فلسفة العلم ما هي؟
١
يختلف المتحدثون عن «فلسفة العلم» في المعنى المقصود بهاتين الكلمتين، لكنهم على اختلافهم في المعاني المقصودة بهما، متفقون جميعًا على أن «فلسفة العلم» ليست جزءًا من العلم ذاته، يوضع مع بقية الأجزاء في صعيد واحد، بحيث يقال — مثلًا — فيزياء وكيمياء وبيولوجيا وفلسفة علوم؛ كلا بل إن فلسفة العلم تجيء في صعيد وحدها، لأنها حديث عن العلم وتعليق عليه: فنسبتها إلى العلوم كنسبة اللغة الشارحة إلى اللغة في أولى درجاتها؛ فإذا قلت لسامعي: «هذا قلم» كنت بهذا أستخدم اللغة في أولى درجاتها، وهي الدرجة التي يتم عندها التفاهم على الأشياء الموجودة حولنا، فالعلاقة عندئذٍ علاقة مباشرة بين اللغة من ناحية وبين الأشياء التي تدور حولها اللغة من ناحية أخرى؛ أما إذا تناولت هذه العبارة نفسها: عبارة «هذا قلم» وقلت عنها إنها مؤلفة من كلمتين، وإحدى الكلمتين اسم إشارة، وهكذا، فقولي هذا يكون بمثابة لغة شارحة، لأنه لغة عن اللغة.
- (١)
فيمكن التحدث عن العلم من حيث هو ظاهرة اجتماعية، لأصحابه نشاط ملحوظ، كأي نشاط آخر تقوم به أية فئة أخرى من الناس، كالزراع أو الصناع أو غيرهم؛ ويكفي لكي نعلم أن العلم ظاهرة اجتماعية أن نذكر أن ما يقوله أحد العلماء إنما يقوله على صورة يراعى فيها أن تكون مفهوم لدى زملائه من العلماء، مما يدل على أن الأمر مشترك بينه وبينهم، وليس هو بالأمر الخاص المقتصر عليه وحده؛ ولهذه الصفة الاجتماعية في العلم، ترى الناس يحاسبون العلماء أحيانًا بمعيار اجتماعي فيسألونهم عن النتائج التي ينتظر أن تعود على الناس بالنفع من وراء نشاط العلماء في ميادينهم المختلفة؛ وكثيرًا ما نجد العكس أيضًا، إذ ترانا أحيانًا نطالب المجتمع أن يرعى العلماء وأن يوجه نشاطهم الوجهة المطلوبة.
هذه كلها أمور يجوز أن تكون موضع حدث، وسيكون هذا الحديث عندئذٍ حديثًا عن العلوم، لكنه ليس هو ما نريده بفلسفة العلم عندما نصفها بأنها حديث عن العلوم وتعليق عليها. - (٢)
وكذلك يجوز للمتحدثين أن يتناولوا أوجه النشاط العلمي بالتقويم الخلقي، فيحكمون عليها بالأخلاقية أو بعدمها، كهذا الحديث الذي يتردد اليوم عن العلم الذري وما يؤدي إليه من أدوات الدمار، فهل يعدُّ هذا العلم الخطير مقبولًا من الناحية الخلقية أو مرذولًا، أو هل يكون غير ذي شأن بالناحية الخلقية على الإطلاق؟
هذا أيضًا حديث عن العلم، لكنه ليس هو المعنى المقصود بفلسفة العلم. - (٣)
ومما يقال عن العلم في عصرنا أيضًا ما يذهب إليه بعض الكتَّاب من خطر التقدم العلمي على مصير حرية الإنسان، لأنه كلما ازداد العلم دقة وشمولًا، ازداد بالتالي تحكمًا في رقاب الناس، لأنه سيدرس الإنسان دراسة تمكنه من تكييفه على أي صورة شاء، فيمكن بهذا صاحبَ السلطة السياسية من وضع الخطط العلمية لصبِّ الناس فيما يختاره لهم من قوالب، كأنهم آلات يراد لها مصيرها ولا تريد هي مصيرها بنفسها؛ أضف إلى ذلك ما يصحب تقدم العلم في زيادة في أجهزته العلمية ووسائله التقنيَّة (التكنولوجيا) مما يصبح معه الإنسان معدوم الشخصية مسلوب الإرادة، يسيِّر الآلة وكأنه جزء منها.
