قوانين الطبيعة
١
لو كانت الأشياء ساكنة ثابتة على حالة واحدة لا تتغير، لما نشأت عند الإنسان فكرة السببية، لأن هذه الفكرة وليدة ما يطرأ على الأشياء من تغير، فما ينفك الشيء الواحد يتغير ويتبدل حالًا بعد حال، فلا يسعنا إلا أن نتساءل إزاء كل حالة من حالات التغير قائلين: ما علة التغير هنا؟ أيكون ثمة علاقة بين التغير الطارئ على هذا الشيء المعين والتغير الطارئ على ذلك الشيء الآخر؟ أيكون ثمة علاقة — مثلًا — بين الذبول الذي أصاب هذه الزهرة، وبين ارتفاع الحرارة في الهواء المحيط بها؟ وإذا كان هنالك علاقة بينهما فماذا تكون؟
وقد تناول أرسطو موضوع السببية — أو العلِّية — بالبحث، لأن مهمة علم الطبيعة — في رأيه — هي معرفة أسباب ما يحدث فيها من تغير؛ وعنده أن هذه الأسباب أربعة أنواع: العلة المادية، والعلة المحركة، والعلة الصورية، والعلة الغائية؛ وليست هذه العلل تتعاقب على الشيء الواحد، كلا وليس بعضها يقوم في حالة على حين يقوم بعضها الآخر في حالة أخرى؛ بل إنها جميعًا تعمل معًا في كل حالة من حالات الوجود؛ فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكون منها الشيء، كالبرونز للتمثال؛ والعلة المحركة هي القوة التي عملت على تغيير المادة لتتخذ شكلًا جديدًا، كالمثَّال الذي يصنع من البرونز تمثالًا؛ والعلة الصورية هي الصفة التي تجعل من الشيء ما و، كالشكل الذي يُصَبُّ فيه البرونز ليكون تمثالًا من طراز معين؛ والعلة الغائية هي الهدف الذي تتجه الحركة لبلوغه، فالعلة الغائية التي من أجلها تناول المثَّال قطعة البرونز ونَحَتَها صورة معينة بإزميله، هي التمثال نفسه الذي نتج آخر الأمر.
وإنا لنلاحظ أن المعاني التي قصد بها أرسطو بكلمة «علة» — أو «سبب» — تخلف عما يفهم من هذه الكلمة في استعمالنا اليومي وفي استعمالنا العلمي على السواء؛ فإذا سألت في سياق الحياة اليومية الجارية، مشيرًا إلى تمثال برونزي، قائلًا: ما علة صنع هذا التمثال، لما كان الجواب هو أن العلة وجود قطعة البرونز، ولا كان الجواب هو أن العلة هي الماهية التي صيغ البرونز عليها فجعلته تمثالًا، أي إن الجواب لا يكون بذكر العلة المادية ولا بذكر العلة الصورية؛ وإنما يكون دائمًا بذكر إحدى العلتين الأخريين: فإما بذكر العلة المحركة فنقول إن علة صنع التمثال هو المثَّال، أو بذكر العلة الغائية، فنقول إن إنتاج هذا التمثال المعين هو علة صنعه.
على أن فكرة «السببية» حتى بالمعنى الذي قصرها عليه هيوم، وهو أن يكون معناها مجرد تلازم في الوقوع لوحظ في التجربة الماضية ونتوقع حدوثه بحكم العادة، قد تعرضت لنقد كثير، إلى الحد الذي لم تعد معه هذه الكلمة صالحة للاستعمال في المجال العلمي إطلاقًا؛ واستعرض ما شئت من كتب العلوم الدقيقة كالفيزياء، فلن تجد لهذه الكلمة وجودًا فيها، لأنه لم تعد هنالك — عند النظرة العلمية — أسباب ومسببات، بل الذي هنالك هو «قوانين» تربط متغيرات بعضها ببعض في علاقات متبادلة تساق على صورة دالَّات رياضية كما سنوضح تفصيلًا فيما بعد.
فمن أوجه النقد على فكرة السببية — حتى على الصورة التي تركها بها هيوم — أن الأسبقية بين السبب والمسبَّب ليست محددة المعنى تحديدًا واضحًا؛ فهل هي تقتضي وجود فترة زمنية بينهما؟ إن كان ذلك كذلك، فمهما بلغت تلك الفترة من القِصَر فهي تفصل السبب عن المسبَّب فصلًا يتنافى مع اتصال مجرى الأحداث في الطبيعة؛ وعلى أي أسا ننتفي إحدى الحادثات التي تسبق المسبَّب لنجعلها سببًا؟ هذه — مثلًا — نار اشتعلت في قطعة الورق حين أدنينا منها عودًا من الثقاف، أفنقول — إذن — إن عود الثقاب هو السبب في اشتعال الورقة؟ لكنه لولا وجود الأكسجين في الهواء لما أشعل الثقابُ الورقة، ولولا قابلية الورق للاحتراق لما حدث الذي حدث، وهكذا.
فليس إدراكنا الفطري على صواب حين ينظر إلى الحادثات في تفردها وانعزالها، فينظر إلى الرصاصة المنطلقة كأنما هي حدث قائم بذاته، وإلى موت القتيل كأنما هو حدث آخر قائم بذاته، وأن الحدث الأول سابق في الزمن على الحدث الثاني؛ لأن تحليل الحادثتين إلى ما تتضمنه كل منهما من حادثات صغرى يرد إليك الأمر خطًّا واحدًا من أحداث متصلة، أي إنه يذيب الحادثة الأولى في الحادثة الثانية، حتى ليظهر خطؤنا في القول بأن العلاقة السببية هي تلاحق زمني في الوقوع.
والحق أن الفرق بين نظرة الإدراك الفطري إلى السببية بأنها علاقة بين حادثين مفردين مستقلين، وبين النظرة العلمية التي تحلل الحادثين معًا إلى مجموعات من تفاعلات، فإذا بالحادثين يندمجان معًا في خط واحد من الحوادث، هو من أبرز الفروق التي تباين بين القديم والحديث في وجهة النظر إلى الطبيعة وإلى الكائنات؛ فالنظرة القديمة التي كانت تعزل الأشياء بعضها عن بعض وتنظر إلى كل منها على حدة، هي نظرة ذات طابع كيفيٍّ (أعني أنها تأخذ الأشياء حسب وقعها في إدراكنا المباشر) لا دخل فيها للمقادير الكمية مقيسة قياسًا دقيقًا؛ وكان مؤدَّى هذه النظرة التي تجعل السبب والمسبَّب شيئين منفصل أحدهما عن الآخر، فلكلٍّ وجوده المستقل وكيانه المنعزل، أقول إن مؤدَّى هذه النظرة أن تفترض وجود شيء خارج الحوادث نفسها لتفسر به تأثير السبب في المسبَّب، ولهذا كانت تفترض دائمًا وجود «قوة» معينة تؤدي هذه العملية أو تلك من عمليات العلاقة السببية؛ فمثلًا كيف يؤدي الغذاء إلى حياة الكائن العضوي؟ أليس الغذاء شيئًا قائمًا بذاته والكائن العضوي شيء آخر قائم بذاته؟ إذن فلا بد أن تكون هنالك «قوة» لا هي من الغذاء ولا هي من الكائن العضوي، بفضلها يتصل السبب بمسبَّبه؛ وكيف ينجذب الجسم الساقط نحو الأرض؟ إنه لا بد أن تكون هنالك «قوة» لا هي من الجسم الساقط ولا هي من الأرض؛ وكيف يجذب الحجر الممغطس مسمارًا من حديد؟ لا بد أن تكون هنالك «قوة» تفعل هذا الفعل، وهكذا وهكذا. نعم هكذا امتلأ الجو الثقافي «بالقوى» الخفيَّة التي تفعل هذا وتفعل ذاك، نتيجة تصور الأشياء منفصلًا بعضها عن بعض في ماهيات مستقلة، وجعل العلاقة السببية مجرد أسبقية في الحدوث بين ما هو سبب وما هو مسبَّب.
