طبيعة الكشف العلمي
١
إن أول ما ينبغي توضيحه في مناهج البحث العلمي، هو ما يقصد إليه العلماء حين يقولون إن ثمة «كشفًا علميًّا» قد تحقق هنا أو هناك من ميادين البحث؛ فماذا يعني العالِم حين يقول — مثلًا — إنه قد كشف عن حقيقة علمية وهي أن الحرارة ضرب من الحركة، أو هي أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة؟ أيكون معنى الكشف العلمي من قبيل استكشاف الرحالة لمنطقة من الأرض لم تكن معلومة من قبل، واستكشاف النباتيِّ لنوع من النبات لم يكن قد عرفه أحد قبل ذاك؟
- (١)
فعندما استدل كروسو من الأثر الذي رآه على الرمل أن إنسانًا غيره كان في الجزيرة، لم يكن هنالك ما يمنع أن يبحث هنا وهناك حتى يجد الإنسان الذي كان قد استدل وجوده؛ أما حين يستدل العالِم من النور والظل أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، فلن يعثر على شعاع الضوء الذي سار في خط مستقيم، على نحو ما يعثر كروسو على الرجل الذي تركتْ قدمه أثرها على الرمل؛ فالمعطيات التي بنى عليها كروسو استدلاله (وهي أثر القدم على الرمل) كانت حدثًا جديدًا، فكأنما قال لنفسه حين رآها: «هذا أثر قدم بشرية، وذلك لا يحدث إلا إذا كان هنالك إنسان من البشر، وإذن قد مرَّ هنا إنسان». وأما في استكشافنا بأن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، فلم تكن الجدَّة في المعطيات ذاتها، لأننا كنا نعلم قبل ذاك أشياء كثيرة عن النور والظل، بل الجدَّة هي في «وجهة النظر» التي ننظر منها إلى ظاهرة مألوفة؛ فليست حقيقة الأمر هناك هي أننا لم نكن قد رأينا من قبل ضوءًا يتحرك في خطوط مستقيمة، وفجأة وقعت أعيينا عليه متحركًا على هذا النحو، فكان لنا بهذا كشفٌ علميٌّ جديد؛ كلا، فما كنا نراه من ظاهرة الضوء والظل هو هو بعينه الذي ما زلنا نراه، والفرق بين الحالتين، هو أننا الآن «نقرأ» الظاهرة بلغة جديدة، هي اللغة الهندسية من خطوط ومثلثات وزوايا.
- (٢)
وعندما قال العالم الطبيعي عن الطيور المهاجرة إنها تسير في دوائر، كان الجديد في قوله ليس هو حركة الطيور في ذاتها، بل الطريقة التي تتم بها تلك الحركة، فقد يظن الرائي أنها تطير في خطوط مستقيمة مثلًا، لكنها في الحقيقة تطير في دوائر واسعة المحيط؛ لكن ما هكذا الأمر في استكشافنا بأن الضوء يسير في خطوط مستقيمة؛ فليس الأمر هو أننا كنا نرى شيئًا متحركًا فنحسبه متحركًا في دوائر ثم عدَّلنا الفكرة وجعلناه يتحرك في خطوط مستقيمة، كلا ولا هو أننا كنا نرى شيئًا فنظنه ساكنًا فإذا نحن رأيناه متحركًا، لا، ليست هذه هي طبيعة الكشف العلمي، بل طبيعته هي أننا نبتكر طريقة من عندنا نقرأ بها الظاهرة، فإذا هذه الطريقة مثمرة في إنتاج النتائج الدقيقة، ولو لم نجدها مثمرة على هذا النحو لحاولنا ابتكار طريقة أخرى لقراءة الظاهرة نفسها؛ والظاهرة في كلتا الحالتين مألوفة لنا في حياتنا العملية اليومية.
