بناء العلم الصوري
١
- (١) يبدأ بتعريفات للألفاظ الرئيسية التي ينوي استخدامها؛ والتعريف هنا يكون «اشتراطيًّا».١ بمعنى أن العالم ها هنا من حقه أن يُعَرِّف اللفظة التي سيستعملها في بنائه العلمي، بما شاء من معنى، على شرط أن يلتزم هذا التعريف في بنائه العلمي كله.
- (٢) تأتي بعد ذلك طائفة من فروض، يُفرض فيها الصدق بغير برهان:
- (أ) إما لأنها مستقاة من علم سابق منطقيًّا على العلم الذي نحن بصدده، وإذن فبرهانها يكون من شأن ذلك العلم السابق لا من شأن هذا العلم — وهذه هي البديهيات.٢
- (ب) وإما لأنها فروض خاصة بهذا العلم الذي نحن بصدد بنائه، نفترضها افتراضًا ولا ندعي أنها مستندة إلى برهان، وعلى القارئ أن يقبلها كما هي، على أن يكون من حقه بعد ذلك أن يطالبنا بأن تكون كل النظريات الواردة في العلم الاستنباطي الذي نقيم بناءه، متمشية مع تلك الفروض وغير متناقضة معها — وهذه الفروض هي ما نسميه بالمصادرات.٣
- (أ)
- (٣) ومن التعريفات والفروض المسلَّم بصحتها منذ البداية، ننتقل بطريقة استنباطية إلى ما يترتب عليها من نتائج، فنسمي هذه النتائج بالنظريات.٤
من ذلك يتبين أن العلم الصوري يتميز بصفة التسليم الافتراضين فإذا صدقت كل مُسَلَّماته الأولى — البديهيات والمصادرات — كانت نظرياته صادقة؛ فصدق النظريات فيه متوف على صدق المسلَّمات الأولى، وليس من شأنه أن يقيم البرهان على تلك المسلمات، بل هو يفترضها افتراضًا، ثم عليه بعد ذلك أن يلتزم حدودها في استنباطه كلَّ ما يلزم عنها من نظريات، وذلك على خلاف العلم المادي الذي لا يفترض صدق شيء في بداية شوطه، وإنما يجعل البداية حقائق صادقة فعلًا بحكم ما شهدته الحواس من جزئيات.
إنك إذ تقول لمن تجادله الحجة: «افرض جدلًا أن كذا وكذا صادق، لنرى ماذا عسى أن يترتب عليه من النتائج» فإنك في هذه الحالة تسير في حجتك سيرًا صوريًّا استنباطيًّا، أما إذا اقتضاك الأمر أن تتحقق من الصدق الفعلي لما افترضت فيه الصدق بادئ ذي بدء، فعندئذٍ يكون سيرك في التفكير على غرار ما تسير عليه العلوم المادية الاستقرائية.
نقول إنه لا يتحتم على العلم الصوري المعين — كالهندسة مثلًا — أن يكون له «نسق استنباطي» بذاته لا يتغير؛ بل للعالم الصوري أن يفرض أي فرض شاء، ثم يلتزمه بعد ذلك في استنباط نظرياته؛ لكن إذا تعددت النسقات الصورية لعلم واحد، فيستحيل أن تكون كلها صادقة صدقًا ماديًّا، لأن الصدق المادي لا يكون إلا على صورة واحدة؛ ومن ثم ترى فرقًا جوهريًّا بين العلم الصوري والعلم المادي، فبينما صدق العلم الصوري لا يتطلب إلا أن تكون فروضه متسقة بعضها مع بعض، وليس بينها تناقض، ولذلك قد يتعدد فيه الصدق، بمعنى أن قد تجد لعلم الهندسة مثلًا أكثر من نسق واحد؛ ترى صدق العلم المادي يتحتم فيه التطابق التام بين قضاياه وبين الواقع الخارجي، ولذلك يستحيل فيه تعدد الصدق، إذ لا يصوِّر العالَم الخارجيَّ تصويرًا صحيحًا إلا صورة واحدة.
قلنا إن العالم الصوري وهو يبني «نسقه الاستنباطي» حُرُّ في فرض ما شاء من فروض، لا يحدده في ذلك إلا أن يجيء «النسق» خاليًا من التناقض؛ ودراسة الظروف التي تجعل «النسق الاستنباطي» نسقًا صحيحًا خاليًا من التناقض، هو موضوع «منهج البحث الصوري» أو ما قد يسمى ﺑ «فلسفة العلم الصوري»، وهو ما يقابل «منهج البحث المادي» في العلوم الطبيعية.