لهذا كان لا مندوحة لنا عن تعديل فكرتنا عن التتابع الذي يكون بين السبب والمسبَّب، بحيث نسدُّ الثغرات التي كنا نفترض وجودها في سلسلة الأحداث؛ وذلك بتحليل الحوادث إلى مقوماتها الصغرى، ولو فعلنا ذلك لانساب السببُ في مسببه انسيابًا يجعلهما خيطًا متصلًا؛ فالحادثات الصغرى في الخيط السببي أشبه بالنقط التي منها يتكون الخيط المستقيم، وليس هي كالخرزات — مثلًا — موضوعًا بعضها إلى جانب بعض، ولو كانت هكذا لكان بينها فجوات على نحو ما أسلفنا؛ لكننا إذا ما أدمجنا السبب في المسبَّب وجعلناهما سيرةً واحدة متصلة الحلقات، أصبح من التعسف أن نرسم حدًّا فاصلًا ونقول إن ما قبل هذا الحد الفاصل نعدُّه سببًا، وما بعد الخط نعدُّه مسبَّبًا، لأن خط السبب في حد ذاته فيه سابق ولاحق، وكذلك خط المسبَّب − فماذا نحن صانعون إذن؟ ليس أمامنا إلا أن نغضَّ النظرة عن فكرة السببية إطلاقًا، ثم نحاول في خط الحوادث المتصلة أن نجد الدالَّة التي تجعل حلقة من السلسلة متوقفة على حلقة أخرى، توقفًا يقاس مقداره وتُضبط نسبته، وذلك هو ما نسميه بالقانون العلمي.
٢
لم تعد كلمتا «سبب» و«مسبَّب» صالحتين كل الصلاحية في مجال البحوث العلمية، لأنهما كثيرًا ما يحملان معهما طرائق الإدراك الفطري في رؤية الأشياء على أنها كيانات مستقلة بذواتها، دون تحليلها إلى عواملها تحليلًا يجعل الحوادث تبدو على حقيقتها شبكة من أطراف متفاعلة؛ ولذلك اختفت هاتان الكلمتان (سبب ومسبَّب) من ميادين العلوم المضبوطة كالفيزياء والكيمياء، ولم يعد يستخدمها إلا أصحاب العلوم المتخلفة — كمعظم العلوم الإنسانية — لقرب المسافة بينها وبين التفكير الشعبي؛ على أن العلوم الإنسانية — كعلم الاقتصاد وعلم النفس — تحاول اليوم جاهدة أن تأخذ — ما استطاعت — بمناهج العلوم المتقدمة، ومن أهم أركان هذه المناهج أن تحلَّ فكرة «القانون» محل فكرة «السببية»، فلا يكون البحث عن شيء يعدُّ سببًا لشيءٍ آخر، بل يكون عن دالَّة رياضية تبين العلاقة بين مجموعة من المتغيرات.
-
(١)
فطائفة كبيرة من القوانين الطبيعية تعني بالاقتران المطرد بين الخصائص، كقولنا إن الملح يذوب في الماء، والحيوانات الثديية فقرية، والحيوانات المجترة مشقوقة الظلف. وأمثال هذه القوانين ذات أهمية كبرى في تصنيف الكائنات الطبيعية إلى أجناسها وأنواعها؛ فلا عجب أن بدأ الإنسان حياته العلمية بأمثال هذه المشاهدات، التي لولاها لما عرف الإنسان كيف ينتفع بما يحيط به من أشياء، ولا كيف يتصرف إزاء ما يصادفه من كائنات حية وجامدة على السواء؛ ولقد يُطلق على هذه المرحلة من تاريخ الفكر اسم مرحلة التاريخ الطبيعي، لأن العلم فيها لا يعدو أن يكون تقريرات وصفية للكائنات؛ وها هنا يكون الطابع العام كيفيًّا لا كميًّا، وهو الطابع الذي يميز العلم الأرسطي إلى حدٍّ كبير، والذي على أساسه بنى المنهج العلمي كما صاغه هو في صورة الاستدلال القياسي.
وإذا كان الباحث العلمي ما زال في علمه عند مرحلة التاريخ الطبيعي، يحاول أن يلحظ الصفات المقترنة ليجمعها في قوانين تصف الاطرادات، فيقول: كل ما هو موصوف بكذا يكون أيضًا موصوفًا بكيْت، كأن يقول — مثلًا — إن كل حيوان يجتر طعامه يكون أيضًا مشقوق الظلف، أو إن كل حيوان ثديي يكون أيضًا فقريًّا، وهكذا؛ أقول إنه إذا كان العالم ما زال في علمه عند هذه المرحلة، كان محتومًا عليه أن يقف على درجة واحدة مع عامة الناس في تصنيفهم للأشياء؛ فعامة الناس — كما ترى في الألفاظ التي يستخدمونها في التفاهم — يصنفون الكائنات حسب ما هو مقترن من خصائصها اقترانًا مطردًا، وإلا لما استطاعوا أن يسموا هذه الفاكهة برتقالًا وتلك الفاكهة تفاحًا، وهذا الحيوان جَمَلًا وذلك الحيوان فيلًا، وهكذا؛ نعم إن العالِم عندئذٍ سيعلو عن عامة الناس في دقة التصنيف، فما يجعله عامة الناس «قطنًا» أو «برتقالًا» أو «حشرة» يصنفه هو تصنيفات فرعية كثيرة، فللقطن عنده أنواع متميزة، وللبرتقال أنواع، وللحشرة أنواع، وهلمَّ جرًّا؛ ولكن هذه الزيادة في دقة التصنيف ليس معناها أن في مقدور الباحث العلميِّ أن يتنكر للخطوة التي بلغها عامة الناس في التصنيف، وأن يبدأ المشاهدات من البداية الأولى، بل إنه ليتحتم عليه أن يقبل التصنيفات التي تمت على أيدي العامة، ثم يضيف إليها ما يريدها دقة من حيث الفروع وفروع الفروع، فلو قد تنكر الباحث العلمي لتصنيفات عامة الناس، لكان ملزمًا ألا يسمي الأشياء بأسمائها، ولبدأ من منثور الألوان والأصوات وسائر الانطباعات الحسية الأولية، يتعقبها من جديد، ليرى ماذا يطرد اقترانه منها وماذا لا يطرد، حتى إذا ما وجد لونًا معينًا مقترنًا بطعم معين وصلابة معينة، قال عن هذه المجموعة من الصفات إنها «سكر» وهكذا.
