الفصل الثاني عشر

العلوم الإنسانية

١

العلوم الإنسانية فروع من العلم الطبيعي
العلوم المختلفة التي يكون «الإنسان» مدار بحثها، كعلوم النفس والاقتصاد والاجتماع، هي فروع من العلم الطبيعي بالمعنى الواسع لكلمة «طبيعي»١ لأن مادة العلوم الإنسانية هي مما يقع في الوجود الفعلي، وهي مما يدركه الباحثون بالمشاهدة كإدراكهم لمادة العلوم التجريبية كلها؛ نعم إن العلوم الإنسانية لم تُصِبْ من التقدم ومن الدقة نصيبًا يعادل النصيب الذي ظفرت به الفيزياء — مثلًا، فأغرى هذا التأخر في العلوم الإنسانية فريقًا من الناس أن يترددوا في جعلها تشارك العلوم الطبيعية في منهج واحد، وأن يميلوا إلى القول بأنها تحتاج إلى طرق خاصة بها؛ والذي نراه هو أن مادة العلاقات الإنسانية إذا أريد لها أن تكون علمًا، فلا مندوحة لها عن السير في نفس الطريق المنطقي الذي تسير فيه بقية العلوم الطبيعية، وليس في مادة العلاقات الإنسانية ما يتنافى مع استيفاء الشروط المنطقية الضرورية لكل بحث علمي؛ فالفرق بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية الأخرى هو فرق في تعقد التفصيلات وكثرتها، مما يجعل مواقفها أعسر تناولًا من المواقف الطبيعية الأخرى، لكن ذلك يجعل تطبيق المنهج العلمي على العلوم الإنسانية أكثر صعوبة، ولا يجعله من الناحية المنطقية مستحيلًا.

فالشرطان الأساسيان الضروريان لكل منهج علمي في المجال التجريبي، هما أن نشاهد الوقائع مشاهدة نأمن فيها الزلل، وأن نستوحي تلك المشاهدات صورةً نظريةً عقلية تفسر لنا تلك المشاهدات تفسيرًا يمكننا من العودة إلى مجال المشاهدات من جديد فنستطيع فهمه والتصرف فيه على الوجه الذي نريد؛ وهذه المضايفة بين الواقع المشاهَد من جهة والأفكار النظرية من جهة أخرى، هي بعينها ما يكون العمود الفقري في منهج البحث في علم الفيزياء وغيره من العلوم الطبيعية المضبوطة؛ وليس في العلوم الإنسانية ما يأبى أن تشاهَدَ معطيات الأوقع وأن ترتَّبَ ترتيبًا من شأنه أن يوحي إلى الباحث بفكرة نظرية تصلح لتفسير ذلك الواقع، ثم أن تراجَع هذه الفكرة النظرية على الوجود الفعلي لنستوثق من صوابها.

إنه لا جدال في أن العلوم الإنسانية — كما هي اليوم — ما زالت مشوبة بمُعَوِّقات تؤخر سيرها في طريق التقدم، ولا بد لنا من التخلص من هذه المعوِّقات قبل أن يحق لنا الأمل في أن نبلغ بالعلوم الإنسانية درجة من الدقة المطلوبة في كل علم جدير بهذه التسمية؛ وأول هذه المعوِّقات استخدام العلوم الإنسانية لكثير من الألفاظ الكيفية التي لا مندوحة لنا عن تحويلها إلى مفاهيم كمية تخضع للحساب وللتحول بعضها إلى بعض كما هي الحال بالنسبة إلى مفاهيم العلوم الطبيعية الأخرى؛ وتحويل المفاهيم من مرحلتها الكيفية الحاضرة إلى مرحلة كمية، يحتاج إلى وسائل دقيقة للتحايل، حتى نردَّ كل مفهوم منها إلى بسائطه التي تخضع للقياس؛ فكلمة مثل «ذكاء» في علم النفس، وكلمة مثل «منفعلة» في علم الاقتصاد، وكلمة مثل «طبقة» في علم الاجتماع، هي في الحقيقة جملة عناصر مدمجة في مفهوم واحد، ولا بد من تحليلها أولًا ثم من تقويمها بالمقدار الرياضيِّ ثانيًا.

وثاني المعوِّقات التي لا بد من التخلص منها أيضًا لكي يتاح للعلوم الإنسانية أن تصل إلى دقة العلوم، هو ما لا نزال نجده في هذه العلوم من تقويمات «خلفية»، فما زلنا نحكم على شيء بأنه «خير» وعلى آخر بأنه «شر» — أو ما في معنى هاتين الكلمتين وما يتفرع عنهما من معانٍ — على حين أن شرط موضوعية العلم تقضي بألا تتسلل قِيَمُنا الأخلاقية إلى مجال البحث العلمي؛ فما دمنا نصوغ الحقائق صياغة «عقلية» محضة، فلا يجوز أن نقحم عليها تقويماتنا الذاتية الدالة على أهوائنا وميولنا؛ فلا مكان في العلم للتقوى والخطيئة، والفضيلة والرذيلة، «فلربما كان تناول الباحثين للمشكلات الإنسانية من ناحية الاستهجان والاستحسان الخلقيين، ومن ناحية الخبث والطهر، هو أكبر عقبة مفردة بين العقبات التي تقف اليوم في طريق تطوير المناهج السديدة في مجال الدراسة الاجتماعية».٢

وثالث المعوقات في سبيل البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية، هو تدخُّل فكرة «الغايات» التي نعدُّها غايات في ذاتها، إذ ترانا في المجالات المتصلة بالحياة الإنسانية — كالسياسة والاقتصاد والأخلاق — كثيرًا ما نصوِّر لأنفسنا مُثُلًا عليا نظرية نفترض فيها مقدمًا أنها مبادئ صحيحة لا تحتمل الجدل، كأنما هي حقائق ثابتة في الطبيعة نفسها، أو كأنما هي النواميس الكونية التي لا مندوحة لنا عن قبولها والعمل بمقتضاها؛ ويتمم هذه الفكرة بالطبع أن يقول أنصارها إن أمثال تلك «الغايات» الثابتة إنما تدرَك بالحدس الصادق، فلا هي تدرَك بالحواس ولا هي تُسْتَدَل بالعقل، فهي من الحقائق الضرورية التي لا تتطلب خبرة تؤديها ولا دليلًا منطقيًّا يقيم عليها البرهان؛ وذلك كله مجافٍ للمنهج العلمي، إلا إذا أُخِذَتْ «الغايات» على أنه «فروض» تنتظر الإثبات أو النفي في ضوء التجارب المستقبلة، فإذا جاءت هذه التجارب متعارضة مع تلك الفروض كان علينا أن نبدِّل الفروض بفروض سواها، أعني أن يُحِلَّ «غايات» أخرى محل «الغايات» التي كنا بادئ ذي بدء قد وضعناها نصب أعيننا.

ونسوق مثلًا لهذا الذي أسلفناه علمَ الاقتصاد كما كان في صورته التقليدية٣ فقد كان من حيث صورته المنطقية يضع لنفسه حقائق عقلية يزعم لها الصدق المطلق، ثم يأخذ في استنباط النتائج التي تترتب على تلك الحقائق المسلَّم بصدقها، ظانًا بعد ذلك أن النتائج التي ينتهي إليها إنما تمثِّل الظواهر الاقتصادية كما تقع فعلًا؛ ولذلك كنت ترى علماء الاقتصاد عندئذٍ يحكمون على النشاط الاقتصادي بالصواب أو بالخطأ على أساس مطابقته أو عدم مطابقته للنتائج النظرية التي استُنْبِطَتْ من المسلَّمات الأولى؛ نعم إن علماء الاقتصاد كانوا يختلفون مذهبًا فيما يختص بالمصدر الذي عنه استقينا تلك المسلمات الأولى: ففريق عقلي ذهب إلى أن مصدرها هو الحدس المباشر، وفريق آخر — هم التجريبيون من أمثال آدم سمث وجون ستيورات مل — ذهب إلى أن مصدرها هو استقراء قائم على مشاهدة الواقع الفعلي؛ لكن الفريقين معًا يعودان فيتفقان بعد ذلك على أن تلك المبادئ الأولى — ما دمنا قد بلغناها بهذا الطريق أو ذاك — فهي حقائق لم تعد تحتمل الجدل، وهي التي تعدُّ بمثابة البديهيات داخل بناء العلم الاقتصادي، يقاس إليها بعدئذٍ أوجه النشاط الاقتصادي لنعلم عن كل وجه منها إن كان نشاطًا سويًّا سليمًا أو شذوذًا وانحرافًا عن الجادَّة الصحيحة؛ وقد كان قوام تلك المبادئ الأولى التي أساسها يكون الحكم بالصواب أو بالخطأ على ما هو مشتقٌّ منها، أقول إن قوام تلك المبادئ الأولى كان خاصًّا بالطبيعة البشرية ماذا عساها أن تكون؟ فمن تلك المبادئ الأولى — مثلًا — أن من طبيعة الإنسان أن يحقق لنفسه أكبر نفع ممكن بأقل جهد ممكن؛ فكل نشاط اقتصادي نراه محققًا للناس في مجتمع ما أكبر درجة من إشباع حاجاتهم بالحد الأدنى من الجهد والتكاليف، عددناه نشاطًا اقتصاديًّا سليمًا، وعكس ذلك صحيح أيضًا، أي إن كل نشاط لا يحقق مثل هذا النفع الكبير بمثل هذا الجهد القليل يعدُّ نشاطًا منحرفًا عن الطريق الصحيح.

لقد كانت الفكرة السائدة عن «قوانين الطبيعة» — وهي فكرة قد تغيرت اليوم كما أسلفنا القول — أنها كالقوانين الحكومية تسنها الدولة لتصبح بعد ذلك معيارًا يقاس إليه الفعل المعين، فيحكمَ عليه بالصواب أو بالخطأ تبعًا لذلك؛ ومن هذا القبيل أيضًا كانت وجهة النظر للمبادئ الأول في علم الاقتصاد؛ فهي المعيار الذي على أساسه نقيس سلامة النشاط الاقتصادي أو فساده؛ وقد كانت مقتضى هذه النظرة أن تعدَّ كلُّ ظاهرة خارجة على قانونها ظاهرة «شاذة» أو «خبيثة» ولا بد من محاربتها؛ وهذا كانت كل محاولة لتنظيم الظواهر الاقتصادية بفرض الرقابة على الأحوال الاجتماعية التي في ظلها تحدث تلك الظواهر (كإنتاج السلع وتوزيعها) تعد خروجًا على القوانين الطبيعية، أو «تدخلًا» في المجرى السوي للأمور، من شأنه أن يؤدي إلى كوارث، كالتي يؤدي إليها خروجنا على قوانين الطبيعة الأخرى، مثل قانون الجاذبية مثلًا.