•••
ونعود إلى ذكر خطوات السير في بناء «النسق الاستنباطي» في شيء من التفصيل.
التعريف
فلا مندوحة — إذن — عن ترتيب العلوم بالنسبة لدرجة تعميمها واعتماد بعضها على بعض، لكي نعلم — عندما نبني «نسقًا استنباطيًّا» لأي علم منها — ما الحدود والعلاقات التي يجوز لهذا العلم المعين أن يستخدمها بغير تعريف مستندًا إلى استخدامها في علوم سابقة عليه في سلم التعميم؛ نقول إن أولى خطوات العالم وهو يبني نسقه الاستنباطي الذي يستعين به في استنتاج نظريات علمه، هي تحديد الألفاظ الهامة التي يستعملها في بحثه، أعني هي «الحدود» و«العلاقات» التي سيجعلها مدار بحثه؛ فإن كان علمه مسبوقًا في سُلَّم التعميم بعلوم أخرى، جاز له أن يستعمل الألفاظ التي استخدمتها تلك العلوم السابقة، بغير حاجة منه إلى تحديدها وتعريفها، وأما إن كانت الألفاظ جديدة مستحدثة خاصة بمجال بحثه هو، كان عليه إما تعريفها، أو الاعتراف بأنها «لا مُعَرَّفات» يتركها بغير تعريف.
ومن أمثلة التعريفات التي قَدَّم بها إقليدس كتابه في الهندسة (وهو كتاب — كما قلنا — يُعَدُّ نموذجًا لبناء النسق الاستنباطي) ما يأتي: (سنحتفظ للتعريف برقمه في القائمة الأصلية).
(١) «النقطة» هي ما ليس له أجزاء.
(٢) «الخط» هو طول بغير عرض.
(٥) «السطح» هو ما له طول وعرض فقط.
(٢٣) الخطوط المستقيمة المتوازية هي خطوط مستقيمة لا تلتقي في أي من الطرفين — إذا كانت كلها في مسطح واحد — مهما امتدت حتى اللانهاية.
نلاحظ أن «إقليدس» في تعريفاته هذه قد استخدم ألفاظًا فرضها فرضًا بغير تعريف، كأنما يَعُدُّها من قبيل «اللامُعَرَّفات» مثل «جزء» (في تعريفه للنقطة) ومثل «مستقيم» و«لا نهاية» (في تعريفه للتوازي).
البديهيات
إن من أهم الأمور في بحث التفكير الاستنباطي، أن نسأل: ما البديهية؟ — لأن البديهيات هي من الخطوات الأولى التي نفرضها لنستنتج منها نظريات العلم الذي نكون بصدد بحثه — ولسنا نستطيع أن نوافق على الجواب الذي كان يجاب به عن هذا السؤال: بأن البديهية هي ما يكون صادقًا بالضرورة؛ لأننا لا ندري ما معنى هاتين اللفظتين «صادق بالضرورة»؟ كلا، ولا نرى أن استخدام البديهيات في بناء النسق الاستنباطي متوقف على كونها صادقة؛ فقد تفرض — كما فرض إقليدس — بديهية عن المكان بأنه مستو، ثم تبني بناءك الهندسي على هذا الأساس؛ ثم قد «تنكر» — كما فعل لوباشوفسكي — استواء المكان وتفرض بديهية أخرى، وهي أن المكان منحنٍ، وتبني بناءك الهندسي على هذا الأساس أيضًا.
إذن فلا غناء في قولنا عن البديهية إنها «واضحة بذاتها» دون أن نسأل بالتالي: كيف يكون الشيء واضحًا بذاته؛ ثم لا صدق في قولنا عن البديهية إنها ما يكون صادقًا بالضرورة، إذ — كما رأينا — لا يتحتم أن تكون البديهيات صادقة فعلًا، بل يكفي فيها «افتراض» الصدق.
وعلى ذلك فكل علم بعد المنطق في سُلَّم العلوم، يأخذ مبادئ المنطق على أنها «بديهيات»، فالحساب — مثلًا — لا يهتم بإقامة البرهان على أن الشيء إما أن يكون «أ» أو «لا − أ»؛ والهندسة تأخذ فروض الحساب — إلى جانب المنطق — على أنها «بديهيات» فتراها تسلِّم بأنه «إذا أضيفت كميات متساوية إلى كميات متساوية كانت النتائج كميات متساوية».