-
(٢)
قلنا إن الصورة الأولى من صور القانون الطبيعي، هي تصنيف الكائنات حسب خصائصها التي تقترن اقترانًا مطردًا؛ غير أن من حقائق الطبيعة ما هو في حالة من النمو، وليس هو من الثبات على صورة سكونية، بحيث تقول عنه إن الصفة الفلانية فيه توجد مقترنة بالصفة الفلانية؛ بل هو تتابعٌ وسَيْرٌ وحركة؛ وعندئذٍ يكون القانون العلمي في هذه الحالة معبرًا عن اطراد في مراحل الفعل لا في اقتران الصفات؛ ومن هذا القبيل قوانين التفاعل الكيموي الذي يتطلب فترة من الزمن ليتم حدوثه، وقوانين النمو في الحيوان والنبات، وقوانين الأمراض المختلفة وما تقتضيه من مراحل متعاقبة؛ ويجوز كذلك أن نَسْلكَ في هذا النمط من القوانين قانونًا هامًّا في الفيزياء، هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية٦ الذي نصور به انتقال الحرارة باطراد لا يتخلف مما هو أكثر حرارة إلى ما هو أقل حرارة، ولا يكون العكس أبدًا؛ فهذا القانون وإن يكن مختلفًا عن الأمثلة الأخرى التي سقناها في كونه أعمَّ نطاقًا وأبسط صورة، إلا أنه يشبهها في أنه يصور نمطًا من حركة السير في الظواهر الطبيعية، مؤداها التسوية في الدرجة الحرارية بين الأجسام كافة، فما يفتأ الأعلى يرفع الأدنى إلى مستواه.
-
(٣)
والنوع الثالث من أنواع القوانين هو ما يُعْنى. لا برصد الخصائص المطردة الاقتران في أنواع الكائنات، ولا برصد الاطراد في تتابع خطوات النمو والسَّيْر فيما ينمو وما يسير من ظواهر الطبيعة، بل يعنى بالعلاقات الدالِّية٧ بين الكميات المقيسة في الظاهرة المعينة، كالقانون الفيزيائي الذي يقول إن الضغط الواقع على غاز مضروبًا في حجم الغاز يساوي حاصلًا ثابتًا ما دامت درجة الحرارة ثابتة؛ فالقانون هنا يبين العلاقة الكائنة بين الضغط والحجم والحرارة في الغازات، وهي علاقة دالِّية لأنه إذا زاد الضغط قلَّ الحجم، وإذا قل الضغط زاد الحجم، ما دامت الحرارة ثابتة في كلتا الحالتين، أي إننا نستطيع أن نستدل مقدار الضغط إذا عرفنا الحجم، وأن نستدل مقدار الحجم إذا عرفنا الضغط.
وإنه لشرط ضروري في هذا النمط من القوانين أن يجيء القانون في صيغة رياضية ذات متغيرات مجهولة القيم، لأننا بهذا نستطيع أن نوسِّع مجال تطبيقها إلى ما ليس به نهاية؛ ففي قانون الغازات السالف الذكر، لا حاجة بنا إلى — بل ليس في مستطاعنا — أن نستقصي كل حالات الغاز الكائنة في الوجود، ولا أن نستقصي حالة كل مقدار من الغاز في درجات الحرارة المختلفة ودرجات الضغط المختلفة، لنطمئن على أنه قانون صحيح؛ بل إنه ليكفينا استكشاف العلاقة الدَّالِّية بين هذه الأطراف: الضغط والحجم والحرارة، لنستدل أية حالة شئنا، من علمنا بإحدى قيم الصيغة الرمزية؛ وإن هذا النمط من القوانين ليبلغ المدى في الدقة الكمية وفي سعة الشمول معًا؛ فهو من الشمول بحيث ينطبق على الظاهرة كائنًا ما كان زمانها ومكانها، وكائنة ما كانت الدرجة التي تحدث بها.
-
(٤)
ونمط رابع من القوانين، يُعنى «بالثوابت العددية» في الطبيعة، كالقوانين التي تحدد لنا درجات الانصهار في المواد المختلفة، وكسرعة الضوء، والوزن النوعي لكل عنصر، وهكذا — على أن بعض هذه القوانين يمكن التعبير عنه في صورة النمط الثالث — صورة العلاقة الدالِّية بين المتغيرات. فسرعة الضوء مثلًا إما أن يقال عنها إنها من المقادير الثابتة في الطبيعة، وإما أن توصف بأنها النسبة بين المسافة التي يقطعها الضوء والزمن اللازم لقطع تلك المسافة؛ وهكذا قل في بقية الثوابت العددية في الكيمياء وغيرها.
هذه أنماط أربعة من قوانين الطبيعة، ونلاحظ أن الثالث والرابع منها، وهي تعني بالكميات المقيسة من ظواهر الطبيعة، لم تظهر إلا في المراحل الأخيرة من تقدم العلم؛ بينما القوانين التي من النمطين الأول والثاني طابعها كيفيٌّ، وأخذت في الظهور منذ فجر تاريخ العلوم؛ لكن هذه التفرقة بين قوانين الكيف وقوانين الكم، لا تنفي أن تكون القوانين الكمية الحديثة في تاريخ العلم استمرارًا لقوانين الكيف القديمة، ولو لم تكن كذلك لما كان للعلم تاريخ موصول الحلقات متصل المراحل؛ فقد عرف الإنسان منذ أقدم عصوره أن الحديد ينصهر بالحرارة الشديدة، فإذا جاء العلم الحديث بمقاييسه وأجهزته يقيس درجة انصهار الحديد قياسًا عدديًّا دقيقًا، كان الانتقال بين العهدين انتقالًا في الدقة، فبعد أن كانت الحقيقة تصاغ في عبارة كيفية تكتفي بذكر «الانصهار» و«الحرارة» على أنهما مدرَكان معلومان في مجال الخبرة العملية، أصبحت تصاغ في صيغة رياضية رمزية؛ ومع ذلك فليس هو بالانتقال اليسير، إذ هو — أولًا — يتيح لنا أن نتنبأ على وجه الدقة بما عساه أن يحدث لقطع الحديد في حالات كثيرة جدًّا؛ وثانيًا، يمكننا من اختبار صدق الفروض العلمية التي قد يفترضها الباحثون لتفسير ظاهرة الانصهار، اختبارًا حاسم الدلالة؛ والحق أن ما يتحقق لنا بفضل القانون العلمي إذا ما صيغ صياغة رمزية رياضية دقيقة، يغرينا بجعل هذه الصورة من القوانين مثلًا أعلى لكل قانون علمي مهما يكن مجال البحث ومادته؛ فما ليس يتوافر له هذا المستوى من الدقة الكمية، نقول عنه إنه ما يزال في مرحلة متأخرة من مراحل التقدم العلمي؛ لكن هنالك من فلاسفة العلم من لا يأخذ بهذه النظرية، ويذهب إلى أن ثمة مجالات علمية لا تصلح بطبيعتها لصياغة قوانين كقوانين الفيزياء، بل إن مادتها تحتم أن تجيء قوانينها كيفية الطابع، فليس قولنا — مثلًا — إن الحيوان الثديَّ يكون فقريًّا، هو مما ينتظر أن تزيده الأيام دقة بحيث ينقلب إلى صورة دالَّةٍ رياضية بعد صورته الكيفية الراهنة؛ وإن هذا الاختلاف في وجهة النظر لذو أهمية بالغة عند النظر إلى العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد: فهل نقنع فيها بقوانين كيفية أم نجاهد في سبيل الوصول فيها إلى قوانين كمية من نوع قوانين الفيزياء؟
٣
أيًّا ما كانت صورة القانون العلمي من بين الأنماط الأربعة التي أسلفناها، وما قد يضاف إليها من أنماط أخرى، فيجوز لنا — بغية التبسيط — أن نقول إن صورة القانون العلمي ترتد دائمًا إلى هذه الصورة: «كل ما هو أ هو أيضًا ب»؛ وإن تكن هذه الصورة البسيطة للقانون العلمي كثيرًا ما تؤدي بساطتها هذه إلى طمس الفوارق التفصيلية التي تميز أنماط القوانين العلمية بعضها من بعض؛ لكن حَسَنَتَها هي أنها تذكِّرنا بأن القانون العلمي دائمًا — حتى وهو في صورته الكمية المعهودة في علم الفيزياء — يشير إلى كل الحالات الجزئية المنطوية تحت نوع واحد، فقانون الغارات يشير إلى كل عَيِّنة تصادفها من الغارات، والوزن النوعي للنحاس، أو معامل تمدد النحاس، يشير إلى كل قطعة من النحاس؛ وقانون الضوء وقانون الصوت يشير أولهما إلى طريقة انتشار الضوء وثانيهما إلى طريقة انتشار الصوت مهما يكن من ظروف هذا أو ذاك مكانًا وزمانًا؛ فقانون الغازات الذي اتخذناه مثلًا في الفقرة السابقة، يمكن صياغته في صورة «كل أ هي أيضًا ب» فنقول: كل عَيِّنَة من غاز يسري على حجمها والضغط الواقع عليها ودرجة حرارتها العلاقة الدالِّية الآتية:
الضغط × الحجم = مقدار ثابت مع ثبات درجة الحرارة
ومهمتنا الآن هي أن نجيب عن هذا السؤال: ما علاقة القانون العلمي بالواقع الخارجي؟ أمامك صيغة من رموز. سواء كانت رموزًا من أعداد أم حروف أم كلمات أو غير ذلك. فما العلاقة بين هذه الصيغة الرمزية من جهة والواقع الخارجي من جهة أخرى؟ ولا حاجة بي إلى لفت نظرك إلى أن هذا الواقع الخارجي الذي جاءت الصيغة الرمزية مشيرة إليه، ليس هو رموزًا مثلها، بل هو ظاهرة طبيعية، فهو ضوء أو صوت أو كهرباء أو غير ذلك من الكائنات الطبيعية.