عُدْ إلى المثلين اللذين عرضناهما لنقارن بهما حالة الكشف العلميِّ مقارنة تزيدنا فهمًا لطبيعة هذا الكشف ماذا عساها أن تكون؛ عُدْ إلى ذينك المثلين، تلمس فارقًا كبيرًا بينهما من جهة، وبين قولنا عن الضوء إنه يسير في خطوط مستقيمة من جهة أخرى؛ ولو أمسكت بهذا الفارق الهام، فقد خطوت خطوة أولية هامة في مناهج البحث العلمي؛ وأعني بذلك الفارق أن كروسو حين استدل من الأثر الذي رآه على الرمل، وأن العالِم الطبيعي حين استدل حركة الطيور المهاجرة، كان كل منهما ينتهي إلى نتيجة تصاغ بلغة المقدمات التي استدلَّ منها، وهي لغة الحياة الجارية؛ وأما العالِم الفيزيائي حين يستدل من خبرته بمشاهد النور والظل أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، فهو ينتهي إلى نتيجة ذات مدرَكات جديدة لم تكن ضمن الخبرة العملية التي منها استمد نتيجته، كلا ولا هي من نوع الحديث الجاري في الحياة اليومية؛ بل هي لغة جديدة وصياغة جديدة، تمكننا من إلقاء أسئلة جديدة لم تكن خبرتنا الأولى تمكننا من إلقائها، فنستطيع — مثلًا — أن نسأل: بأي سرعة يسير الضوء في خطوطه المستقيمة؟ ولم تكن خبرتنا الأولى بالضوء تتيح لنا أن نسأل عن سرعة، لأن فكرة «السير» لم تكن جزءًا منها … فالمعطيات الأولية في البحث العلمي، وإن تكن مستمدة من خبرتنا المألوفة بظواهر الطبيعة، إلا أنها لا بد أن توضع وضعًا جديدًا في لغة جديدة أهم خصائصها أنها تفتح الباب للقياس الكمي.
إن عالِم الفيزياء إذ يبتكر طريقة «السير في خطوط مستقيمة» ليقرأ بها ظاهرة الضوء، فلا إلزام عليه سوى أنها الطريقة التي تفسِّر كل ما يراه من حالات الضوء والظل، والتي بها يتنبأ بالحالات التي تحدث لو توافرت الظروف الفلانية؛ فافرض مثلًا أن الشمس ترتفع بمقدار ٣٠°، وتضيء جدارًا ارتفاعه ست أقدام، فيلقي الجدار ظلًا طوله عشر أقدام ونصف قدم؛ فلماذا كان طول الظل على الأرض هو عشر أقدام ونصف قدم، لماذا لم يكن أكثر من ذلك أو أقل؟ كيف نفسِّر هذا؟ ها هنا تجيء طريقة الفيزيائي: إن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، فطول الظل الملقى على الأرض متوقف على ارتفاع الجدار وعلى مقدار الزاوي التي ترتفع بها الشمس في السماء، لأننا عندئذٍ سنكون إزاء مثلث قائم الزاوية: قاعدته هي طول الظل الملقى على الأرض (عشر أقدام ونصف قدم) والعمود القائم على تلك القاعدة هو الجدار (ست أقدام) والوتر هو الشعاع الضوئي الممتد من طرف الجدار الأعلى إلى طرف الظل على الأرض؛ فلو عرفت ارتفاع العمود، وعرفت إحدى الزاويتين الأخريين (٣٠°) عرفت كم يكون طول الظل على الأرض.
لاحظ جيدًا أن الحاسب على هذا الأساس وهو يحسب طول الظل على الأرض كم يكون، لو كان ارتفاع الشمس ٣٠° وارتفاع الجدار ست أقدام، لا «يستنبط» بالمعنى الأرسطي الذي نعرفه في نظرية القياس؛ وإلا لقال لنفسه: «كل الضوء يسير في خطوط مستقيمة، وهذا الذي أمامنا ضوء، إذن فهو يسير في خطوط مستقيمة» وليس في قولٍ كهذا ما يفسر لنا الحقيقة التي التمسنا لها تفسيرًا، ألا وهي: لماذا يكون طول الظل على الأرض هو كذا قدمًا، لا أكثر من ذلك ولا أقل؟
