الاحتمالات وحسابها
(١) المصادفة والضرورة
المصادفة والضرورة كلمتان متضايفتان، أعني أن الوحدة منهما لا تفهم إلا مقرونة بالأخرى، فمعنى المصادفة لا يتبين إلا بالنسبة إلى معنى الضرورة؛ والعكس صحيح كذلك.
- (١)
فإما أن «أ» تقتضي «ب» بالضرورة، مثال ذلك أن صفة البياض في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء ممتدًّا يشغل حيزًا من الفراغ.
- (٢)
وإما أن «أ» تستبعد «ب» بالضرورة، مثال ذلك أن صفة البياض في الشيء تستبعد أن يكون أخضر في الوقت نفسه.
- (٣)
وإما أن وجود «أ» لا يعني شيئًا بالنسبة لوجود «ب»، فقد توجد «ب» وقد لا توجد على حد سواء، مثال ذلك العلاقة بين صفة البياض في الشيء وصفه كونه مربعًا.
ففي هذه الحالة الثالثة نرى أن «أ» لا هي تقتضي بالضرورة وجود صفة «ب» ولا هي تستبعدها بالضرورة وبعبارة أخرى إن وجود «أ» مع وجود «ب» في مثل هذه الحالة يكون مصادفة.
من هذا التعريف لكلمة «مصادفة» يتبين في جلاء أنها كلمة لا يفهم لها معنى إلا بالإضافة إلى سواها؛ فلا معنى لقولنا إن «ب» من فعل المصادفة إلا إذا نسبناها إلى «أ»، وإذ قال قائل عن شيء ما إنه حدث بالمصادفة، كان بمثابة من يقول: إنه بالنسبة لما أعلمه (وهذا وهو ما نرمز إليه بالرمز «أ») يكون الشيء (ب) قد حدث بالمصادفة، أي إن ما يعلمه هذا الشخص لا يستلزم بالضرورة، ولا يستبعد بالضرورة وجود «ب»، أي إن «ب» لا يقتضي وجودها شيء ولا يمنع وجودها شيء مما يعلمه الشخص المتكلم.
وهذا المعنى النسبي لكلمة «مصادفة» يبين لنا خطأ الذين يقابلون بين المصادفة والحتمية مقابلة الضدين؛ فقولنا إن «ب» مصادفة، ليس معناه أنها كذلك في كل الظروف وبالنسبة لكل شيء على الإطلاق، بل معناها أنها مصادفة بالنسبة لشيء آخر «أ» لكنها في الوقت نفسه قد تكون محتومة بالنسبة لشيء ثالث «ﺟ».
وزيادة للتوضيح نقول إن علاقة المصادفة بين شيئين «أ»، «ب» لا يشترط فيها أن تكون تماثلية، إذ قد تكون «ب» صدفة بالنسبة ﻟ «أ» لكن «أ» لا تكون صدفة بالنسبة ﻟ «ب» مثال ذلك إن من يدرس المنطق قد يكون بالمصادفة طالبًا بقسم الفلسفة من كلية الآداب، لكن الطالب في قسم الفلسفة من كلية الآداب يتحتم أن يكون دارسًا للمنطق.
فلو رمزنا بالرمز «أ» لدراسة المنطق، وبالرمز «ب» لصفة كون الطالب في قسم الفلسفة بكلية الآداب، كانت «ب» مصادفة بالنسبة ﻟ «أ» أي إن «أ» قد توجد بغير وجود «ب» لكن العكس غير صحيح، أي إن «ب» إذا وجدت، اقتضى وجودها وجود «أ».
أما إذا كانت العلاقة بين «أ» و«ب» وكذلك العلاقة بين «ب» و«أ» كلاهما مصادفة، كانت الحقيقتان مستقلتين إحداهما عن الأخرى، كصفتي «دراسة المنطق» و«كون الدارس مصريًّا» فلا الأولى تقتضي الثانية ولا الثانية تقتضي الأولى.
ونعود بعد هذا الشرح، فنقول إن المصادفة لا تتنافى مع الحتمية إلا إذا كانت كل حقائق الوجود وحوادثه مستقلة إحداهما عن الأخرى على النحو الذي شرحناه توًّا، ولكن الواقع غير ذلك، إذ من حقائق الوجود ما يقتضي بالضرورة حقائق أخرى، وإذن فالمصادفة والحتمية لا يتناقضان، أي إن الحادثة الواحدة المعينة قد تكون مصادفة بالنسبة لشيء، وحتمية بالنسبة لشيء آخر.