فهذا أيضًا حديث يجوز أن يقال عن العلم، لكنه هو الآخر ليس ما نقصد إليه بفلسفة العلم.١ - (٤)
أما المعنى الذي نقصد إليه بفلسفة العلم عندما نقول عنها إنها حديث عن العلم، فهو ذلك الذي نتناول به قضايا العلم بالتحليل المنطقي.
فالكتاب العلمي — كائنًا ما كان موضوعه — إنما يتألف من عبارات كلامية وصيغ رمزية؛ أكثرها مما نطلق عليه اسم «اللغة الشيئية»٢ — ونعني بها مجموعة الرموز اللفظية التي نصف بها واقع الأشياء وصفًا مباشرًا؛ كأن أقول عن شعاع معين من الضوء إنه ساقط على مرآة معينة، وإن زاوية السقوط مساوية لزاوية الانعكاس.ونقول إن الكثرة الغالبة من العبارات والصيغ الرمزية في كتاب علمي، مؤلفة من لغة شيئية، لأن رجال العلوم يستخدمون الألفاظ وما إليها من رموز، ليقرروا بها أحكامًا عن الأشياء الواقعة. تلك غايتهم الأولى قبل أي شيء آخر؛ لكنك مع ذلك قد تجد في الكتاب العلمي — إلى جانب العبارات الشيئية — طائفة أخرى من العبارات، لا يراد بها أن تصف الأشياء وصفًا مباشرًا، بل يراد بها الحديث عن ألفاظٍ أو عباراتٍ ساوها، مما ورد في الكتاب العلمي نفسه؛ مثال ذلك أن يسوق المؤلف عبارة يعرِّف بها طريقة استعماله للفظة معينة واردة في كتابه، أو أن يسوق عبارة ليدل بها على العلاقة المنطقية القائمة بين عبارات وردت، بأن يبين مثلًا أن العبارة س هي نتيجة تلزم حتمًا عن العبارة ص، أو أن يبين أن النظرية س والنظرية ص متعارضتان لا يمكن صدقهما معًا؛ أو أن العبارة الفلانية قد سيقت بمثابة الشواهد المؤيدة للنظرية المعبِّر عنها بالعبارات الفلانية … كل هذه حالات لا تكون الصلة فيها مباشرة بين العبارة اللفظية والشيء الخارجي الذي هو مادة العلم الذي نبحث فيه، بل تقوم الصلة بينها وبين مدركات ذلك العلم، أي بينها وبين الألفاظ التي نعبر بها عن ذلك العلم؛ ولذلك سميت تلك العبارات باسم «اللغة الشارحة»٣ تمييزًا لها من «اللغة الشيئية» التي سبقت الإشارة إليها.فالعبارات الشيئية في الكتاب العلمي، هي التي تعبر عن النظرية العلمية التي يريد العالم أن يتقدم بها، وأما العبارات الشارحة للعبارات الشيئية، فليست جزءًا من تلك النظرية العلمية ذاتها، بل هي تنتمي إلى ميدان آخر غير ميدان العلم نفسه، إذ تنتمي إلى ما نسميه بفلسفة العلوم وبالطبع لا تكون كل العبارات التي تقال عن عبارات أخرى فلسفة علمية، لكن العكس صحيح، أي إن كل جزء من فلسفة العلوم هو عبارة شارحة لعبارة أخرى.٤
«العقل اللاشعوري» فكرة قد تكون مفيدة في نظريات التحليل النفسي، فالقائم بالتحليل النفسي يعلم أنواع الاختبارات التي يجريها على مريضه لكي يرتاح له أن يقرر إن كان عند مريضه كذا وكذا من الذاكرة اللاشعورية أو من المعتقدات اللاشعورية؛ فإذا ما انتهى القائم بالتحليل من بحثه إلى نتيجة هي أن سلوك مريضه راجع إلى هذا العامل اللاشعوري أو ذاك، كانت هذه العبارة التي يقرر بها نتيجة بحثه عبارة شيئية، أي عبارة علمية؛ لكننا قد نعود فنسأل بعد ذلك: هل «اللاشعور» موجود وجودًا حقيقيًّا بالمعنى الحرفي للوجود — كما ظن فرويد — أم هي كلمة نطلقها متعمدين على تصور افتراضي، تسهيلًا على أنفسنا وصف الظاهرة السلوكية التي نحدد بصدد بحثها؟ عندئذٍ تكون المشكلة المطروحة مشكلة فلسفية، لا تدخل في علم النفس، بل تدخل في فلسفته.