كلا، وليس الحاسب في هذه الحالة يقيم حسابه على طريقة «الاستقراء» التي نعرفها أيضًا — عند بيكن وعند مل — فهو لا يستعرض أمثلة جزئية من الضوء والظل، ثم «يعمم» الحكم على النوع كله؛ إن هذه الطريقة الاستقرائية صالحة في مرحلة التاريخ الطبيعي، فبوساطتها نستعرض عددًا من الفيلة أو من الأسماك أو من الخيل، لننتهي إلى قول عام عن «كل فيل» و«كل سمكة» و«كل حصان» لكن ما هكذا تكون طريقة الكشف في العلوم المتقدمة كالفيزياء، إذ الكشف هنا هو ابتكار طريقة نقرأ بها الظاهرة قراءة تفسِّر كل ما يقع لنا منها، وتتنبأ لنا بكل ما عساه أن يقع لنا منها في ظروف معينة نفترض حدوثها في المستقبل؛ فالأمر في ابتكار طريقة نقرأ بها ظاهرة ما قراءة مفيدة مثمرة كالأمر في رسم خريطة لرقعة من الأرض، فما عليك إلا أن تبتكر طريقة تبين بها الأبعاد والارتفاعات ومواضع المدن والأنهار وما إلى ذلك، بحيث تجيء الخريطة منبئة بكل ما نريد أن نعلمه من ذلك بالنسبة إلى الرقعة المصوَّرة؛ وليست الخريطة بالطبع «مستنبطة» من المقدمات على الطريقة الأرسطية في القياس، ولا هي مستقرأة — على طريقة بيكن ومل — من عدة أمثلة من أفراد النوع، بل هي طريقة خلقها صاحبها خلقًا، فليست مادتها من جنس مادة الظاهرة المصوَّرة، وإن يكن بين الجانبين موازاة تهدينا كل الهداية في استدلال النتائج التي نريد استدلالها؛ وكما أن هنالك طرقًا عدة في رسم الخرائط للرقعة الواحدة، فقد يكون هنالك أكثر من طريقة واحدة لقراءة ظاهرة طبيعية معينة، ويكون التفضيل للطريقة التي تفسِّر أكثر من سواها، وتعين على التنبؤ بدرجة أدق مما تفعل سواها.
ولما كان الكشف العلمي هو في صميمه ابتكارٌ لطريقةٍ نقرأ بها ظاهرة ما قراءة مُيَسَّرة مثمرة، ثم لما كانت «الطريقة» إنما تكون أشد تيسيرًا وأخصب إثمارًا إذا كانت تعتمد في أدائها على رسوم أو أجهزة مما يضمن دقتها، كان ابتكار «الطريقة» التي نقرأ بها ظاهرة ما، مقرونًا دائمًا بأدواتها الفنية التي يستعين بها الباحث على تنفيذها؛ فالأدوات الفنية في حالة «سير الضوء في خطوط مستقيمة» هي الرسوم الهندسية من خطوط ومثلثات، فما لم تكن هنالك هندسة نستعين بنظرياتها على قياس الزوايا والخطوط، لما كان لنا كل النفع بقولنا عن الضوء إنه يسير في خطوط مستقيمة؛ فإذا سألت طالبًا لعلم الفيزياء: كم يكون طول الظل الملقى على الأرض من جدار ارتفاعه خمسون قدمًا، إذا كان ارتفاع الشمس في السماء أربعين درجة؟ رأيته على الفور يلجأ إلى رسم هندسي يخطه على الورق، لمثلث قائم الزاوية، تتحقق فيه الشروط المذكورة، وفي لحظة يحسب لك طول الضلع الممتد على الأرض منه، وهو طل الظل … فلا عجب إذا قيل إن تقدم العلوم وتقدم الأجهزة والوسائل الفنية يسيران جنبًا إلى جنب، فلا يكون الأول بغير الثاني، وبالبداهة لا يكون الثاني بغير الأول.
٢
إنه لا بد من التفرقة الواضحة بين العلم في مرحلته الوصفية وبينه وهو في مرحلته النظرية المتقدمة؛ ومن العلوم ما لا يزال في المرحلة الوصفية، وربما لبث هناك بحكم طبيعته التي لن تسمح له بالانتقال إلى المرحلة النظرية، وربما كان أمره مرهونًا بالزمن، فإذا ما أصابه التقدم، انتقل إلى المرحلة التالية؛ لكن الذي يعنينا هنا هو وجود هذا الفرق الواضح بين النوعين؛ فالعلم الوصفي الذي ما يزال في مرحلة التاريخ الطبيعي، يتصيد الاطرادات الموجودة في الطبيعة، على حين أن العلم في مرحلته النظرية — كالفيزياء — يبدأ شوطه بالاعتراف بوجود هذه الاطرادات، ثم يحاول أن يصوغ لها الصياغة النظرية التي تعين على قراءتها وعلى حسابها.
