها المفهوم «كائن حي عاقل» هي نفسها الأفراد التي يشير إليها المفهوم «كائن ذو قدمين وبغير ريش»، وفوق هذا كله فحتى القائلون بأن الاسم الكلي مثل «إنسان» يشير إلى مفهوم ذهني، ليسوا على اتفاق فيما بينهم عن أي الصفات هي التي تكوِّن ذلك المفهوم، وهم في ذلك فرق ثلاثة:
  • (١)

    ففريق يقول: إن مفهوم اللفظة هو مجموعة الصفات التي تكفي لتعريفها، وهو لهذا ضروري لتحديد مسمياتها، بحيث إذا غابت تلك الصفات الرئيسية عن الشيء، أخرجناه من دائرة مسميات اللفظة التي نحن بصددها، ومعنى ذلك أننا لا نُدخل في المفهوم كل الصفات التي قد تتصف بها أفراد المسميات، فالإنسان مثلًا من صفاته أنه يأكل ويلبس الملابس ويبني الدور ويُنشئ الحكومات ويحارب ويتزوج ويضحك ويبيع ويشتري، إلى آخر هذه الألوف من صفاته التي تراها تتشابه أو تختلف في أفراد الإنسان، لكن المفهوم الذي تقرر به إن كان الشيء الذي أمامنا إنسانًا أو غير إنسان، لا يتألف من هذه الصفات كلها، بل تكفي فيه الصفات الرئيسية التي تعرِّف الإنسان تعريفًا يميزه من سائر الكائنات، وقد قيل في هذا الصدد: إن صفتي الحياة والتفكير وحدهما كافيتان لتعريفه، ولذا فهما وحدهما تؤلفان مفهوم كلمة «إنسان»، فحيثما اجتمعت حياة وفكر كان الشيء الذي اجتمعتا فيه إنسانًا.

  • (٢)

    وفريق آخَر يقول: إن ذلك تحديد لمعنى الكلمة لا مبرِّر له، وإنما يتألف مفهوم الكلمة من كل ما تستدعيه هذه الكلمة في ذهن قائلها أو سامعها من معانٍ وخواطر، أعني أن كل ما يرتبط بالكلمة في الذهن داخل في معناها، وبناءً على هذا الرأي، لو قلت لي كلمة «ميدان» — مثلًا — وكان يرتبط في ذهني بهذه الكلمة صور من قتالٍ نشبَ وأفقدني عزيزًا وأحاط بذلك كله حزن ما زال ينشأ في نفسي كلما ذكرت كلمة «ميدان»، كان ذلك كله داخلًا في معنى الكلمة بالنسبة لي.

    وواضح أن مثل هذا الرأي لا يهم المنطق وإنْ يكُن هامًّا لعلم النفس، لأننا نريد ما هو عام مشترك بين الناس في فهم الكلمة، لا ما هو خاص بفرد دون آخر، وإلا لاستحال التفاهم، إن ما يحيط بالكلمة من معانٍ وخواطر ومشاعر ووجدانات هو الذي يقصد إليه الأديب — كالشاعر مثلًا — حين يكتب، لأن مراده أن يثير في القارئ أو السامع وجدانًا معينًا، كالحزن أو الفرح، وأن يثير في ذهنه صورًا معينة، فتراه يستخدم اللفظ الذي يغلب أن يثير هذه الصورة وذلك الوجدان، أما العالم فيطرح كل هذه الشحنة العاطفية من الكلمة التي يستخدمها، ويستبقي من معناها الجانب المشترك وحده، حتى لترى العلماء يُؤثِرون الرموز على الكلمات كلما أمكن ذلك، ليكون للرمز المعنى المراد وحده، ولا يختلط به شيء مما تعلق به من خواطر بسبب استعماله في الحياة اليومية؛ هذا كله نرفض هذا المذهب الذاتي في فهم الألفاظ من الناحية المنطقية.

  • (٣)

    وفريق ثالث يرى أن يتكوَّن مفهوم الكلمة، لا من مجموع الخواطر العقلية التي ترتبط بالكلمة في ذهن قارئها أو سامعها، بل من مجموع الصفات التي تتصف بها المسميات دون إضافة شيء من عندنا نستمده من ذكرياتنا ومشاعرنا الخاصة؛ فالفرق بين هذا الفريق والفريق الأول هو أنه لا يقصر المفهوم على بعض صفات الشيء دون بعض، والفرق بينه وبين الفريق الثاني هو أنه لا يعني باللفظ إلا الصفات التي نستطيع جميعًا مشاهدتها في الشيء المسمى، حتى لا يختلف المعنى من فرد إلى فرد.