ونزيد في توضيح ذلك فنقول: إن الفرويدي الذي يعترف بوجود اللاشعور وجودًا عينيًّا، والسلوكي الذي يستغنى عن افتراض وجود اللاشعور، قد لا يكون بينهما اختلاف في ميدان الملاحظة، أعني أن كلًّا منهما قد يلاحظ نفس الذي يلاحظه زميله من جزئيات السلوك، بل قد لا يختلفان على الطرق التي ترتبط بها أجزاء الظواهر السلوكية المختلفة بعضها ببعض، وكل ما يختلفان عليه هو أن أحدهما يعترف بوجود لا شعور «وراء» الظواهر السلوكية البادية، بينما يصر الآخر على أن يحصر نفسه في الظواهر السلوكية البادية وحدها، ولا يمانع هذا الآخر في أن تستخدم كلمة «اللاشعور» على أن يكون مسماها شيئًا مما يبدو للحس في الظاهرة السلوكية الموضوعة تحت البحث. وعلى ذلك، فإن كل هذا هو موقف الفرويدي والسلوكي، فلا اختلاف بينهما على شيء من «علم النفس» باعتباره علمًا، وإنما وجه الخلاف بينهما واقع في فلسفة ذلك العلم.
وكما سألنا أنفسنا عن فلسفة العلم هل تكون جزءًا من العلم ذاته أو لا تكون ثم أجبنا بأنها ليست تعدُّ علمًا من العلوم، ولكنها حديث عن تلك العلوم من الناحية المنطقية؛ فإننا نعود فنسأل عن فلاسفة العلم من أي طائفة هم؟ أمن رجال العلم أم من سواهم كالفلاسفة مثلًا؟
ولو استندنا في الإجابة عن هذا السؤال على واقع التاريخ، فاستعرضنا من اشتغلوا فعلًا بفلسفة العلم — أو بمناهج البحث، والمعنى واحد — لوجدناهم فريقين، فمنهم نفر كانوا في الوقت نفسه علماء، ونفر آخر من غير العلماء؛ فمن أمثلة الأولين جاليليو، ونيوتن، وكلود برنار، ومن أمثلة أخرى بيكن، ومل، وجفنز، وجون ديوي.
وإنا لنلحظ فرقًا في حديث هاتين الطائفتين إذ تتحدثان عن منهج البحث العلمي، فأما العلماء منهم فتراهم يستبطنون أنفسهم ليروا ماذا هم في الحقيقة يصنعون بإزاء علومهم إذ يقفون منها موقفًا نقديًّا؛ وأما غير العلماء منهم فيعتمدون على مشاهدة ما يصنعه العلماء إبان قيامهم ببحوثهم العلمية ليستدلوا المنهج العلمي استدلالًا من أعمال هؤلاء العلماء وأقوالهم؛ فحديث العلماء عن مناهجهم العلمية كثيرًا ما يكون أقرب إلى مادة علم النفس لأنه حديث مستمد من ملاحظة العالِم لنفسه ملاحظة باطنية هو وحده الذي يستطيع القيام بها، وأما حديث غير العلماء عن منهج العلم فأقرب إلى مادة المنطق، لأنه قائم على تحليل الجانب الظاهر من أقوال العلماء وتجاربهم المعملية.