فلا بد أن يكون قد مضى وقت طويل جدًّا عَلِمَ فيه الناس شيئًا عن اطرادات النور والظل، قبل أن يجيء عالِم الفيزياء الذي ابتكر طريقته في قراءة تلك الاطرادات بوساطة الفكرة القائلة إن الضوء يسير في خطوط مستقيمة؛ ونكرر لك القول هنا بأنه في خبرتنا المباشرة بظاهرة الضوء لا «سير» هناك ولا «خطوط»؛ لكنها «طريقة» أو «خريطة» نهتدي بها في الفهم والتنبؤ؛ وكذلك لا بد أن يكون قد مضى وقت طويل جدًّا عَلِمَ فيه الناس أن الكواكب تسير في السماء، قبل أن يجيء عالِم الطبيعة الذي ابتكر طريقته في قراءة هذه الظاهرة، وهي قانون الجاذبية، وليس فيما نشاهده في الخبرة المباشرة «جاذبية» لكنها «طريقة» نهتدي بها في فهم الظواهر والتنبؤ بها.
العالِم النظري يبدأ بما كان الناس قد شاهدوه من اطرادات، ليبحث له عن «صياغات» تفسره، فهو لا يبدأ بقوله: هل هنالك يا تُرى قوانين لحركة الأجسام، أو قوانين لمسار الضوء؟ بل يبدأ بقوله: إنه لا بد أن تكون هناك هذه القوانين، فماذا عساها أن تكون؟ فالعالِم الفيزيائي لا يسأل: هل يا ترى هنالك علاقة بين انحدار السفح وحركة الحجر المتدحرج عليه، وعلاقةٌ بين حركة الشمس وطول الظل؟ لأن ذلك العالم — مثلنا — يعرف وجود هذه العلاقة بالخبرة المباشرة؛ ثم يمتاز بأنه يواصل السير من هذه النقطة فصاعدًا: ماذا تكون الصورة النظرية التي يمكن أن تفسر بها هذه العلاقة، ونتنبأ بها بجميع الحالات التي تجيء عليها هذه العلاقة في المستقبل مهما كانت الظروف القائمة؟ وبعبارة أخرى فإن العالِم النظري يعلم بادئ ذي بدء أن الظاهرات الطبيعية يعتمد بعضها على بعض، أي إنها «تتفاعل»، وهو يريد أن يعرف كيف وبأي مقدار يتم هذا التفاعل بينها.
فما لم نفرق بين طرازين من التفكير: أولهما يلتمس الاطراد في الحوادث ليضم كل مجموعة منها في عبارة عامة تصفها، والثاني يبدأ بالتسليم بوجود هذا الاطراد ليحاول بعدئذٍ أن يصوغ له صياغة نظريةً تفسره وتتنبأ بحدوثه، أقول إننا ما لم نفرق بين هذين الطرازين من التفكير، تعذر علينا فهم طبيعة القوانين العلمية؛ فالطراز الأول من التفكير هو الذي حققه الإنسان حين لحظ أنواع الكائنات بما يميز كل نوع منها من خصائص، ثم أطلق على كل نع منها اسمًا كليًّا، مثل «إنسان» و«حصان» و«شجرة»؛ وكذلك هو الطراز الذي يسير على نهجه علماء التاريخ الطبيعي حين يسجلون لأنواع الحيوان والنبات مميزاتها، فالطيور الفلانية تتميز بكذا، والأسماك الفلانية تتميز بكيْت؛ وأما الطراز الثاني من التفكير فهو الذي يستخدمه رجال العلوم الدقيقة — كالفيزياء — حين يصوغون القوانين العلمية، كقانون نيوتن عن الجاذبية وهو أن كل جسمين يتجاذبان بقوة تتناسب طردًا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسًا مع مربع المسافة بينهما؛ وأول ما يسترعى النظر من فارق بين هذين الطرازين، هو أن المتكل في الحالة الأولى لا يجاوز مجال الألفاظ كما يستخدمها الناس في أحاديثهم اليومية الجارية، فهو — مثلهم — يشير بألفاظه إلى خبراته الحسية المباشرة كما تقع له في بيئته العملية؛ فهذا لون أحمر، وذلك سكر حلو؛ وهذا ماء وذلك هواء؛ على حين أن المتكلم في الحالة الثانية يفارق الحديث اليومي في دنيا الحياة العملية، ليستخدم كلمات ورموزًا لا تستمد معانيها من الخبرة الحسية المباشرة، بل تستمدها من التحليلات التي يحلل بها العلماء موضوعاتها تحليلًا يبعد بها عن الإدراك الفطري لها؛ فالإدراك الفطري يعرف «الماء» لكنه لا يعرف «يد ٢ أ» (هيدروجين وأوكسجين بنسبة ٢ : ١) والإدراك الفطري يعرف «النحاس» لكنه لا يعرف «البروتونات» و«الإلكترونات» التي منها يتكون النحاس؛ وهكذا.