وليس هذا الخلاف على ما قد تعنيه الألفاظ الكلية بالشيء الجديد؛ إذ يمتد في التاريخ إلى العصور الوسطى، حيث انقسم الفلاسفة إزاءه إلى:
  • (١)

    اسميين.

  • (٢)

    وتصوريين.

  • (٣)

    وشيئيين.

أما التصوريون والشيئيون فكلاهما يقع في الفريق الأول من حيث «مفهوم» اللفظ، لأن كليهما يرى أن «المفهوم» هو الجوهر، ثم يختلفان فيما بينهما في أن التصوريين يجعلون ذلك الجوهر مدركًا عقليًّا وكفى؛ فجوهر إنسان مثلًا عبارة عن تصور عقلي لصفة الحيوانية وصفة التفكير ممتزجتين، على حين يجعله الشيئيون شيئًا قائمًا بذاته في الخارج، بالإضافة إلى كونه موجودًا في العقل مدركًا كليًّا، وبذلك يكون جوهر «إنسان» عند هؤلاء — وعلى رأسهم أفلاطون — قائمًا في الواقع الخارجي، له وجود مستقل فوق وجود الأفراد، وقائمًا في العقل الإنساني أيضًا كأنما هو صورة انطبعت فيه عن ذلك الأصل الخارجي.

وأما الاسميون — ومن أبرز مَن يمثِّلونهم في الفلسفة الحديثة باركلي وهيوم — فيرون الألفاظ الكلية مجرد أسماء، أو إنْ شئت فقُل مجرد أصوات (إن كانت منطوقة) لا تدل الواحدة منها إلا على أفراد جزئية في الخارج، وليس لها فوق هذه الأفراد الجزئية أي مدلول على الإطلاق، لا في العقل ولا في عالَم آخر، نعم إنه قد يكون للكلمة مدلول في الذهن هو صورة جزئية لفرد جزئي، احتفظت بها الذاكرة، لكن هذه الصورة الجزئية للفرد الجزئي التي قد احتفظ بها إلى جانب الكلمة، هي من قبيل الجزئي المحسوس نفسه، لأنها صورته وليست هي مدركًا كليًّا عقليًّا يختلف عن كل الأفراد الجزئية التي وقعت لي في خبرتي.

فكلمة «إنسان» — مثلًا — هي مجرد صوت ننطق به، أو مجرد ترقيم نخطه على الورق، لنرمز به إلى مجموعة أفراد، دون أن نعني به فوق هؤلاء الأفراد «جوهرًا» كليًّا عقليًّا يكون هو مفهوم الكلمة.

والوضعيون اسميون، يرون في الكلمة رمزًا يشير إلى أفراد ولا يشير إلى تصور عقلي (هذا غير الصورة الذهنية الفردية الجزئية التي قد نحتفظ بها واضحة أو غامضة من خبرتنا الحسية)، أو بلغة المنطق: يرى الوضعيون أن الكلمة اسم له ماصدقات وليس له مفهوم، فالعالم — كما يقول فتجنشتين٢ — كله ماصدقات وليس فيه مفهوم، وسنرى فيما بعد عمق الأثر وبعد النتائج التي تترتَّب على مثل هذا الرأي.

(٢) الاسم الكلي دالة قضية

لكننا نتساءل: كيف نشير باسم واحد مثل «إنسان» إلى أفراد كثيرة في آنٍ واحد، منها ما هو موجود الآن ومنها ما هو ماضٍ قد اختفى من الوجود ومنها ما هو آتٍ لم يوجد بعدُ؟

الجواب هو أن الاسم الكلي في الحقيقة ليس اسمًا بالمعنى المتعارف عليه في أسماء الأعلام، فليس الاسم «إنسان» يطلق على مسمياته بمثل ما يطلق الاسم «العقاد» على مسماه، وإنما الاسم الكلي يمكن تحليله إلى دالة قضية؛ فهو عبارة بأسرها ذات ثغرة شاغرة ترمز إلى مجهول، ولا يصبح معناها كاملًا إلا إذا سُدت الثغرة بفرد معلوم؛ فكلمة «إنسان» تساوي دالة القضية: «س يتصف بكذا وكذا من الصفات البشرية» وكلما وجدنا فردًا معيَّنًا يوضَع اسمه مكان «س» تحوَّلت دالة القضية، إلى قضية، كقولنا «العقاد» يتصف بكذا وكذا من الصفات البشرية.