وإننا لمن الآخذين بالمعنى الذي يجعل فلسفة العلم — أو علم مناهج البحث — مقتصرة على الجانب المنطقي وحده من الإنتاج العلمي، لكننا لا نغمض العين عما يقوله أنصار الرأي الآخر، بأنه لا يجوز أن يتحدث عن منهج البحث العلمي إلا العالِم نفسه الذي كابد البحث وعاناه، لأننا لو اكتفينا بالجانب المنطقي وحده، ضاعت علينا جوانب كثيرة مما يتعرض له الباحث العلمي أثناء قيامه ببحثه، كالنشوة التي تهتز بها نفسه كلما انكشف له شيء من الحق، وكالدوافع التي تحفزه إلى مواصلة البحث.
٢
وسنسوق فيما يلي مثلًا لفلسفة العلم مأخوذة من وجهة نظره، وهي وجهة النظر التي تجعل فلسفة العلم مرادفة للتحليل المنطقي لقضايا العلم، والمثل الذي سنسوقه هو فلسفة الرياضة؛ فماذا تعني؟ وما الفرق بينها وبين العلم الرياضي؟
الرياضة لون من الدراسة، إذا ما بدأنا فيها من أجزائها المألوفة وهي الأعداد، استطعنا أن نسير من تلك الأجزاء في أيٍّ من الاتجاهين، فإما إلى أمام وإما إلى وراء، والاتجاه المألوف المعهود عند معظم الناس هو السير بها إلى أمام، فمن نقطة البداية، أعني الأعداد، نمضي إلى دراسة الكسور، ومن عمليتي الجمع والطرح نمضي إلى دراسة الضرب والقسمة، وما يتركب منهما من عمليات تزداد تعقيدًا وتركيبًا كلما علونا في سلم الدراسة الرياضية.
وأما الاتجاه الثاني في دراسة الرياضة — وهو اتجاه لم يألفه من الناس إلا قلة قليلة — فيسير في نقطة البداية إلى الوراء، إذ يأخذ في تحليل تلك البداية نفسها، على اعتبار أنها في ذاتها نتيجة لعمليات فكرية سابقة لها، وإذن فهو اتجاه يحفر تحت تلك البدايات ليهتدي إلى أسسها، وما دامت تلك البدايات هي الخطوة الأولى في الرياضة كما يعرفها معظم الناس، إذن فتلك الأصول التي يخرجها لنا التحليل من وراء تلك البدايات، تكون جزءًا من علم آخر غير الرياضة وهو علم المنطق، وهي أصول تنطبق على الرياضة وغيرها من العلوم التي تأتي بعد الرياضة في سلم التعميم، ولئن أطلقنا — بمقتضى العرف — اسم «الرياضة» على الاتجاه الأول الذي يسير من نقطة البداية — وهي الأعداد — صاعدًا نحو عمليات تزداد في تعقيدها وتركيبها كلما مضينا في السير، فنستطيع أن نطلق على الاتجاه الثاني الذي يسير من تلك البداية راجعًا إلى الوراء بحثًا عن الأسس والأصول التي تزداد في درجة التبسيط والتعميم كلما مضينا في السير، أقول إننا نستطيع أن نطلق على هذا الاتجاه الثاني اسم «فلسفة الرياضة».
وإذا ما أردنا تمييز الرياضة البحتة من بقية العلوم، فيجب أولًا أن نفرق بين شيئين هما في الحقيقة مختلفان أحدهما عن الآخر اختلافًا تامًّا، وهما مدركات الرياضة من ناحية، وقضاياها من ناحية أخرى، ومن أمثلة المدركات الرياضية «٢» «+» «=» ومن أمثلة القضايا الرياضية قولنا ٢ + ٢ = ٤.