(٢) المصادفة والاحتمال
لو كنا نعلم أن شيئًا ما «أ» يقتضي حتمًا أن يكون كذلك موصوفًا بصفة «ب» أو يستبعد حتمًا أن يكون موصوفًا أيضًا بصفة «ب» لما كان هنالك إشكال، لأننا في الحالة الأولى سنقول حكمًا موجبًا كليًّا كهذا: «كل أ هي ب» وفي الحالة الثانية سنقول حكمًا سالبًا كليًّا كهذا: «لا أ هي ب»، وفي كلتا الحالتين سنقول الحكم ونحن موقنون من صدقه يقينًا تامًّا، حتى إذا ما عرضت لنا في حياتنا بعد ذلك جزئية من جزئيات «أ» عرفنا يقينًا إذا كانت موصوفة بصفة «ب» أو غير موصوفة بها.
لكن الإشكال يبدأ حين تكون «أ» موصوفة بصفة «ب» أحيانًا، وغير موصوفة بها أحيانًا أخرى؛ أعني حين يكون اقتران «أ» و«ب» مصادفة؛ فعندئذٍ يستحيل علينا — حين تصادفنا «أ» — أن نحكم حكمًا قاطعًا بأنها «ب» كذلك؛ وكل ما نستطيعه في هذه الحالة هو أن نقول إن «أ» هذه ربما تكون أيضًا «ب».
غير أن «ربما» لا تجدي إذا أردنا أن نرتب على حكمنا تصرفًا عمليًّا، فالحياة العملية زاخرة بأمثال هذه المواقف التي يريد فيها الإنسان أن يرتب على حكمه تصرفًا معينًا، مع أن معلوماته لا تزيد عن قوله «ربما» … في هذه المواقف لا بد لنا من حساب درجة الاحتمال، حتى إذا ما كان راجحًا هذه الناحية أو تلك، تصرفنا على أساس ذلك.
(٣) نظرية «كينز» في حساب الاحتمال٢
إن درجة احتمال قضية ما، لا تتوقف على شيء في طبيعتها، إنما تتوقف على نسبتها إلى قضية أخرى؛ وحَسْبنا أن نعلم أن درجة احتمال القضية الواحدة، تختلف باختلاف القضية الأخرى التي ننسبها إليها، أو بعبارة أخرى: إن درجة احتمال قضية ما متوقفة على ما لدينا من معلومات، أو على ما لدينا من شواهد؛ فإن قيل لنا إن فيلًا يسير شاردًا في الطريق العام، كان احتمال الصدق ضعيفًا جدًّا، لأننا ننسب هذا القول إلى ما نعلمه في خبرتنا الماضية عما يسير في الطريق العام وما لا يسير؛ لكن القائل إذا أضاف إلى ذلك قوله إن هنالك في الأرض الفضاء المجاورة ملعبًا لترويض الحيوان انفجرت فيه قنبلة فحطمت بعض جدرانه؛ فعندئذٍ ترتفع درجة الاحتمال، لأننا ننسب القول في هذه الحالة إلى معلومات أو إلى شواهد من شأنها أن تجعل احتمال الصدق قويًّا.
فالاحتمال — على نظرية «لورد كينز» — نسبي وليس بمطلق؛ فكما أنه لا معنى لقولك عن مكان «أ» إنه بعيد أو إنه قريب، إلا إذا نَسَبْتَه إلى مكان آخر؛ وكما أنه لا معنى لقولك عن عدد ما إنه «يساوي» أو إنه «أكبر من» إلا إذا قلت العدد الآخر الذي تنسبه إليه فتراه مساويًا له أو أكبر منه؛ فكذلك لا معنى لقولك عن قضية ما إنها محتملة الصدق إلا إذا ذكرت القضية الأخرى التي تنسب القضية الأولى إليها فتراها محتملة أو غير محتملة.
نقول إنه لا معنى لاحتمال الصدق في قضية إلا بنسبتها إلى الشواهد؛ حتى القضية التي ثبت خطؤها بالفعل، قد يكون لها درجة معينة من الصدق بالنسبة لبعض الشواهد؛ فمثلًا قد خسرت ألمانيا الحرب الماضية فعلًا، لكن يجوز لنا مع ذلك أن نقول إن نصرها كان محتملًا بدرجة معينة على أساس كذا وكذا من الشواهد؛ ومثل هذه الأحكام الاحتمالية المنصبَّة على حوادث الماضي، تراها بكثرة في كتب التاريخ؛ وعكس ذلك صحيح أيضًا وهو أن ما قد حدث فعلًا وثبت صدقه، يجوز لنا أن نقول عنه إن درجة احتماله كانت قليلة، وكان الأرجح عدم حدوثه؛ فليس من التناقض أن نقول عن شيء إنه لم يكن محتملًا بدرجة كبيرة لكنه وقع، وهذا هو ما نقصده كلما عبرنا عن دهشتنا لوقوع شيء نرى وقوعه أمرًا عجيبًا.