ويتضح من هذا أن العلم من العلوم الدنيا في سُلَّم التعميم، كعلم الحياة — مثلًا — أو علم النفس، يكون قائمًا على بديهيات كثيرة جدًّا، لأنه يقوم على فروض استمدها من العلوم السابقة جميعًا؛ على حين أن منطق القضايا في علم المنطق لا يشتمل على بديهية واحدة.
المصادرات
إلى هنا سار العالِم الذي يبني نسقًا استنباطيًّا، خطوتين: ففي الخطوة الأولى حدد الألفاظ التي ينوي استخدامها في علمه، وفي الخطوة الثانية استعار ما يلزمه من فروض العلوم السابقة لعلمه فَسَلَّم بها تسليمًا واتخذها أساسًا، وهي ما نسميه بالبديهيات.
أما الخطوة الثالثة، فهي أن يفرض من عنده هو فروضًا يطالبنا معه بالتسليم بصدقها، لتكون إلى جانب البديهيات أي طائفة المسَلَّمات الأساسية التي تنبني عليها نظريات علمه كلها؛ والفرق بين المصادرات والبديهيات، هو — كما أسلفنا — أن المصادرة تَسْتخدم في تركيبها ألفاظًا جديدة لا تستعملها العلوم السابقة وهذه الألفاظ إما أن تكون مما لا تعريف له عند هذا العلم، وهو ما نسميه «باللامُعَرَّفات»، أو تكون ذات تعريف تدخل في بنائه هذه «اللامُعَرَّفات» وسواء كانت هذه أو تلك، فهي على كل حال ألفاظ جديدة لم تَرِدْ في العلوم السابقة.
إن للعالِم الصوري الحق في فرض ما شاء من مصادرات، حتى وإن كانت هذه المصادرات مما يتنافى مع واقع العالَم كما تشهده الحواس؛ له مثلًا أن يبدأ بحثه بقوله: افرض أن المكان مسطح، أو افرض أنه مستدير، أو افرض أنه مثلث، دون أن يكون لنا نحن الحق في معارضته بقولنا: بل إنه كذا أو كيت، لأن المصادرة مجرد فرض يفرضه العلم الصوري، وليس تقريرًا وصفيًّا لجزء من أجزاء الطبيعة، حتى يجوز لنا أن نقول عنه إنه تقرير أصاب في الوصف أو أخطأ.
كل ما نطالب به العالِم الصوري في فرض مصادراته هو ألا يكون تناقض بين تلك المصادرات، أعني ألا يفرض صدق نقيضين معًا، فعلم الحساب الذي يطالبنا بافتراض أن ٢ + ٢ = ٤ لا يجوز له أن يطالبنا في الوقت نفسه بأن ٢ + ٢ = ٥ أيضًا؛ لأن علم الحساب — باعتباره تاليًا للمنطق في قائمة العلوم — لا بد أن يراعي مبادئ المنطق، ومن مبادئ المنطق ألا يجتمع النقيضان.
كذلك مما يجب للعالِم الصوري أن يراعيه في فرض مصادراته، أن تكون كل مصادرة «مستقلة» عن سائر المصادرات، بمعنى ألا تكون مما يمكن استنتاجه من المصادرات الأخرى؛ وإلا فلو أمكن استنتاجها من سواها، كانت نظرية من نظريات العلم الذي نحن بصدده، ولم تكن مصادرة مفروضة علينا بغير برهان؛ وواضح أيضًا أنه من الضروري للعالم الصوري أن يفرض من المصادرات ما يكفي للبرهنة على نظرياته كلها؛ فمصادرات الهندسة — مثلًا — تكون «كافية» لو أمكننا بها أن نقيم البراهين على كل خصائص النقط والخطوط والسطوح والأجسام.
