خصائص التفكير العلمي
١
علم «مناهج البحث» هو — كأي علم آخر — مجموعة منظمة من مبادئ عامة تدور حول موضوع معين، والموضوع في هذه الحالة هو «الطريقة» التي يسلكها العلماء للسير في بحوثهم؛ ولما كانت العلوم تختلف في مادتها، فهي كذلك تختلف في طرائقها قليلًا أو كثيرًا؛ لأن طريقة البحث إنما تكيِّف نفسها لمادة الموضوع إلى حد كبير، لكنها على هذا الاختلاف بينها، تلتقي كلها في أسس عامة هي التي تسوغ لنا أن نسمي العلم علمًا؛ ولكي نصل إلى هذه الأسس العامة التي تلتقي فيها شتى العلوم على اختلافها، فليس لنا بد من اطراح الخصائص الذاتية التي تميز علمًا من علم، لنستبقي ما هو مشترك بينها؛ وهذا من شأنه أن يوغل بنا في التجريد إيغالًا يبعدنا عن صورة العلم كما يألفه العلماء في بحوثهم كائنة ما كانت تلك البحوث؛ فعالم الفلك في مرصده، وعالم الفيزياء في معمله، وعالم الأحياء إزاء نماذجه المختارة من حيوان ونبات، كل هؤلاء يشغلون أنفسهم بهذا الموضوع المعين أو ذاك، أما نحن الذين فسنرقب هؤلاء جميعًا لعلنا نقع على الأسس المشتركة بينهم، مما يجعلهم جميعًا «علماء» على اختلاف مادة البحث وأجهزته وآلاته في كل حالة عنها في الأخرى، فلا مناص لنا من تجريد مواقف البحث العلمي من موادها المميزة المعينة، لنصل إلى مبادئ عامة، لا هي مقتصرة على علم الفلك وحده، ولا على علم الفيزياء وحده، ولا على علم الأحياء وحده، بل هي ماثلة في كل بحث يستحق أن يسمى علمًا.
وعلى هذا الأساس فليس «علم المناهج» في الحقيقة «علمًا» يضاف إلى قائمة العلوم كأنه واحد منها، بل هو وراء هذه العلوم كلها، يحلل طرائقها ليستخرج ما يجوز أن يُعَدَّ «الطريقة العلمية» في البحث كائنًا ما كان؛ وإذن فهو فلسفة للعلم بالمعنى الذي سنحدده فيما بعد لهذه الكلمة، لكننا نوجز القول هنا فنشير إلى أن فلسفة العلم هي تلك التي تحلل العلم ولا تكون جزءًا منه، فلو قلت عن ظاهرة الضوء — مثلًا — قولًا ما، كأن تقول قانونًا من قوانين الضوء، فهذا علم، أما أن تعلق على هذا القول نفسه بقول آخر يحلله أو يصله بغيره من الأقوال أو غير ذلك، فهذا يكون فلسفة للعلم؛ وعلم المناهج هو من هذا القبيل.
وقد جرى العرف أن يفرَّق بين «المنطق» من جهة و«مناهج البحث» من جهة أخرى، حتى لتوشك أن ترى كل كتاب يؤلَّف في المنطق مقسَّمًا قسمين، أولهما في المنطق. وكثيرًا ما يوصف بالصورية فيقال «المنطق الصوري»، كأنما هو وحده — دون مناهج البحث — الذي يتصف بهذه الصفة، وأما ثانيهما فيخصص لعلم المناهج، وإنه لتقسيم مصطنع نشأ عن ظروف تاريخية، نلخصها فيما يلي:
أراد أرسطو أن يحلل علم عصره تحليلًا يُفَلْسِفُه به، فيستخرج المبادئ العامة التي ينطوي عليها التفكير العلمي آنئذٍ؛ ولما كان ذلك التفكير استنباطيًّا في صورته، أي إن المفكر كائنًا ما كان موضوعه، يبدأ بأقوال مسلم بها ثم يمضي في استنباط النتائج التي تترتب عليها، فإنه إذا كان المفكر فيلسوفًا، بدأ بما يسمَّى بالمبدأ الأول، وهو مبدأ يهتدى إليه بحدسه ولا يطلب عليه البرهان، ثم يرتب على هذا المبدأ الأول نتائجه ونتائج نتائجه حتى يتم له بناؤه الفلسفي، وإذا كان عالمًا رياضيًّا. مثل أقليدس بدأ بما يسمى بالمسلَّمات، ومضى يبني عليها نتائجها حتى يفرغ من بنائه الرياضي، وهكذا.
فإن كان ذلك هو شأن التفكير العلمي، فهل يسع من يتصدى لاستخراج منطق ذلك التفكير، سوى أن يجعل من الاستنباط القياسي ركنًا ركينًا ومحورًا رئيسيًّا؟ وهكذا فعل أرسطو حين جعل من نظريته في القياس أساسًا لمنطقه، ليكون منطقه — بدوره — أساسًا للتفكير العلمي السائد.
وجاءت العصور الوسطى وجاءت معها ديانتان كبريان: المسيحية والإسلام، وأراد أتباع هاتين العقيدتين أن يديروا فيهما الفكر شرحًا وتحليلًا، فكان لا بد لهم أن يجعلوا من الكتب المنزَّلة نقطة ابتداء ينزلون منها إلى النتائج التي تتولد عنها؛ وإذن فهم بحاجة شديدة إلى الأداة المنطقية نفسها التي كان أرسطو قد أخرجها من العلوم الاستنباطية القائمة في محيطه؛ كانوا بحاجة إلى تلك الأداة المنطقية نفسها، لأن طريقة التفكير التي تستنبط النتائج من مقدمات مسلَّم بها هي بعينها الطريقة التي تلزمهم فيما أرادوا أن يضطلعوا به إزاء نصوص الكتب التي أرادوا لها التحليل والشرح.
وفي نحو القرن السادس عشر، آذنت العصور الوسطى بزوال ليحل محلها عصر يكون للعلم الطبيعي فيه مكانُ الصدارة من اهتمام المفكرين، وراح الناس يجوبون الأرض والبحر ويديرون الأنظار في أفلاك السماء، فكان لنا بذلك زمرة من العلماء: جاليليو وكبلر وكوبرنيق ونيوتن وأمثالهم، تقابل زمرة الفلاسفة التي شهدها عصر اليونان، كما تقابل زمرة رجال اللاهوت والفقهاء في العصور الوسطى، لكن زمرة العلماء اختلفت — بطبيعة الحال — عن زميلتيها السابقتين عليها، فبينما هاتان كانتا تبنيان العلم على مسلَّمات، وبذلك احتاجت إلى منهج الاستنباط الذي يحفر في تلك المسلمات حفرًا ليخرج كل ما فيها من حق كما نحفر البئر لنخرج من الأرض ما هو كامن فيها من نَبط، كانت زمرة العلماء تبدأ بداية أخرى، إذ جعلت نقطة ابتدائها أن تشاهد ما يجري في الطبيعة من أحداث لنستخلص قوانينها المطردة.
فلو أراد فيلسوف — كما أراد فرانسس بيكن — أن ينظر في هذا الموقف العلمي الجديد ليفلسفه كما فلسف أرسطو من قبله علم عصره، فماذا نتوقع منه سوى أن يضع لنا منهجًا قوامه التجربة واستقراء حوادث الطبيعة وظواهرها، بدل المنهج الاستنباطي الذي كان من قبل سائدًا؟
وجد الناس بين أيديهم شيئين: وجدوا منطقًا استخلصه أرسطو من علم عصره، كما وجدوا منطقًا آخر استخلصه بيكن من علم عصره أيضًا؛ الأول أساسه الاستنباط، أعن استخراج النتائج من مقدماتها «الجاهزة»، والثاني أساسه الاستقراء، أي تعميم الحكم على الظواهر الجزئية حيثما جاز هذا التعميم؛ فالمهمة التي أداها المنطق الأول، هي نفسها المهمة التي أداها المنطق الثاني، فإذا جاز تسمية الأول منطقًا جاز كذلك تسمية الثاني بالكلمة نفسها، وإذا جاز تسمية الثاني «مناهج بحث» جاز كذلك إطلاق الاسم نفسه على الأول؛ أما أن نصطلح على تسمية التحليل الأرسطي «منطقًا» وعلى تسمية التحليل البيكنيِّ «مناهج بحث» فقد يوهمنا — كما يتوهم معظم المشتغلين بالأمر فعلًا — أن هنالك شيئين مختلفين في القلب والصميم؛ ويزيد هذا الوهم عندما يصفون المنطق الأرسطي «بالصورية» ومنطق بيكن «بالمادية»، على حين أن المنطق كله — مهما اختلفت مذاهبه ومدارسه — هو بالضرورة «صوري» لأنه — كما قلنا — لا يختص بعلم دون علم، بل يستخلص من طرائق العلوم المختلفة جميعًا ما عساه أن يكون أساسًا مشتركًا بينها.