- (١)
علاقة لزوم، بمعنى أن صدق قضية يستلزم صدق قضية أخرى، وعندئذٍ يكون صدق القضية الثانية تحصيل حاصل ما دمنا نعرف صدق القضية الأولى؛ ويرمز لدرجة الاحتمال في القضية الثانية بالرقم ١، دلالة على يقينها، إذ ما دامت القضية الأولى «س» صادقة، لزم عن صدقها صدق القضية الثانية «ص».
- (٢)
علاقة تناقض، بمعنى أن صدق قضية «س» يستلزم كذب قضية «ص» ويرمز في هذه الحالة لدرجة احتمال الصدق في القضية الثانية بصفر، دلالة على استحالة صدقها، ما دامت القضية الأولى قد فُرض صدقها.
- (٣)
علاقة احتمال تتفاوت درجته من الصفر والواحد، أي بين الاستحالة واليقين؛ وذلك حين تتداخل القضيتان «س» و«ص» فلا الأولى تستلزم الثانية بالضرورة؛ ولا هي تستبعدها بالضرورة، بل تراهما أحيانًا يتلازمان وأحيانًا أخرى لا يتلازمان، كظهور السحاب وسقوط المطر مثلًا، فإذا ظهر السحاب، لم يكن سقوط المطر محتمًا ولا مستحيلًا، بل كان محتملًا بدرجة تتفاوت باختلاف الظروف الأخرى.
(٤) حساب درجة الاحتمال
- (١)
أن نحصي كل الممكنات التي يجوز وقوعها في ذلك الموقف المعين.
- (٢)
أن يكون كل ممكن من هذه الممكنات ذا صفة محدودة معينة، فلا يجوز لنا أن نجعل أحد الممكنات التي نحصيها مركَّبًا بدوره من عدة ممكنات كأن نقول مثلًا: إن لون الشيء الفلاني إما أبيض أو غير أبيض، حاسبين بذلك أن يكون في الموقف احتمالان ممكنان، مع أن «غير أبيض» تشمل احتمالات كثيرة، فيجب ذكر هذه الاحتمالات كلها.
- (٣)
أن تكون الممكنات التي نحصيها متساوية القيمة الاحتمالية؛ وليس المراد بالقيمة الاحتمالية هنا درجة عقيدتنا نحن في وقوع الحادثة أو عدم وقوعها، بل المراد هو أن تكون النسبة التي نحصل عليها حين ننسب كل ممكن من الممكنات على حدة، إلى حقيقة معلومة، متساوية في الحالات جميعًا.
فإذا كان الموقف الذي أمامنا يحتمل ثلاثة ممكنات، هي: أ، ب، ﺟ؛ ثم كان لدينا حقيقة معلومة رمزها س، فإننا نقول إن الممكنات متساوية القيمة الاحتمالية إذا كان:
(٥) قياس الاحتمال في الحوادث البسيطة
إذا فرضنا أن موقفًا معينًا س يحتمل أربع صور ممكنة، متساوية كلها في قيمتها الاحتمالية كان مجموع هذه الحالات الأربع مساويًا لدرجة اليقين، وهو العدد ١؛ وكانت القيمة الاحتمالية لكل حالة من الحالات الأربع هي ١ / ٤.
فبصفة عامة نقول إن درجة احتمال وقوع حادثة ما، هي كسر بسطه واحد ومقامه عدد الممكنات.
وعلى هذا الأساس نفسه يكون حساب الاستحالة، فاحتمال أن تغيب س في المثال المذكور، هو صفر / ٤ أي هو صفر، أي إنه مستحيل ما دام غيابها لم يكن بين الممكنات التي عددناها حين أحصينا كل الحالات الممكنة التي تقع عليها س.
وما دام احتمال كل حالة على حدة هو ١ / ٤، ثم ما دام اليقين هو ١، فإن احتمال عدم وقوع حالة ما من الحالات الأربع هو ١ − (١ /٤) = ٣ / ٤.
مثال: إذا كان لدينا تسع ورقات، تحمل الأعداد من ١ إلى ٩، كل منها يحمل عددًا واحدًا، فما درجة احتمال أن يكون العدد على ورقة نختارها جزافًا، عددًا فرديًّا؟
ها هنا خمس حالات لأعداد فردية، وأربع حالات لأعداد زوجية، ومجموع الحالات تسع، إذن فالاحتمال المطلوب هو ٥ / ٩.
مثال: ما درجة احتمال أن يكون الواحد إلى أعلى حين نرمي زهرة اللعب؟
الحالات الممكنة ست حالات، إذن فدرجة الاحتمال المطلوبة هي ١ / ٦.