والخطأ المنهجي في هذا كله، هو الخطأ الذي نقول إنه كثيرًا ما يشوب البحوث الاجتماعية فيعوقها عن التقدم بمثل ما تقدمت العلوم الطبيعية؛ وأعني به أن تؤخذ المبادئ الأولى على أنها «حقائق» ثابتة، لا على أنها «فروض» معرضة للنفي حسب ما يتبدَّى للباحث أثناء سيره في البحث؛ والصواب هو أن نتخير «المبادئ الأولى» بمثابة نقطة الابتداء التي منها نختار ما نختاره من شواهد في الموقف الذي وضعناه موضع البحث، إذ بغير مبدأ نبدأ منه السير، لا يدري ماذا نأخذ وماذا تدع من ألوف العناصر المحيطة بنا؛ على شريطة أن نكون دائمًا على استعداد أن نُعدِّل من المبدأ نفسه. الذي بدأنا به، على ضوء ما تعرضه علينا الشواهد التي اجتمعت لنا. واختصارًا، فإن ثالث المعوقات في مجال الدراسات الإنسانية، هو أننا نخطئ فنظن أن ما هو بطبيعته فرضٌ قابل للتبديل والنفي، نظنه «غاية» إنسانية عليا، و«مبدأ» بديهيًّا لا يحتمل الجدل، و«حقيقة» مفروضة، ويتحتم علينا التفكير في إطارها هي دون غيرها.

٢

صعوبة البحث في العلوم الإنسانية

لسنا نريد بهذا الذي قدمناه أن نهوِّن من شأن الصعوبات الكثيرة التي تعترض البحث العلمي في المجال الإنساني؛ فمن هذه الصعوبات أن الاطراد في هذا المجال أقل ظهورًا منه في الظواهر الطبيعية، وذلك لأن درجة التركيب في وقائع الحياة الإنسانية أكبر منها في الظواهر الطبيعية، مما يتعذر معه أن نعزل جانبًا واحدًا من جوانب البحث — كما نفعل في البحوث الطبيعية — عزلًا يمكننا من تتبع ذلك العامل وحده في تكرار وقوعه؛ فإذا نحن اضطررنا إلى الاقتصار على مشاهدة الوقائع في حالة تركيبها، دون تحليلها إلى عناصرها عنصرًا عنصرًا، وجدنا تلك الوقائع ذوات طابع فريد لا يحتمل لها أن تتكرر تكرارًا يتيح لنا الفرصة أن نلحظ الاطراد فيها، فمن الحقائق المعروفة أن الباحث الاجتماعي لا يستطيع — كما يستطيع زميله العالم الطبيعي — أن يعيد الظاهرة التي هي موضوع بحثه، كلما أراد أن يخضعها للمشاهدة؛ لأن الظواهر الاجتماعية فريدة في نوعها، تجيء كل ظاهرة منها مرة واحدة ثم تمضي، فتصبح حادثة تاريخية لا يتكرر حدوثها، ولذلك ترانا إزاءها نعتمد على استدلالٍ، درجة الاحتمال فيه لا تعلو إلى الدرجة التي نبلغها في أحكامنا على الظواهر الطبيعية، فافرض — مثلًا — أننا نصدر حكمًا خاصًّا بتأثير البيئة الصحراوية على نوع الثقافة العربية، فها هنا — مهما يكن الحكم الذي نصدره في ذلك — ستكون الشواهد التي نستدل بها مأخوذة من حوادث وقعت في الماضي وأصبح تحقيقها من نوع التحقيقات التاريخية، لا من نوع التحقيقات المعملية التي يقوم بها علماء الطبيعة في معاملهم.

فالأحداث الاجتماعية منوعة تنوعًا يتعذر معه أن تجد لها الأحكام العامة التي تشملها معً؛ فبينما ترى في الطبيعة أن أي سنتيمتر مكعب من الهيدروجين — مثلًا — هل كأي سنتيمتر مكعب آخر من المادة نفسها، بحيث تستطيع الحكم على الهيدروجين حكمًا تطمئن إلى صحة انطباقه في جميع الحالات، نرى الأمر على غير هذا التجانس في الظواهر الاجتماعية، فما تحكم به على موقف من مواقف النشاط الإنساني قد يتعذر عليك أن تحكم به على موقف آخر لكثرة التفصيلات التي تدخل في نسيج كل موقف على حدة.

لقد أثار «جون ستيوارت مل» هذه المشكلة الهامة، وهي: لماذا تكفينا في بعض العلوم مشاهدة واحدة أو تجربة واحدة، على حين لا تكفينا في علوم أخرى مشاهدات كثيرة لنصل إلى مثل اليقين الذي نصل إليه في الحالة الأولى؟ ولو أننا أعدنا سؤال «مل» بصياغة أخرى، قلنا: لماذا نكتفي بتجربة واحدة في العلوم الطبيعية لنصل إلى يقين لا نصل إلى مثله في العلوم الاجتماعية على الرغم من كثرة عدد الأمثلة المشاهدة؟

هذا سؤال هام لأنه يبرز الفرق بين نوعين من العلوم: أولهما تتجانس فيه أجزاء الظاهرة، ويمكن فيه عل العوامل عاملًا عاملً، ولهذا يمكن صياغة القوانين الرياضية الثابتة، وثانيهما تتباين فيه أمثلة الظاهرة الواحدة، ويتعذر فيه عزل العوامل بعضها عن بعض، ولهذا يكتفي فيه بدرجة عالية من الاحتمال المبني على العمليات الإحصائية؛ الأول هو العلوم الطبيعية والثاني هو العلوم الإنسانية؛ الأول يكفي فيه مَثَلٌ سلبيٌّ واحد لنرفض على أساسه الفرض المعروض للبحث، وأما الثانية فالأمثلة السلبية فيه تقلل من درجة احتمال الفرض، لكنها لا تقتضي بالضرورة حذفه؛ فيكفي — مثلًا — أن نجد حالة واحدة لا ينطبق عليها قانون نيوتن في الجاذبية لنعيد البحث في هذا القانون بغية العثور على صيغة أخرى تفسر تلك الحالة التي شذت عنه، وأما في العلوم الإنسانية، فلو قلنا — مثلًا — إن زيادة المعروض من سلعة معينة تؤدي إلى انخفاض ثمنها، ثم وجدنا ذلك لا ينطبق على حالة بعينها، احتفظنا بالقانون، وكل ما في الأمر أننا نقلِّل من درجة الاحتمال المنسوبة إليه؛ ففي العلوم الطبيعية يمكن الاكتفاء بعدد قليل من الأرقام المرصودة عن ظاهرة ما، لكي نرسم على أساسه رسمًا بيانيًّا يدل على جميع القِيَم المحصورة بين تلك الأرقام المرصودة، بأن نمدَّ الخط البياني من طرفيه؛ أما في العلوم الإنسانية فلو اكتفينا بأرقام قليلة مرصودة ثم رسمنا الخط البياني على أساسها تعرضنا لأخطاء كثيرة، إذ قد لا تكون الظاهرة المقيسة من التجانس بحيث يدل قليلها على كثيرها؛ قارن — مثلًا — بين رسم بياني ترسمه لبيان الضغط الجوي في إقليم معين، ورسم بياني آخر ترسمه لبيان تأثير الرغبات المكبوتة في حدوث الأمراض النفسية، فالرسم الأول — على خلاف الرسم الثاني — كثير الدلالة قليل الأخطاء؛ والفرق الأساسي بين الحالتين هو تحليل الظاهرة الأولى تحليلًا أدى بنا إلى تجانس العامل المقيس، على حين أن الظاهرة الثانية ما زالت معقدة العناصر متشابكة الخيوط.

هذه الفوارق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية قد دعت كثيرين إلى القول بأن المجموعتين لا تلتقيان، وأن ما يوصل إليه في المجموعة الأولى لا يوصل إليه في المجموعة الثانية، لكننا من القائلين بأن الفرق بينهما هو فرق في درجة التقدم والتأخر، وأن العلوم الطبيعية كلها قد تعرضت ذات يوم لما تتعرض له اليوم العلوم الإنسانية من صعوبة في التحليل وفي التقرير الكمي وفي صياغة القوانين النظرية المضبوطة؛ فالأمر — إذن — مرهون بالتطور، ما دمنا نُخضع البحث العلمي لمنهج البحث الذي ثبت نجاحه في العلوم الطبيعية.

وفيما يلي سنوجز القول في علمين من العلوم الإنسانية، كانا أكثر من سواهما في هذا المجال تقدمًا، لنرى في كل منهما مواضع الضعف ومواضع القوة من حيث صورته المنطقية بالنسبة إلى مقتضيات البحث العلمي، وهما علم النفس وعلم الاقتصاد.

٣

منهج البحث في علم النفس

مادة البحث

إنه لا حصر للمعطيات التي تُقَدَّم إلى عالم النفس ليأخذ منها مادة بحثه، وهي منوعة تنوعًا لا يقف عند حد؛ فهؤلاء أطفال يلعبون، وأطفال يتعلمون، وأولئك رجال يعملون أو يلهون؛ وهذا موقف يسوده غضب وذلك موقف آخر يسوده حزن أو فرح، وهكذا وهكذا مما نشاهده جميعًا في مجرى حياتنا اليومية من ضروب السلوك؛ ومهمة علم النفس هي أن ينتظم هذه المنوعات الكثيرة في قوانين.