٢
وها هنا موضع أول سؤال نلقيه، وهو: ما الذي يجعل العلم علمًا؟ ما هي الخصائص المميزة التي إذا توافرت في مجموعة من أقوال، قيل عن هذه المجموعة إنها «علم»؟
وأول ما نلاحظه في الإجابة عن هذا السؤال هو أنه ما كل معرفة تعدُّ علمًا، بل لا بد للمعرفة حين تكون علمًا أن تتميز بصفات هي التي نبحث الآن عنها؛ بل إنه لا يكفي أن تنظَّم المعرفة لكي تستحق بنظامها هذا أن تعدَّ علمًا، فالمعلومات الواردة في دفتر التليفون، أو في جداول السكة الحديدية، منظمة ولا شك، حتى لتستطيع بفضل نظامها ذاك أن تقع على ما تريده منها في لمحة وجيزة، ولو كانت الأسماء والأرقام قد وضعت هناك كما اتفق، لاحتاج الأمر إلى زمن طويل إذا أردت الكشف عن معرفة تريدها.
كلا ليست المعرفة كلها «علمًا» حتى إن كانت معرفة على شيء من التنظيم، والواقع أن المعرفة صفة لا تقتصر على الإنسان وحده، بل إن الحيوان أيضًا ليكسب «معرفة» كلما «علَّمتْه» محاولاته الماضية أن يستجيب لبيئته استجابة تحقق له أغراضه بأيسر جهد ممكن؛ وإن التجارب التي أجراها علماء النفس على «تعلُّم» الحيوان لكثيرة ومنوعة؛ ومؤداها جميعًا أن الحيوان يظل يقلل من عدد أخطائه مع توالي تجاربه، حتى ينتهي إلى مرحلة يستطيع فيها أن «يعرف» الطريق الموصلة إلى الهدف المقصود دون أن يبذل في سبيل ذلك حركة جديدة لا تساعد على السير في الطريق الصحيح.
ونعود إلى سؤالنا: بماذا تتميز المعرفة التي تكون «علمًا»؟ الحق أننا لو أردنا للعلم تعريفًا جامعًا مانعًا، بحيث يَصْدُقُ على كل العلوم، ويمنع ما ليس علمًا من الدخول فيه، لما وجدنا الأمر هينًا ميسورًا، شأن التعريف الجامع المانع بالنسبة إلى معظم الأشياء؛ ولنضرب لك مثالًا: هبْنا نريد تعريفًا لمهنة «الفلاحة» بحيث ينطبق على كل فلاح ولا يسمح لغير الفلاح أن يدخل فيه، فماذا نقول؟ أنُدخل في التعريف حرث الأرض وريها؟ لكن من الفلاحين في بعض أصقاع العالم من لا يحرثون ولا يروون، وذلك حين تجود عليهم طبيعة الأرض والمطر بما يريدون من غير حاجة إلى حرث أو ري؛ أنُدخل في التعريف نوع المحصول كالقطن أو الغلال أو غيرها؟ لكن من الفلاحين من لا يزرق قطنًا ولا قمحًا؛ بل قد تجد الفلاح يؤدي من أوجه النشاط ما يؤديه من لا شأن لهم بالفلاحة، كصناعة الألبان وتربية الدواجن.
فماذا نحن صانعون إذن لنحدد معنى «الفِلاحة»؟ إننا لو رمزنا لأوجه النشاط التي ينشط بها الفلاحون بالرموز أ ب، ﺟ، د، ﻫ لوجدنا صورة الواقع شيئًا شبيهًا بما يلي:
فلاح ١ له من أوجه النشاط أ، ب، ﺟ
فلاح ٢ له من أوجه النشاط ب، ﺟ، د
فلاح ٣ له من أوجه النشاط ﺟ، د، ﻫ
فلاح ٤ له من أوجه النشاط د، ﻫ، و
فلو قلنا إن العنصر أ شرط أساسي للفلاح، لوجدناه عنصرًا يختفي في الفلاحين ٢، ٣، ٤؛ ولو قلنا إن ب شرط أساسي لوجدناه مختفيًا في فلاح ٣، فلاح ٤ وهكذا. لكننا نحقق كثيرًا من الصواب لو قلنا إن الفلاح هو من يتصف بطائفة من الصفات التي يمكن جمعها في مجموعة كبيرة، يصدق بعضها على هذا ويصدق بعضها الآخر على ذلك؛ على أن تكون هذه المجموعة الكبيرة هي التي تميز الفِلاحة، على الرغم من أنها لا تنطبق كلها دفعة واحدة على كل فلاح على حدة؛ وبهذا ننتهي إلى تعريف صورته الرمزية هي «إما … أو … أو … إلخ» إذ نقول إن الفلاح هو ما يشتغل بكذا أو بكذا أو بكذا.
وهكذا الحال بالنسبة إلى «العلم» و«العلماء» فلئن رأينا أن ما يميز علمًا ما لا يميز علمًا آخر، فلن نعجز عن حصر طائفة من الخصائص لا بد أن يتوافر بعضها على الأقل فيما نسميه علمًا وفيمن نسميه عالِمًا، على أننا واجدون من الصفات الرئيسية الأساسية ما يصدُق على كل علم، إلى جانب ما يميز العلوم بعضها من بعض؛ كما هي الحال في الفِلاحة، فمهما اختلفت صورها، فهي على كل حال علاقة بين الإنسان والأرض.
٣
دقة المفاهيم الواردة في الصياغة العلمية
هنالك مستويان لإدراك الإنسان لبيئته، مرتبطان أحدهما بالآخر ارتباط الأدنى بالأعلى، أو ارتباط الخطوة الأولى بالخطوة الثانية في مراحل السير، وهما: مستوى الإدراك الفطري، ومستوى الإدراك العلمي.
فأما الإدراك الفطري للأشياء فهو ما يشترك فيه أعضاء المجتمع الواحد في العصر الواحد، اشتراكًا مصدره اتفاقهم على أنماط معينة من السلوك الذي يردون به على المواقف المختلفة، واتفاقهم على لغة واحدة يتفاهمون بها ويصبُّون فيها ثقافتهم — واللغة نفسها ضرب من ضروب السلوك — وهو اتفاق من شأنه أن يوحد بينهم في طرائق انتفاعهم بالأشياء التي من حولهم، وفي وسائل تمتعهم بما يجوز التمتع به من تلك الأشياء؛ وإذن فالمجال الذي يتعلق به إدراكنا الفطري هو مجال البيئة المباشرة كما تدركها حواسنا، وكما تعيش فيها أجسادنا.
فبالإدراك الفطري نميز الأشياء بعضها من بعض، ونقول عن شيء منها إنه «ماء» وعن شيء آخر إنه «هواء» وعن شيء ثالث إنه «شجرة» وهلمَّ جرًّا؛ ثم لا يكون بين الناس اختلاف في ذلك كله، بل ولا يجوز لأحد أن يجعل شيئًا من هذا موضعًا للتشكك ما دام على صلة بالناس في مجال الذوق الفطري وحده؛ فلا يجوز مثلًا أن تقول للناس عن الماء أو عن الهواء: أحقًا هذا الماء أو هذا الهواء شيء ما لا يقبل التحليل، أم أنه مركب من عناصر؟ نعم لا يجوز لك أن تقول هذا في مجال الإدراك الفطري، لأن الناس ليسوا في هذا المجال بحاجة إلى مثل هذا القول، إذ الماء كما يرونه وكما يلمسونه صالح لكل ما يريدونه من أجله، فهو صالح للشرب وللتنظيف ولطهو الطعام ولري الأرض وغير ذلك، ولا شأن لهم بعد ذلك بتساؤلك عنه إن كان بسيطًا أو مركبًا.