نعود فنذكر هذه الحقيقة الهامة مرة أخرى، وهي أن العالِم الصوري ليس مسئولًا عن الصدق الفعلي لمصادراته التي يفرضها، إنه بمثابة من يغلق دونه أبواب داره، وأمامه «فروض» فرض فيها الصدق، وكل مهمته أن يستولد هذه الفروض كل ما تحتمل من نتائج، هي «النظريات» على أنه قد يجيء بعد ذلك عالِم آخر في عصر آخر، فيحقق لذلك العالِم الصوري مزاعمه تحقيقًا فعليًّا، وعندئذٍ يكمل بناء العلم، لأن بقية البناء — وهي النظريات — كانت قد كملت فعلًا على يدي العالِم الأول، ولم يبق إلا أن يثبت صدق المزاعم التي فرض فيها الصدق بغير برهان، فإقليدس — مثلًا — يفرض فرضًا، هو أن المكان مسوٍ، ويبني على هذا الفرض نظرياته، فإذا ما جاء عالِم آخر وحقق أن المكان مستوٍ فعلًا تكامل الصدق للبناء كله، وإلا فستظل نظريات إقليدس صادقة «على فرض» أن زعمه الأول صادق.
- (١)
يمكن رسم خط مستقيم بين أي نقطتين.
- (٢)
أي خط مستقيم محدود الطرفين يمكن امتداه امتدادًا متصلًا في خط مستقيم.
- (٣)
يمكن لأي نقطة أن تكون مركز الدائرة، وأن يكون نصف القطر في هذه الدائرة أي بعد كما تشاء.
- (٤)
كل الزوايا القائمة متساوية.
- (٥)
إذا قطع خط مستقيم خطين مستقيمين بحيث كانت الزاويتان الداخليتان في أحد الجانبين أقل من زاويتين قائمتين. فإن الخطين إذا امتدا إلى ما لا نهاية، يتلاقيان في هذا الجانب الذي تكون فيه الزاويتان الداخليتان أقل من قائمتين.
- (٦)
الخطان المستقيمان يتقاطعان في نقطة واحدة فقط.
ما دامت هذه المصادرات خالية من التناقض، أي ما دامت إحداها لا تناقض الأخرى، فهي متسقة ومقبولة.
والحقيقة هي أن افتراضنا الصدق في نقيض المصادرة الخامسة؛ لا يتنافى مع بقية المصادرات؛ أي إننا نستطيع أن نستبدل بالمصادرة الخامسة نقيضها، وتظل مجموعة المصادرات الست على حالها من الاتساق الذي يبرر قبولها، فأوحى هذا إلى «لوباشوفسكي» الرياضي أنه من الممكن بناء هندسة تفرض المصادرات الأربع الأولى، ومعها نقيض المصادرة الخامسة؛ ومثل هذه الهندسة لا تكون إقليدية في نظيراتها لأنها رغم اتفاقها مع هندسة إقليدس في نظريات كثيرة، إلا أنها تختلف وإياها في نظريات أخرى هامة، من ذلك أن «مجموع زوايا المثلث تكون أقل من ١٨٠ درجة» وأنه «من نقطة ما خارج خط، يمكن رسم أكثر من خط واحد تكون كلها متوازية مع الخط الأصلي، مع أنها تكون كلها في مستوى أفقي واحد».
وليست هندسة «لوباشوفسكي» هي وحدها التي يمكن بناؤها بناءً متسق الأجزاء، رغم كونها «لا إقليدية» النظريات، بل إن رياضيًّا آخر، هو «ريمان» افترض عدم صدق المصادرة السادسة من مصادرات إقليدس، وبذلك تصبح المصادرة الخامسة نظرية، أي ممكنة البرهان، أي يمكن استنتاجها من المصادرات الأخرى؛ ففي هندسة «ريمان» يستحيل في أي مستوى أفقي واحد أن ترسم خطوط متوازية، لأن كل الخطوط التي نرسمها في أي مستوى، لا بد أن تتقاطع؛ كذلك من نظريات هندسة «ريمان» أنه لا يمكن من نقطة ما خارج خط معين، أن يُرسم أي خط مواز له وفي مستواه (ومن ثم تصدق المصادرة الخامسة من مصادرات إقليدس)؛ ومن نظريات هندسة «ريمان» أيضًا أن «مجموع زوايا المثلث أكبر من ١٨٠ درجة».
أهمية هذا كله لنا في دراستنا لبناء «النسق الاستنباطي» هي توضيح مبدأ المصادرات الذي يقتضي أن تكون كل مصادرة مستقلة عما عداها بحيث لا يمكن استنتاجها من غيرها، على شرط ألا تجيء متناقضة مع مصادرة أخرى، فلقد شرحنا لك كيف أمكن — في مجموعة مصادرات «إقليدس» — أن يتسق نقيض المصادرة الخامسة مع بقية المصادرات، مما يدل على أنها قائمة بذاتها، غير مستنتجة من سواها، لأنها لو كانت نتيجة لغيراه، لاستحال لنقيضها أن يكون مُتَّسِقًا مع بقية المصادرات.