- (١)
المعنى الاستقصائي الذي يراد به جميع أفراد النوع واحدًا واحدًا؛ فإذا نظرت — مثلًا — إلى الكتب الموضوعة على رفوف مكتبتي فوجدتها جميعًا — كتابًا كتابًا — كتبًا في الفلسفة، وقلت: كل الكتب في هذه المكتبة فلسفية» كان معنى «كل» في هذا السياق هو الاستقصاء التام الذي يحصر الأعضاء واحدًا واحدًا؛ وليس هذا المعنى هو ما نقصد إليه عند استعمالها في صياغة القوانين العلمية.
- (٢)
المعنى الاحتمالي؛ وهو أن تَخْبرَ بعض الأفراد من نوع معين، فتحكم بما خَبَرْتَه على ما لم تَخْبُرْه من أفراد النوع كله؛ مثال ذلك أن تجري التجربة العلمية على عَيِّنة من الماء وتراها مكونة من هيدروجين وأوكسجين بنسبة معينة، فتقول هذا عن الماء كله، والقوانين العلمية — من وجهة نظر معينة — هي من هذا القبيل.
- (٣)
المعنى اليقيني؛ وهو الذي نستعمل به كلمة «كل» لتعني تعميمًا مطلقًا بغير قيد أو شرط، كقولنا: «كل مثلث متساوي الأضلاع، متساوي الزوايا» وواضح أننا لا نعتمد في مثل هذا الحكم المطلق على الخبرة الحسية، لأن الخبرة الحسية محدودة بزمان معين ومكان معين، ونحن هنا نطلق الكلمة إطلاقًا يحررها من حدود الزمان والمكان، ولهذا كان التحليل الصحيح للقضية التي ترد فيها كلمة «كل» بهذا المعنى المطلق، هو أنها قضية شرطية، فكأنها تقول: إذا كان الشكل الهندسي مثلثًا متساوي الأضلاع فيلزم عن ذلك أنه كذلك متساوي الزوايا» بغير تقرير منا أن هنالك في الوجود الفعلي مثلثًا من هذا القبيل.
نعود الآن إلى ما كنا بصدده. وهو العلاقة بين الصيغة التي يَرِدُ بها القانون العلمي من جهة، والواقع الخارجي الطبيعي من جهة أخرى، فماذا عساها أن تكون؟ هنالك وجهات للنظر مختلفة يأخذ بها الفلاسفة المختلفون، وهي تختلف باختلافهم في تشخيصهم المنطقي لطبيعة الجملة التي نصوغ بها القانون العلمي:
-
(١)
ذهب فريق من الفلاسفة إلى أن القانون العلمي هو بمثابة مبدأ تجري الطبيعة على مقتضاه في طريق محتوم لا محيص لها عنه؛ شأنه — منطقيًّا — شأن جملة كهذه: «لا يكون الشيء الواحد أحمر وأخضر في آن واحد» وكل ما هنالك من اختلاف بين القانون العلمي من جهة وهذه الجملة من جهة أخرى، أن الضرورة في هذه الجملة واضحة «للعيان» العقلي، على حين أن القانون العلمي يحتاج إلى شيء من التحليل ليبدو على هذه الدرجة الواضحة من الضرورة المنطقية.
كان جون لُك (١٦٣٢–١٧٠٤م) و«كانْت» (١٧٤٤–١٨٠٤م) من الآخذين بهذا الرأي في ضرورة القوانين العلمية، وهو رأي نرى ما يؤيده في لغة العلماء أنفسهم حين يستخدمون كلمات مثل «لا بد» و«بالضرورة» و«يتحتم» وما في معناها، لا سيما حين يستخلصون النتائج من المقدمات، كأن يقال — مثلًا — إنه إذا كانت درجة ارتفاع الشمس ٣٠°، وكان هنالك جدار ارتفاعه ست أقدام، كان «لا بد» أن يكون لهذا الجدار ظل طوله على الأرض عشر أقدام ونصف قدم؛ فهي نتيجة تلزم «بالضرورة» عن المبدأ القائل بأن الضوء ينتشر في أشعة مستقيمة.
-
(٢)
وذهب فريق آخر من الفلاسفة إلى أنه لا «ضرورة» ولا «تحتيم» في القوانين العلمية التي تقال عن الطبيعة، ومن هؤلاء «هيوم» (١٧١١–١٧٧٦م) و«إرنست ماخ» في أواخر القرن التاسع عشر — ومن بعده فئة من أنصار الوضعية المنطقية — فمن رأي هؤلاء جميعًا أن الضرورة لا تكون إلا في الجمل التحليلية التي هي تحصيلات حاصل يتكرر شطرها المقدَّم في شطرها التالي، ومن هذا القبيل قضايا الرياضة (أي المعادلات الرياضية وما هو في حكم التعريفات) وقضايا المنطق؛ أما الجمل التي ننبئ بها عن ظواهر الطبيعة الخارجية، فهي نتيجة مشاهدات دلت على أن شيئًا ما ملازم في الحدوث لشيء آخر، وما دمنا قد عرفنا أن مجموعة معينة من الصفات مقترنة دائمًا بمجموعة أخرى، فيجوز لنا أن نقول عنهما «قانونًا» صيغته: «إذا حدثت أ حدثت كذلك ب»؛ ولو كانت المشاهدة قد دلت على غير هذه الصورة من الاقتران لتبعنا المشاهدة فيما دلَّتْ، وإذن فليس في الأمر ضرورة يوجبها العقل وجوبًا بحكم منطقه.