لكن الإدراك العلمي لهذه الأشياء مختلف عن ذلك كل الاختلاف، فها هنا تنحل الأشياء إلى عناصرها وإلى الكميات التي اجتمعت بها تلك العناصر، حتى لتبعد صورتها عن الصورة التي يراها بها الناس في حياتهم بعدًا شديدًا؛ فمن ذا يستخدم مقعدًا أو منضدة أو ملعقة أو سكينًا، عالمًا بأن كل شيء منها مؤلف من ملايين الكهارب الموجبة أو السالبة أو المحايدة؟ إنه الكهارب هناك في استعمالها اليومي؛ ومن ذا ينظر إلى ضوء الشمس فيتساءل إن كان ذلك الضوء موجات أو جسيمات؟ لكن هذا يكون الإدراك العلمي للأشياء؛ فلئن كان الإدراك الفطري يستهدف الانتفاع بالأشياء والتمتع بها، فالإدراك العلمي يستهدف «العلم» بها من حيث عناصرها الأولية وطريقة تركيبها.
فلا «علم» ما لم يتحول إدراكنا الكيفيُّ إلى إدراك كمي لما ندركه؛ وكل لفظة دالة على «كيفٍ» قد تصلح للتفاهم بين الناس في دنياهم العملية، لكنها لا تصلح مصطلحًا في المجال العلمي إلا إذا حدد لها معنى على أساس الكم لا على أساس الكيف؛ فَلَكَ أن تستخدم كلمة «ذكاء» في حياتك اليومية بمعناها الكيفيُّ الغامض، أما إذا استخدمتها في مجال علم النفس، فعندئذٍ تتحول الكلمة إلى مقاييس كمية وصيغ عددية؛ ولَكَ أن تستخدم في حياتك العملية كلمات مثل «فقير» و«غني»، أما في حياتك العلمية فأمثال هذه الكلمات لا يجدي، ويتحتم تحويلها إلى أرقام دالة على مقدار الدخل في فترة معينة من الزمن؛ ولَكَ أن تستخدم في حياتك اليومية كلمة «حار» و«بارد» و«دافئ» وما إلى ذلك، لكن علم الطبيعة لا يعرف إلا درجات من الحرارة يقيسها مقياس برقم من الأرقام؛ فما نقول عنه إنه «بارد»، هو في الحقيقة ذو درجة حرارية معلومة وهو لا يختلف عما نسميه «حارًا» لا في تفاوت الدرجة.
فدقة المفاهيم في الصياغة العلمية تستوجب أن تكون دلالاتها كمية لا كيفية؛ وإن العلوم المختلفة لتتفاوت في درجة تقدمها بتفاوت ما قد حققته لنفسها من تحول المعاني الكيفية الشائعة في مجال الإدراك الفطري إلى مقادير كمية تصاغ في صيغة رياضية تكون هي بمثابة القانون العلمي؛ فإذا كان علم الاجتماع مثل لم يتقدم بالدرجة التي تقدم بها علم الطبيعة فما ذاك إلا لأن هذا الأخير قد تخلص من المعاني الكيفية تخلصًا تامًّا، على حين أن علم الاجتماع ما يزال متورطًا في كثير منها، مثل كلمة «مجتمع» و«طبقة» و«دولة» وغيرها وغيرها مما لا تحدده صيغ رياضية.
وليس يقف الأمر عند مجرد تحويل الكيف إلى كم في المفاهيم العلمية، إلا لما كان للأمر خطورة تذكر؛ بل إن هذا التحويل ليستتبع بعد ذلك نتائج بعيدة المدى في بناء العلم وتقدمه؛ لأنك إذا ما حولت مجموعة المفاهيم في علم ما إلى مدلولاتها الكمية، أصبح في مستطاعك أن تحول بعضها إلى بعض تحويلًا كان ليكون مستحيلًا عليك إدراكه لو أنك وقفت عند حدود الإدراك الفطري الكيفي لها؛ فانظر — مثلًا — إلى إدراكك الفطري للصوت وللضوء؛ فالصوت تسمعه الأذن والضوء تراه العين؛ فهل يمكن لهذا الإدراك الفطري أن يدرك أية علاقة بين هاتين الظاهرتين؟ لكن حَوِّل الصوت إلى مدلوله الرياضي (الذي يجعله موجات ذوات أطوال معينة) وحوِّل الضوء كذلك إلى مدلوله الرياضي، تجد نفسك إزاء أرقام وكميات، وعندئذٍ فقط قد يتراءى لك أن تحول الصوت إلى ضوء والضوء إلى صوت. كما يحدث مثلًا في عملية الإذاعة؛ فالصوت الذي يتلقاه جهاز الإرسال، يتحول إلى موجات كهرومغناطيسية تسير بسرعة الضوء، ثم تعود هذه فترتد إلى موجات صوتية في جهاز الاستقبال؛ ولما كان الفرق شاسعًا بين سرعة الصوت وسرعة الضوء، فإن صوتك المتحول إلى موجات كهرومغناطيسية قد يصل إلى أقصى الأرض في الإذاعة قبل أن يصل إلى شخص جالس أمامك تحدثه.
هكذا نحول الأشياء بعضها إلى بعض ما دامت قد تحولت في مجال العلم إلى مقادير كمية؛ ذلك فضلًا عن ترابط النسق العلمي عندما تكون مفاهيمه كمية؛ وأعني بذلك أنك تستطيع إدراك العلاقة بين مفهوم منها ومفهوم آخر، مما يتيح لك أن تستنبط أحدهما من الآخر؛ وما دامت أطراف البناء العلمي قد ارتبطت بالرباط الاستنباطي، فقد اشتدت الصلة بينها، بحيث يكون أحدهما نتيجة لازمة عن الآخر، ولا تعود مفاهيم متناثرة مفككة مبتورة الصلة بعضها ببعض؛ فالتحويل الكمي للمفاهيم العلمية من شأنه أن يرتب المادة العلمية ترتيبًا نسقيًّا في متصل مكاني زماني متجانس؛ وعندئذٍ تتبدى الظواهر الطبيعية على حقائقها العلمية؛ خذ ظاهرة «الحركة» مثلًا؛ فالأشياء المتحركة كثيرة وحركاتها مختلفة الطبائع في الظاهر؛ فالكواكب تتحرك في السماء، والماء يتحرك في مجراه، والزرع النامي يتحرك في عملية النمو، والحيوان الماشي أو الزاحف يتحرك وهكذا؛ ومن الأشياء ما يتحرك دائمًا إلى أعلى كلهب النار وكالدخان، ومنها ما يتحرك دائمًا إلى أسفل كالأحجار الملقاة تتجه دائمًا نحو الأرض، ومنها ما يتحرك دائمًا حركة أفقية كالماء ينبسط على سطح الأرض، وهكذا؛ مما دعا أرسطو أن يقسم الحركة أنواعًا حسب اختلافاتها الكيفية هذه؛ أما إذا نظرنا إليها بعين الإدراك العلمي، حولنا الحركة إلى صيغة رياضية بحيث تصبح إزاءها تلك الأنواع كلها متجانسة لا اختلاف بينها من حيث طبيعتها الحقيقية، فلهب النار يتحرك إلى أعلى وفق القانون الرياضي نفسه الذي يتحرك وفقه الحجر الساقط والكوكب الساري والماء المنساب والحيوان الماشي والطائر المحلق. فالإدراك الكيفي يفرق بين ما هو في حقيقته متجانس، والإدراك الكمِّيُّ العلمي يجانس بينما قد يبدو للحواس متباينًا.
وخذ مثلًا آخر سلوك الكائنات الحية بما في ذلك الإنسان؛ فلو اقتصرنا عند النظر إليها على ما قد يبدو منها لحواسنا، لرأيناها مختلفة اختلافًا يكاد يستحيل علينا معه أن نتصور كيف يمكن ردها إلى وحدة واحدة متجانسة؛ لكن الإدراك العلمي لها يحاول إيجاد الوحدة المتجانسة بينها، فإذا ما وجدها أمكنه بعد ذلك أن يحول أي ظاهرة سلوكية إلى عدد من تلك الوحدات وإلى طريقة ركبت بها تلك الوحدات، بحيث لا يعود ثمة فرق بين سلوك الإنسان وسلوك الحيوان إلا في الكم لا في الكيف؛ ولقد اهتدى الباحثون في علم النفس إلى ما يصلح أن يكون أساسًا للتجانس المنشود، ألا وهو «الفعل المنعكس»، فمهما يكن الظاهر السلوكي، فهو عدد من الأفعال المنعكسة بُنِيَتْ بطريقة ما يمكن تحليلها ووصفها لو تقدم العلم بمَا يكفي لذلك كله. على أننا بهذا المثل الذي سقناه من مجال علم النفس، إنما أردنا مجرد التمثيل لما نقوله عن خصائص العلم، وهو أن التفكير العلمي ينشد الدقة في مفاهيمه، والدقة لا تكون إلا بتحويل ما هو كيفي في مجال الإدراك الفطري، إلى ما هو كمي مؤلف من وحدات متجانسة، وإلا فهنالك من مدارس علم النفس ما لا يأخذ بهذا الرأي في تحليل السلوك، ويحاول إيجاد الدقة الكمية في مفاهيم ذلك العلم على أساس آخر؛ فليست النتائج هي التي تهمنا في هذا السياق، ولكن يهمنا المنهج متى يكون علمي الطابع ومتى لا يكون.