ولهذا التحليل نتيجة هامة وخطيرة، وهي أن الاسم الكلي رمز ناقص، أي إنه وحده لا يدل على شيء مُعيَّن، ولا يصبح رمزًا كاملًا إلا إذا تحولت دالته إلى قضية كاملة بأن نضع اسم فرد معلوم مكان الرمز المجهول القيمة المتضمن فيه؛ أما إذا لم نجد فردًا معلومًا يحقق وجود الفئة وجودًا فعليًّا، لبث اسم الفئة معلقًا في الأذهان بغير دلالة جزئية معينة.

فالفئة هي مجموعة الأفراد التي يصلح كل واحد منا أن يوضع مكان الرمز المجهول في دالة القضية فيحولها إلى قضية صادقة؛ فإذا كانت الدالة هي: «س إنسان» كانت فئة الناس هي تلك الأفراد التي إذا وضعنا اسم أي فرد منها مكان «س»، أصبحت دالة القضية قضية صادقة، كقولنا «سقراط إنسان» و«أفلاطون إنسان» و«أرسطو إنسان» وهلُمَّ جرًّا؛ ويخرج من فئة الناس كل فرد نضع اسمه مكان الرمز «س» فتتحول دالة القضية إما إلى قضية كاذبة، أو إلى كلام بغير معنًى، ومثل الحالة الأولى أن نقول: «هذا الفرد إنسان» ومثل الحالة الثانية أن نقول: «الفضيلة إنسان».

وإذا وجدنا دالتين تحدِّدان فئة واحدة بعينها من الأشياء، كانت تلك الدالتان متعادلتين، فالدالة: «س إنسان» والدالة: «س ذو قدمين وبغير ريش» متعادلتان؛ لأن الأفراد التي تجعل الدالة الأولى قضية صادقة هي نفسها الأفراد التي تجعل الدالة الثانية قضية صادقة.

(٣) أنواع الفئات

جميع الفئات تشترك في أن الأسماء الدالة عليها هي دالات قضايا بالمعنى الذي أسلفناه لكنها تختلف بعد ذلك في مدى نطاق الأفراد التي يصلح كل فرد منها أن يوضع مكان الرمز المجهول في دالة القضية فيجعلها قضية صادقة؛ فهنالك الفئات ذوات الأفراد الكثيرة مثل «إنسان»، وهنالك الفئات ذوات العضو الواحد، مثل: «كوكب يدور حول الأرض» وهنالك الفئات الفارغة التي هي بغير أعضاء، مثل «جبل من ذهب».

(٣-١) الفئة كثيرة الأعضاء

هنالك نوعان من العضوية في هذه الحالة؛ عضوية أحد الأفراد في الفئة التي ينتمي إليها، مثل: «العقاد عربي»، وعضوية فئة في فئة أخرى تشملها، مثل: «العرب ساميون».

ولم يدرك رجال المنطق إلا حديثًا هذه التفرقة الهامة بين دخول فئة في فئة أخرى، ودخول فرد في فئة ينتمي إليها؛ ويرجع الفضل في إدراكها للرياضي المنطقي «بيانو»٣ الذي اقترح أن نجعل رمز عضوية الفرد في فئة هو العلامة حتى نميزها من العلاقات التي تختلط بها، فإذا كتبنا «أ س» كان معنى ذلك أن العضو في فئة س.

فقد كانت هذه العلاقة — علاقة عضوية الفرد في فئة — تختلط قديمًا بعلاقات أخرى، فتختلط مثلًا بعلاقة الهوية؛ ولذا فلم يكُن ثمَّة فرق عند المنطق التقليدي بين قولنا: القاهرة عاصمة الجمهورية العربية المتحدة، وقولنا: القاهرة مدينة كبيرة، فكلاهما كان بعد قضية توصف فيها القاهرة بصفة ما (وهو ما كانوا يسمونه بالقضية الحملية).