وربما سأل سائل هنا قائلًا: لكن ماذا يكون معنى كلمة «لا بد» — وما في معناها — حين يقول الباحث العلمي مثلًا إنه إذا كان ارتفاع الشمس كذا درجة وكان هنالك جدار ارتفاعه كذا قدمًا، فلا بد أن يلقى الجدار ظلًا على الأرض طوله كذا؟ أليس معنى هذا أن في الأمر «وجوبًا» يستلزم أن تقع الأحداث على صورة دون غيرها من الصور الممكنة؟
لهذا كان جديرًا بنا في هذا الموضع أن نفرق تفرقة واضحة بين ما هو «قانون» وما هو «تطبيق» لهذا القانون؛ فلئن كان القانون نفسه مرهونًا بما نشاهده من اقترانات مطردة، بحيث لا يتحتم في أمره شيء إلا ما تدل عليه المشاهدات، حتى ليجوز لنا عقلًا أن نتصور قيام القانون أو نفيضه على حد سواء، فليس في منطق العقل نفسه ما يلي بأن يكون مسار الضوء في أشعة مستقيمة أو في أشعة منحنية، والأمر في ذلك متوقف على التجربة وحدها، فإن الموقف بالنسبة إلى «تطبيق» القانون مختلف، لأنه إذا سلمنا بصدق القانون، فلا بد أن ينتج كذا وكذا من النتائج؛ فالضرورة العقلية هي في النتائج وليست في صورة القانون؛ ولزيادة التوضيح قارن بين هاتين العبارتين (١): المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية ٢٠٠ كيلومتر، (٢) إذا كانت النقطة: تقع في منتصف المسافة بين القاهرة والإسكندرية، فهي تبعد عن القاهرة ١٠٠ كيلومتر. قارن بين هاتين العبارتين تجد أن الأولى تنبئ بخبر عن العالم الواقع، ولذلك فهي محتملة الصدق ومحتملة الخطأ، شأن كل نبأ تجيء به المشاهدة، وليس فيها ضرورة منطقية تحتم صدقها بحكم العقل المحض؛ أما الجملة الثانية فهي صادقة حتمًا ما دمنا قد سلمنا بصدق الجملة الأولى؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى القوانين العلمية وتطبيقاتها عند هذا المذهب الذي نعرضه.
فلا تناقض عند هيوم ومن يذهب مذهبه في إنكار الصورة العقلية في القوانين الطبيعية، بين هذا الإنكار من جهة، وبين أن يتحدث العلماء عن «وجوب» أن تحدث النتائج الفلانية إذا توافرت لها الظروف الفلانية؛ فلا ينبغي لنا أن نخلط بين «احتمال» الصدق في النظريات والقوانين العلمية وبين «ضرورة» الصدق بالنسبة إلى النتائج المترتبة على تلك النظريات والقوانين على فرض سدادها.
الحق أن اختلاف الرأي بين الفريقين اللذين أسلفنا الحديث عنهما في (١) و(٢) هو اختلاف في مركز الانتباه؛ إذ إن كلًّا منهما يوجه الرأي إلى شيء غير الذي يوجه إليه الفريق الثاني رأيه. فالفريق الأول حين يقول عن القانون العلمي إنه صدى ضرورة منطقية، إنما يوجه نظره إلى «النتائج» التي قدم عن الفروض المنطقية، والفريق الثاني حين يقول عن القانون العلمي إنه مجرد اقتران شاهدناه في مجال التجربة وكان يمكن أن نشاهد اقترانًا آخر على صورة أخرى، فهو يوجه نظره إلى الوقائع ذاتها التي تندرج أو لا تندرج تحت هذا القانون العلمي أو ذاك؛ فالفرق بينهما موضحًا بمثال هو أن الفريق الأول يقول إنه بناء على قانون انكسار الضوء فإنه إذا كانت زاوية سقوط الضوء على منشور زجاجي هي كذا، فلا بد أن تكون زاوية انكساره هي كيت؛ وأما الفريق الثاني فيقول: ها هو ذا منشور زجاجي أمامنا، وقع عليه الضوء بزاوية قدرها كذا، وانكسر بزاوية قدرها كيت، فهي مجرد مشاهدة وقعت لنا في الخبرة، وليس فيها الضرورة التي تحتم عليها أن تكون هكذا وألا تكون على غير هذه الصورة. فالفريقان لا ينظران إلى شيء واحد يختلفان عليه، بل إن أحدهما لينظر إلى ما يلزم استنباطًا عن مبدأ مأخوذ مأخذ التسليم، على حين أن الآخر ينظر إلى واقعة راهنة ماثلة أمام الرائي.فليست حقيقة الموقف — إذن — هي أنه إما أن يكون الفريق الأول على حق، أو أن يكون الفريق الثاني على حق؛ بل الفريقان كلاهما على حق، كل في المجال الذي اختصه بالحديث؛ ولقد أسلفنا لك أن كلمة «كل» ذات معانٍ مختلفة، فمن معانيها «تعميم» الحكم الذي أطلقناه على ما قد شوهد ليشمل كذلك ما لم يشاهد من أمثلة النوع الواحد، ومن معانيها كذلك توقيف التالي على المقدم في الجملة اللزومية؛ فمعناها التعميمي منصرف إلى عالم الواقع، ومعناها اللزومي منصرف إلى عالم الفكر؛ والعالمان لا يناقض أحدهما الآخر، بل إن أحدهما ليكمل الآخر؛ فالباحث العلمي ينتقل في «فكره» النظري بين مفهوم معين وما يلزم عنه، ثم ينتقل بعدئذٍ إلى العالَم الواقع ليشاهد ما هو هنالك موجود وجودًا فعليًّا، فالسير في الحالة الأولى خطواته «ضرورية» والمشاهدة في الحالة الثانية حصيلتها «عرضية» كان يجوز ألا تقع على الصورة التي وقعت عليها بالفعل.٨ -
(٣)
ورأي ثالث هو أن القانون العلمي ليس قضية تقريرية نقدم بها وصفًا لواقعٍ معين معلوم، بل هو أقرب إلى الصيغة التي نسترشد بها في الوصول إلى قضايا عن ذلك الواقع؛ ويترتب على ذلك أنه لا يجوز أن نصف القانون العلمي بأنه «صادق» أو «كاذب» أو «ضروري» أو «محتمل» لأن هذه الكلمات إنما توصف بها العبارات التقريرية وحدها، وليس القانون العلمي جملة «تقرِّر» أن كذا وكذا حادثٌ فعلًا في العالم الخارجي، بل هو — كما قلنا — كالدليل الذي يدلنا على الطريق الصحيح المؤدي إلى غاية هي الغاية المقصودة؛ أو بعبارة أخرى إننا ننعت بهذه الكلمات (صادق، كاذب، ضروري، محتمل) لا القوانين العلمية ذاتها، بل حالات انطباقها، فهذه — مثلًا — حالة انطبق عليها القانون وتلك حالة لم ينطبق عليها.
هذا رأي أخذ به مورتس شليك رائد المذهب الوضعي المنطقي، ويجب أن نقف عنده وقفة طويلة لنلم بجوانبه.
٤
لئن كانت وجهة النظر الأولى قد جعلت القانون العلمي ضرورة عقلية، ووجهة النظر الثانية قد جعلته اقترانًا بين الحوادث بتعوده لتكرار حدوثه ونتوقع حدوثه من جديد على سبيل الاحتمال المرجَّح، فإن وجهة النظر الثانية قد خرجت بفكرة جديدة هي أن القانون العلمي ليس قضية حتى يجوز وصفه بالضرورة أو بالاحتمال، بالإطلاق أو بالانحصار، بل هو «تعليمات» يسترشد بها الباحث في طريق سيره خلال الظواهر الطبيعية، فهو أقرب إلى «تذكرة» السفر التي تجيز للمسافر أن يركب قطارًا معينًا يسير به في سكة بعينها، منه إلى وصف يصف الرحلة؛ فإذا كان بين يديك قانون الجاذبية — مثلًا — استرشدت به في طريقك خلال الأجسام الساقطة، أو كان لديك قانون ارتفاع الأسعار وانخفاضها كان لك بذلك دليلٌ يهديك في معاملاتك التجارية، ونخلص من هذا إلى أن القانون الذي لا يرسم طريقًا للسير في عالَم التطبيق، لا يكون من القانون العلمي في شيء.