التعميم
إدراك الإنسان لجزئية واحدة محددة المكان والزمان هو معرفة لهذه الجزئية وليس «علمًا»، لأن العلم قوامه اطرادات في الحدوث نصوغها في قوانين عامة نستعين بها على التنبؤ بما عساه أن يقع إذا ما وقعت ظروف معينة؛ فالجزئية الواحدة في البحث العلمي إنما ترس لتتخذ مثلًا للأسرة المؤلفة من أشباهها؛ وهذا هو الفرق الأساسي بين العلم والفن؛ فالفنان يهتم للجزئية في ذاتها، يهتم لهذه الزهرة المعينة في ألوانها وخصائصها الفريدة، ويهتم لهذا الحصان المعين بما يجعله فردًا متميزًا عن بقية أفراد نوعه؛ وأما العالِم فيبحث الزهرة أو يُشَرِّحُ الحصان لا ليعلم الفرد الجزئي المبحوث في ذاته، بل ليستخرج ما هو عام في الزهر كله وما هو عام في الخيل كلها؛ ولو تناول عالِم اقتصاديٌّ موقفًا واحدًا من الحياة الاقتصادية. كأن يتخذ أزمة معينة طرأت على محصول القطن في سنة معينة. وأخذ يحلله إلى عناصره ويصفه وصفًا دقيقًا بكل تفصيلاته، دون أن يكون هذا التحليل والوصف مؤديين إلى الأحكام العامة التي تنطبق على هذا الموقف وعلى غيره من المواقف الشبيهة به، لكان عمله أدخل في باب التاريخ منه في علم الاقتصاد، لأن العلم أحكامه عامة تندرج تحتها المتشابهات، ولا تقتصر على حالة جزئية واحدة.
فإذا عرفنا أن إدراك الشبه بين أفراد المجموعة الواحدة هو إدراك «للصورة» أو «للإطار» أو «للعلاقات» عرفنا بالتالي أن العلم صوريٌّ دائمًا بدرجة ما؛ وإن العلوم لتتفاوت في تدرجها بتفاوت درجاتها من الصورية، أي بتفاوت درجاتها من التعميم؛ فالعلم الأعم من غيره هو أكثر صورية منه، أي أنه أبعد عن الوقائع الجزئية كما تقع لنا في مجال الإدراك الفطري؛ فعلم الفيزياء أكثر تعميمًا في قوانينه من علم النبات؛ وبالتالي فهو أكثر صورية منه، وعلم الحيوان أكثر تعميمًا من علم النفس ومن علم الاجتماع، وبالتالي فهو أكثر صورية منهما؛ وهكذا.
إنه إذا تعلم طفل قراءة حرف من أحرف الهجاء — حرف «ب» مثلًا — فلا يتعذر عليه قراءته أينما وجده وبأي لون كُتِبَ، سواء كتب بالطباشير الأبيض على السبورة، أو بالمداد الأسود عل الورق، أو باللون الأحمر بقلم المدرس؛ ولا يتعذر عليه قراءته بأي حجم كتب: كبيرًا كان أو صغيرًا، ولا بأي أسلوب من أساليب الخط كتب: بالثلث أو بالنسخ أو بالرقعة أو بالكوفي أو بالفارسي؛ فما معنى ذلك كله؟ معناه أن الطفل قد جاوز في معرفته لحرف «ب» حدود الجزئيات التي تعرض له منه، وأدرك «صورته» الشكلية التي تتحد فيها كل الأمثلة الجزئية على اختلاف لونها وحجمها وأسلوب كتابتها.
وكذلك قل في معرفة الطفل «للمثلث» فهي تبدأ برؤيته لمثل جزئي، أعني برؤيته لمثلث ما من خشب أو من أرض أو من حديد أو من خبز أو غير ذلك، ثم يجاوز حدود الجزئية المدركة إلى «الصورة» فيعرفها أينما صادفها.
فهكذا يكون التعميم الذي هو من علامات التفكير العلمي؛ فهو إدراك «للصور» التي تطَّرد عليها الظاهرات والأحداث؛ فالحالات الجزئية التي يسقط فيها المطر مختلفة في قليل أو كثير من تفصيلاتها، لكنها تتشابه في «صورة» ما، وإدراك هذه الصورة هو إدراك لقانون سقوط المطر؛ فالاستقراء والاستنباط مستحيلان بغير هذا الإدراك «الصوري»؛ في الاستقراء حين أعلم أن «أ» و«ب» مرتبطان. كارتباط درجة معينة من الرطوبة بسقوط المطر. تراني أطبق هذا العلم على أي «أ» تقع في المستقبل في ظروف مشابهة وما سبيلي إلى هذا التطبيق إلا أن أدرك أن «أ» المستقبلة متشابهة في «الصورة» مع «أ» التي وقعت في الماضي.
وكذلك في الاستنباط، حين أنتزع نتيجة من مقدمة، رغم اختلافهما في المفردات اللفظية وطريقة ترتيبها، فإنني ما كنت لأجيز لنفسي هذا لولا إدراكي بأن المقدمة والنتيجة متحدتان في «الصورة» مما يجعلهما دالتين على حقيقة واحدة مهما اختلفتا في البناء اللفظي.
إنك إذا صادفت في مجرى حياتك جزئية ما، فما لم تدرك «الصورة» التي تربطها مع غيرها من أفراد أسرتها، فلن تبلغ منها مبلغ «الفهم» العلمي، وستظل قائمة وحدها منزوعة عن سواها، لا تفيدك شيئًا في تسيير مجرى حياتك المستقبلة؛ وإنك لتزداد فهمًا للعالَم الذي تعيش فيه كلما ازددت إدراكًا «للصورة» التي تقع بها الأشياء والحوادث، وإدراكًا لتدرج هذه الصور نفسها فيما بينها، بحيث تدرك أن صورة ما تندرج تحت صورة أعم، وهذه بدورها تحت صورة أعم، وهكذا حتى تصل إلى أقل عدد ممكن من الصور — أي من القوانين العامة — التي على غرارها تقع الظواهر.
إمكان اختبار الصدق
القضية العلمية موضوع اجتماعي وليست بالمسألة الفردية الخاصة بصاحبها وحده؛ فالحالات الذاتية التي لا تجاوز نفس صاحبها ليست من العلم في شيء؛ وحسبنا في هذا المقام أن نذكر أن قضايا العلم تصاغ في لغة اصطلاحية ورموز متفق عليها عند مجموعة معينة من الناس، هي مجموعة المشتغلين معًا في جانب علمي معين، حسبنا أن نذكر هذا لنثبت أنه عملية اجتماعية ما دامت عملية يشترك فيها أكثر من فرد واحد.
فإذا زعم باحث قضية علمية معينة، كان من حق كل مشتغل بالموضوع نفسه أن يتحقق من صدقها، فيراجع طريقة استنباطها من مقدماتها إذا كانت مستنبطة ليرى إن كان استنباطها سليمًا من الناحية المنطقية، ويراجع صدق تطبيقها على الواقع ليعلم بالمشاهدة وبالتجارب التي يُجريها إن كانت صادقة على الواقع كما هو مزعوم لها؛ ومن أجل هذا الحق في مراجعة القضية العلمية كان من غير الجائز لصاحب النظرية العلمية أن يركن في تحصيلها إلى قدرة ذاتية يختص بها هو وحده دون سائر الزملاءِ المشتغلين معه في مجاله العلمي؛ كأن يركن — مثلًا — إلى ذوق أو لقانة أو حاسة سادسة أو غير ذلك مما قد يقال عنه إنه من أبواب المعرفة عند المتصوفة أو قراء الغيب؛ فهؤلاء — حتى إن صدقوا فيما يزعمونه من أقوال — فليس قولهم معرفة علمية لفقدانه شرط التحقيق العلمي.