(٦) قياس الاحتمال في الحوادث المركبة
(أ) المراد هنا هو قياس احتمال أن يكون شيء ما «أ» موصوفًا بصفتين في آن واحد هما «ب» و«ﺟ».
درجة احتمال أن تتصف أ بصفتي ب، ﺟ معًا، هي درجة احتمال أن تتصف أ بصفة ب، مضروبة في درجة احتمال أن تتصف أ ب بصفة ﺟ.
ونضع ذلك في صيغة رمزية فنقول:
فإذا أردنا مثلًا أن نستخرج درجة احتمال أن يكون طالب ممتازًا في اللغة الإنجليزية والرياضة معًا، وجب أن نحسب درجة احتمال امتيازه في اللغة الإنجليزية وحدها، ثم نضرب ذلك في درجة احتمال امتيازه في الرياضة على أساس أنه ممتاز في الإنجليزية.
لاحظ أننا نخطئ الحساب لو جعلنا:
ح (أ − ب ﺟ) = ح (أ − ب) × ح (أ − ﺟ)
أي إننا نخطئ الحساب في المثال السابق لو ضربنا درجة احتمال امتياز الطالب في اللغة الإنجليزية في درجة احتمال امتيازه في الرياضة، لأن ذلك قد يفوِّت علينا الاحتمال بأن يكون الامتياز في اللغة الإنجليزية هو نفسه عاملًا يؤثر في درجة الامتياز في الرياضة، ولذلك ينبغي — بعد حساب احتمال التفوق في اللغة الإنجليزية — أن نضرب هذا في درجة احتمال التفوق في الرياضة في هذه الحالة الخاصة التي ظهر فيها تفوق في الإنجليزية، لا في درجة احتمال التفوق في الرياضة مطلقة من غير قيد.
فإذا كانت درجة الاحتمال في الحالة الأولى وحدها هي: ١ / ن، ودرجة الاحتمال في الحالة الثانية وحدها — على فرض تَحَقُّق الحالة الأولى — هي ١ / م فإن درجة احتمال اجتماع الحالتين معًا هي ١ / (م × ن).
مثال: ما درجة احتمال أن تسقط زهرة النرد مرتين متتاليتين بالرقم ٦ إلى أعلى؟
احتمال أن تسقط الزهرة في المرة الأولى بالرقم ٦ إلى أعلى هو ١/ ٦ واحتمال أن تسقط الزهرة في المرة الثانية بالرقم ٦ إلى أعلى على فرض تحقق الحالة الأولى، هو (١ / ٦) × (١/ ٦) = ١ / ٣٦.
مثال آخر: وعاءان في كل منهما ثلاث كرات: اثنتان بيضاوان وواحدة سوداء فما درجة احتمال أن تسحب السوداوين في وقت واحد؟
قد يخيل إليك للوهلة الأولى أن هناك أربع احتمالات، هي:
ب ب؛ ب س، س ب، س س.
[ب = أبيض، س = أسود]:
لكن في ذلك الحساب تجاهلًا للقيمة الاحتمالية للأبيض بالنسبة للأسود ويجعلهما متساويتين، مع أن القيمة الاحتمالية للأبيض أكبر من القيمة الاحتمالية للأسود، ويجب مراعاة ذلك — كما أسلفنا — عند حساب درجة الاحتمال، ولشرح ذلك نقول:
فيكون احتمال السحب من الوعاء الأول هو:
واحتمال السحب من الوعاء الثاني هو:
وهي تسع حالات، فيها الأسودان معًا مرة واحدة؛ وإذن فاحتمال سحبهما معًا هو ١ / ٩.
مثال آخر: ما درجة احتمال أن أسحب ورقتين من أوراق اللعب فتكونا حمراوين (عدد أوراق اللعب ٥٢ ورقة، نصفها أسود ونصفها الآخر أحمر).
درجة احتمال أن تكون الورقة الأولى حمراء هي ١ / ٢.
(٧) تطبيق مبدأ الاتصال على صدق الرواية التاريخية
إنه إذا روى رجل رواية عما شهده، وكنا نعلم عن هذا الرجل أن نسبة الصدق في كلامه هي ٣ / ٤، كانت روايته صادقة بهذه النسبة عينها؛ فافرض أن رجلًا آخر روى نفس الرواية نقلًا عن الرجل الأول، وأن نسبة الصدق في كلام هذا الرجل الثاني هي أيضًا ٣ / ٤، فإن صدق الراوية كما يرويها تصبح نسبته (٣ / ٤) × (٣ / ٤) = (٩ / ١٦) أي إنها تقل عما كانت عليه في الرواية الأولى. وهكذا إذا ظلت رواية معينة يتناقلها الرواة واحدًا عن واحد، فإن نسبة صدقها تأخذ في القلَّة ما لم نفرض أن صدق الرواة دائمًا نسبته ١، فعندئذٍ صدق الرواية سيظل عبارة عن ١ × ١ × ٠٠٠٠١ × ١ = ١ لكن افتراض الصدق التام في الرواة جميعًا قليل الاحتمال.