كيف إذن نصور العلاقة بين القانون العلمي من جهة والبيانات التي جمعها الباحث بمشاهداته وتجاربه من جهة أخرى، دون أن نفقد الخطوة التي خطاها الوضعيون في الحرص على أن يجيء القانون مستمدًّا من نطاق المعطيات نفسها ولا يجاوزها إلى غيبٍ وراءها؟ هنا نورد التشبيه الذي نشبِّه به القانون العلمي بالخريطة الجغرافية.
ضع أمامك خريطة للقاهرة وضواحيها؛ فمنها تعلم أن حلوان جنوبي المعادي بمقدار كذا من الكيلومترات، وأن هرم الجزية يقع غربي النيل بمقدار كذا من الكيلومترات، وهكذا؛ فما العلاقة بين البيانات الموضحة على الخريطة وبين الواقع، تلك العلاقة التي تمكننا من استدلال عدد كبير جدًّا من المعلومات التي تهدينا في طريق سيرنا؟ إنه لا شك في أن الخريطة لم «تستنبط» من البيانات التي جاء بها المسَّاحون — أعني أنها لم تستخرج منها بالصورة التي نستخرج بها نتيجة القياس من مقدماته؛ فليس لدينا مقدمات كلية نقول إن كل كذا هو كيت، إذن ينتج أن كل أفراد النوع الفلاني داخلة في النوع الفلاني؛ كما هي الحال — مثلًا — حين نقول إن كل الأسماك فقريات، والحيتان أسماك، إذن فالحيتان فقريات؛ فها هنا ترى نفس الألفاظ التي وردت في المقدمات هي التي أعيد بعضها في النتيجة؛ كلا، ليس الأمر شبيهًا بهذا عندما نستمد الخريطة من المعلومات الأولية التي يجيء بها المسَّاحون، ولا هو شبيه بهذا عندما نستمد من الخريطة التي بين أيدينا أين تقع حلوان من المعادي وكم تبعد عنها، أو أين يقع هرم الجيزة من النيل كم يبعد عنه؛ وإذا كان القانون العلمي بالنسبة إلى وقائع العالم الخارجي شبيه بالخريطة وما تصوره، فليست العلاقة بينهما علاقة استنباط.
كلا ولا الخريطة بالنسبة إلى المعلومات الجغرافية التي على أساسها رُسِمَتْ، عبارة عن تلخيص موجز لتلك المعلومات، فلا تلخيص هناك، بل إن الخريطة لتعطينا من المعلومات ما هو أكثر جدًّا مما كان المساحون قد زودنا به، فالمسَّاح لا يقيس كل شبر على الأرض ليتاح له رسم خريطة لرقعة ما، بل يتخير مواقع معينة يقيس أبعادها، ويخطط خريطته على أساسه، فيصبح في مقدورنا بعدئذٍ أن «نقرأ» على الخريطة حقائق كثيرة لم تكن قد وردت في المقاييس الأولية، دون أن يقال إننا جاوزنا حدود معطياتنا الأولية.
هكذا الحال في العلاقة بين القانون العلمي والواقع: فمن قانون انكسار الضوء — مثلًا — تستطيع أن «تقرأ» حقائق كثيرة جدًّا لم تكن بين التجارب التي أجراها من صاغ القانون، على شرط أن تكون لدينا القدرة على تلك «القراءة» فما كل إنسان يستطيع أن ينظر إلى قانون انكسار الضوء فيعلم على أساسه كيف ستبدو أمام عينه عصا موضوعة في ماء؛ كما أنه ليس في مستطاع كل إنسان أن يقرأ الخريطة ويهتدي بها، فالأمر في كلتا الحالتين بحاجة إلى تدريب خاص؛ فمن الحقائق الشائعة أن كثيرًا من الدارسين يحفظون قوانين الطبيعة أو الكيمياء — مثلًا — ولا يكون في مستطاعهم أبدًا أن يستخدموها في إحداث ما يراد إحداثه من ظواهر؛ مما يدل على أنهم عاجزون عن «قراءتها» القراءة الهادية.
لقد ضلَّ المناطقة سواء السبيل في تشخيصهم للقانون العلمي، حين حسبوه «تعميمًا» للمشاهدات الجزئية في صيغة تشمل نوعًا بأسره بناءً على ما قد شوهد في بعض أفراد ذلك النوع؛ فلا عجب أن رأيت كتب المنطق تشترط للبحث العلمي شروطًا لا نجدها محققة في البحث العلمي كما نعرفه العلماء أنفسهم؛ فهؤلاء العلماء يكتفون في إجراء تجاربهم فأمثلة قليلة جدًّا، بل قد يكفيهم مثال واحد لينتهوا إلى صياغة القانون فيكفيهم — مثلًا — تحديد الوزن النوعي لقطعة من النحاس، ليجعلوا المقدار الذي يجدونه هو الوزن النوعي للنحاس كله؛ ولو كان الأمر «تعميمًا» بالصورة التي توحي بها كتب المنطق المألوفة، لاقتضى ذلك أن يستعرض الباحث العلمي قطعًا كثيرة من النحاس قبل أن يطمئن إلى النتيجة التي يصل إليها، كما هي الحال عندما يستعرض عدد كبير من البجع قبل أن يطمئن إلى قوله إن كل البجع أبيض: فكأنما خلط رجال المنطق بين تعميمات التاريخ الطبيعي وبين النظريات العلمية وحسبوهما شيئًا واحدًا، فاشترطوا لهذه ما هو مشترط في تلك؛ وكذلك نتج خطأ آخر عن ذلك التصور الخاطئ لطبيعة النظريات العلمية، وذلك أن قد ظُنَّ بأننا حين نستفيد بالنظرية العلمية في تطبيق جديد، فنحن عندئذٍ «نستنبط» حكمًا جزئيًّا من حكم عام كأنما النتيجة التي نصل إليها عند التطبيق، هي من نوع الحكم العام نفسه، على نحو ما نقول في التاريخ الطبيعي:
إن كل البجع يتصف بكذا وكذا، وهذه بجعه، إذن فهي تتصف بكذا وكذا من الصفات المذكورة في الحكم العام؛ لكن الأمر على خلاف ذلك في حالة القانون العلمي وتطبيقه، لأننا في هذه الحالة لا نكرر المادة اللفظية الواردة في القانون في النتيجة التي ننتهي إليها، بل ترانا نصوغ نتيجة مختلفة اللفظ عن مادة القانون اللفظية، مما يدل على أن الحالة هنا ليست كالحالة في تعميمات التاريخ الطبيعي، بل هي كالخريطة وما نستخرجه منها من معلومات عن تفصيلات الرقعة التي تصورها تلك الخريطة.