وكذلك تبين لنا مما أسلفناه، كيف يمكن بناء أكثر من نسق استنباطي واحد في العلم الواحد، ما دمت تغير في المصادرات؛ فها هو ذا «إقليدس» قد فرض ست مصادرات وأقام على أساسها بناءه الهندسي، وجاء «لوباشوفسكي» وغير من المصادرات فاستطاع إقامة بناء هندسي آخر، ثم جاء «ريمان» وغيَّر مرة أخرى من المصادرات، فاستطاع إقامة بناء هندسي ثالث، وكل نسق من تلك النسقات الهندسية صحيح في ذاته، لأن أجزاء متسقة لا تناقض بينها، إذ الصواب في النسق الاستنباطي لا يكون عماده مطابقة الواقع، وإنما يكون مجرد اتساق الأجزاء بعضها من بعض.
النظريات
فرغنا الآن من دراسة ثلاث خطوات يبدأ بها العالِمُ الصوري سيره في بناء علمه: تعريف الألفاظ وإعلانه صراحة للبديهيات التي يستعيرها من العلوم السابقة لعلمه في سُلَّم العلوم، ثم فرضه طائفة من مصادرات يطالب القارئ بالتسليم بها بغير برهان. على أساس هذه المُسَلَّمات كلها يبني العالِمُ الصوريُ نظرياته مستنبطًا إياها من تلك المُسَلَّمات.
يقوم صدق «النظرية» في البناء الاستنباطي على أساس صدق الفروض الأولى، فهو صدق مشروط بصدق تلك الفروض فكأننا في بنائنا الاستنباطي بمثابة من يقول: إذا كانت هذه الفروض الأولى صادقة، فإنه ينتج عنها كذا وكذا من النظريات الصادقة.
ولا بد لأية نظرية من نظريات البناء الاستنباطي، أن يكون البرهان على صدقها قائمًا على أساس التعريفات والمُسَلَّمات التي بدأنا بها العلم نفسه الذي نكون بصدد بحثه، ولا يجوز أن تبرهن على نظرية في علم ما بمسَلَّمات وتعريفات علم آخر؛ ولا يجوز كذلك أن يقوم البرهان على مزاعم نفرضها ضمنًا لا تصريحًا، مهما كانت تلك المزاعم واضحة الصدق، إذ لا بد لك أن تضع كل ما تريد أن تزعم له الصدق وضعًا صريحًا في قائمة المصادرات الأولى، حتى إذا ما طولبت بالبرهان على نظرية ما، رجعت إلى تعريفاتك ومصادراتك المذكورة في أول النسق ذكرًا صريحًا.
وإذا ما بنى العالِم الصوري نظرية ما على تعريفاته ومُسَلماته الأولى، كان له الحق بعد ذلك أن يستخدمها هي نفسها في البرهان على غيرها.
ونسوق فيما يلي مثلًا من «إقليدس» نبين به كيف يقيم البرهان على تعريفاته ومصادراته، كما نبين به كيف يعاب على «إقليدس» استناده أحيانًا إلى فروض غير مذكورة ذكرًا صريحًا بين التعريفات والمسلمات.
نظرية: المفروض خط مستقيم (محدود بطرفين) أ ب إذن فمن الممكن إنشاء مثلث متساوي الأضلاع على الخط أ ب.
البرهان
-
(١)
اجعل نقطة أ مركزًا لدائرة، نصف قطرها أ ب، وارسم الدائرة (هذا ممكن بمقتضى مصادرة ٣).
-
(٢)
اجعل نقطة ب مركزًا لدائرة، نصف قطرها ب أ، وارسم الدائرة (نفس المصادرة السابقة).
-
(٣)
لما كانت الدائرتان ستتلاقيان في نقطة ﺟ، فإن خط أ ب وخط أ ﺟ يكونان متساويين لأنهما نصفا قطر لدائرة واحدة (بمقتضى تعريف الدائرة).
-
(٤)
كذلك الخط ب أ والخط ب ﺟ نصفا قطر لنفس الدائرة، إذن فهما متساويان.