فالكثرة الغالبة ممن بحثوا في فلسفة الرياضة قد أخطأت بتركيز الانتباه في ناحية واحة دون الأخرى، فترى فريقًا يبحثون في المدركات الرياضية وحدها على اعتبار أن القضايا الرياضية تأتي من تلقاء نفسها نتائج لأبحاثهم، وترى فريقًا آخر يجعلون القضية الرياضية هي مدار البحث، ظنًا منهم بأن حقيقة المدركات التي منها تتألف القضايا الرياضية تتكشف من تلقاء نفسها إذا ما انتهينا إلى تحليل القضية الرياضية تحليلًا صحيحًا.
ويوجه رسل نقده إلى مدرسة الشكليين فيقول في المقدمة التي أضافها إلى الطبعة الثانية من كتابه «أصول الرياضة» ما معناه:
المدرسة الشكلية — كما تتمثل في هلبرت — تدع الأعداد بغير تعريف، لكنها تفرض من البديهيات ما يمكننا من استنباط القضايا الحسابية المعتادة؛ ومعنى ذلك أنهم لا يحددون معنى خاصًّا للأعداد صفر، ١، ٢ … إلخ سوى تحميلها بعض الخصائص التي تذكر في البديهيات؛ وعلى ذلك تصبح هذه الأعداد متغيرات لا ثوابتًا، لأن سائر أرقام السلسلة العددية يتحدد بتحديدنا للصفر، على أن الصفر إنما يكون كما نفرضه له نحن من خصائص نضعها له وضعًا، [فقد نجعل الصفر هو العشرة أو المائة أو أي بداية نشاء] وبالتالي تتحدد سائر الأعداد؛ ومن ثم تكون سلسلة الأعداد ليست هي بالضرورة هذه السلسلة التي نألفها، بل تكون أي متوالية نختار.
وهكذا ترى «الشكليين» في تحليلهم للقضايا الرياضية تحليلًا انتهى بهم إلى أنها بغير مدلول خارجي، قد أهملوا مضمون تلك القضايا وفحواها، كما ترى «المنطقيين» قد عنوا بالمضمون وأهملوا صورة القضية الرياضية، حين جعلوها صيغة مركبة من أجزاء مضمونها — أي من المدركات الرياضية — وكفى.
وسنعرض فيها يلي خصائص القضية الرياضية، ثم نُتبع ذلك بتحليل لبعض المدركات الرياضية، حتى يتكامل لدينا الجانبان اللذان لا بد منهما معًا.
خصائص القضية الرياضية
إننا في حديثنا عن القضية الرياضية، إنما نعني الرياضة البحتة لا الرياضة التطبيقية، فينبغي بادئ ذي بدء أن نتبين الفرق بينهما.
الرياضة البحتة تقصر نفسها على استدلال صيغة معينة من صيغة أخرى، وهذه من ثالثة، والثالثة من رابعة … وهكذا، حتى تنتهي بنا السلسلة عند مُسَلَّمات نفرضها في البداية، كالتعريفات التي نشترطها لبعض الألفاظ المستخدمة في استدلالاتنا، وكالبديهيات التي نفرض فيها الصدق بغير برهان.
فالرياضة البحتة لا شأن لها بالسؤال الآتي: هل تصدق هذه القضية الرياضية المعينة على الواقع أو لا تصدق، بل سؤالها دائمًا هو: هل تلزم هذه القضية الرياضية المعينة عن الفروض الأولى أو لا تلزم؟ ففي هندسة إقليدس مثلًا، تكون النظرية صادقة إذا وجدناها نتيجة لازمة عن بديهياته وتعريفاته، أما هل تصدق البديهيات التي سلَّم بها إقليدس في بداية بحثه، وهل تصدق النظريات المترتبة عليها، على المكان الحقيقي أو لا تصدق، فسؤال متروك للرياضة التطبيقية، لأن المعمول فيه على التجربة الحسية والمشاهدة، لا على مجرد سلامة استدلال نتيجة من مقدماتها.