إننا بإمعان النظر في كيفية الوصول إلى خريطة جغرافية، نستطيع أن نرى صورة محسَّدة لكيفية الوصول إلى قانون علمي؛ فمن المعلوم أن المسَّاح يتخير عددًا محدودًا من المقاييس والمشاهدات الخاصة بالرقعة التي يريد تخطيطها في خريطة، بحيث يجيء ذلك العدد المحدود قادر على أن تنشئ لنا الخريطة المطلوبة التي نستطيع بعدئذٍ أن نقرأ فيها ما ليس له حصر من المعلومات الخاصة بالمكان المصوَّر، والبالغة من الدقة مبلغ المعطيات الأولية؛ وإن المسَّاح المدرَّب في مهنته ليعلم كيف يختار ما يختاره من مقاييس ومشاهدات، لأن ربوع الأرض المصوَّرة ليست كلها سواء، فمنها ما هو سهل متشابه الأجزاء يكفيه عدد قليل من المشاهدات لترسم خريطة تدل على سائره، ومنها ما هو جبليٌّ كثير الحزون والشعاب، يحتاج إلى عدد من المشاهدات أكبر، حتى يتاح لنا رسم خريطة تنبئ عن كل أجزائه ارتفاعًا وأبعادًا وغير ذلك؛ وهكذا قل في البحث العلمي: فالباحث المدرَّب يعلم أي النقاط الرئيسية يختار في التجارب التي يجريها في معلمه، أو في المشاهدات التي يقوم بها في مجال بحثه، بحيث تجيء تلك النقاط المختارة كافية لإنشاء قانون علمي وتديمه، فمن ظواهر الطبيعة ما هو كسهول الأرض، مطردة الأجزاء متشابهة الأرجاء، فيكفي فيها قليل من تجارب ومشاهدات لنلمَّ بسائرها في قانون يشملها جميعًا، ومنها ما هو كثير التغيرات، فيكون كالأرض الخشنة الوعرة التي لا يستطاع تخطيطها في خريطة إلَّا بعد عدد أكبر من عمليات القياس − على أن الباحث العلمي في كلتا الحالتين يصل إلى صيغة رمزية — هي القانون العلمي — تنبئ عن عدد لا حصر له من الحالات المستقبلة للظاهرة المعينة؛ ففي قانون الغازات — مثلًا — ما دمنا قد رسمنا الدالَّة التي تحدد العلاقة بين الضغط والحجم، فلنا بعد ذلك أن نستدل حالة الغاز مهما يتغير مقدار الضغط الواقع عليه أو مهما يتغير حجمه — ولنلاحظ جيدًا أن الباحث العلمي حين وصل إلى صياغة هذا القانون كان كالمسَّاح الذي يرسم الخريطة لرقعة معينة من الأرض، لا تكدس المشاهدات والتجارب التي هي من نوع واحد، «ليعمم» الحكم — كما يفعل الباحثون في التاريخ الطبيعي — بل إنهما معًا (الباحث العلمي في الفيزياء والمسَّاح) ليجدانه من تبديد الوقت والجهد أن يزيدا من عدد القياسات، ما داما بالعدد القليل المتخيَّر يمكن الوصول إلى الصيغة المطلوبة.
فمن أهم ما يلاحظ على التجارب والمشاهدات التي يؤديها العلماء في أبحاثهم، أنهم يؤدون التجربة أو يقومون بالمشاهدة التي تتنوع حالات تطبيقها، فذلك عندهم أفضل من الإكثار من عدد المشاهدات أو التجارب مع بقاء حالات التطبيق محصورة في مجال ضيق: فالإكثار من المشاهدات والتجارب لا يجدي إذا انصبَّ على عيِّنةٍ بذاتها؛ إذ المقصود هو أن تجيء ملاحظة العينة الواحدة دالة على مجال بأسره من الظاهرة التي أُخذت منها تلك العينة، وبذلك نعلم مدى انطباق القانون الذي نصل إليه؛ فالباحث العلمي لينوِّع من تجاربه ليزداد وثوقًا بصدق القانون أو بدرجة احتماله، بل هو ينوعها ليرى على أي الظاهرات وفي أي الحالات ينطبق ذلك القانون.
وألخص هذه الفقرة من فقرات الحديث فأقول إن القانون العلمي ليس تعميمًا وصلنا إليه بعد مشاهدات متعددة لأفراد من ظاهرة واحدة، بل هو أشبه برسم طريقة اعتمدنا فيه على مشاهدات وجهناها إلى نقاط مختلفة أُحسن اختيارها لتصلح الخريطة بعد ذلك للدلالة على سائر النقاط التي لم تكن قد وقعت تحت المشاهدة؛ وكما أن الخريطة مرشد يهدي السائر في أي اتجاه يسير إذا سلك خلال رقعة معينة من الأرض، فكذلك القانون العلمي يرشد المتصرف في مادة العالم على أي نحو يتصرف إذا ما أراد أن يحقق لنفسه هدفًا معلومًا.
تفسير القوانين
حين نصف الطبيعة بقوانينها، أي حين نصفها بكشفنا عن أوجه الشبه بين ما يبدو عليه التباين من ظواهرها، نكون قد خطونا خطوة وبقيت خطوة.
فكما أننا نطوي الحوادث الجزئية المتعددة تحت قانون واحد، إذا رأيناها تطَّرد معًا على غرار واحد، فإننا بعد ذلك نعود فنلتمس أوجه الشبه بين مجموعة القوانين التي انتهينا إليها، لعلنا نجد بعضها يندمج في بعضها الآخر؛ فإذا عرفنا أن قانونًا ما هو في الحقيقة متفرع عن قانون آخر أعم منه، أدخلنا الأخصَّ في دائرة الأعم، وكان ذلك منا بمثابة تفسيره كما كان إدخالنا للحادثة الجزئية الواحدة تحت قانون يشملها هي وغيرها مما يطرد معها في الحدوث، تفسيرًا لها.
وإنه لمما يجدر بالذكر في هذا الموضع، أن القوانين الكيماوية كلها يمكن الآن ردها إلى قوانين علم الطبيعة، وبذلك تصبح الكيمياء فرعًا من فروع علم الطبيعة، وأن علوم الحياة (البيولوجيا) ما تزال موضع المحاولات من العلماء: هل يجدون تفسيرها لدمج قوانينها في قوانين الطبيعة، فتصبح ظاهرة الحياة كأية ظاهرة أخرى في الطبيعة من حيث قوانينها، أو يتعذر ذلك فتظل الحياة ظاهرة قائمة بذاتها، لها قوانينها الخاصة التي لا تنطوي تحت ما هو أعم منها.
٥
وتعميم الحكم بناءً على خبرة محدودة، ضرورة لا غنى عنها في الحياة اليومية وفي العلوم سواءً بسواءٍ، وذلك لأن بطبيعة الحالة لا ندرك من العالم إدراكًا حسيًّا مباشرًا، إلا جزءًا ضئيلًا، إذ يحول البُعد المكاني أو البعد الزماني أو كلاهما معًا، دون أن نرى بقية الأجزاء، فليس لنا بدٌّ من استدلال الجانب الذي لم نلاحظه على أساس ما لاحظناه.
ومن هنا نشأ ما يسمونه: مشكلة الاستقراء؛ فكيف أمكننا الحكم على ما لم يقع لنا في حدود خبرتنا؟
إنه لا إشكال في حالة الاستدلال الاستنباطي — في العلوم الرياضية مثلًا — لأننا في الاستنباط ننتزع نتيجة كانت محتواه في المقدمات، ولا نخرج عن حدود تلك المقدمات، فإذا كانت المقدمات مُسَلَّمًا بصدقها، كانت النتيجة مُسَلَّمًا بصدقها أيضًا؛ وأما في الاستقراء فنحن — بحكم تعريف الاستقراء — نجاوز حدود ما نعلمه، لنحكم على ما لم نكن نعلمه، إذ ترانا نستند إلى قليل خبرناه، في الحكم على كثير لم نَخْبُرْه. فكيف جاز لنا لك؟ هذه هي المشكلة.