وقد مرَّ علم النفس — كما مرَّ غيره من العلوم — بإزاء مادته السلوكية التي عليه أن يصوغ لها القوانين، أقول إن علم النفس قد مرَّ بمرحلة تأملية، كان خلالها يحفر تحت هذه الظواهر السلوكية لعله يقع على المصدر الخبيء للطاقة التي تدفع الكائن الحي إلى ألوان سلوكه في مواقف حياته المختلفة؛ وها هنا ترى الباحثين يختلفون في وصف ذلك المصدر؛ فباحث يقول إنه «الترابط» الذي يصل الانطباعات الحسية بعضها ببعض ربطًا يكوِّن الأنماط السلوكية كما تراها؛ وباحث آخر يقول إنه «الغرائز»، وثالث يقول إنه «اللبيدو» (الطاقة الجنسية)، وهكذا وهكذا؛ وكل باحث من هؤلاء يدَّعي أنه قد وقع على المصدر الداخلي الذي تصدر عنه أنواع السلوك كلها، والذي نستطيع به أن نفسر هذا السلوك في شتى مظاهره.

وأول ما نلاحظه من الناحية المنهجية أن تلك «المصادر» المزعومة للسلوك، حتى وإن كان في مستطاعنا أن نؤيدها بالشواهد الإيجابية، فهي تفقد شرطًا هامًا، وهو أنه ليس في مستطاعنا أن نحاول البرهنة على بطلانها إذا كانت باطلة؛ نعم يستطيع — مثلًا — أن يبين لك صاحب نظرية «اللبيدو» أن كل ظاهرة سلوكية ممكنة التفسير على أساس فرضه المزعوم، وإلى هنا يكون التأييد إيجابيًّا، لكن كيف يمكن أن نلتمس طريقة تبين أن نقيضها مستحيل؟ ليس ذلك مستطاعًا، وإذن فلا غرابة أن تظل النظريات المختلفة قائمة جنبًا إلى جنب، لا تستلزم الواحدة منها حذف الأخرى — كما هي الحال في نظريات الفيزياء — وكيف يستطيع إجراء البحث العلمي كما هو معروف في الفيزياء على «مصادر» خبيئة في الظلام ولا تخرج إلى ضوء النهار لتكون موضع مشاهدة وتجربة علميتين؟

ولهذا قامت مدرسة أخرى لا تجعل طريقتها في البحث أن تحفر إلى ما تحت السطح السلوكي لتلتمس في الظلام مصدرًا خبيئًا تفترض في شأنه الفروض، بل تكتفي بالوقوف عند السطح السلوكي الظلام، تشاهده وتحصي وتسجل وتحلل ما قد شاهدته؛ وتلك هي المدرسة السلوكية؛ على أن من علماء النفس من يرى أن الوقوف عند مرحلة المشاهدة وتسجيلها وتحليلها لا ترفع العلم إلى مرتبة العلم النظري، لأن هذا الأخير يتطلب العلو مرحلة أخرى فوق مستوى المشاهدات، وهي مرحلة افتراض «نظرية» يمكن على ضوئها تفسير تلك المشاهدات، فإذا وفَّقنا إليها، أمكن كذلك أن نستغلها في استنباط النتائج الجديدة التي ينتظر لها أن تقع في ظروف مستقبلة؛ فكيف السبيل إلى هذه الخطوة النظرية التي تحملني إلى ما وراء المشاهدات، دون اللجوء إلى الخبط في الظلام؟ تلك هي المشكلة المنهجية الرئيسية التي يواجهها علم النفس الحديث.٤

تحويل المفاهيم الكيفية إلى مقادير كمية

لقد ذكرنا مرارًا فيما أسلفناه من فصول أنه لا أمل في أن تتحول مادة البحث إلى مادة علمية بالمعنى التجريبي إلا إذا تحولت المفاهيم الأساسية التي ترد فيها تحولًا ينقلها من طريقة الإدراك الفطري للأشياء إلى التقدير الكمي الذي يمكننا من صياغة القوانين العلمية صياغة رياضية؛ ولقد لاحظ «لفين»٥ أن علم النفس — من هذه الناحية — ما يزال بحاجة إلى تطوير كبير، لأنه ما يزال في موقف شبيه بالموقف الذي كان عليه علم الطبيعة عند أرسطو، قبل أن ينقله جاليليو إلى مستواه الجديد.

فما يزال علم النفس يصنف أنواع السلوك على نفس الأساس الذي كان يصنف به أرسطو أنواع الكائنات، حتى إذا ما وجدنا فردًا خارجًا على الصفات المشتركة بين أفراد النوع، عددناه «شاذًّا» لا يحسب له حساب في القاعدة العامة أو القانون الكلي، على حين أن القوانين العلمية لا تعرف شذوذًا، بل إن «الشاذة» الواحدة كفيلة أن تنقض القانون كله ليحل محله قانون آخر يفسر الظواهر تفسيرًا يطوي السوي والشاذ على حد سواء.

وما يزال علم النفس شبيهًا بعلم الطبيعة الأرسطي في كونه ينظر إلى الظاهرات كأنما هي موضوعات مختلفة؛ فهذه ذاكرة وتلك عادة، وهذا ذكاء وذلك خيال؛ تمامًا كما كان يفعل أرسطو في تفتيت الموضوع الواحدة على أساس الاختلاف البادي للحسِّ بين ظواهره، فإذا كان ما يبدو من «الحركة» — مثلًا — مختلف الظواهر، فحركة إلى أعلى وحركة إلى أسفل وهكذا، عُدَّت كل واحدة منها كأنما هي موضوع قائم بذاته، بَدَلَ أن يحلِّلَ الموضوع كله إلى وحدات متجانسة، ثم يكون الفرق بعدئذٍ بين ظاهرة سلوكية وأخرى هو في المقدار الكمي وطريقة التكوين، لا في النوع والكيف.

وما يزال علم النفس — كما كان علم الطبيعة الأرسطي — يقيم قوانينه على أساس تكرار الحدوث، فما يحدث حدوثًا متكررًا يكون قانونًا؛ فترى علم النفس يميز سلوك الطفل — مثلًا — وهو في سن معينة بما هو مشترك بين مجموعة الأطفال في تلك السِّن، ويميز عاطفة معينة بنوع السلوك الذي نراه مشتركًا بين الناس في موقف بذاته، كأنما هو يسير على نفس النهج الذي سار عليه أرسطو في تصنيف الأنواع على أساس الصفات المشتركة بين أفراد النوع الواحد، ثم تصبح هذه الصفات المشتركة «تعريفًا» للنوع، وعلى أساس هذا التعريف تتحدد الأفراد بعدئذٍ؛ فيكفينا إذا أردنا تفسير سلوك زيد من الناس في موقف معين، أن ندرجه تحت نوعه ليتم لنا المراد؛ فإذا وجدنا طفلًا لا يندرج مع أنداده في السلوك، أو رأينا شخصًا في تعبيره عن عاطفة معينة لا ينخرط مع غيره في طريقة التعبير، جعلناه «شاذًّا».

وإن هذا المنهج الأرسطي لا يختلف في جوهره إذا نحن لجأنا إلى الطريقة الإحصائية التي تحصي عدد المشاهدات وتحسب متوسطاتها لتستخرج الصفات المشتركة التي تميز حقيقة نفسية من سواها؛ أقول إن وضع الأمر في أرقام على هذا الوجه لا يغير من طبيعة الموقف إلا قليلًا، لأن هذه الأرقام وما إليها من رسوم بيانية، إنما هي اختلاف في طريقة «الأداء» الرمزي، وليست هي اختلافًا في «مضمون» المدركات العلمية، فالمضمون نفسه يجب أن يتحول، فبدل أن يكون فحواه ذا طبيعة كيفية لا تخضع للقياس الكمي وإن خضع تكرار حدوثها للعدِّ الإحصائي، يصبح ذلك المضمون في ذاته مقادير كمية تصاغ في دالَّات رياضية.

فحين نوجه الاعتراض إلى الطريقة الإحصائية التي يستخدمها علم النفس الحديث، قائلين إنها في صميمها لا تخرج عن المنهج الأرسطي في تصنيف الكائنات، برغم استخدامها للغة الأرقام، فلا ينصب اعتراضنا على الطريقة الإحصائية في ذاتها، بل ينصب على نوع الحالات التي يربطونها بها في مجموعات، فهي حالات كيفية الطابع. كأن يحصي الباحث مثلًا عدد الأطفال في سنٍّ معينة، الذين «يحبون» كذا أو الذين «يكرهون» كيْت، والحب والكراهية هما من قبيل الكيف — ونريد أن تكون الحالات التي يطبَّق عليها المنهج من قبيل الكم؛ فما يزال علماء النفس — حتى وهم يلجئون إلى حساب المتوسطات الإحصائية. يركنون إلى معطيات «تاريخية جغرافية»، أعني معطيات ذات زمن معين في الحدوث ومكان معين حدثت فيه، ثم الوقوف عند هذه المعطيات وعدِّها وإخراج متوسطاتها وهكذا؛ والمطلوب لكي يتطور المنهج فيساير مناهج البحث في العلوم الطبيعية، أن ننفذ خلال المعطيات ذات الزمان المعين والمكان المعين، إلى «الفكرة» أو «النظرية» أو «الدالَّة الرياضية» التي تجاوز حدود الزمان والمكان، لكونها قد حللت الحوادث المكانية الزمانية تحليلًا يردها إلى وحداتها المتجانسة التي لا يعود الربط بينها متوقفًا على ظروف حدوثها، كما هي الحال — مثلًا — في قانون الجاذبية وقانون الحرارة وقانون الضوء وهلمَّ جرًّا.