فلا يعدُّ من العلم حالات الوجد وحالات الوحي في دنيا الفنون، ولا يعدُّ من العلم ومضات البصيرة عند عباقرة العلوم أنفسهم، لأنه على فرض أن العالِم قد اهتدى إلى فرضه اللمي بومضة من بصيرته، فلا يجوز أن يكون عماده أمام المراجعين المحققين من زملائه هو أن الحق قد جاءه بومضة من البصيرة؛ لأن الركون إلى مثل هذا السند لا يؤيد الحقيقة العلمية، ولا منجاة من وسائل التحقيق العلمي المشتركة بين الناس، ألا وهي وسائل المشاهدة والتجربة والاستنباط؛ نعم قد تكون حالات الوجد والوحي وقراءة الغيب ولمعات الحدس موضوعات نصبُّ عليها البحث العلمي لنعلم من أمرها ما يستطاع معرفته، لكن ذلك شيء، وجعلها هي نفسها وسائل الإثبات العلمي شيء آخر.
وما دام شرطنا هو أن تكون وسائل التحقيق مشتركة بين مجموعة العلماء المشتغلين بالعلم المراد تحقيقه شيء فيه، فلا بد أن تكون الحواس المشتركة من بصر وسمع وغيرهما هي المرجع النهائي في التحقيق من صدق قضية علمية تساق في مجال العلوم الطبيعية؛ إذ لا بد للقضية في مجال هذه العلوم أن تجيء صورة — مباشرة أو غير مباشرة — لما هو جاز الوقوع في العالم الفعلي؛ وجواز الوقوع هذا يقتضي أن تكون القضية العلمية ذات صلة بعالَم التجربة الإنسانية — فعلًا أو إمكانًا — أما إذا تحدثت القضية عما يستحيل وقوعه في مجال الخبرة الإنسانية، لا من حيث الحدوث الفعلي ولا من حيث الحدوث الممكن، فإنها تكون بذلك مستحيلة التحقيق؛ وبالتالي فهي تخرج حتمًا من مجال العلم.
فلا مكان في العلم لقضية تشتمل عبارتها على لفظة دالة على «قيمة» من القيم الأخلاقية أو القيم الجمالية، مهما بلغت أهمية هذه القيم في حياة الإنسان، ولنذكر أن العلم ليس هو وحده الأمر الهام في حياة الإنسان، بل هنالك فنون وما يشبه الفنون مما يتصل بحالات الوجدان؛ فإذا قلنا عن القضايا الدالة على «قيم» إنها تخرج عن مجال العلم، فلسنا بذلك نحط من قدرها، ولكننا نخرجها من مجال ليس هو مجالها؛ إذ كيف يتاح للمشاهدة والتجربة الحسية أن تتحقق من العبارات الدالة على «الخير» وعلى «الجميل»؟ كقولنا «الشجاعة فضيلة» و«الغروب منظره جميل»؟ هذه عبارات يُحرج بها المتحدث عما بنفسه من تقدير أو عدم تقدير، وقد يكون السامع قد نشأ نشأة شبيهة بنشأة المتكلم فيوافقه ويشاركه في وجدانه، وقد لا يكون شبيهًا به في النشأة فلا يوافقه ولا يتعاطف معه في حكم من هذا القبيل؛ فيكفي إذن أن تجد في جملة ما كلمة من هذه الكلمات أو ما يجري مجراها لترفضها من الناحية العلمية.
ومن العلامات التي يجوز لك أن تهتدي بها فيما تقبله وما لا تقبله من العبارات في مجال البحث العلمي، أن تسأل نفسك: هل يتغير شيء في العالم بين أن تكون هذه الجملة صادقة أو كاذبة؟ فإذا وجدت أن العالَم يظل على حاله بغير تغيير سواء كانت الجملة صادقة أو كاذبة، فاعلم أنك بإزاء جملة بغير معنى من الناحية العلمية؛ فلو قلت عن الصوت إنه يسير بسرعة كذا مثلًا في الظروف الفلانية، فإن صورة العالم في حالة صدق هذا القول مختلفة عن صورته في حالة كذب هذا القول؛ لكن ما هكذا الحال لو تحدثت مع بعض الفلاسفة عن «المطلق» فقلت — مثلًا — إن المطلق يتحقق في عالم الأشياء؛ فعالَم الأشياء لن يزيد شيئًا ولن ينقص شيئًا إذا صدقت هذه الجملة أو كذبت، وإذن فهي ليست من الأقوال العلمية، حتى إن جاز لها أن تجد مكانًا في مجال آخر من مجالات القول.
ثبات الصدق
إنه لا يكفي للقضية العلمية أن تكون محققة الصدق الآن وفي ظروف معينة قائمة؛ بل لا بد لها أن تكون مضمونة الصدق كلك على ما عساه أن يستجد من الحالات الداخلة في نطاقها؛ فإذا قلنا — مثلًا — إن محصول القطن هذا العام قد زاد عليه الطلب فارتفع سعره، وكان القول صادقًا، فلا يصبح جزءًا من العلم إلا إذا ثبت هذا الصدق نفسه على كل حالة يزيد فيها الطلب على سلعة معينة، وعندئذٍ يقال «إنه كلما زاد الطلب على سلعة ما ارتفع سعرها ما دامت بقية الظروف ثابتة على حالها»؛ ولنا أن ننوِّع الحالات التي نراجعها حتى نتحقق من صدق القول على إطلاقه، لا في حالة واحدة راهنة فحسب.
وعند هذه النقطة تختلف الحقيقة العلمية عن المصادفة؛ فالجملة التي نصف بها أمرًا وقع بالمصادفة، هي جملة صحيحة ما دام الوصف لما قد حدث صحيحًا؛ فافرض — مثلًا — أنك أشعلت موقدًا في دارك بالقاهرة، فما هي إلا أن سمعت في المذياع أن ثورة شبت في البرازيل؛ فمن القول الصحيح عندئذٍ أن تقول: «جاءت أنباء ثورة البرازيل بعد إشعال موقدي مباشرة» هذا قول صادق، لكنه ليس قانونًا من قوانين العلم، لأنه وإن يكن صادقًا على الحالة الراهنة، فليس هو بثابت الصدق دائمًا، بحيث يجوز لك أن تقول: «كلما أشعلت موقدي نشبت ثورة في البرازيل» فالحقيقة العلمية إذن لا يكفي فيها الصدق في حالة عابرة، بل لا بد للصدق أن يظل ثابتًا، حتى يمكن أن يكون أساسًا للتنبؤ العلمي.
البناء النسقي
ليست حقائق العلم مفككة مبعثرة لا شأن لإحداها بالأخرى، بل إنها لتلتئم معًا في منظومة واحدة نسقية البناء، وقد نجد بين منظومات العلوم المختلفة ما يربطها كلها في بناء نسقي واحد؛ لكننا سواء وحدنا بين مختلف العلوم أو لم نوحِّد بينها، فالعلم الواحد لا يجمعه معًا في وحدة إلا أن تكون الحقائق المنضوية تحته ذات صلات بعضها ببعض، فيستدل بعضها من بعض، ويفسر بعضها بعضًا وهكذا.
وإنك لتجد هذا التنظيم النسقي في كل مراحل البحث العلمي؛ ففي مرحلته الأولى: مرحلة جمع المعلومات الأولية التي يراد بها أن تكون أساسًا للبحث، ترانا ننسق هذه المعلومات المجموعة بتصنيفها أنواعًا أنواعًا، أو بقسمتها فروعًا فروعًا؛ أو ترانا ننسقها بجمعها في رسوم توضيحية أو رسوم بيانية أو في جداول إحصائية، تلم شملها بعد أن كانت شتيتًا.
وفي مرحلة افتراض الفروض لتفسير تلك البيانات المتجمعة، يكون هذا الفرض الذي نفرضه لذلك هو نفسه عامل التوحيد بين أشتات الحقائق المتجمعة؛ فإذا صدق الفرض وأصبح نظرية علمية أو قانونًا علميًّا، كانت تلك النظرية أو هذا القانون بمثابة الرباط الذي يؤلف بين وقائع كثيرة، هي أمثلة لظاهرة طبيعية معينة، قد تبدو في ظاهرها متباينة لكنها في حقيقتها حالات متعددة لظاهرة واحدة هي التي جاء القانون العلمي أو جاءت النظرية العلمية لتصوغ صورة حدوثها المطرد؛ بحيث نستطيع بعدئذٍ أن نستنبط من القانون العلمي المعين — منطقيًّا ورياضيًّا — النتائج التي نتوقع أن نجدها في الوجود الخارجي.