(٨) قياس الاحتمال في الحوادث المركبة
(ب) المراد هنا هو قياس درجة احتمال أن يكون شيء ما «أ» موصوفًا بواحدة على الأقل من صفتي «ب»، «ﺟ».
درجة احتمال أن يتصف شيء ما «أ» بواحدة على الأقل من صفتي «ب» و«ﺟ» هي درجة احتمال أن تتصف أ بصفة ب وحدها، مضافًا إليها درجة احتمال أن تتصف أ بصفة ﺟ وحدها، مطروحًا من ذلك درجة احتمال أن تتصف أ بصفتي ب، ﺟ معًا.
والصورة الرمزية لمبدأ الانفصال هي كالآتي:
لاحظ في هذه الصيغة الرمزية أن:
ح = درجة الاحتمال
ب ﺟ = صفتا «ب» و«ﺟ» معًا
وتقرأ الصيغة هكذا: إن درجة احتمال أن تكون أ موصوفة إما بصفة ب أو بصفة ﺟ، تساوي درجة احتمال أن تكون أ موصوفة بصفة ب، مضافًا إليها درجة احتمال أن تكون أ موصوفة بصفتي ب، ﺟ معًا.
ولشرح هذا الجزء الأخير من مبدأ الانفصال، نقول:
افرض أن حالتي ب، ﺟ متضادتان، أي إنهما لا تجتمعان معًا مثال ذلك أن يكون لديك تذكرتان في نصيب، ولا بد أن تكون الرابحة إحداهما فقط، إذ لا يربح في النصيب إلا تذكرة واحدة، فها هنا يكون احتمال ربحك بتذكرة ب أو بتذكرة ﺟ هو:
ح (أ − ب) + ح (أ − ﺟ)
لكن قد تكون حالتا ب، ﺟ مما يمكن اجتماعهما معًا، مثال ذلك أن ورقة اللعب قد تتصف بصفتين في آن واحد، فتكون — مثلًا — سبعة وتكون حمراء، ونريد أن نحسب درجة احتمال سحب ورقة تكون فيها إحدى الصفتين على الأقل، فعندئذٍ لا يكفي في قياس درجة الاحتمال أن نجمع احتمال أن تكون الورقة المسحوبة سبعة، إلى احتمال أن تكون الورقة المسحوبة حمراء، لأن احتمال أن تكون الورقة المسحوبة سبعة يدخل فيه احتمال أ، تكون حمراء كذلك، وكذلك احتمال أن تكون الورقة المسحوبة حمراء يدخل فيه احتمال أن تكون سبعة كذلك؛ لذلك لا يكفي لحساب احتمال إحدى الحالتين على الأقل مجرد جمع الاحتمالين، بل لا بد أن نطرح من ذلك درجة احتمال اجتماعهما معًا.
مثال: ما درجة احتمال أن نسحب ورقتين من أوراق اللعب فتكون إحداهما على الأقل حمراء؟ (عدد ورق اللعب ٥٢ ورقة، نصفه أحمر والنصف الآخر أسود)
احتمال أن تكون الأولى حمراء هو ١ / ٢.
احتمال أن تكون الثانية حمراء هو ١ / ٢.
احتمال أن تكونا حمراوين معًا هو ٢٥ / ١٠٢ (لقد أوضحنا هذه النتيجة في مسألة سابقة)
احتمال أن تكون إحداهما على الأقل حمراء هو:
مثال آخر: وعاءان: الأول فيه ٨ كرات بيضاء وكرتان سوداوان، والثاني فيه ٦ كرات بيضاء وأربع كرات سوداء، فما درجة احتمال أن أسحب كرة من كل من الوعاءين، فأسحب كرة واحدة على الأقل بيضاء؟
احتمال سحب كرة بيضاء من الوعاء الأول هو ٨ / ١٠
احتمال سحب كرة بيضاء من الوعاء الثاني هو ٦ / ١٠
احتمال سحب كرتين بيضاوين معًا هو ٤٨ / ١٠٠
(٩) احتمال تكرار الوقوع
المراد هنا هو أن نقيس درجة احتمال وقوع حادثة ما مرة أخرى، بعد اطراد وقوعها بنسبة معينة فيما سبق.
فإذا اطَّرد وقوع الحادثة فيما مضى بغير تخلف في ظروف معينة، وأردت معرفة درجة احتمال وقوعها مرة جديدة إذا تكررت الظروف عينها، فاقسم عدد مرات حدوثها فيما مضى مضافًا إليه واحد، على نفس العدد مضافًا إليه اثنان.