قارن بين قانون الجاذبية — مثلًا — وبين أي تعميم تختاره من تعميمات البحوث النفسية، كأن يقال إن الأطفال في سن العاشرة الذين أجريت عليهم التجربة في مدارس القاهرة قد وُجِدَتْ فيهم نسبة مقدارها كذا يعانون سوء العلاقات داخل أُسْراتهم، تجد أن مثل هذا التعميم — مهما بلغت دقة البحث للوصول إليه — خاص بمكان معين هو القاهرة، وبمجموعة معينة من الناس هم الأطفال في سن العاشرة، وفي زمن معين هو الوقت الذي أجريت فيه التجربة؛ فإذا وقفنا عند هذا الحد، كنا بعيدين كل البعد عن مرتبة القانون العلمي كما نراه في قانون الجاذبية الذي لا يرتبط بمكان معين تسقط فيه الأجسام ولا بزمان معين ولا بمجموعة معينة من الأجسام؛ ولاحظ أننا في حالة التعميم الذي قلناه عن الأطفال، تظل واقفين في نفس المرحلة المنهجية حتى لو وسَّعنا من مجال التعميم ليشمل أطفال مصر جميعًا، أو حتى ليشمل أطفال العالم كله، لأننا ما نزال عند المرحلة التي تصنف على أساس الإحصاء، كما صنف أرسطو وكما صنف بيكن على أساس المشاهدات؛ ولا نجاوز هذه المرحلة إلا بالخروج عن نطاق التصنيف الفعلي إلى المجال الفرضيِّ النظريِّ غير المقيد بظروف محددة.

وهناك بطبيعة الحال بعض المحاولات الموفقة في ميدان البحث في علم النفس، التي حققت شروط المنهج العلمي كما هو معروف في العلوم الطبيعية، إذ تخلصت من إقحام القيم الخلقية، وتخلصت من التقسيمات الكيفية، ووحدتْ مجال البحث في طبيعة واحدة متجانسة، كما فعل السلوكيون مثلًا في تحليلهم للسلوك إلى وحدات من الأفعال المنعكسة؛ وكما فعل الباحثون في علم النفس الفسيولوجي حين بحثوا في عملية الإحساس، فها هنا لا نجد تقسيمًا كيفيًّا ثنائيًّا كالذي كان يقال قديمًا بين الحار والبارد، والرطب واليابس، والسوي والمرضي، والمألوف والشاذ؛ بل نجد تدرجات كمية فيها اتصال وتسلسل تزول معهما الحواجز لتنساب درجات الظاهرة الواحدة في سلم كمي واحد.٦

المسألة — إذن — هي أن نقرأ الظواهر النفسية بلغة الأرقام ثم نحاول بعدئذٍ أن نجد الدالَّة النظرية التي يمكن أن تعدَّ قانونًا للسلوك؛ وها هنا نتعرض لكل المشكلات التي تعترض عمليات القياس الكمي، فلا بد أن نجد للصفة المقيسة — كالغضب مثلًا أو الذاكرة أو الذكاء أو غير ذلك — جانبًا يصاحبها مما يمكن تطبيق أدوات القياس عليه، ولا بد كذلك أن يكون مقدار التفاوت في الصفة المقيسة — زيادة ونقصًا — متمشيًا تمشيًا دقيقًا مع الدرجات العددية التي نستخدمها في قياسها، بحيث تكون هناك مقابلة تامة بين رقم القياس من جهة وبين الظاهرة المقيسة من جهة أخرى، وبديهي أنه إذا لم تكن الظاهرة مما تتفاوت درجاته تفاوتًا ملحوظًا، فليست هي بالظاهرة التي يمكن إخضاعها للقياس الكمي؛ ولا بد لنا أثناء القيام بعملية القياس أن نتجاهل كل ما يتعلق بالظاهرة المقيسة من معانٍ لدينا إلا أنها ظاهرة تقاس فحسب؛ فافرض مثلًا أننا أجرينا تجارب على الظواهر النفسية الآتية: العمر العقلي، طول القامة، زمن الرجع، القدرة على التدليل النظري، ذاكرة الأسماء؛ ثم وجدنا أن معامل الارتباط بين أيٍّ من هذه الظواهر وبين العمر العقلي منخفض؛ ثم وجدنا بعدئذٍ أننا لو أضعفنا الرقم الدال على طول القامة إلى الرقم الدال على ذاكرة الأسماء، وقسمنا حاصل الجمع على زمن الرجع، فإننا نحصل على رقم بينه وبين العمر العقلي معامل ارتباط مرتفع، فعندئذٍ نقع على صيغة رياضية تمكننا بعد ذلك من أن نحسب مقدمًا العمر العقلي لأي طفل بغضِّ النظر عن المضمونات العينية التجريبية التي كانت قوام الحالات التي كنا قد ربطنا بين مقاييسها العددية في صيغة واحدة؛ أعني أننا عندئذٍ نجاوز حدود الحوادث المكانية الزمانية إلى حيث نجد الصيغة النظرية الخالية من علائق المكان والزمان في الحوادث الجزئية.

ومن أصعب المشكلات التي تعترض الباحث العلمي في السلوك الإنساني، مشكلة التحكم في المتغيرات؛ فمن المبادئ الأساسية في التجارب العلمية أن يتمكن الباحث من عزل العناصر التي منها يتألف الموقف المراد بحثه، بحيث يوجه بحثه إلى الجوانب التي تهمه وحدها دون الجوانب الأخرى التي لا تتصل بموضوع بحثه؛ فإذا استطاع الباحث أن يحل الموقف السلوكي إلى عناصره، تحليلًا يمكنه مع عزل أي عنصر منها على حدة، كان عليه بعد ذلك أن يتعقب مدى التغير الذي يتعرض له كل عنصر على حدة بالنسبة إلى ما يحدث للعناصر الأخرى من تغيرات، فلا بد من حصر البحث في متغير واحد، لنرى كم يتغير إذا تغير عنصر أ، وإذا تغير عنصر ب، ثم إذا تغير عنصرا أ، ب معًا، وهكذا وهكذا، حتى نصل إلى الدالة الرياضية التي تحكم العلاقة بين متغيرات الموقف الواحد جميعًا؛ فالتحكم في متغيرات الموقف الواحد يقتضي:
  • أولًا: عزل العوامل فرادى، ثم عزلها مجتمعة في مجموعات منوعة، وبدرجات مختلفة.
  • ثانيًا: أن نغير من هذه العوامل التي عزلناها تغييرات كمية، نغيرها عمدًا وهي فرادى، ونغيرها وهي مجتمعة في مجموعات مختلفة.
  • ثالثًا: أن نحدد بالمقادير الكمية تأثير هذه العوامل بعضها في بعض، في حالتي انفرادها واجتماعها على السواء.

ومن المشكلات التي تتعرض لها عمليات الضبط الكمي في التجارب العلمية عامة، وفي تجارب علم النفس خاصة، مشكلة الوحدات التي نقيس بها ماذا عساها أن تكون، ثم مشكلة الصفر الذي نبدأ منه درجات القياس ماذا يكون؟

أما وحدات القياس فأحيانًا تكون من جنس الظاهرة المقيسة نفسها، فوحدات الطول طول (كالمتر والياردة) ووحدات الوزن وزن (كالأقة والرطل) وهكذا، لكن هذا قد يتعذر أو يستحيل أحيانًا، وعندئذٍ نأخذ وحدات القياس من ظاهرة أخرى غير الظاهرة المقيسة نفسها، على شرط أن يكون بين الظاهرتين علاقة دالية دقيقة، كالحرارة مثلًا، فنحن لا نقيسها بوحدات «حرارية» بل نقيسها بوحدات «طولية» هي التي نراها محددة على الترمومتر، والتي يمتد فيما بينها عمود من الزئبق.

وكذلك الحال في وحدات القياس في علم النفس، فأحيانًا تؤخذ من الظاهرة المقيسة نفسها، كأن نقيس الحفظ بوحدات من الحفظ، ونقيس القدر على التهجِّي بوحدات من التهجِّي، ونقيس القدرة على عمليات الجمع بعمليات من الجمع وهكذا؛ لكننا أحيانًا أخرى لا نستطيع ذلك، وعندئذٍ نضطر — كما نضطر في العلوم الطبيعية نفسها — أن نلتمس ظاهرة أخرى ممكنة القياس، ونجعلها دالة على الظاهرة المراد قياسها؛ على شرط أن يكون بين الظاهرتين تقابل تام؛ كأن نقيس «الانتباه» إلى شيء ما بطول «الزمن» الذي تستغرقه العين وهي شاخصة إليه، وأن نقيس «النسيان» بمقدار «الحفظ» المطلوب لاستعادة الشيء المحفوظ وهلمَّ جرًّا.

وأما المشكلة الأخرى — وهي مشكلة الصفر الذي نبدأ به درجات القياس — فخلاصتها أن درجة الصفر عادة هي «انعدام» الظاهرة المقيسة؛ فصفر الطول هو انعدام الامتداد الطولي، وصفر الوزن هو ألا يكون هناك وزن، وهكذا؛ لكن ذلك المعنى لا يتوافر أحيانًا — وهو المعنى الذي يكون به الصفر صفرًا مطلقًا، أي إنه يكون انعدامًا تامًّا للظاهرة المراد قياسها — وعندئذٍ نلجأ إلى ما يسمونه بالصفر النسبي، وهو الذي تدل عليه أقل الدرجات الموجودة من الظاهرة المعينة؛ مثال ذلك صفة «الصلابة» لا يكون صفرها هو انعدام الصلابة. لأن ذلك معناه انعدام المادة كلها وإنما يكون الصفر في هذه الحالة هو أقل المواد صلابة، ومن هذه المادة نأخذ في ترتيب سائر المواد في درجات تصاعدية؛ وهكذا الحال في الظواهر النفسية أيضًا: فالصفر في «الذكاء» ليس هو حالة انعدام الذكاء انعدامًا تامًّا — لأن ذلك معناه انعدام الحياة — بل صفر الذكاء هو أقل الحالات الموجودة؛ أي إن الصفر في هذه الحالات يكون صفرًا نسبيًّا نتفق عليه ما دمنا قد وجدناه أدنى المراتب التي عثرنا عليها خلال التجارب؛ وغني عن البيان أننا ما دمنا قد اتفقنا على درجة معينة أن تكون هي درجة الصفر التي نبدأ منها المقياس، فلا بد أن يكون ذلك حدًّا ثابتًا لا يتغير بتغير المجال الذي نجري فيه عمليات القياس، حتى يكون لأرقامنا القياسية معنى عند المقارنة.