وما أكثر ما شهد تاريخ العلم طائفة من قوانين علمية كانت تبدو أول أمرها وكأنما هي تتناول ميادين مختلفة لا صلة لأحدها بالآخر، وإذا هي تنضوي تحت مبدأ واحد يجمع تلك الجوانب المختلفة في حقيقة واحدة؛ من ذلك — مثلًا — كشف جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) عن قانون الأجسام الساقطة من مسافة تعلو قليلًا عن سطح الأرض، فقال عنها إننا لو أبعدنا مقاومة الهواء، لتساوت تلك الأجسام في سرعة سقوطها، لا فرق في ذلك بين جسم صغير وجسم كبير؛ وجاء كبلر (١٥٧١–١٦٣٠م) فلاحظ حركات الكواكب وصاغ لها قوانينه الثلاثة المشهورة؛ وأولها هو أن الكواكب تسير في أفلاك بيضيَّة الشكل لا دائرية، وأن الشمس تقع في أحد مراكز هذا الفلك البيضي، والقانون الثاني يقرر أن الخط الواصل بين كوكب ما وبين الشمس يمسح مساحات متساوية في فترات الزمن المتساوية؛ والقانون الثالث هو أن مربع الزمن الذي يستغرقه دوران الكوكب يتناسب مع مكعب متوسط المسافة بينه وبين الشمس؛ فجاء نيوتن بعدئذٍ (١٦٤٢–١٧٢٧م) وضم قانون جاليليو وقوانين كبلر الثلاثة، وأضاف إليها قوانينه هو عن المد والجزر وعن حركات المذنَّبات، ضم هذه كلها في قانون واحد هو قانون الجاذبية، وصياغته هي أن كل الأجسام في الكون يجذب بعضها بعضًا بقوة تتناسب طردًا مع حاصر ضرب كتلتي الجسمين المتجاذبين، وتتناسب عكسًا مع مربع المسافة بينهما؛ وأخيرًا جاء أينشتين (١٨٧٩–١٩٥٥م) فأدخل قانون الجاذبية في آخر أعم منه، ينطبق لا على الأجسام المادية وحدها، بل ينطبق كذلك على الضوء وعلى الطاقة في جميع صورها.
وكذلك من محاولات التوحيد بين اللوم التي بدأت مستقلة، محاولة التوحيد بين الكيمياء والفيزياء، حتى ليسموا هذين العلمين الموحدين باسم واحد هو «الكيمياء الفيزيائية»؛ وهي الكيمياء التي تفسر الخصائص الكيموية بالتكوين الذرين؛ فكون الماء يتركب من هيدروجين وأوكسجين بنسبة معلومة لا يتطلب قانونًا خاصًّا به، لأنه نتيجة وجود ذرة ذات وحدة إيجابية واحدة وأخرى ذات ثمانِ وحدات، فمن هذا التركيب الفيزيائي يستنتج العلماء خصائص الماء.
هذه التوحيدات يبن العلوم من شأنها أن تقلل ما يتطلبه الباحث من مشاهدات وتجارب، لأنها تزيد من ارتكانه على الاستدلالات الاستنباطية الرياضية وحدها؛ فلئن كان جاليليو لم يكشف عن قانون ذبذبة البندول إلا بعد ملاحظة فعلية لبندولات تتذبذب، فقد أصبح هذا القانون — بعد نيوتن — نتيجة يمكن استنباطها من قانون الجاذبية، حتى ولو لم نر في حياتنا بندولًا واحدًا يتحرك؛ كذلك قل في الكشف عن المدارات البيضيَّة للكواكب؛ فقد كان هذا يتطلب أول الأمر مراقبة فعلية لسير الكواكب حتى يستطاع رسم مساراتها؛ أما بعدئذٍ فقد كان العالِم يستطيع استنباط هذه المدارات البيضية حتى لو قضى حياته محجبًا بالسحاب الذي يحول بينه وبين رؤية السماء؛ فيكفيه أن يعرف حجم الشمس وحكم كوكب معين، ليحسب مدار هذا الكوكب حول الشمس ويرسم مساره فيعلم — رياضيًّا — أنه بيضي الشكل.
والحق أنه لولا هذه التعميمات في القوانين والمبادئ لما استطعنا أبدًا أن نتقدم في مجال التطبيق، لأننا كنا في هذه الحالة نضطر أن نصنع المدفع أولًا ثم نرى كيف يكون مسار القنبلة المدفوعة منه، ونضطر أن نبني الكوبري أولًا لكي نرى ما مدى احتماله، وهكذا؛ لكننا في كل هذا نستدل استدلالًا رياضيًّا من قوانين عامة ماذا عسى أن يكون الواقع المنتظر؛ وإنه لمن أعظم التوحدات التي شهدها عصرنا هذا، انطواء مبدأ الطاقة ومبدأ الكتلة تحت مبدأ واحد يشملهما معًا فبهذا الضم ستنمحي الفوارق بين المادة والقوة ويصبحان وجهين لحقيقة واحدة.
وقد يتسع النسق العلمي حتى يشمل العلوم كلها في بناء واحد، بحيث يمكن لأي علم أدنى في سلم التدرج أن يترجم إلى لغة العلم السابق عليه في ترتيب ذلك السلَّم؛ وأساس ترتيب العلوم في سُلَّم واحد، هو نصيبها من التعميم أو من التخصيص؛ فإذا كان علمٌ أعمَّ من علم آخر، عدَّ أعلى منه؛ والذي يحدد لك درجة التعميم بين علمين، هو أن تنظر إليهم لترى أيهما يستطيع أن يستغني عن الآخر، فيكون بهذا الاستغناء أعم منه، وبالتالي فهو أسبق منه في سلم التدرج.
مثال ذلك علم النفس وعلم الاجتماع، فالأول يستطيع أن يكتفي ببحث علم النفس الفردي حتى لو لم يكن الفرد مجتمعًا مع غيره، وأما علم الاجتماع فيستحيل أن يبدأ إلا على فرض أسبقية الأفراد، وبهذا يكون علم النفس أعم من علم الاجتماع وأسبق منه في سلَّم العلوم؛ وخذ مثلًا آخر علم الحساب وعلم الهندسة، فعلم الهندسة لا بد له من لغة الحساب لأداء مهمته، إذ لا بد أن يستخدم الأعداد، فيقول مثلًا أن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، كما لا بد له أن يستخدم العلاقات الحسابية كعلاقة التساوي وعلاقة أكبر من وأصغر من وهكذا، على حين أن الحساب يستطيع أن يبدأ وينتهي دون أن يلجأ إلى ذكر الأشكال الهندسية؛ ومعنى ذلك أن علم الحساب أعم من علم الهندسة وبذلك يكون أسبق منه في سلم العلوم.
- (١)
المنطق هو أوسع العلوم تعميمًا، لأن كل ما دونه من علوم إنما يستخدم قواعد المنطق، فالرياضة والطبيعة وعلم الحياة وغيرها لا بد أن تسير وفق مبادئ المنطق، على حين أن العكس غير قائم، أي إن المنطق لا يلزمه أن يستخدم شيئًا من مبادئ الرياضة أو الطبيعة أو علم الحياة.
والمنطق ذاته على درجتين، فمنطق القضايا فيه أكثر أصالة من منطق الفئات، لأننا حين نبني نسقًا صوريًّا للفئات، ترانا نستخدم مبادئ النسق الصوري الذي يُقام لمنطق القضايا؛ أو بعبارة أخرى، إنك حين تعالج الفئات وما بينها من علاقات، ستراك — كلما عالجت علاقة بين فئتين — إزاء قضية قد تكونت منهما، وإذن فلا بد من افتراض وجود القضايا عند التفكير في الروابط المختلفة التي تصل الفئات بعضها ببعض؛ لكنك تستطيع أن تعالج موضوع القضايا وما ينشأ بينها من علاقات دون الالتجاء إلى منطق الفئات؛ لأنك حين تربط قضيتين (أو أكثر) بعلاقة ما، كان الناتج قضية، هكذا يمكنك أن تظل تتحرك في محيط كله قضايا بعضها بسيط وبعضها مركب دون افتراض وجود الفئات.
- (٢) ويأتي علم الحساب بعد المنطق في سلَّم العلوم، فهو أخَصُّ من المنطق لكنه أعم من سائر العلوم كلها؛ وذلك معناه أن علم الحساب في حِلٍّ من استخدام المعاني المنطقية دون أن يطالب بتعريفها، لأنه معتمد فيها على علم سابق؛ فله مثلًا أن يستعمل أداة «إذا … إذن …» أو أداة «إما … أو …» فيقول مثلًا: «إذا كان العدد الصحيح أكثر من اثنين وأقل من أربعة، إذن فهو ثلاثة» أو يقول: «العدد إما أن يكون زوجيًّا أو فرديًّا» هو مطالب بتحديد فكرة «العدد» وفكرة «زوجي» وفكرة «فردي» لكن تحديد «إذا» و«أو» من شأن المنطق.