-
(٥)
وإذا كان أ ﺟ = أ ب
، ب ﺟ = أ ب
∴ أ ﺟ = ب ﺟوذلك بناءً على بديهية أخذتها الهندسة من الحساب، إذ يزعم علم الحساب أن الأشياء المتساوية مع شيء واحد بذاته، تكون هي نفسها متساوية.
-
(٦)
إذن يكون أ ب = أ ﺟ = ب ﺟ.
ويكون المثلث أ ب ﺟ مثلثًا متساوي الأضلاع.
ها هنا في هذا البرهان، يؤخذ على «إقليدس» أنه رغم مراعاته كثيرًا من الدقة الاستنباطية في بناء برهانه على أساس التعريفات والمسلمات. قد أخطأ منطقيًّا حين اعتمد في بعض المواضع على فروض قائمة ضمنًا لا تصريحًا.
- (١)
قد افترض أن الدائرتين المرسومتين من مركزًا أ ومركز ب على التوالي، ستتلاقيان في نقطة ﺟ، فكيف وثق من ذلك؟ نعم إنه بالنظر إلى الخط أ ب، وبالتصور الخيالي نستطيع أن نعلم أنه ما دامت الدائرة المرسومة من مركز أ، سيكون نصف قطرها أ ب، والدائرة الموسومة من مركز ب، سيكون نصف قطرها ب أ، فمن المستحيل ألا تتلاقى الدائرتان في نقطة ما؛ إن الخيال محال عليه أن يتصور غير ذلك، ومع هذا فَتَرْكُ الأمر للافتراض الضمني غير جائز، وكان كمال التفكير الاستنباطي يقتضيه أن يذكر هذا الزعم بين المصادرات المفروضة، حتى يبني برهانه كله على ما هو مذكور من فروض وتعريفات.
- (٢)
لما تلاقى الخطان أ ﺟ، ب ﺟ في نقطة ﺟ، قال «إقليدس» في برهانه: إذن فالمثلث أ ب ﺟ … إلخ − فكيف عرف أن هذه الخطوط الثلاثة أ ب، ب ﺟ، أ ﺟ تكون مثلثًا؟ إن تعريف المثلث الذي قدَّمه هو: سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، فهو بافتراضه أن أ ب ﺟ مثلث قد افترض ضمنًا أن السطح هنا مستو، وكان ينبغي ذكر ما يريد افتراضه ذكرًا صريحًا.
(أ) تساوي البناءات الرياضية
إن من أهم أركان المنهج الرياضي أن نتبين في وضوح أنه ليس هنالك قضايا لا تحتاج بطبيعتها إلى برهان؛ فإذا لم نتبين هذه الحقيقة وقعنا فيما وقع فيه الفلاسفة من خطأ الظن بأن بعض القضايا هو واضح بذاته، إذ قد تظن خطأ أنه ما دامت قضية ما في بناء رياضي معين مقبولة الصدق دون أن يكون صدقها هذا مستندًا إلى مقدمات سبقتها في ذلك البناء، فلا بد أن يكون صدقها أمرًا بديهيًّا واضحًا بذاته ولا يحتاج إلى برهان.
وإنه لمما يلقي الضوء على حقيقة الأمر في هذا الموضوع هو ما يكون بين بناءين رياضيين من تساوٍ دون أن يكون هان البناءان متحدين اتحادًا ذاتيًّا، بمعنى أن أحدهما هو نفسه الآخر، فالمسلَّمات هنا هي نفسها المسلمات هناك؛ أي إن البناءين الرياضيين قد يتساويان على الرغم من أن قضية ما في أحد البناءين ترد أسبق من سواها، وتكون سندًا لصدقها، إذ تكون مقدمة أو جزءًا من المقدمة التي تلزم عنها القضية الثانية؛ مع أن هذه القضية السابقة نفسها قد ترد في البناء الرياضي الآخر نتيجة لا مقدمة للقضية الثانية؛ وبعبارة أخرى فإذا فرضنا أن القضية أ في أحد البناءين المتساويين هي إحدى المسلمات بالنسبة للقضية ب، فقد نجد الوضع معكوسًا في البناء الآخر، فتكون القضية ب هي المسَلَّة بالنسبة للقضية أ.