إن كل ميدان هو «علم» ما دام يستخدم المنهج العلمي على نحو متسق — كما يقول كارل بيرسون٧ — لا فرق في ذلك بين أن تكون المادة الموضوعة تحت ذلك المنهج هي ظاهرة سلوكية أو أن تكون ظاهرة كيموية أو فلكية؛ وما يستحيل عليه أن يخضع لمثل هذا المنهج، فهو لا يعد علمًا، ومن التناقض أن تعدَّ من بين العلوم ما هو بحكم طبيعته مستعصٍ على الدخول عمها في معيار واحد، وهو معيار يمكن تلخيصه في الانتقال من السؤال الذي يسأل عن «جوهر» الموضوع المبحوث كأنما هو شيء مستقل قائم بذاته، إلى السؤال الذي يسأل عن صورة «التفاعل» الذي يكون بين مجموعة عوامله وعوامل سواه مما يدخل معًا في عملية تبادلية واحدة تقاس بدالَّة رياضية؛ وبعبارة أخرى هو الانتقال من سؤالنا «ماذا هناك؟» إلى سؤالنا «كيف يتفاعل؟».
وإن لعلم النفس اليوم لطرائق تجريبية منوعة تزداد دقة مع الزمن والمران؛ فهنالك — مثلًا — ما يسمونه بمنهج الاختبار الضابط الذي مؤداه أن يقوم الباحث بملاحظة الأداء تحت ما يمكن أن يسمى ظروفًا سويَّة (والذي يجعلها ظروفًا سوية اختبارات إحصائية سابقة) ثم بملاحظة الأداء بعد تغيير أحد هذه الظروف؛ وهو منهج أوردناه عند الحديث عن طرق البحث عند جون ستيوارت مل، وأسميناه بطريقة الاختلاف في حالة واحدة.٨
وهنالك أيضًا ما يسمونه بمنهج المجموعة الضابطة،٩ وهو أن يلاحظ الباحث مجموعتين متعادلتين من الناس أثناء أدائهم عملًا ما في ظروف هي هي بعينها في الحالتين، فيما عدا عنصرًا واحدًا؛ فيكون اختلاف الأداء بين المجموعتين بمثابة المتغير التابع، ويكون هذا العنصر الواحد بمثابة المتغير المستقل، ويكون بين المتغيرين علاقة دالِّية؛ وقد يتَّبع هذا المنهج نفسه لا على مجموعات من الناس، بل على أزواج منهم، ليقارن أحدهما بالآخر في جانب معين، ولذلك فهما يُخْتاران متعادليْن في كل شيءٍ إلا في الجانب المراد ملاحظته وقياسه، وعندئذٍ تسمى هذه الطريقة بطريقة المقارنة الثنائية؛ ومن أمثلة لك بحث أجرتْه «سيمونز»١٠ على مدى التأثر بالإيحاء وعلاقته بدرجة الذكاء، فهل يكون الأذكياء أقل إيحائية من الأغبياء وإلى حد يكون ذلك؟ فهنا اختارت الباحثة أزواجًا من الأفراد تماثَلت روفهم كلها بقدر المستطاع، من حيث السن والجنس وغير ذلك، إلا أن أحدهما يزيد عن الآخر في درجة ذكائه، ثم أُخضِعا لعوامل الإيحاء على صورة تجريبية دقيقة، لقياس الفرق بينهما في ذلك.

ومن طرائق البحث في علم النفس كذلك ما يسمونه بالمناهج الارتباطية وهي تتناول الناس كما هي في ظروفهم العادية، ولا تدخل على تلك الظروف أي تعديل تجريبي، وبطبيعة الحال سيختلفون في استجابتهم السلوكية في المواقف المختلفة، وما على الباحث إلا أن يلاحظ ويسجل، ثم يحاول بالطرق الإحصائية أن يجد معاملات الارتباط بين التغيرات المتلازمة.

وبهذه المناسبة نقول إنه كثيرًا ما وجَّه النقد إلى إجراء التجارب في ميدان علم النفس، على أساس أن السلوك الإنساني في الحياة اليومية الجارية ليس هو بعينه السلوك الذي يظهر أثناء التجربة، لأن التجربة في ذاتها ستحدث أثرها على السالك، ومن هنا يجيء دائمًا فرق بين النتيجة التي نصل إليها عن طريق التجارب، والنتيجة التي نصل إليها فيما إذا اقتصرنا على مشاهدة ما يجري في الحياة اليومية بغير تدخل؛ والواقع أن هذا نقد مردود عليه، لأن ما يقال هنا شبيه بما يقال في مجال العلوم الطبيعية نفسها، لأننا في هذه العلوم نجري تجاربنا في ظروف مصطنعة لا تشبه الظروف المألوفة؛ كأن نسقط الأجسام — مثلًا — في «فراغ» لا هواء يه حتى لا يكون هنالك معوقات تعوق حركة السقوط، مع أن مثل هذا الفراغ لا وجود له في الطبيعة كما هي قائمة؛ فلئن كانت نتيجة التجربة من حيث سرعة السقوط ستختلف عن السرعة الحقيقية التي يسقط بها الجسم في الطبيعة بكل ما فيها من عوامل، إلا أنه تحليل لا بد منه للوصول إلى الصيغة الرياضية التي نضبط بها عاملًا معينًا وهو بمعزل عن بقية العوامل.

التصورات الفرضية

لئن كنا قد اشترطنا أن تكون مفاهيمنا العلمية ذوات مضمون كمي، فلا بد لنا من تحوط ضروري بالنسبة إلى علم النفس — وقد يكون بالنسبة للعلولة الطبيعية أحيانًا — وهو أننا قد نضطر إلى تكوين مفهوم معين نستعين به على تفسير الظواهر، دون أن يون ذلك المفهوم ذا مضمون كمي، بل ودون أن يكون ممن الانطباق مباشرة على العالم الفعلي، ولا بأس في ذلك ما دام هذا التصور الفرضي يقع في منتصف الطريق بين معطياتنا الحسية التي نتلقاها من العالم الفعلي لتكون معلوماتنا الأولية التي نبني عليها بحوثنا، وبين القوانين النظرية التي نصوغها لنعود فنطبقها على العالَم الفعلي من جديد.

ذلك أننا قد نكوِّن لأنفسنا تصورًا نفرضه من عندنا فرضًا، على زعم أنه يقابل كائنًا ما أو يقابل إحدى العمليات النفسية أو إحدى الحادثات، على حين أن ذلك الكائن المفروض أو تلك العملية أو الحادثة، ليست مما يقع في مجال المشاهدة؛ «فاللاشعور» في علم النفس، و«الإلكترون» في علم الطبيعة كلاهما تصور فرضيٌّ، لا يقع في مجال المشاهدة المباشرة، دون أن يكون ذلك وحده سببًا في رفضه، إذ المعوَّل على ما يؤديه من تسهيل السير في تفكيرنا العلمي، بشرط أن يؤدي بنا افتراضه إلى صياغة قوانين ممكنة التطبيق على عالم التجربة؛ ولولا قبولنا لأمثال هذه التصورات الافتراضية لما كان لنا ما يسوغ أن نتصرف على أساس أو لسوانا من الناس «عقولًا» مثل عقلنا، فنحن لا نرى في غيرنا «عقلًا» لكننا نفرضه، حتى إذا ما وجدنا أن فرض وجده يؤدي إلى نتائج تجريبية صحيحة، لم يكن لنا بد من التمسك به تيسيرًا للأمر.

ويفرق بعض فلاسفة العلم بين طريقة افتراضنا لتصورات من هذا القبيل، وبين الطريقة المعتادة في المنهج العلمي، وأعني بها طريقة التجريد. تجريد بعض خصائص الكائنات المشاهدة للاكتفاء بها دون بقية الخصائص، على اعتبار أنها وحدها من الأهمية بحيث تكفي عند التفكير النظري عن طبيعة الكائن المشار إليه بها. أقول إن فلاسفة العلم أحيانًا يفرقون بين طريقة التصور الفرضي وبين التصور التجريدي، بقولهم إن الأول لا يشير إلى وجود فعلي، بينما يشير الثاني إلى مثل هذا الوجود الفعلي؛ ففي المنهج التجريدي — وقد يسمى بالمنهج التحليلي — نغض النظر عن جوانب معينة من خبرتنا الحسية بالأشياء، ثم نجمِّع ونصنف الظواهر على أساس ما قد استبقيناه من خصائصها الهامة، لأن مثل هذا الاختصار الهام مفيد في الكشف عن العلاقات التي تكون بين الأشياء، تلك العلاقات التي قد تخفى على أعيننا إذا نحن تركناها ملتفة بالتفصيلات الوجودية كلها؛ فافرض مثلًا أنك تريد الوقوع على قانون العرض والطلب في علم الاقتصاد، فما الذي توجه إليه ملاحظتك؟ إنك سترى شبكة معقدة الخيوط من سلوك الناس أثناء عمليات البيع والشراء، ولو أبقيت على هذه الخيوط التفصيلية كلها لغاب عنك الجانب الذي تبحث عنه، أما إذا أزحت من أمام بصرك ما لست تريده من تفصيلات السلوك الظاهر، لتستبقي الجانب المتصل بالعرض والطلب وما بينهما من علاقة، أمكنك عندئذٍ أن ترى أنه كلما زاد العرض قل ثمن البضاعة المعروضة، على حين أنه كلما زاد الطلب زاد معه ثمن البضاعة المعروضة. ذلك هو المنهج التجريدي، أو المنهج التحليلي، الذي يحذف ما يحذفه، لكنه لا يضيف شيئًا إلى المادة المشاهدة؛ وأما المنهج الافتراضي الذي كثيرًا ما يلجأ إليه علم النفس، فهو أن يفرض الباحث حقيقة وهمية، يفرضها فرضًا، ويخلقها خلقًا، ويضيفها إلى ما هنالك، إذا وجد أن ذلك يعينه على ربط المادة المشاهدة ربطًا مفيدًا؛ فإذا كان المنهج التجريدي المعتاد «يطرح» من المشاهدات ما لا فائدة منه فيما يكون الباحث بصدده، فإن المنهج الافتراضي «يضيف» إلى المشاهدات حقيقة من صنعه هو، يراها تفيد في الوصول إلى قوانين.١١

وإذا كان ذلك كذلك، فلا يجوز لنا أن نحاسب الباحث في علم النفس — كلما استخدم تصورًا فرضيًّا — أن يبين لنا إن كان ذلك التصور تجريبي المضمون وكمي الطابع؛ بل العبرة بالجملة التي يستدلها من العبارة التي يرد فيها مثل ذلك التصور؛ فها هنا لا مناص من أن تكون كل جملة مستنبطة ذات علاقة تجريبية بالواقع المشاهد، وإلا لما كان هناك فائدة من فرض تصورات وهمية بادئ ذي بدء.