لكن علم الحساب أعم من سائر العلوم، لأن سائر العلوم لها الحق في استعمال العدد والقوانين الحسابية دون مناقشتها وتحديدها معتمدة في ذلك على علم سابق هو علم الحساب.
- (٣)
وعلم الهندسة يفرض أسبقية المنطق والحساب، ثم هو يسبق بدوره كل العلوم التي تفرض في أبحاثها وجود المكان؛ فلا حرج على علم الهندسة أن يستخدم الأدوات المنطقية مثل «إذا» و«أو» و«ليس» وغيرها؛ والأدوات الحسابية مثل «العدد» و«الزيادة والنقصان» وغيرها، ثم عليه بعد ذلك أن ينصرف هو إلى تحديد ما هو خاص به، كالنقطة والخط والسطح — وكلها أشياء خاصة بالمكان وتقسيمه — فتأتي العلوم الأخرى بعد ذلك وتستخدم فكرة النقطة وفكرة الخط وفكرة السطح، معتمدة في استخدامها على علم الهندسة.
- (٤) ويأتي بعد الهندسة في سُلم الترتيب علم الحركة٤ لأنه يُدخل على المكان الذي فرغت الهندسة من بحثه فكرةَ الزمان، أي فكرة الحركة التي تجعل الحالات متتابعة حالة في إثر حالة.
- (٥)
ولما كان أبسط فروع العلوم الطبيعية، هو الذي يشغل نفسه بوصف الحركة في ذرة واحدة، أو في مجموعة من الذرات منظورًا إليها كوحدة واحدة، كان علم الميكانيكا، هو أسبق العلوم الطبيعية جميعًا، بعد العلم الذي يبحث مبادئ الحركة بصفة عامة؛ والفكرة الرئيسية التي يهتم علم الميكانيكا ببحثها وتحديدها، هي «الكتلة».
- (٦)
ثم تأتي العلوم الطبيعية التي تدرس خصائص الأجسام، الحرارة والكهرباء والمغناطيسية.
- (٧)
وهنالك مجموعة كبيرة من العلوم مثل، الفلك والجيولوجيا، تعَدُّ فروعًا من علم الميكانيكا أو علم الطبيعة، لأنها لا تستخدم ألفاظًا جديدة خاصة بها، إنما هي استمرار لبحث الأجسام من حيث حركاتها وخصائصها.
- (٨) وهنالك اختلاف في الرأي على الكيمياء، هل تُعَدُّ خطوة قائمة بذاتها في سُلَّم ترتيب الع لوم، أو تُعَدُّ فرعًا من العلوم الطبيعية؛ ذلك لأن الفكرة الوحيدة التي تستحدثها الكيمياء، هي فكرة «التكافؤ»٥ بين العناصر، أي القدرة على الائتلاف بعضها مع بعض بمقادير معينة، كما يأتلف الإيدروجين والأوكسجين مثلًا في تركيب الماء. ولم يحسم العلماء بعد، هل يمكن ردُّ هذه الفكرة إلى أصول علم الطبيعة، أم هي فكرة جديدة تحتل درجة وحدها في تدرُّج العلوم.
- (٩)
وبعد ذلك يأتي علم الحياة — البيولوجيا — وها هنا أيضًا خلاف في الرأي؛ فإن عُدَّت الحياة آلية كانت فرعًا من علم الطبيعة، وإلا فهي علم قائم بذاته، يستحدث فكرة جديدة تتطلب التحديد والبحث، وهي فكرة «الحياة».
- (١٠)
ويجيء علم النفس فيفرض وجود علم البيولوجيا علمًا قائمًا بذاته، مستقلًّا عن علم الطبيعة؛ أعني يفرض قيام هذه الفكرة الجديدة، فكرة «الحياة» ثم يخصص من «الحياة» بصفة عامة جانبًا واحدًا بصفة خاصة، هو «العقل» فيأخذ في بحثه وتحديده.
- (١١)
وأخيرًا يأتي علم الاجتماع فيفرض وجود «العقل»، ثم ينظر في ظواهره — لا في الفرد الواحد كما يفعل علم النفس — بل في مجموعات الأفراد.
العلم | الحدود والعلاقات التي استحدثها | |
---|---|---|
١ | منطق القضايا | «يقتضي»، «و»، «أو»، «ليس»، «صدق» |
٢ | منطق الفئات | «شيء»، «كل»، «لا − …» |
٣ | الحساب … | «العدد»، «أقل من»، «يساوي»، «أكبر من» |
٤ | الهندسة … | «النقطة»، «الخط»، «السطح»، «يتقاطع» إلخ |
٥ | علم الحركة … | «الزمان»، «الحركة» |
٦ | الميكانيكا … | «الكتلة» أو «ذرات المادة» |
٧ | علم الطبيعة … | «مجموعات الذرات (مأخوذة كوحدات)»، «الكهرباء»، «الذرة» … إلخ |
٨ | علم الحياة … | «الحياة»، «الحيوان»، «النبات» |
٩ | علم النفس … | «العقل»، «الذكاء» |
١٠ | علم الاجتماع … | «مجموعات من أفراد أحياء» أو «مجموعات الأفراد الإنسانية» |
فمتى نقول عن علمين بأنهما يتدرجان في الحقيقة تحت مجموعة واحدة من القوانين؟ نقول ذلك إذا استطعنا أن نترجم المدركات الأساسية في الأخص منهما إلى لغة الأعمِّ منهما؛ فإذا استطعنا — مثلًا — أن نترجم «الحياة» — التي هي محور يدور حوله علم الحياة — إلى لغة علم الفيزياء، وهي الذرات، بحيث أمكننا الاستغناء استغناء تامًّا عن هذه الكلمة، كان معنى ذلك أننا جعلنا علم الحياة فرعًا من علم الطبيعة، وأصبحت مجموعة القوانين التي منها يتألف علم الطبيعة هي نفسها القوانين التي تصدق على علم الحياة … وما قلناه عن علميْنِ يمكن قوله على مجموعة العلوم كلها، أعني أننا إذا استطعنا ردَّ المدركات الأساسية في شتى العلوم إلى أصول أولية قليلة العدد، كانت هذه العلوم كلها جوانب من نسق واحد.
والواقع أنه كلما تقدم العلم، ظهرت علاقات بين أشياء كانت تبدو للإدراك الفطري متباينة، واندمج الشتيت في منظومة واحدة، أي أن المفاهيم المختلفة ظاهرًا أخذت تتحول بعضها إلى بعض، بحيث أمكن الاستغناء عن كثيرها بقليلها؛ وقد تمعن في تحليل هذا القليل حتى نردَّه إلى الحد الأدنى من المدركات الأولية التي بواسطتها نُعَرِّف سائر المدركات جميعًا.
فإذا كان المدرَك شيئًا مركبًا من عناصر أبسط منه، حللناه إلى هذه العناصر، واستغنينا في لغة العلم عن الكلمة الدالة عليه؛ فكلما انكشف لنا مع تقدم العلم كيف يتركب شيء ما كنا نعده أوليًّا بسيطًا، استغنينا عن الاسم الذي كان يطلق عليه، وبذلك يقل عدد الكلمات الأولية المطلوبة للتعبير عن علم معين؛ فقد كانت الكيميا — مثلًا — مضطرة إلى استخدام أسماء العناصر كلها، لكل عنصر منها اسم خاص به؛ أما الآن وقد عرفنا التركيب الذري لتلك العناصر، وعرفنا أنها تختلف في مقدار مقوماتها الذرية، فقد استغنينا عن أسماء العناصر واستبدلنا بها أعدادها الذرية، فبدل قولنا «نحاس» نشير إلى العدد الذري ٢٩ وهكذا.
وخلاصة القول إن المعرفة العلمية في تقدمها ما تنفك تربط ما قد يبدو شتيتًا، فتطوي القانون الأخص تحت القانون الأعم، وتترجم مدرجات العلوم بعضها إلى بعض لتبين ما بينها من روابط، حتى ليجوز أن يجيء يوم يتم فيه الكشف عن هذه الروابط كلها، فإذا نحن إزاء قانون واحد عام، كقانون الحركة مثلًا، تندرج تحته كل القوانين الأخرى عامها وخاصها، فنصبح بذلك أمام علم واحد يشمل ظواهر الوجود كلها.