الإدراك الفطري للأشياء يجزئها شيئًا شيئًا كما تقع له في الخبرة العملية، وهو إذا ما ربط بينها برباط السببية حين يراها متلازمة الوقوع، فإنه يظل على تجزئته إياها شيئًا شيئًا؛ فيقول مثلًا إن إطلاق الرصاصة في قلب الإنسان يلازمه موت من أطلقتْ عليه الرصاصة، والسكر في الماء يلازمه حلاوة طعم الماء؛ لكنك لا تقع على ما يجوز أن نسميه بالكشف العلمي حتى وإن اجتمعت لك خبرات الأولين والآخرين على هذا النحو من إدراك الأشياء؛ وإنما يكون الكشف العلمي حين نرد الحوادث من إجمالها الكيفي إلى مجموعة من تفاعلات يتصل بعضها ببعض؛ فلا يعود «النحاس» — مثلًا — نحاسًا، بل يصبح مجموعة متفاعلة أطرافها هي الوزن النوعي والكثافة ودرجة الانصهار؛ وهكذا؛ فإذا ما وجدت نفسك — أيًّا ما كان العلم الذي تشتغل به — ما تزال تستخدم لغة الحياة اليومية وما تزال معتمدًا على طريقة الإدراك الفطري في النظر إلى الأشياء من جانبها الكيفي، دون تحليلها إلى مقادير يتفاعل بعضها مع بعض، فاعلم أنك لم تَخْطُ من شوط العلم غلا أولى مراحله.
٣
أيًّا ما كان السؤال الذي يطوف برأسك لتجيب عنه لنفسك أو لغيرك، فالخبرة الحسية هي في النهاية مصدر الجواب، فقد تلجأ أحيانًا إلى كتاب تقرؤه أو صحيفة تطالعها لتلتمس الإجابة عن سؤالك، واضعًا ثقتك فيمن أخرج الكتاب أو أصدر الصحيفة، لكن صاحب الكتاب أو الصحيفة لا بد أن يكون قد لجأ في جمع المعلومات التي تكون جواب سؤالك، إلى خبرته الحسية المباشرة، أو أن يكون قد اعتمد بدوره على من فعل ذلك.
نقول إن العلوم كلها محاولات يراد بها تنسيق ما يقع لنا في خبرتنا الحسية؛ وسواء وقعت الخبرة الحسية للباحث نفسه أثناء ملاحظته وإجرائه لتجاربه، أو وقعت لغيره وأخذها هو عنه أخذ الواثق بصدق غيره، فكلها على كل حال خبرة حسية على حد سواء.
نعم كثيرًا ما يضطر الإنسان إلى الاستدلال، فحين تستحيل المشاهدة الحسية المباشرة، مثل ذلك إذا أردنا أن نعرف هل مركز الأرض صلب أو سائل أو غاز، استحالت علينا المشاهدة الحسية المباشرة، وعندئذٍ لم يكن لنا بد من الاستدلال مما نشاهده استدلالًا يقوم على أسس علمية ورياضية، يوصلنا إلى الحقيقة التي نريد الوصول إليه؛ فإذا كانت المشاهدة المباشرة لما نريد معرفته قد تعذرت، وإذا كنا قد لجأنا في تحصيل المعرفة المنشودة إلى الاستدلال، إلا أننا قد أقمنا الاستدلال على أساس ما شاهدناه.
وقد كان الحائل المكاني هو الذي منع المشاهدة المباشرة في المثال السابق، كذلك قد يكون المانع حائل الزمن، فيكون بيننا وبين ما نريد أن نعرفه بُعْدٌ زمني بحيث يصبح مستحيلًا علينا أن نعيده لكي نلاحظه ونَخْبُرَه كحوادث التاريخ مثلًا؛ فيلجأ الباحث هنا أيضًا للاستدلال مما يستطيع أن يشاهده من وثائق وآثار.