الاستبطان والمشاهدة الخارجية

ليس إصرارنا على أن تكون المشاهدة الخارجية — أعني المشاهدة بالحسِّ — هي الفيصل الأخير في قبول الحقائق، أمرًا مأخوذًا به دائمًا بالنسبة لعلم النفس على الأقل؛ لك أن هنالك من لا يرى مناصًا من لجوء الإنسان إلى النظر «داخل» نفسه ليتعقب ما يدور فيها من ظواهر نفسية، وذلك على خلاف التجريبيين — وعلى رأسهم السلوكيون — الذين يأبون أن يقيموا العلم إلا على ما هو موضوعي مشاهد لأكثر من باحث واحد؛ نعم إن المستبطن مضطر آخر الأمر أن يسوق معرفته التي يحصل عليها من داخل نفسه، مضطر أن يسوقها في «جُمَل» لغوية، منطوقة أو مكتوبة، وفي كلتا الحالتين هي «سلوك» ظاهر كأي سلوك آخر، لكن ما دام صدق هذه الجمل مرهونًا بالمطابقة بينها وبين جانب لا يملكه إلا صاحبه وحده، كان ذلك أمرًا غير مرغوب فيه عند من يتشبث بدقة المنهج العلمي.

وإنه لمن الجدير بالذكر هنا ما قد يصل إليه اختلاف وجهات النظر بشأن المصدر الموثوق به الذي يوصلنا إلى علم حقيقي، ماذا يكون؟ فكلنا يعرف أن يقين التأمل الباطني هو القاعدة التي أقام عليها ديكارت فلسفته التي تعد فاتحة الفلسفة الحديثة كلها، فلقد أجاز ديكارت لنفسه أن يشك في مشاهدات الحس جميعًا، لكنه لم يجد سبيلًا إلى الشك في حقيقة أدركها إذ هو يستبطن ذاته، ومن تلك الحقيقة الداخلية استنبط علمه بالعالَم؛ وجميل بنا أن نقارن هذا بموقف زعيم المدرسة السلوكية، وهو «واتْسُن»؛ فهو — مثل ديكارت — يشك في كثير مما يسلم الناس بصحته تسليمًا لا يقبل الجدل عندهم؛ وقد اعتقد — كما اعتقد ديكارت — أن هنالك بعض الحقائق اليقينية التي يصح لنا أن نتخذها أساسًا نبني عليه فلسفة جديدة؛ غير أن الحقائق التي اعتقد «واتْسُن» أنها يقينية، هي على وجه الدقة تلك الحقائق نفسها التي اعتقد ديكارت أنها موضع للشك؛ وما ظنه «واتْسُن» حقيقًا بالرفض والإنكار هو بعينه ما رآه ديكارت يقينًا لا يتطرق إليه الشك؛ فبينما يرى «واتْسُن» أن ركيزة العلم اليقيني هي المشاهدة الحسية، يرى «ديكارت» أن هذه المشاهدة الحسية هي أول ما يُشك في يقينه؛ فالحقائق الأولية لعلم النفس عند «واتسن» هي الفئران التي يشاهدها في المتاهات التجريبية، وهي القياسات العددية التي يقيس بها الظواهر المشادة، وهي الحقائق الفسيولوجية عن الغدد والعضلات وما إلى ذلك؛ و«الفكر» الذي سلم ديكارت به تسليمًا، لا يعني عند «واتسن» شيئًا إلا أن يترجم إلى مجموعة سلوكية مشاهدة.١٢ فهاتان وجهتان للنظر أثبتناهما هنا لندل بهما على مدى التباين بينهما؛ ولا حاجة بنا إلى تكرار القول بأننا في المنهج العلمي التجريبي الذي لا بد أن ينهجه علم النفس — إذا أراد أن يكون علمًا — نضع ارتكازنا على المعطيات الحسية أولًا وأخيرًا؛ أولًا عند جمع المعلومات الأولية التي تكون موضع البحث، وأخيرًا عند تطبيق القوانين النظرية التي نصل إليها باستخدامنا لما نضطر إلى استخدامه من فروض.

٤

منهج البحث في علم الاقتصاد

مادة البحث

نفهم موضوع علم الاقتصاد فهمًا صحيحًا، إذا تصورنا إنسانًا يعيش بمفرده، وله حاجات كثيرة يريد سدها وإشباعها، لكنه في الوقت نفسه مضطر إلى التضحية ببعضها، لأن وقته وجهده لا يكفيانه لإشباعها جميعًا، فتراه يسأل نفسه: ماذا اختار وماذا أدع من هذه الحاجات؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال لا بد له من موازنة بين حاجاته تلك ليفاضل بينها من حيث أهميتها بالنسبة إليه، وذلك لكي يقدم الأهم على المهم؛ وإذا قلنا إنه مضطر إلى «الاستغناء» عن بعض حاجاته، وإلى «تدبير» وقته وجهده ليوزعها أفضل توزيع ممكن، فقد قلنا بالتالي إنه لا بد للرجل من «اقتصاد» يضع قواعده ليستغني ويدبر على أساسها.

ونسوق هذا المعنى في صورة محسوسة واضحة فنقول: تصور مكانًا ليس به من المقاعد إلا عشرة، وهنالك مائة شخص يريدون الجلوس؛ إذن فلا بد من الاختيار من بين هؤلاء الأشخاص المائة عشرة فقط ليجلسوا على المقاعد العشرة، على أن يبقى التسعون الآخرون وقوفًا، فعلى أي أساس يكون الاختيار؟ إنه لو كان هنالك عشرة أشخاص فقط وعشرة مقاعد، لما كان هناك إشكال، وكذلك لو كان هنالك مائة مقعد تكفي الأشخاص المائة جميعًا دفعة واحدة لما كان هناك إشكال أيضًا، لكن الإشكال قد نشأ عندما كانت حاجات الأشخاص أكثر من وسائل إشباعها؛ وإن هذا المثل ليصور المشكلة التي هي موضع البحث في علم الاقتصاد؛ فالأشخاص المائة يمثلون أفراد المجتمع بما لهم من حاجات يريدون إشباعها، والمقاعد العشرة تمثل الموارد المحدودة التي لا تكفي أن تَسُدَّ حاجات الناس كافة؛ فلو كانت الموارد من الكثرة بحيث تسد كل حاجة تنشأ عند إنسان، لما كان بنا حاجة إلى «اقتصاد»، أو لو كانت حاجات الناس محدودة بحيث تكفيها الموارد القائمة مهما يكن مقدارها، لما كان بنا حاجة إلى «اقتصاد» أيضًا. لكن لا الموارد من الكثرة بحيث تسد حاجات الناس جميعًا، ولا حاجات الناس من التحديد بحيث تجد ما يكفيها في الموارد الممكنة، ولهذا كان لا بد لنا من طريقة نوازن بها بين هذه وتلك، وذلك هو «علم الاقتصاد».١٣
وعلم الاقتصاد حديث النشأة من حيث هو علم، فقد كان — قبل أن يكون علمًا — يستمد قضاياه من مصادر مختلفة منها ما هو عملي ومنها ما هو تأمل فلسفي، ونحن نعلم أن «العلم» ليس مجرد تصوير لما يحدث في مجرى الحياة العملية، كما أنه ليس بالتأمل الذي لا ينبني على الواقع التجريبي، إنما هو مجموعة صياغات نظرية (أي قوانين) إن تكن قد بنيت على الواقع التجريبي إلا أنها تجاوزه بالتخلص من قيود المكان والزمان التي يخضع لها ذلك الواقع التجريبي؛ لكنها إذ تجاوزه فهي لا تطير إلى حيث تسبح في تأملات مبتورة الصلة به. أقول إن علم الاقتصاد حديث النشأة من حيث هو علم، ولسنا نريد في هذا الكتاب أن نتتبع قضاياه العلمية، لكننا نُفلسف تلك القضايا، بالبحث عما هو مشترك بينها؛ فقد يكون علماء الاقتصاد على اتفاق فيما بينهم بشأن مجموعة القضايا التي منها يتألف علمهم، حتى إذا ما سئلوا عن القسط المشترك بين تلك القضايا (والقسط المشترك هو الطابع الذي يحدد طبيعة العلم) راحوا يختلفون شِيَعًا ومذاهب.١٤

علم الاقتصاد والعلوم الطبيعية

إذا استثنينا مبادئ المنطق وقوانين الرياضة؛ جاز لنا أن نقول إن قوانين العلوم كلها بعد ذلك، لا بد أن ترتكز على حصيلة تجريبية في بداية شوطها، ثم تختم ذلك الشوط بإمكان التطبيق العملي على العالَم التجريبي، ويتوسط الطرفين سلسلة من التفكير الاستنباطي العقلي النظري، تدور حلقاتها في رأس الباحث، لأنه إذا ما استوحى مشاهداته الأولى فرضًا يفرضه ليفسر به تلك المشاهدات، كان له بعدئذٍ أن يترك عالم التجربة حينًا، ليفرغ إلى فرضه ذاك، يستنبطه نتائجه، حتى إذا ما وقع بين تلك النتائج النظرية على نتيجة تثير اهتمامه، خرج بها إلى عالم الواقع من جديد ليستوثق من صدقها في التطبيق الفعلي.