لكن الفرق بعيد بين النسق العلمي الذي يضم في بنائه شتى العلوم الخاصة بجوانب الكون، وبين غيره من الأنساق الفكرية، كالمنظومات اللاهوتية والميتافيزيقية؛ التي كان أصحابها يحاولون محاولة شبيهة بمحاولة العلماء في تنسيق نتائجهم تنسيقًا لعله يضم تلك النتائج كلها في بناء واحد، فاللاهوتي والميتافيزيقي كلاهما يحاول أيضًا أن يلتمس مبدأ واحدًا عامًّا، تجيء كل المبادئ الأخرى فروعًا عنه ونتائج له؛ أقول إن الفرق بعيد بين محاول العلماء ومحاولة اللاهوتيين والميتافيزيقيين رغم هذا الشبه الظاهر بين المحاولتين، وذلك لأنه بينهما يرتكز العلماء في كل جزء من أجزاء بنائهم النسقي على وسائل التحقيق العلمي التي ذكرنا بعضها وسنذكر فيما بعد بعضها الآخر، ترى هذه الوسائل معدومة عند اللاهوتيين والميتافيزيقيين، حتى ليستحيل عليك أن تتنبأ بأية حادثة مستقبلة تنبؤًا تستند فيه على مبادئهم التي يقيمون عليها أنساقهم الفكرية.
الموضوعية
لا بد للحقيقة العلمية أن تجيء مستقلة — بقدر المستطاع — عن قائلها، فلا يمازجها شيء من ميوله وأهوائه ونزعاته الذاتية وقِيَمِه التي يقوم بها الأشياء من حيث خيرها أو شرها، وجمالها أو قبحها؛ فليس لعالم النفس — مثلًا — حين يصف السلوك الإنساني أن يقول عنه إنه سلوك مستحب أو مستهجن، وليس لعالِم النبات حين يصف زهرة أن يقول عنها إنها زهرة جميلة أو قبيحة؛ كلا وليس للباحث العلميِّ أن يختار من الشواهد لبحثه ما يخدم رغبة في نفسه أو ما يحقق له مثلًا أعلى يتمناه؛ بل العالِم الحق هو من ينظر إلى الواقع الخارجيِّ المبحوث نظرة منزهة عن كل هذه الجوانب الذاتية.
إن الناس ليميلون بفطرتهم إلى توكيد الجانب الموضوعي من الأشياء التي تقع لهم في مجال الإدراك الحسي، فتراهم يطرحون من إدراكاتهم الحسية جوانبها الخاصة الذاتية ليؤكدوا الجوانب الموضوعية التي يشتركون فيها مع سواهم، حتى يعيشوا جميعًا في عالم واحد «مشترك»؛ وتجيء اللغة فتزيد هذا الميل الفطري شدة، لأن استعمال الناس جميعًا للفظة واحدة يطلقونها على مختلف الصور المرئية التي تَرِدُ إليهم من شيء ما، يؤكد وحدانية الشيء المدرَك، أي إنه يبرز الجانب الموضوعي من حالات الإدراك الكثيرة المختلفة؛ ثم يجيء بعد ذلك علمنا بالفيزياء فيزيد بدوره من إبراز الجانب الموضوعي من المدركات الطبيعية، إذ يدلنا على حقائق الأشياء كما هي واقعة خارج أنفسنا، مما يمكننا من طرح الجوانب الذاتية الخاصة في إدراكاتنا كلما أردنا التحدث عن الأشياء حديثًا موضوعيًّا مشتركًا.
ويخطئ من يظن أن الجوانب الذاتية أقل «واقعية» من الجوانب الموضوعية؛ وكل ما في الأمر أن الأولى أقل أهمية من الثانية في المجال العلمي، لأنها لا تتيح لنا أن نستدل منها نتائج عن عالم الطبيعة الخارجية، بحيث تجيء تلك النتائج موثوقًا بها؛ فلا شك أن آلات التصوير التي ضربناها مثلًا كانت تلتقط صورًا «واقعية» دائمًا، سواء كانت تلك الصور خاصة بموقع هذه الآلة دون تلك، أو كانت مشتركة بين الآلات كلها؛ فليس الاختلاف إذن اختلافًا في الواقعية وعدمها، بل هو اختلاف في اشتراك الآلات اللاقطة في صورة واحدة أو عدم اشتراكها؛ وقد قلنا إن الاستدلال العلمي ميسور ومحقق عندما تكون المقدمات التي نستدل منها مقدماتٍ موضوعية يشترك فيها المدركون جميعًا.
التحليل
إن الأشياء والحوادث والمواقف لتمر علينا مركَّبة متشابكة ويكاد يستحيل علينا أن نجد في الحياة اليومية الجارية تلك العناصر البسيطة التي منها رُكِّبت الأشياء والحوادث والمواقف، لكننا لكي نفهم شيئًا من هذه المركَّبات، فلا بد لنا من تحليله إلى عناصره البسيطة، تحليلًا قد لا يكون بالتفكيك المادي لأجزائه بل نكتفي فيه بالتحليل العقلي لمقوماته؛ وبغير هذا التحليل قد نظن مشكلةً واحدةً ما هو في الحقيقة عدد من المشكلات اندمج بعضها في بعض.
فعند حسابنا لسرعة سقوط حجر ملقى، لا يكفي أن نقيم الحساب على جاذبية الأرض وحدها، بل لا بد أن تحسب كذلك مقدار مقاومة الهواء؛ وعند حساب مسار القمر، لا يكفي أن نقيم الحساب على جاذبية الأرض وحدها، بل لا بد كذلك أن تحسب جاذبية الشمس؛ وبهذا نفتت المشكلة المركبة إلى مشكلات بسيطة فنقول: ماذا كان ليحدث لو كان القمر منجذبًا بالأرض وحدها؟ وماذا كان ليحدث لو كان القمر منجذبًا بالشمس وحدها؟ ثم كيف كان الأمر عندما انجذب بالأرض والشمس معًا؟ … هكذا نفصل المواقف المشكلة موقفًا موقفًا، ثم نضمها بعضها إلى بعض؛ وسيأتي ذكر ذلك مفصلًا في حينه عندما نتحدث عن التجارب العلمية وما تلجأ إليه من عزل المتغيرات واحدًا واحدًا، لنعلم فعلها وهي فرادى وفعلها وهي مجتمعة، وبذلك وحده نستطيع تحديد العلاقة السببية تحديدًا رياضيًّا دقيقًا.
اتصال البحث العلمي
ليس العلم وليد عام واحد أو بضعة أعوام، وليس هو بالسير الذي يبلغ ختامه في يوم من الأيام، بل إنه لفي سير دائم، ما ينفك خلاله يصحح نفسه؛ فالنتائج التي يوصل إليها في بحث سابق، تكون هي نفسها المقدمات التي يبدأ منها بحث لاحق؛ ولما كان هذا البحث اللاحق من شأنه دائمًا أن يزيد الأمر دقة وضبطًا، فسيعود بنتائجه الجديدة إلى النتائج التي كان قد وصل إليها فيما قبل ليصححها، وهكذا دواليك.
وحسبنا في هذا الصدد أن نعلم بأنه كلما سار العلم مرحلة من شوطه الذي لا ينتهي، تقدمت الأجهزة التي يستعين بها الباحثون، كالمناظر المقربة والمكبرة، والآلات الحاسبة، وغير ذلك من آلاف الأجهزة التي تزيد من مدى الإدراك الحسي في شتى نواحيه؛ وإن تقدم العلم ليرتبط بتقدم أجهزته ارتباطًا وثيقًا، حتى ليكفيك أن تذكر تاريخ الأجهزة العلمية وكيف تطورت، لتذكر بذلك تاريخ العلم نفسه وكيف تطور؛ ولهذا فإنه بالأجهزة الجديدة التي تتاح لنا في إحدى مراحل السير العلمي، سنصل إلى نتائج لم يكن في مستطاعنا الوصول إليها من قبل، مما يمكننا من الرجوع إلى النتائج القديمة بالتصحيح، على الرغم من أن تلك النتائج كانت هي نفسها نقطة البدء التي منها بدأنا السير في المرحلة الجديدة.
فلا عجب بعد ذلك أن نقول عن نتائج العلم إنها احتمالية دائمًا، بمعنى أنها لا تبلغ اليقين الرياضي الحاسم، وإن تكن سائرة أبدًا في طريقها إليه، فهي على مَرِّ البحث تظل تزداد ارتفاعًا في درجة احتمالها.