بينما الأولى تعبِّر عن علاقة الشيء بنفسه، أي علاقة الهوية، لأن معناها القاهرة = عاصمة الجمهورية العربية المتحدة اسمان مختلفان لمسمى واحد؛ ولذا فهما مترادفان وتستطيع أن تضع الواحد مكان الآخر حيثما وجدته، ولذا فالقضية هنا تحليلية يقينية، لا تؤيدها التجربة الحسية ولا تدحضها التجربة الحسية، وهي شبيهة بالقضية الرياضية، مثل ٢ + ٢ = ٤.

أما الثانية فتعبر عن عضوية القاهرة في فئة من مدن ذات خصائص معينة، فهي واحدة من مدن كبيرة، وهي قضية تجريبية تركيبية تحقيقها مردُّه إلى الخبرة الحسية.

وكذلك تختلف علاقة إدخال الفرد في الفئة التي ينتمي إليها عن علاقة إدخال الفئة في فئة أخرى، والتفرقة هنا خطيرة عند تحقيق القضية من حيث صوابها وخطؤها، فالقول الذي يدخل فئة في فئة، كقولنا: العرب ساميون، والقردة حيوانات ثديية، لا سبيل إلى تحقيقه إلا إذا حوَّلناه إلى مجموعة من قضايا من النوع الأول الذي يدخل فردًا في فئة، فإذا كانت عبارة «العرب ساميون» صادقة، ظهر صدقها هذا بصدق قضايا أخرى مثل «س١ مصري وهو سامي» «س٢ مصري وهو سامي» … إلخ؛ فالفئة مجموعة أفراد، كل فرد منها يكون قضية صادقة لو جعلناه موضوعًا ونسبناه إلى تلك الفئة.

نقول إن هذه التفرقة خطيرة، لأنها هي التي تبين لنا الفرق بين اللفظة الحقيقية ذات المعنى، واللفظة الزائفة الفارغة من المعنى؛ لأنني حين أستعمل لفظة زائفة في قضية سيستحيل عليَّ أن أجد أفرادها التي أستخدمُها في تحقيقها مثال ذلك: «ملوك فرنسا في القرن العشرين عمروا جميعًا إلى سن المائة»، لتحقيق هذه العبارة التي تدخل فئة في فئة، لا مناص من الرجوع إلى قضايا من النوع الذي يدخل فردًا واحدًا في فئة، فأقول: فلان ملك فرنسي في القرن العشرين، وقد عمَّر إلى سن المائة، وكذلك فلان وفلان ولكني لن أجد أفرادًا أستخدمهم في التحقيق، لأنه ليس لفرنسا ملوك في القرن العشرين، عندئذٍ أعلم أن عبارة «ملوك فرنسا في القرن العشرين» لفظ زائف، بهذا يتوافر لديك مقياس غاية في الدقة عند تحليلك لقضية أمامك، لترى هل هي مركَّبة من ألفاظ ذات معنًى، أم أن ألفاظها زائفة، والكلام كله كلام فارغ خالٍ من المعنى.

الفرق بين اللفظة الحقيقية واللفظة الزائفة هو أن الأولى وراءها «رصيد» من المسميات الجزئية، وأما الأخرى فليس وراءها شيء يُشار بها إليه؛ فما أقرب الشَّبَه بينهما وبين الورقة النقدية الحقيقية بالقياس إلى الورقة النقدية الزائفة؛ فهاتان قد تكونان في الصورة الظاهرة متساويتين، لكن الأولى حقيقية لأن هنالك «رصيدًا» من الذهب أو ما إليه، يجعل لها «قيمة» فعلية، وأما الورقة الزائفة فليس وراءها مثل ذلك «الرصيد». ولذا فهي لا تشير إلى شيء وراءها من محفوظات «البنك» مما يجعل لها قيمة حقيقية.