وقد استثنينا من ذلك مبادئ المنطق وقوانين الرياضة، لأن هذين علمان صوريان، لا يتوقف صدقهما على الواقع التجريبي، لا في نقطة البداية ولا في خطوة الختام؛ فليس بك حاجة — وأنت في مجال المنطق الصرف — أن تستمد من الواقع الفعلي شيئًا ولا أن تعود إلى الواقع الفعلي بغية التأكد من صدق أي مبدأ منطقي، فإذا قلت — مثلًا — إنه إذا كانت «أ» ليست «ب» فإن «ب» ليست «أ»؛ أو إذا قلت إن «أ» لا تتصف بكونها «ب» «وليس ب» في آن واحد، أو إذا قلت إن «أ» إذا لزم عنها «ب» ثم إذا لزمت «ﺟ» عن ب، كانت «أ» يلزم عنها «ﺟ» إذا قلت شيئًا كهذا، فليس سندك هو الواقع التجريبي، بل إن تحليل العبارة التي تقولها كافٍ وحده للدلالة على صدقها، لأن العبارة في كل هذه الحالات هي عبارة تحليلية، أعني أن الصدر فيها يكرر نفسه في العجز، وإذن فالصدق صوري ولا يحتاج إلى برهان؛ وكذلك قل في الرياضة؛ فالرياضة معادلات، ومعنى المعادلة أن ثمة ترادفًا بين شطريها، بحيث نستطيع أن نحل أيًّا من الشطرين محل الآخر، مما يدل أيضًا على أن الصدر يكرر نفسه في العجز، وأن الصدق صوري ولا يحتاج إلى برهان نقيمه على الواقع المحسوس؛ فقولك: س + ص = ص + س، أو قولك إن (س + ص)٢ = (س٢ + ٢ س ص + ص٢) يمكن بيان صدقه دون حاجة منك إلى مجاوزة الصيغة الرياضية نفسها بحثًا عما يؤيدها خارج حدودها.

الفرق — إذن — واضح بين العلوم الصورية التي تعني بتحليل مادتها داخل بنائها نفسه، وبين العلوم الطبيعية التي لا بد لها من الاعتماد فيما تقوله على شواهد تأتي بها من خارج بنائها، إذ تجمع الشواهد من العالم التجريبي بادئ ذي بدء، ثم تعود إلى العالم التجريبي مرة أخرى عند التطبيق آخر الأمر؛ وأما المرحلة التي تتوسط البدء والختام، فهي «صورية» شأنها شأن المنطق والرياضة، ولا غرابة أن تجد العلوم الطبيعية في هذه المرحلة الوسطى من مراحل سيرها، تستخدم المنطق في استنباطاتها، وتستخدم الرياضية في صياغة معادلاتها.

وسؤالنا الآن هو عن قضايا علم الاقتصاد من أي نوع هي؟ أهي من قبيل العلوم الطبيعية التي تبدأ بمشاهدة الواقع وتنتهي بالتطبيق على الواقع؟ أم هي — إذا حللناها — وجدناها في حقيقة أمرها من العلوم الصورية (برغم ما فيها من مضمون مادي يشير إلى وقائع التجربة)؟ إنها تكون من العلوم الصورية في بنائها لو حللناها فوجدناها في نهاية الأمر تستند — لا إلى مشاهدات — بل إلى مسلَّمات فُرضت فرضًا، ثم جاءت القوانين الاقتصادية بعد ذلك بمثابة النتائج المستنبطة من تلك المسلمات؛ فعندئذٍ إذا سئلنا عن أية نتيجة من هذه النتائج: مَنْ أدراكم أيها نتيجة صحيحة؟ كان جوابنا هو أننا نشير إلى المسلمات التي استخرجناها منها؛ فإذا ما سئلنا من جديد ومن أين لكم بهذه المسلمات؟ فها هنا إذا كان الجواب إنها مسلَّمات نصادر بها، ولا نقيم عليها الدليل، كان العلم صوري البناء، يقوم على أصل مقبول بغير تعريف.

والشائع المقرر عند الكثرة الغالبة من علماء الاقتصاد أن علمهم لا يستمد قوانينه من مقولات صورية نبدأ بافتراضها افتراضًا لا نجادل فيه، ثم نقول: إنه بناءً على هذه المقولات الأولى تكون قوانين الاقتصاد هي كذا وكذا؛ بل هو علم يقوم ابتداء على مشاهدات معينة للواقع، وكل ما علينا هو أن نحلل هذا الواقع المشاهد تحليلًا ينتهي بنا إلى رصد العوامل المتلازمة فتكون هي القوانين الاقتصادية. لكن التحليل الآتي لطبيعة علم الاقتصاد وطريقة بنائه، سيبين لنا أنه في الحقيقة علم يستند إلى فروض يستعيرها من علم النفس، وإذن فهو علم استنباطي صوري، يعتمد صدق قضاياه على الفروض الأولى التي أخذها مأخذ التسليم، وليس هو بالعلم التجريبي الذي يستمد مادته من مشاهدات للواقع.

إنه لا يكفي للعالِم الاقتصادي أن يلاحظ ما يقع فعلًا من نشاط اقتصادي، وأن يحلله، وأن يرصد العوامل المتلازمة في ذلك النشاط، لأن ذلك كله لا يخرجه عن كونه «تاريخًا» يسجل ما قد حدث فعلًا، ولا يجوز للحدث التاريخي أن يعمم ليصبح قانونًا كالقوانين الطبيعية، نستخدمه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في ظروف مستقبلة؛ بل لا بد أن يضاف إلى مجرد «التاريخ» «منطق» يسوغ ذلك التعميم، أعني أنه لا بد أن نستوحي الوقائع المشاهدة «نظرية» أو «قانونًا» لا يكتفي بمجرد تلخيص الواقع كما وقع، بل يجاوز ذلك إلى صياغة كلية شرطية صورتها المنطقية هي: «إنه دائمًا إذا وقعت س بالمقدار الفلاني وقعت ص بالمقدار الفلاني» ولاحظ هنا أن الجملة الكلية الشرطية التي من هذا القبيل مختلفة في طبيعتها المنطقية عن الجملة الوصفية كل الاختلاف؛ فهي — على خلاف الجملة الوصفية — تتحلل من قيود المكان والزمان؛ إنها لا تقول إن كذا وكذا قد حدث في البلد الفلاني في العام الفلاني، بل تقول إنه إذا حدث كذا لزم عنه كيْت، أيًّا ما كان مكان الحدوث وزمانه.
على أن هذه الصورة الكلية الشرطية لا يوصَلُ إليها إلا إذا فككنا خيوط الموقف المدروس، لنعزل كل خيط على حدة، ونجعله موضع البحث في علاقاته مع بقية الخيوط؛ وهذا التحليل وهذا العزل وهذه المقارنة هي من صميم المنهج العلمي كما هو معروف في العلوم الطبيعية؛ لكنه عسير في العلوم الإنسانية عامة — ومنها علم الاقتصاد — فالموقف المدروس في علم الاقتصاد — ولنقلْ مثلًا إنه العلاقة بين سعر الفائدة وكمية الادخار — متداخل التفصيلات متشابك الخيوط متعذر على التجارب المدبَّرة التي نعزل بها تفصيلةً من تفصيلةٍ، ونبعد بها خيطًا من خيط؛ وإلا فكيف يتاح لنا أن نعزل كل العوامل من الحياة الاقتصادية ولا نبقى فيها إلا هذين العاملين وحدهما: الادخار من جهة وسعر الفائدة من جهة أخرى، بحيث نتبين العلاقة بينهما؟ نعم إن عالِم الاقتصاد كثيرًا ما يلجأ إلى طريقة التجريد النظري ليستعين بها على هذه المشكلة؛ فليس من الضروري أن يلجأ إلى عزل العناصر في الواقع الفعلي، بل يكفيه — مثلًا — أن يفرض في خياله صورة معينة ليرى — في خياله أيضًا — ماذا تكون نتيجة ذلك؛ فإذا أراد أن يبحث ضرورة التجارة الخارجية، عمد إلى صورة خيالية يجعل فيها دولتين فقط، ينتجان سلعتين فقط، إحداهما تنتج واحدة والأخرى تنتج الأخرى، وهي صورة يسهل عليه بإزائها أن يقول إنه لا بد لهاتين الدولتين أن تتبادلا السلعتين، فكل منهما تبادل الأخرى بما تنتجه لتحصل على ما ليست تنتجه، لكن العالم فيه دول كثيرة لا دولتان فقط، وهو ينتج سلعًا كثيرة، لا سلعتين فقط، فهل يستطيع أن نطبق ما قد صَدَقَ على الدولتين والسلعتين، على الدول الكثيرة والسلع الكثيرة؟ الجواب بالإيجاب عند من يدافعون عن إمكان أن يكون الاقتصاد كسائر العلوم الطبيعية، وهو بالسلب عند من يرونه علمًا — كسائر العلوم الإنسانية — مستعصيًا على المنهج التجريبي، على أنه لا يفوتنا هنا أن نذكر القارئ، بأن طريقة التحليل والعزل عندما اتبعت لأول مرة على أيدي علماء النهضة الأوروبية — مثل جاليليو ونيوتن — كانت موضع اعتراض شديد، فقد اعتُرض على جاليليو أنه إذ يضع قانونًا للحركة يفسرها مهما يكن الشيء المتحرك — وهذا بمثابة أنه عزل ظاهرة الحركة وحدها وطرح من حسابه بقية العوامل — اعتُرض عليه بأنه لم يفرض بين سَبْح السمكة وطيران الطائر، وجعلهما من قبيل واحد، مع أنهما مختلفان كيفًا، وكذلك اعتُرض على نيوتن أنه بتحليله الطبيعة إلى عناصرها، قتلها وجعلها جامدة مع أنها أقرب إلى الكائن الحي، وفات هؤلاء المعارضين ما لم يفت جاليليو ونيوتن، وهو أن التحليل لا بد أن يعقبه تركيب يعيد الشيء إلى بنائه، لكن بعد أن نكون قد اهتدينا في مرحلة التحليل إلى ما ننشده من قوانين.١٥