والقاعدة المنهجية التي تمليها البداهة، هي أنه حينما تمكن الملاحظة المباشرة، فلا يجوز للباحث أن يركن إلى الاستدلال فيما يريد أن يعلمه.
وما الآلات والأجهزة العلمية إلا ضرب من التطبيق لهذه القاعدة؛ لأن الكثرة الغالبة منها أدوات للتغلب على البعد المكاني الذي يحول بيننا وبين مشاهة ما نريد أن نشاهده — حتى لا نلجأ إلى الاستدلال إلا مضطرين — فمعظم الآلات والأجهزة العلمية تعمل على توسيع نطاق إدراكنا الحسي، بتصغيرها للكبير أو تقريبها للبعيد، أو تكبيرها للصغير، حتى يصبح الشيء المقصود في حدود الأفق الإدراكي؛ إذ أن للإنسان في إدراكه الحسي حدًّا أدنى وحدًّا أقصى فلا يستطيع أن يدرك بحواسه ما دون الحد الأدنى، أو ما فوق الحد الأقصى، ومهمة الآلات أن توسع هذا المدى من طرفيه كليهما.
لقد أصبح استخدام العلماء للآلات العلمية في أبحاثهم ضرورة يستحيل قيام علم بدونها؛ لأن الإنسان إذا اعتمد على حواسه المجردة، حصر نفسه في مجال ضيق جدًّا من المعرفة، وتحتم عليه كذلك أن يقنع بنتائج بعيدة عن الدقة بعدًا شديدًا؛ وإن شئت فقارن — مثلًا — بين تقديرك لأوزان الأشياء بيديك وتقديرها بالموازين، وقل ذلك في شتى المقاييس الطولية والحرارية وما إلى ذلك؛ وإنه ليكفيك لتقدير قيمة الآلات في وصولنا إلى الدقة العلمية، مثل واحد — ولا أقول مَثَلَ العالِم الطبيعي في معمله محاطًا بمئات الأجهزة والآلات؛ بل مَثَلَ الطبيب يفحص مريضًا في منزله، فقد يعلم أن حرارة المريض مرتفعة بمجرد اللمس، لكن أين ذلك من قياس الحرارة بمقياسها الخاص؛ وقد يعلم أن ضغط الدم عند المريض أكثر من النسبة العادية، لكنه لا يستطيع دقة إلا إذا قاس الضغط بمقياسه؛ وقد تكون رئتا المريض في حالة الخطر، لكنه بغير جهاز الأشعة السينية لا يمكنه التصرف معه على أساس مكين، وهكذا وهكذا في سائر عمليات تحليله لدم المريض وبصاقه وما إلى ذلك.
غير أنه مما تجدر ملاحظته في هذا الصدد، أن الآلات العلمية التي نستعين بها على توسيع مدى إدراكنا وبلوغ ذلك الإدراك مبلغ الدقة، تكاد تكون مقصورة على حاستين: البصر والسمع، وخصوصًا البصر؛ وليس في مقدور الإنسان أن يزيد من حواس شمه وذوقه ولمسه؛ ولكن هذا النقص — من جهة أخرى — ليس له كبير أهمية في مجال البحث العلمي، لأن هذه الحواس الثلاثة لا يستعان بها — إلا في القليل النادر جدًّا — في أبحاثنا العلمية؛ وعلة ذلك أن ما نعلمه بها يكون إحساسات ذاتية مما قد يتعذر أن نجد له جانبًا يقاس ويصبح موضوعيًّا مشتركًا، كما يمكن في حالتي المرئيات والمسموعات. وقد أسلفنا القول بأن الإدراكات الذاتية لا تدخل في مجال العلوم.
وكذلك نلاحظ أن كل الآلات والأجهزة العلمية (تقريبًا) يعمل على تحطيم الحواجز المكانية التي تحدد من مجال الإدراك الحسي لتوسع مداه، لكنها لا تصنع شيئًا من ذلك فيا لبُعد الزماني، فما مضى يتعذر — حتى الآن — استعادة حدوثه؛ ونقول «حتى الآن» لما قد قرأناه حديثًا جدًّا من مجهودات بعض العلماء في استعادة الماضي على أساس أن الموجات الضوئية والصوتية التي منها كانت تتألف حوادث الماضي، ما زالت هناك مبعثرة في أرجاء المكان، وقد نجد الجهاز الذي يجمعها، كما يفعل جهاز الراديو — مثلًا — في هذا السبيل.