ولهذا نفسه يتعدد الصدق في الرياضة البحتة، لأننا كلما بدأنا بمجموعة معينة من الفروض، نتج لدينا منها مجموعة من النظريات؛ والفروض وما ينتج عنها من نظريات تكون نسقًا رياضيًّا توصف أجزاؤه بالصدق إذا كان استدلال الأجزاء بعضها من بعض منطقيًّا سليمًا؛ وقد يكون هناك نسق رياضي آخر، بل نسقات كثيرة أخرى، كلها صادق معًا، لأن مقياس الصدق في كل منها هو سلامة استدلال النتائج من الفروض؛ فلا غرابة — إذن — أن نرى هندسة إقليدية، وأخرى غير إقليدية تختلف عنها في بعض النظريات، لأنها تبدأ بفروض مختلفة عن الفروض التي تبدأ بها الهندسة الإقليدية، وكلا الهندستين صحيح.
فالإثبات في القضية الرياضية منصبٌ على لزومها المنطقي عن سواها، أي على أن شيئًا غيرها يقتضيها بالضرورة.
والخاصة الثانية التي تتميز بها القضية الرياضية — الخاصة الأولى هي كونها تعبر عن لزوم منطقي لعبارة من عبارة أخرى — هي اشتمالها على متغيرات لا على ثوابت — فيما عدا الثوابت المنطقية.
والرمز «الثابت» هو الذي لا يتغير معناه رغم اختلاف مواضعه، فكلمة «سقراط» ثابتة المعنى، والأعداد ١، ٢، ٣، ٤ … كلها ثوابت، لأن كل عدد منها له نفس المعنى أينما ورد، و«الصفر» ثابت لأن معناه كذلك لا يتغير، والرموز «+»، «−»، «×»، «÷»، «=» كلها كذلك ثوابت لأنها دائمًا ذات دلالة واحدة لا تتغير بتغير سياقها ووضعها.
وأما الرمز «المتغير» فهو عادة يختار من أحرف الهجاء، مثل س، ص، وليس للمتغيرات معنى بذاتها، بل يتغير معناها بتغير السياق؛ فقد نستخدم المتغير «س» في العبارة الآتية «س إنسان» وعندئذٍ يكون معناه سقراط أو العقاد أو أي فرد آخر من أفراد الإنسان، ثم قد نستعمله هو نفسه في العبارة الآتية «س عدد» وعندئذٍ يكون معناه «١» أو «٢» أو «١٠» أو أي عدد آخر من سلسلة الأعداد.
ونحن نقول هنا إن القضية الرياضية (في الرياضة البحتة) تتميز باشتمالها على متغيرات، وليس فيها من الثوابت إلا ثوابت المنطق؛ وقد يبدو هذا القول عجيبًا، لأن عبارة كهذه: ٢ + ٢ = ٤ كلها ثوابت، لأن كل جزء منها له معنى لا يتغير بتغير مواضعه، أفنقول إذن إنها ليست قضية رياضية؟ ويجيب «رسل» عن مثل هذا السؤال فيقول:
إن تحويلنا للثوابت في قضية ما إلى متغيرات، يجعل القضية رياضية؛ لأن تحويل الثوابت إلى متغيرات ينقل معناها من تخصيص إلى تعميم؛ والتعميم المطلق هو الذي يبرز الجانب الصوري الذي تتميز به الرياضة البحتة. خذ مثلًا العبارة الآتية: «سقراط إنسان» ها هنا تجد رمزين ثابتين، ولا متغير هناك ولهذا فهي بعيدة عن طبيعة القضايا الرياضية؛ ثم ضع متغيرًا مكان الثابت الأول، واجعلها «س إنسان» فها هنا ستجد بعض الفروض التي نفرضها للرمز «س» تصدق، وبعضها لا يصدق؛ فقولنا عن «س»: «س يوناني» يجعل العبارة «س إنسان» قولًا صادقًا، لأن عبارة «س يوناني» مشمولة في عبارة «س إنسان» — على اختلاف القِيَم التي نفرضها للرمز س — فكأن مجمل قولنا في هذا الموقف هو: «إذا كان س يونانيًّا فإن س يكون إنسان» … هذا تعميم في القول، ولكنه مع ذلك لا يجعل القول قضية رياضية، لأن معناه معتمد على ثابتين، هما: يوناني، وإنسان؛ أما إذا خطونا خطوة أخرى، واستبدلنا بهذين الثابتين متغيرين، فإننا نحصل على جملة رياضية، لأننا سنحصل على الجملة الآتية: (إذا كانت أ، ب فئتين، ثم إذا كانت أ محتواة في ب، كان قولنا «س هي أ» متضمنًا لقولنا «س هي ب») − وهذه الأخيرة قضية من قضايا الرياضة البحتة، فيها ثلاثة متغيرات: أ، ب، س؛ وليس فيها من ثوابت غير الثوابت المنطقية وهي: «فئة» و«محتواة في» و«إذا كانت … كان …».