إن الكلمة لا ينفي عنها الزيف طول أمد استعمالها في التفاهُم بين الناس، فإذا مضينا في تشبيهنا الألفاظ الزائفة بالنقد الزائف، قلنا إن اللفظة الزائفة التي طال أمد استعمالها بين الناس حتى ظنوا أن لها معنًى، شبيهة بظرف مقفل ليس بداخله شيء، لكنه دار بين الناس مدة طويلة على زعم وهمي، وهو أن فيه ورقة من أوراق النقد، فظلَّت له هذه القيمة في التعامل، حتى تشكك في أمره متشكِّك، وفتحه ليستوثق أن له قيمته المزعومة، فلم يجِد شيئًا، بل وجده فارغًا ولا «قيمة» له.

وهكذا قف إزاء الأسماء الكلية التي تراها فيما يعرض عليك من قضايا، انظر في عالم الأشياء باحثًا عن «رصيدها» من الأفراد الجزئية التي يدلُّ عليها الاسم، فإن وجدتها كانت الكلمة ذات معنًى، وإلا فهي فارغة زائفة.

(٣-٢) الفئة ذات العضو الواحد٤

لا يشترط عدد مُعيَّن لأعضاء الفئة، وقد لا ينطبق اسم الفئة فعلًا إلا على عضو واحد، ومع ذلك يُعَد هذا العضو الواحد فئة بأسرها، لو كان من الجائز منطقيًّا وجود أعضاء آخَرين.

فقولنا: «كوكب يدور حول الأرض» قولٌ لا ينطبق في الحقيقة إلا على كوكب واحد وهو القمر، فهذا الكوكب الواحد يمثل الفئة التي إذا وضعت أسماء أفرادها مكان «س» في الدالة: «س يدور حول الأرض» تحوَّلت الدالة إلى قضية صادقة.

وهذا يوضِّح أن مدى المصادقات التي يصدق عليها الاسم الكلي، هو الذي يحدِّد الفئة مهما يكُن ذلك المدى من السعة أو الضِّيق.

الفئة الفارغة٥

إذا كان تحديد الفئة يقرِّره مدى انطباق الاسم الكلي على ماصدقاته، فماذا نقول في اسم كلي ليس له ماصدقات، مثل «جبل من ذهب»؟ أمن غير الجائز أن نعتبره دالًّا على فئة ما دام غير ذي مسميات؟

الجواب هو أن الاسم الكلي الذي ليس له ماصدقات ينطبق عليها، هو كذلك يعد دالًّا على فئة، تُسمى بالفئة الفارغة أو الفئة التي بغير أفراد، ولها في المنطق الوضعي الحديث أهمية كبرى؛ لأنها فئة يتساوى فيها القول بالإيجاب والسلب، كلاهما يكون صوابًا إن شئت، كلاهما يكون خطأً إن شئت، فلك أن تقول:

كل ملوك فرنسا في القرن العشرين عمَّروا أكثر من مائة عام.

(أو) لا واحد من ملوك فرنسا في القرن العشرين عمَّر أكثر من مائة عام؛ ولعلك تستطيع من ذلك أن ترى عبث المناقشة في الميتافيزيقا، لأن ألفاظها تعبر عن فئات فارغة بغير أفراد، فالإثبات والنفي فيها سواء، قل إن شئت: إن «مثال البرتقالة» مستدير، أو إن «مثال البرتقالة» مربع، ولا فرق بين القولين من حيث الصدق والكذب لأنه ليس هنالك أفراد في فئة «مثال البرتقالة» يرجع إليها.

ويعبر رمزيًّا عن الفئة الفارغة بالصفر. ولما كانت كل الحدود التي ليس لها ماصدقات رمزها صفر. فهي كلها تعتبر متطابقة المدلول، فمدلول عنقاء، ومدلول غول، ومدلول «مثال البرتقالة» كلها واحد. ولست تخطئ إنْ قلت: إن هذه الألفاظ كلها تشترك في تسمية شيء واحد بذلك. لأنها كلها لا تسمى شيئًا على الإطلاق.

١  Russell, B., The Principles of Mathematics، ٦٦.
٢  Wittgenstein, Ludwig, Tractatus Logico-Philosophicus، ٠٣، ٤، ٠٤، ٥، ٠٢٤، ٤.
٣  G. Peano (١٨٥٨–١٩٣٢م) وهو الذي أشرف على إخراج مجموعة الأبحاث المسماة Formulaire de Mathematique وقام بالنصيب الأكبر في تأليفها.
٤  The Unit Class.
٥  The Null Class.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