ويمكننا اعتبار الآلات العلمية واستخدامها مرحلة بين الملاحظة المجردة والتجربة على اعتبار أن الفرق الأساسي بين الملاحظة المجردة والتجربة هو أن الإنسان في الأولى يستمع إلى ما تقوله الطبيعة من تلقاء نفسها، وفي الثانية يستجوبها حتى تنطق؛ أعني أن الإنسان في التجربة العلمية يلاحظ الطبيعة في ظروف أعدَّها هو ليتسقط أخبارها، بأن يعزل هذا العنصر أو ذاك، ويضيف هذا العنصر أو ذاك، كي يرمي ما يون من أثر في حالة العزل أو الإضافة. على أن إجراء التجربة ضرب من الملاحظة على كل حال.
ها نحن أولاء قد خَيَرْنا العالَم في بعض أجزائه، فجمعنا بالمشاهدة المباشرة جانبًا من خبرتنا، ونقلنا عن غيرنا من الناس مشاهداته، فأضفناها جانبًا آخر؛ فكنا في هذا وذلك بمثابة المحقق الذي يذهب إلى مسرح الجريمة ليلاحظ بنفسه آثارها، ويستمع إلى شهادة الشهود، ثم يجلس إلى مكتبه بعد ذلك فاحصًا مختبرًا، لكي «يفهم» فيتصرف على أساس ما فهم.
و«الفهم» هنا معناه تَصَوُّرُ الحوادث كيف تلازمت أو تلاحقت؛ أو بعبارة أخرى، هو بناء نسق متكامل من الشذرات التي جمعها الباحث من المصادر المختلفة. ولكي يتصور الأمور وكيفية حدوثها على نحو يطابق الواقع، لا بد له أن يَحْزَرَ على سبيل «التخمين» ما قد يكون بين الشذرات المتفرقة التي جمعها بمشاهداته ومشاهدات غيره، من روابط تجعلها بناءً واحدًا متسق الأجزاء؛ كما ينبغي له بعد هذا «التخمين» أن يعاود النظر فيما يمكن النظر إليه من حوادث ثبت وقوعها، ليرى هل يتفق التفسير الذي افترضه معها جميعًا أو لا يتفق. وعملية «التخمين» هذه في محاولة ربط الأجزاء التي تقع لنا في مشاهداتنا وخبراتنا، هي ما نسميه في المجال العلمي باسم «العروض العلمية».
و«الفروض العلمية على هذا النحو ضرورة من ضرورات الحياة العلمية، بل والحياة البدائية في أبسط صورها؛ هي ضرورة ليس منها بد كلما وجدنا حوادث العالم يُحتمل لها أن تسير في أكثر من طريق واحد، ونريد أن نعلم في أي طريق سارت، فنخاطب أنفسنا قائلين: إذا كانت الحوادث قد سارت في طريق «س» تحتم أن نرى من نتائج ذلك «أ، ب، ﺟ، د» وإذا كانت قد سارت في طريق «ص» تحتم أن يكون هنالك من النتائج «ﻫ، و، ز، ط» ثم ننظر لنرى أي الفرضين هو الصحيح.
فواضح أن الفرض الذي تفرضه في تفسيرات الحوادث، لا بد أن يكون ممكن التحقيق بالخبرة الحسية؛ أما إذا افترضت افتراضًا يستحيل على الناس أن يراجعوه على خبراتهم الحسية، كان افتراضك لغوًا لا يقف العلم عنده لحظة واحدة.
فماذا تقول لصاحب الفرض الذي يزعم لك أن النجوم مصابيح عُلِّقت من السماء بحبال … إلخ؟ إنك تمسك بمنظارك — إن كان ثمة منظار — لترى بحواسك هل صدق الزاعم في زعمه أو كذب؟ لكن افرضِ أنه زعم شيئًا مما يستحيل أن ينظر إليه بالمناظير كقوله: إن الآلهة تمسك بالنجوم فتدعها معلقة في الفضاء؟ ليست هناك الخبرة الحسية التي تؤيد هذا الزعم، فلا مناص من رفضه. لا على أنه شيء لم يتحقق الآن وقد يتحقق غدًا، بل على أنه ليس من الكلام المقبول إطلاقًا، إذ هو يفقد شرط الكلام، الذي هو إمكان التحقيق ليميز الصدق من الكذب.