فمتى تكون القضية تحصيلًا لحاصل؟ تكون كذلك إذا حكمنا عليها بالصدق في جميع الحالات الممكنة، أي حين يستحيل أن تكون هنالك حالة تكذب فيها.
ذلك هو رأي وتجنشتين في تحصل الحاصل، ولشرح رأيه هذا ينبغي أن نبدأ أولًا بشرح نظريته في القضايا بصفة عامة.
ق | ك |
---|---|
ص | ص |
ك | ص |
ص | ك |
ك | ك |
ص = صادقة | ك = كاذبة |
ق | ك | |
---|---|---|
ص | ص | ك |
ك | ص | ص |
ص | ك | ص |
ك | ك | ص |
أو جدول كالآتي (وهو جدول يصور حالة القضية القائلة: «إذا صدقت ق صدقت معها ك»).
ق | ك | |
---|---|---|
ص | ص | ص |
ص | ك | ك |
ك | ص | ص |
ك | ك | ص |
على أنه بطبيعة الحال، لو كانت رموز القضايا لا نهائية العدد، فلا يمكن سردها كلها في جدول الصدق؛ ولا حاجة بنا لهذا السرد الكامل إذا استطعنا تحديدها بأية طريقة أخرى، وذلك ممكن باستخدامنا لدالات القضايا.
فبواسطة دالة القضية، مثل «س إنسان» يمكن تجميع كل القيم مهما تكن قيمة س … فالعبارة «س إنسان» تطوى تحتها كل القضايا التي من قبيل «أ إنسان» و«ب إنسان» … إلخ.
وبناءً على ذلك تكون العبارة التي فيها «كل» أو «بعض» عبارة عن دالة قضية.
ولو أننا أنشأنا جدولًا لدالة الصدق للعبارة التي فيها «كل»، فإننا سنقبل من الحالات الممكنة كلها حالة واحدة فقط، هي التي يكون فيها جميع القضايا الذرية صادقًا، ونرفض الحالات الأخرى جميعًا.
لكننا لو أنشأنا جدولًا لدالة الصدق بالنسبة للعبارة التي فيها «بعض» فإننا سنقبل كل الممكنات ولا نرفض إلا حالة واحدة فقط، هي التي تحكم على كل القضايا الذرية بالكذب.
وبعد هذا التحليل نعود فنقول إنه قد تعرض لنا في دالات الصدق حالتان متطرفتان لهما بالغ الأهمية: إحداهما حين نوافق على كل ممكنات الصدق، والأخرى حين نرفض كل ممكنات الصدق.
فالقضية التي من الفرع الأول تسمى تحصيلًا لحاصل، والتي من النوع الثاني تسمى تناقضًا.