لأننا إذا فرضنا أن الحادثة لم تقع أبدًا، وأن احتمال وقوعها مساوٍ لاحتمال عدم وقوعها، فعندئذٍ تكون درجة الاحتمال هي ١ / ٢، لكنها إذا حدثت مرة، زادت نسبة احتمال وقوعها في المرة الثانية، وأصبحت (١ + ١) / (٢ + ١) = ٢ / ٣ إذ الممكنات المتساوية في القوة الاحتمالية، أصبحت الآن ثلاثة: واحد مضى وهو بالإيجاب واثنان منتظران، أحدهما بالإيجاب والآخر بالسلب، أعني أنه قد أصبح هنالك عاملان يشيران في صالح الوقوع وعامل واحد يشير في غير صالحه.
وبصفة عامة، إذا وقعت حاثة ما م من المرات، فهذا يعطينا م من الممكنات في صالح وقوعها، ثم نضيف إلى ذلك ممكنين جديدين: أحدهما في صالح وقوعها والآخر في غير صالحه، فتكون نسبة احتمال الحدوث الجديد هي (م + ١) / (م + ٢)
فافرض — مثلًا — أن صديقًا زارك في صباح الجمعة عشر مرات متوالية فدرجة احتمال زيارته لك في صباح الجمعة التالية هي:
ومعنى ذلك أن استمرار وقوع الحادثة دليل على أنها ستمضي في وقوعها، فإذا فرضنا أن الشمس قد أشرقت في الصباح ألف مليون مرة فيما مضى، فاحتمال أنها ستشرق في صباح الغد هو (ألف مليون + ١) / (ألف مليون + ٢)، وهي نسبة تستطيع أن تقول عنها إنها تساوي ١، أي تبلغ درجة اليقين.
(١٠) مواءمة العناصر وتقوية الاحتمال
رأينا في شرحنا لمبدأ الاتصال، أننا حين نريد قياس درجة احتمال كون الشيء المعين «أ» موصولًا بصفتي «ب» و«ﺟ» معًا نلجأ إلى قياس احتمال أن يكون الشيء «أ» موصوفًا بصفة «ب» وحدها ثم نضرب ذلك في احتمال أن يكون الشيء «أ» الموصوف بصفة «ب» موصوفًا كذلك بصفة «ﺟ» أي إن المبدأ الذي نتبعه في هذه الحالة، هو الآتي:
ح (أ − ب ﺟ) = ح (أ − ب) × ح (أ ب − ﺟ)
ونبهنا القارئ عندئذٍ إلى خطأ الحساب لو جعل الصيغة هكذا:
ح (أ − ب ﺟ) = ح (أ − ب) × ح (أ − ﺟ)
أي لو ضرب قيمة احتمال كون الشيء المعين «أ» موصوفًا بصفة «ب» في درجة احتمال كونه موصوفًا بصفة «ﺟ»، إذ إن ذلك قد يفوِّت عليه مقدار تأثير وجود صفة «ب» في درجة وجود صفة «ﺟ»، لأنه قد تكون درجة احتمال أن تكون «أ» الموصوفة بصفة «ب» موصوفة كذلك بصفة «ح» أكبر من أو تساوي أو أصغر من درجة احتمال أن تكون «أ» المجردة من صفة «ب» موصوفة بصفة «ﺟ».
ففي الحالة الأولى نقول إن وجود صفة «ب» في الشيء «أ» له صلة مواتية بأن يكون ذلك الشيء موصوفًا بصفة «ﺟ» أي إن صفة «ب» توائم صفة «ﺟ».
وفي الحالة الثانية نقول إن وجود «ب» لا صلة له بوجود الصفة «ﺟ»، فلا هو يوائم ولا يحول دون وجودها.
وفي الحالة الثالثة نقول إن وجود «ب» لا يوائم وجود الصفة «ﺟ» أي إن «ب» تحول دون وجود «ﺟ».
وحين نفرق بين أن يكون الشيء «أ» الموصوف بصفة «ب» موصوفًا كذلك بصفة «ﺟ»، وبين أن يكون الشيء «أ» مجردًا عن «ب» موصوفًا بصفة «ﺟ» أي حين نفرق بين هاتين الصيغتين:
ح (أ − ب ﺟ)، ح (أ − ﺟ)
- (١)
أنه إذا كانت «ب» لها صلة موائمة ﺑ «ﺟ» فإن هذه الصلة لا تكون على إطلاقها، بل تكون بالنسبة للشيء «أ» إذ يجوز لو تغير الشيء ضاعت صلة المواءمة بين صفتي ب، ﺟ.