فسؤالنا الآن هو: هل يجوز لنا الحكم بصحة الاستدلال من حوادث الماضي على حوادث المستقبل، دون الرجوع إلى أي مبدأ عقلي قَبْلِيٍّ كمبدأ الاستقراء الذي اقترحه «رسل» أعني هل يمكن أن نعتمد في أحكامنا الاستقرائية على التجربة الحسية وحدها، دون الرجوع إلى أي مبدأ لا تكون التجربة الحسية مصدره؟
افرض — مثلًا — أن رجلًا قفز من نافذة على ارتفاع بعيد من الأرض، فهل هناك ما يبرر الحكم بأنه سيسقط حتمًا على الأرض، وأنه لن يتجه اتجاهًا آخر، كأن يرتفع إلى السماء، أو يتحرك في خط أفقي؟ (هذا المثل ضربه «رسل» في سياق حديثه)، سيجيب رجل العِلم ورجل الشارع على السؤال بالإيجاب، استنادًا إلى الخبرة السابقة في سقوط الأجسام؛ أي إن المبرر لهما في الحكم هو أن الأجسام التي تماثل في ثقلها جسم الإنسان، قد سقطت إلى الأرض حين ألقي بها في تجاربنا الماضية.
لكن السؤال لا يزال قائمًا: هل هناك مبرر عقلي يحتم أن تجيء هذه التجربة الجديدة مشابهة للتجارب الماضية؟
لو قال قائل: «إن في القاهرة بضع مئات من الأطباء» فهم السامع العادي كلمة «طبيب» بمعناها المألوف عادة، وهو أنها تطلق على شخص ظفر بشهادة علمية في الطب، ومشتغل بعلاج المرضى؛ وعندئذٍ قد تراه يقبل القول بأن القاهرة فيها بضع مئات من الأطباء.
لكنك قد تجد من الناس من يعلِّق على القول السابق معترضًا: بل ليس في القاهرة طبيبًا واحد؛ وقد تسأله: ماذا تعني بكلمة «طبيب»؟ فيجيب بأنه الشخص الذي ظفر بشهادة علمية في الطب ويستطيع أن يعالج كل مرض بغير استثناء بحيث لا يستعصي عليه شيء؛ ومثل هذا الشخص لا وجود له.
وكذلك قد تجد من الناس مَن يُعَدِّل لك القول السابق، بأن يضيف إلى بضع المئات من الأطباء الذين ظفروا في الطب بشهادات علمية، بضع آلاف ممن يعالجون المرضى وليس لهم تلك الشهادات، وعندئذٍ يكون معنى «طبيب» في اعتقاده هو الشخص الذي يشترك في علاج المرضى، كائنًا من كان، فَلَكَ أن تحسب بين الأطباء — على هذا الاعتبار — كل عجائز البيوت اللاتي يتبرعن بوصفات لشفاء المرضى.
فماذا أنت قائل إزاء هذه المواقف الثلاثة تجاه قول القائل بأن في القاهرة بضع مئات من الأطباء؟ الحق أنها صواب كلها، ولا تَعارض في صوابها جميعًا، لأنها لا تتحدث عن شيء واحد، بل كل منها يتحدث عن شيء مختلف عما يتحدث عنه الآخران. ففي القاهرة بضع مئات من الأطباء، إذا أخذنا كلمة «طبيب» بمعناها المألوف، وليس فيها طبيب واحد، إذا أخذنا الكلمة بمعنى ضيق متزمت، وفيها آلاف الأطباء، إذا أخذناها بمعنى واسع متساهل.
والظاهر أن الفرق بين من يقولون إن في التجربة الماضية وحدها مبررًا عقليًّا كافيًا للحكم على المستقبل، وبين من يقولون إنه ليس هناك مبرر عقلي يكفي لذلك، هو فرق من هذا القبيل في الاختلاف على معنى الألفاظ؛ فالأولون يأخذون عبارة «مبرر عقلي» بمعنى والآخرون يأخذونها بمعنى آخر، ولذلك فقد يكون الفريقان صادقين، دون أن يكون في صدقهما معًا تعارض أو تناقض.
فالذين يقولون إن تجربة الماضي وحدها ليس فيها مبرر عقلي يجيز أن نحكم في ضوئها على المستقبل، يريدون بهاتين الكلمتين: «مبرر عقلي» — صدقًا يقينيًّا في النتيجة، أو قل إنهم يريدون بهما أن يكون الاستدلال استنباطيًّا، نتيجته محتواه في مقدماته، وبذلك يستحيل أن تتعرض للخطأ؛ فإن كان معنى كلمتي «مبرر عقلي» عندهم هو أن يكون الاستدلال استنباطيًّا، يقيني النتيجة، لاحتواء المقدمات عليها، فواضح أن الاستقراء لا يكون فيه «مبرر عقلي» بهذا المعنى؛ لأن الاستقراء ليس استنباطًا.
لكن لماذا نفهم «المبرر العقلي» بهذا المعنى؟ إنها لا تعني ذلك في العلوم ولا في الحياة الجارية.
فلو قيل لي في الحياة الجارية إن أ سيلاعب ب، وأنا لا أعرف عن أ، ب إلا أنهما لعبا ست مرات فيما سبق، فكسب أ في أربع منها، وكسب ب في اثنتين، فإن هنالك مبررًا من هذه الخبرة الماضية يبرر لي أن أقول بأن أ سيكسب اللعب هذه المرة باحتمال أرجح من احتمال أن يكسب ب.
وعلى هذا الأساس نفسه يكون المبرر غاية في القوة، حين أحكم بأن الرجل الساقط من النافذة، سيتجه في سقوطه نحو الأرض، وأن الشمس ستشرق غدًا، وهكذا.
قد يقول معترضون: لكن هذا ترجيح لا يقين؛ ونحن نجيب: نعم، والعلوم الطبيعية كلها قائمة على الترجيح لا اليقين. لأن اليقين لا يكون إلا في القضايا التكرارية التي لا تقول شيئًا جديدًا كقضايا الرياضة، وأما القضايا الإخبارية التي تنبئ بجديد، فهي دائمًا معرضة لشيء من الخطأ، ولذا فصدقها احتمالي، دون أن يكون ذلك علامة نقص فيها، أو دليل عيب في منطقها، وإنما يون العيب والنقص عند المنطقي الذي يريد أن يجعل القضايا بنوعيها المختلفين — التكراري والإخباري — نوعًا واحدًا، وفي التفرقة بين هذين النوعين من القضايا، تقع نقطة هامة من نقط الارتكاز الرئيسية في المنطق الوضعي.
إنه إذا كان طابع القضايا التكرارية هو اليقين، لأنها تحصيل حاصل لا يقول شيئًا جديدًا، فإن طابع القضايا الإخبارية هو الاحتمال، لأنها تنبئ بجديد.
لكن ماذا نريد بكلمة «احتمال»؟ ذلك هو موضوع الفصل الثالث عشر، وهو آخر فصول هذا الكتاب.
وبناءً على قانون حفظ الطاقة هذا، يجوز أن تضع قطعة من الحديد الساخن على قطعة أخرى من الحديد الأقل حرارة. فتمتص القطعة الأولى بعض حرارة القطعة الثانية، بحيث تزيد حرارة الأولى وتقل حرارة الثانية، ومع ذلك يظل مقدار الحرارة في القطعتين كما كان في البداية.
لكنا نلاحظ أن انتقال الحرارة يكون دائمًا في اتجاه واحد، وهو اتجاه يسير من الأكثر حرارة إلى الأقل حرارة، فأطلق على اطراد هذه الظاهرة: اسم «القانون الثاني للديناميكا الحرارية».