- (١)
حالة تحصيل الحاصل (كما هي الحال في قولنا إما ق أو لا − ق)
ق صادقة صادقة كاذبة صادقة مثل هذه الدالة — في الدول السابق — لا يثبت لنا شيئًا، إذ هي لا تفيدنا بنبأ جديد؛ فأنت تعرف شيئًا عن الجو إذا علمت أنه إما ممطر أو غير ممطر.٢٣ - (٢)
حالة التناقض (كما هي الحال في قولنا ق، لا − ق معًا)
ق ص ك ك ك وهذا معناه أن ق لا هي صادقة ولا كاذبة، وهو تناقض واضح، لا يمثل حالة ممكنة من حالات الواقع.٢٤
مثال ذلك: أننا نستخدم ٢ × ٢ = ٤ (وهي قضية رياضية) لنستدل من قولنا «لي جيبان وفي كل منهما قرشان» (وهي قضية غير رياضية)، لنستدل من هذا القول قولًا آخر هو «عندي أربعة قروش في جيبيَّ» (وهي أيضًا قضية غير رياضية). أما عبارة «٢ × ٢ = ٤» نفسها فليست قضية بالمعنى الصحيح، لأنها تحصيل حاصل لا يحتاج في تأييده إلى خبرة من خبرات الحس.
هذا تحليل نخلص منه إلى أن الرياضة تتميز بخصائص ثلاث: أولاها أن القضية الرياضية يتوافر لها الصدق إذا لزمت لزومًا منطقيًّا عن مقدماتها، فليس صدقها مرهونًا بمطابقتها للواقع؛ وثانيتها أن القضية الرياضية إذا حللتها وجدتها لا تشتمل على رموز ثابتة المعنى، بل هي تشتمل فقط على متغيرات (مثل س، ص، ط … إلخ) وليس فيها من الثوابت إلا الثوابت المنطقية وحدها؛ وثالثتها أن القضية الرياضية تحصيل حاصل، لأنها تصدق على الحالات الممكنة كافة، والقضية التي هذا شأنها (كقولنا: إما «ص» أو «لا − ص») لا يتقيد صدقها بحالة جزئية معينة، ولا تتعرض للكذب قط، لكنها أيضًا لا تكفي وحدها لاستدلال شيء عن حالة الواقع.
فبماذا تسمي هذا التحليل للرياضة؟ إنه ليس جزءًا من العلم الرياضيِّ ذاته، بل هو كلام إن يكن خارج حدود العلم الرياضي، إلا أنه متعلق به، فهو فلسفة له؛ وذلك هو ما نعنيه بقولنا إن فلسفة العلم المعين هي تحليلات منطقية لمدرات ذلك العلم وقضاياه، وفلسفة العلم على إطلاقه هي التحليل الذي يستخرج الإطار المنطقي لبنية العلم كائنًا ما كانت مادته، وقد تسمى كذلك باسم «مناهج البحث».
وهو مقال ورد في صدر كتاب Readings in the Philosophy of Science الذي قامت هي وHerbert Feigl على نشره.
«إذا كنا نبحث ونحلل ونصف لغة ما «ل١» فإننا بحاجة إلى لغة أخرى «ل٢» نصوغ فيها نتائج بحثنا في «ل١»، أو نصوغ فيها قواعد استخدام «ل١»، في هذه الحالة نسمي «ل١» «اللغة الشيئية»؛ ونسمي «ل٢» «اللغة الشارحة» … فلو كنا نصف بالإنجليزية التركيب النحوي للغة الألمانية الحديثة أو اللغة الفرنسية الحديثة، أو لو كنا نصف التطور التاريخي لصور الكلام. أو نحلل المؤلفات الأدبية في هاتين اللغتين؛ عندئذٍ تكون الألمانية والفرنسية بالنسبة لنا هي لغتي الأشياء، وتكون الإنجليزية هي اللغة الشارحة … وقد تكون اللغة الواحدة هي لغة الأشياء، ولغة الشرح في آن معًا، مثال ذلك حين نتحدث بالإنجليزية عن النحو الإنجليزي أو الأدب الإنجليزي … إلخ».
Rudolf Carnap, Introduction to Semantics، ص٤.
على أن رسل يعود فيدخل بعض التعديلات على هذا التعريف. انظر مقدمته للطبعة الثانية من كتابه المذكور.