مثال ذلك: يجوز أن يكون الطالب الفتى (أ) إذا امتاز في اللغات (ب) فإنه كذلك يمتاز في الرياضة (ﺟ)؛ مع أن الطالبة الفتاة قد لا يكون أمرها كذلك إذ قد تكون القُدرات العلمية مختلفة العلاقة عند الطلبة عنها عند الطالبات.
- (٢)
وكذلك نلاحظ أنه إذا كانت «ب» و«ﺟ» متصلتين إحداهما بالأخرى، بحيث يكون وجود «ب» موائمًا لوجود «ﺟ» فإن العلاقة بينهما تكون تماثلية، أي إن احتمال وجود صفة «ﺟ» في الشيء «أ» الموصوف بصفة «ب»، مساويًا لاحتمال وجود صفة «ب» في الشيء «أ» الموصوف بصفة «ﺟ» والصورة الرمزية لذلك هي:
ح (أ ب − ﺟ) = ح١ (أ ﺟ − ب)
ومما هو جدير بالذكر في موضوع المواءمة بين العناصر وتقويتها لدرجة الاحتمال — خصوصًا في الأبحاث التاريخية — أننا قد نجد احتمال الصلة بين أ، ﺟ عاليًا، وكذلك نجد أن احتمال الصلة بين ب، ﺟ عاليًا، فنظن أن أ، ب معًا لا بد أن تكون شديدة الصلة بوجود ﺟ؛ مع أن ذلك قد لا يلزم بالضرورة.
فمثلًا قد نجد ألفاظًا معينة شائعة في شعر امرئ القيس؛ ثم قد نجد بحرًا معينًا من بحور الشعر شائعًا عند امرئ القيس؛ فنظن أنه إذا اجتمعت تلك الألفاظ وذلك البحر معًا في قصيدة واحدة، فالاحتمال يزداد ترجيحًا بأن القصيدة لامرئ القيس، مع أن الأمر قد يكون عكس ذلك، حين يكون استعمال تلك الألفاظ في ذلك البحر المعين مستحيلًا عند امرئ القيس، فيكون اجتماع الصفتين قد أضاع درجة الاحتمال التي لكل منهما على حدة، بدل أن يقويها.
(١١) الاحتمال العكسي١٢
إذا عرفنا وقوع حوادث معينة، وكان هناك عدة فروض لتفسيرها، فالاحتمال العكسي هو الذي نقيس به درجة ترجيح فرض على آخر، معتمدين على الحوادث التي عرفناها، كما يتضح من المثال التالي.
لدينا وعاء فيه ثلاث كرات نجهل لونها، سحبنا كرة مرة فوجدناها بيضاء، وأرجعناها في الوعاء؛ ثم سحبنا كرة أخرى فوجدناها سوداء، وأرجعناها في الوعاء وبعدئذٍ أخذنا نكرر العملية، لكننا كلما سحبنا كرة وجدناها إما بيضاء أو سوداء.
فهنالك احتمال أن تكون الكرات الثلاث مزيجًا من أبيض وأسود معًا، واحتمال آخر، وهو أن تكون هناك كرة ثالثة لونها مخالف للأبيض والأسود، لم تخرج أبدًا في عملية السحب، فكيف نرجح فرضًا على فرض؟
لو فرضنا أن في الوعاء كرة لونها مخالف للأبيض والأسود، كان احتمال عدم سحبها في المرة الأولى هو ٢ / ٣، وفي المرة الثانية ٤ / ٩، وفي المرة الثالثة ٨ / ٢٧، وفي المرة الرابعة ١٦ / ٨١، … واحتمال عدم سحبها في المرة الثامنة هو ٢٥٦ / ٦٦٥١، وهي نسبة تكاد تبلغ ١ / ٢٦، وهكذا تأخذ نسبة الاحتمال في النقص كلما مضينا في السحب، مما يقلل من شأن الفرض الثاني، ويزيد في ترجيح الفرض الأول.
وللاحتمال العكسي أهمية كبيرة في تبرير الاستدلال الاستقرائي، لأننا في هذا الاستدلال نحكم على كل أفراد النوع بما شهدناه في بعض الأفراد، فمثلًا نشاهد بعض الغربان ونجدها سوداء، فنعمم الحكم قائلين إن كل غراب أسود. فعلى أي أساس اعتمدنا في تعميم هذا الحكم، مع أن هنالك احتمال بأن تكون الغربان التي لم نرها ليست سوداء؟ على أساس الاحتمال العكسي الذي شرحناه لك بإيجاز.