ومهما يكن من أمر، فإنه على فرض توافر الشروط الأساسية التي تجعل من العلم علمًا تجريبيًّا. من مشاهدات للواقع ومن تحليل لهذا لمشاهَدِ، ثم استلهامه فرضًا يفسره بحيث يمكن صياغته في صورة كلية شرطية تعين على التنبؤ. على فرض ذلك كله، فإن ثمة اختلافًا هامًا بين القوانين التي نصل إليها في مجال الاقتصاد والقوانين التي نصل إليها في مجال العلوم الطبيعية الأخرى، وذلك في بُعْد المسافة بين القانون من جهة والتفصيلات الجزئية التي يُرجَى للقانون أن ينطبق عليها من جهة أخرى، فالمسافة بينهما في مجال الاقتصاد هي من البعد بحيث يتعذر علينا أن نستنبط من القانون نتائجه الجزئية، وعلة ذلك كثرة الظروف والشروط والعوامل التي لا بد أن يفرض فيها الثبات لكي يفعل القانون فعله، على حين أنه من غير المحتمل أن تظل كل هذه العوامل ثابتة على حال واحدة؛ فافرض مثلًا أن لدينا قانونًا اقتصاديًّا مؤداه أن قلة المعروض من سلعة معينة من شأنها أن تزيد من ثمنه إذا كان الطلب على تلك سلعة ما يزال قائمًا بنسبة معينة؛ فهل في مستطاعنا أن نستدل من هذا التعميم شيئًا مؤكدًا بالنسبة إلى سلعة س معروضة في السوق فعلًا؟ نعم، لو لبثت ظروف الموقف كلها ثابتة، بما في ذلك نزوات الأفراد، وهو أمر جد عسير، إلى الدرجة التي تجعل القانون قائمًا بين أيدينا، لكننا عاجزون عن تطبيقه تطبيقًا يشمل جميع الأفراد وجميع المواقف وجميع الحالات شمولًا يطَّرد ولا يتخلَّف؛ فالفرق بين القانون الاقتصادي والقانون في العلوم الطبيعية الأخرى، هو أن هذه الأخيرة لا تُدخل في حسابها ميول الأفراد واختلافات المواقف الجزئية، فقانون الجاذبية يحدد مسار الأجسام وسقوطها، مهما يكن نوع الجسم ونوع الظروف التي يسير فيها ويقع؛ وأما القانون الاقتصادي فمحال عليه — فيما يظهر — أن يتخلص من حساب الأفراد والمواقف الجزئية، فلو عددنا المجال الذي ينطبق عليه القانون العلمي انطباقًا مطردًا مجالًا يسوده «العقل» كان هذا الجانب من مجال البحث الاقتصادي بمثابة الجانب «اللاعقلي» الذي يحول دون علمية القانون علمية كاملة؛ فقد يزيد الطلب على سلعة معينة بالنسبة للمعروض منها، ومع ذلك تتدخل عوامل لا تجعل ثمنها يزداد بنسبة يمكن حسابها بدقة؛ إذ قد يلجأ طالب السلعة — مثلًا — إلى سلعة أخرى بيلة عنها وتؤدي ما كانت السلعة الأصلية لتؤديه؛ أو قد تضع الحكومة حدًّا أعلى لثمنها؛ أو قد يشيع في الناس ميل جديد يجعل السلعة غير مرغوب فيها؛ وقد تتغير وسائل المواصلات على نحو يزيد من المعروض من تلك السلعة في زمن وجيز، إلى آخر هذه الاحتمالات الكثيرة جدًّا لما عساه أن يحدث فلا يدع الباحث الاقتصادي على ثقة من نتائجه وهو يستنبط النتائج من قانونه العام؛ إن كل ما يستطيعه هذا الباحث هو أن يصف لك الموقف بالنسبة لسلعة معينة في ظروف معينة، كأن يقول لك — مثلًا — إن مقدار المعروض من القمح هذا العام هو كذا، ومقدار المطلوب منه هو كذا، وثمن الأردب منه هو كذا؛ يستطيع أن يقول ذلك في تفصيل ودقة، لكن ذلك «تاريخ» لا يقل ولا يزيد على وصفه لمعركة حربية نضبت في ظروف معلومة؛ ونحن نعلم أن القضية التاريخية قضية فريدة، ولا يجوز تعميمها؛ وهكذا لا يكون أمامنا أمل في دقة تطبيق التعميمات الاقتصادية إلا إذا جاء يوم حسبت فيه حقائق السلوك البشري حسابًا علميًّا دقيقًا، أعني أن دقة علم الاقتصاد مرهونة بدقة علم النفس.

وهذا يؤدي بنا إلى نقطة هامة في بناء العلم الاقتصادي، وهي أن قيام هذا العلم من أساسه مرتكز على «حاجات» الإنسان التي تريد إشباعًا، كما أسلفنا لك القول عند الكلام على طبيعة موضوعه؛ فلا «اقتصاد» إذا لم تكن هناك حاجات إنسانية يتعذر إشباعها بالموارد القائمة؛ فعدم التوازن بين الوسائل (التي هي الموارد القائمة) والأهداف (التي هي إشباع الإنسان لحجاته) هو الذي يدعو إلى تدبير الأمر تدبيرًا يحدث التوازن المطلوب، فعلم الاقتصاد لا يهتم بالأهداف في ذاتها أكثيرة هي أم قليلة، ولا بالوسائل في ذاتها أيسيرة هي أم عسيرة، لكن اهتمامه منصوب على الملاءمة بين هذه وتلك، فكون الموارد القائمة محدودة ليس في ذاته مما يهم الاقتصادي إلا إذا كانت هذه الموارد ممكنة الاستعمال في أكثر من طريق واحد، فعندئذٍ للاقتصادي أن يدبِّر أي طريق تختار، إذ لو كانت مواردي محدودة من سلعة معينة، وليس لها إلا استعمال واحد لا يتغير، فعندئذٍ لا وجه لاقتصاد يفكر ويدبِّر.

وكذلك قل في كثرة الحاجات، فقد تكون حاجاتنا كثيرة، لكن الموارد التي تحققها محدودة بطبيعتها، فعندئذٍ لا اقتصاد إذا تساوت تلك الحاجات في أهميتها، وإنما ينشأ علم الاقتصاد عندما تتفاوت تلك الحاجات في الأهمية، لأننا عندئذٍ نكون بحاجة إلى توجيه الموارد نحو ما هو أهم.

أرأيت إذن أن الأساس الأول في قيام علم الاقتصاد هو دراسة «الحاجات» الإنسانية؟ ومن ذا يقوم بهذه الدراسة؟ يقوم بها علم النفس لا علم الاقتصاد وبقدر ما يوفق علم النفس إلى الدقة في نتائجه، بقدر ما يَسْلَمُ الأساس الذي يقيم عليه الاقتصاد بناءه.

إن النظرية الاقتصادية اليوم قائمة على افتراض معين — مأخوذ كما هو من مصدر آخر غير علم الاقتصاد نفسه — ألا وهو أن طبيعة الإنسان تقتضيه أن يسعى نحو تحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة، وأن السعادة المنشودة قوامها لذة أكثر وألم أقل؛ ولو سلمنا بهذه المقدمة الأولى، نتج عنها في مجال الاقتصاد أن يفضل الإنسان الثروة الأكثر على الثروة الأقل؛ وإذن فكلما واجه الإنسان عدة طرق وكان عليه أن يختار إحداها، تحتم عليه بحكم طبيعته أن يسلك الطريق المؤدية إلى زيادة الكسب، وهكذا يكون الدافع إلى زيادة الكسب هو العامل الرئيسيُّ الذي يتخذ مدارًا للتفكير الاقتصادي، حتى أصبح هذا التفكير مرادفًا للبحث عن أكبر نفع بأقصر الطرق وأقل الجهود.

هذه مقدمة في طبيعة الإنسان يبني عليها الاقتصادي نظريته الاقتصادية، وهي المحك الذي يقضي به إن كان حكم ما من أحكام الاقتصاديين صوابًا أم خطأ، إذ ما عليه عندئذٍ إلا أن يرى إذا كان هذا الحكم نتيجة تلزم عن تلك المقدمة الأولى أو لا تلزم؛ فالتفكير الاقتصادي — إذن — هو في صميمه تفكير استنباطي تحليل، وليس هو بالاستقرائي التركيبي؛ أعني أنه لا يخبرنا بشيء عن العالم الواقع، بقدر ما يكرر لنا ما هو متضمَّن في المقدمة المفروضة، فأمره كله مرهون بتلك المقدمة: فإن كانت تلك المقدمة التي تحكي لنا ما تحكيه عن طبيعة الإنسان قد نقلت حكايتها تلك عن الأمر الواقع الذي تؤيده المشاهدات العلمية، كانت نتائجها بالتالي مشيرة إلى الأمر الواقع، أما إذا ثبت أن هذه المقدمة هي مجرد فرض عن طبيعة الإنسان، تنافسه فروض أخرى، كان علم الاقتصاد كله في وادٍ وحقيقة الأمر الواقع في وادٍ آخر ومرة أخرى نقول إن ذلك معناه أن علم الاقتصاد يبني بناءه على أساس مستعار من علم النفس، هو الأساس الخاص بطبيعة الإنسان وتحديدها تحديدًا علميًّا، فدقته من حيث تطابق نتائجه مع الواقع متوقفة على دقة علم النفس في تحديده لطبيعة الإنسان.

١  جون ديوي، المنطق، الترجمة العربية، ص٧٤٢.
٢  جون ديوي، المنطق، الترجمة العربية، ص٧٥٣.
٣  المثل مأخوذ من كتاب «المنطق – نظرية البحث» لجون ديوي، الترجمة العربية، ص٦٦، وما بعدها.
٤  Kurt Lewin, Field Theory in Social Science، ص٢-٣.
٥  نفس المرجع، الفصل الأول.
٦  لفين، كيرت، المرجع السابق نفسه.
٧  Pearson, K., The Grammar of Science.
٨  راجع الفصل السابع من هذا الكتاب.
٩  راجع كتاب مناهج البحث في علم النفس الذي أشرف على تأليفه ت. ج أندروز، والذي نقله إلى العربية مجموعة من أساتذة علم النفس، وأشرف على الترجمة الدكتور يوسف مراد.
١٠  R. M. Simmons والبحث ملخص في المرجع المذكور، ص٢٥.
١١  Benjamin, A. C., An Intr. to the Philosophy of Science، ص١٨٤.
١٢  راجع الفصل السادس عشر من كتاب برتراند رسل «موجز الفلسفة» الذي ترجمه زكي نجيب محمود إلى العربية بعنوان «الفلسفة بنظرة علمية».
١٣  المثل مأخوذ من كتاب «نظرية الثمن» (ص٥) تأليف الدكتور سعيد النجار.
١٤  Robbins, Lionel, An Essay on the Nature and Significance of Economic Science، فقرة ٢٠١.
١٥  Kaufmann, Felix, Methodology of the Social Sciences، ص٢١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