(١٢) نظرية «بيرنوي»١٣ في الأعداد الكبيرة
(١٣) نظرية تكرار الحدوث١٦
لقد كانت النظرية الرياضية التي فرغنا من شرحها، معتمدة على نقطة أساسية، وهي أن نحصي بادئ ذي بدء كل الممكنات على شرط أن تكون جميعًا متساوية في القوة الاحتمالية، لكن كيف أبدأ بحثي في حساب درجة الاحتمال بافتراض أني أعلم أن الممكنات الفلانية متساوية في درجة احتمالها؟ ألست بذلك أفرض أني قد قِسْتُ الاحتمال على وجه ما، قبل أن أبدأ في حسابه؟ إن معرفتي بأن ممكنات معينة متساوية في درجة احتمالها لا بد أن تكون نتيجة لخبرة سابقة، لاحظت فيها مدى انتظام أو عدم انتظام التكرار في وقوع تلك الممكنات؛ وإذن فالخطوة الأولى في حساب أي احتمال، ينبغي أن تكون هي هذه الخبرة التي تدلني على تكرار حدوث الأشياء، وبذلك نجعل درجة الاحتمال أمرًا موضوعيًّا نحصِّله من الخبرة كما نحصل أي شيء آخر.
ولئن كان من اليسير حساب التكرار في الحالات التي يكون فيها عدد الأفراد محدودًا، فإنه من العسير حسابه حين يكون العدد كبيرًا، أو لا نهاية له، ففي الحالات المحدودة نستخرج درجة الاحتمال بنسبة رياضية بسيطة، فلو كان هنالك شيء ما «أ» يحدث أحيانًا مقرونًا بشيء آخر «ب» وأحيانًا أخرى غير مقرون بها، فإن درجة احتمال حدوث «أ» مقرونة ﺑ «ب» هي:
أي هي نسبة عدد مرات حدوث «أ» و«ب» معًا، إلى عدد مرات حدوث «أ» إطلاقًا.
لكن ما حيلتنا حين تتعذر معرفة قيمة «ن»؟ أي حين لا نعرف عدد مرات الحدوث لكونها أكثر من أن تُحصى وتحصر؟ ها هنا يلجأ أصحاب النظرية إلى مبدأ الأعداد الكبيرة الذي لخصناه فيما مضى.
ولشرح نظرية «فون ميزس» شرحًا موجزًا نقول:
نحن الآن — فرضًا — إزاء مجموعة كبيرة العدد من أشياء سنرمز لكل فرد من أفرادها بالرمز «أ»، وقد تقترن «أ» أحيانًا ﺑ «ب»، والمطلوب هو معرفة نسبة تكرار هذا الاقتران.
حالات «أ» المبحوثة | ١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٦ | ٧ | ٨ |
حالات ظهور «ب» | ~ب | ب | ب | ~ب | ب | ب | ب | ~ب |
نسب اقتران «أ» و«ب» | ٠ / ١ | ١ / ٢ | ٢ / ٣ | ٣ / ٤ | ٣ / ٥ | ٤ / ٦ | ٥ / ٧ | ٥ / ٨ |
من هذه القائمة ترى أن تستطيع أن تمضي في بحث أي عدد شئت من حالات «أ» على أنك في كل مرحلة من مراحل بحثك تكون على علم بنسبة وقوع ب مع أ فيما مضى من شوط البحث؛ ومن أهم ما يميز طريقة «فون ميزس» هذه، هو أنه يشترط الاختيار العشوائي للحالات التي نبحثها بحيث يجيء ترتيبها جزافًا ليس فيه اطراد مقصود؛ ومقياس العشوائية في الاختيار والترتيب عنده هو هذا؛ إذا وجدنا أن الكسور الدالة على نسبة حدوث ب مع أ تميل نحو الاقتراب من حد ثابت، نأخذ أي جزء من السلسلة جزافًا، فنأخذ مثلًا الحالات التي يمكن قسمة أرقامها على ٣، وننظر إليها وحدها على أنها سلسلة، ونرى هل تميل هي الأخرى نحو الاقتراب من نفس الحد الذي تميل نحوه السلسلة الأصلية؛ إن كان الأمر كذلك كان الاختيار والترتيب بمنجي من الخطأ، وكانت نسبة تكرار وقوع ب مع أ هي النسبة الثابتة التي تميل نحوها سلسلة الكسور.
فمثلًا إذا قذفت بقطعة من النقود ألفي مرة، فكان وجهها إلى أعلى ١٠٠١ مرة وظهرها إلى أعلى ٩٩٩ مرة جاز لي أن أقول إن احتمال سقوط قطعة النقود ووجهها إلى أعلى هو ١ / ٢، ويكون معنى قولي هذا هو أنني إذا مضيت في رمي القطعة النقدية مدة كافية، وجدت أن نسبة ظهور الوجه إلى أعلى تختلف عن ١ / ٢ بأقل من أي كسر مهما كان ضئيلًا.