ومؤدَّى ذلك أن القضايا المسَلَّمة إنما تكون مُسَلَّمة لا لوضوح ذاتي فيها لا يقبل البرهان بل تكون مسلَّمة في بناء رياضي معين دون سواه، وقد تعود هي نفسها في بناء آخر فتكون هي النتائج التي يقام عليها البرهان بما اتُّخذ في البناء الآخر من مسلَّمات؛ ويتساوى البناءان الرياضيان إذا اشتَملا على الفروض والنظريات ذاتها، بغض النظر عما يكون فرضًا أو يكون نظرية، فيكفينا أن كل ما يرد في أحد البناءين يرد في البناء الآخر، مهما اختلف بعد ذلك الوضع بالنسبة إلى قضية ما: أهي فرض من المسلَّمات أم هي نتيجة من النتائج المقام عليها البرهان، فإذا كانت كل مسلَّمة في أحد البناءين هي في البناء الثاني إما مسلَّمة أو نظرية، وكل مسلمة في البناء الثاني هي إما مسلمة أو نظرية في البناء الأول، فالبناءان متساويان صوريًّا.
وما قلناه عن القضايا نقوله أيضًا على الحدود، فكما أنه ليس هناك قضية ما واضحة بذاتها ولا بد أن تكون دائمًا ضمن المسلَّمات، بل قد تكون القضية المعينة مسلمة في بناء رياضيٍّ ما ونظرية مستنبطة في بناء رياضي آخر، فكذلك ليس هنالك حدود بذاتها لا بد أن تقبل دائمًا بغير تعريف لتكون أساسًا لتعريف غيرها من الحدود، فالأمر هنا نسبي أيضًا، فقد تبدأ بناءً رياضيًّا معينًا ببضعة كلمات تأخذها بغير تعريف، لتعرِّف بها غيرها، ثم يحدث في بناء رياضي آخر أن تجعل اللامُعَرَّفات من بين الكلمات التي كانت مُعَرَّفة في البناء الأول، وأن تجعل لا مُعَرَّفات البناء الأول بين ما يُعَرَّف في البناء الثاني؛ فمن حق الرياضي مثلًا أن يجعل كلمة «النقطة» مقبولة بغير تعريف، ثم يُعَرِّف بها الخط، كأن يقول — مثلًا — عن الخط إنه نقطة متحركة في اتجاه ما، ومن حقه أيضًا أن يجعل كلمة «الخط» مقبولة بغير تعريف، ثم يُعَرِّف بها النقطة، كأن يقول عنها — مثلًا — إنها هي الجزيء اللامتناهي في الصغر والذي ينقسم إليه الخط؛ ومن ثم فقد اختلف الرياضيون في الطريقة التي وضعوا بها هندسة إقليدس؛ فبينما ترى هلبرت يجعل لها واحدًا وعشرين فرضًا، تحتاج من الحدود إلى خمسة لا مُعَرَّفاتِ، ومن تلك الفروض وهذه اللامعرفات يستنبط النظريات جميعًا، ترى فبلن يكتفي باثني عشر فرضًا تحتاج إلى حدين لا مُعَرَّفَين فقط، ومنها يستنبط النظريات جميعًا؛ والبناء الرياضي في كلتا الحالتين هو نفسه هندسة إقليدس.
فالمسألة في ترتيب المسلَّمات والنظريات في إقامة البناء الرياضي ليس محتومًا لها أن تجيء على صورة واحدة، بحيث يجوز لنا أن نقول عن قضية ما إنها واضحة بذاتها حتمًا ولا بد أن تساق بين المسلمات حتمًا، وعن قضية أخرى إنها نتيجة متولدة عن غيرها حتمًا ولا بد أن تجيء مسبوقة بمقدمات حتمًا، بل الأمر في ذلك نسبي كما رأيت.
وربما ازداد الأمر وضوحًا إذا نحن فرقنا — كما فرق أرسطو — بين الترتيب الزمني في عملية استخراج النتائج من مقدماتها، والترتيب المنطقي لما بين المقدمات والنتائج من لزوم؛ فمن حيث الترتيب الزمني تُستكشف المسلمات بعد النظريات، لكن المسلمات تسبق النظريات من حيث الترتيب المنطقي؛ فكأنما سأل إقليدس نفسه قائلًا: على فرض قبولنا للنظريات الهندسية التي نراها مستعملة استعمالًا تطبيقيًّا، فما هو أقل عدد ممكن من الفروض التي يمكن لهذه النظريات أن تُستدل منها؟ فها هنا قد ينشأ الاختلاف بين رياضييْن: فأحدهما قد يجد أن النظريات المشار إليها تحتاج — مثلًا — إلى عشرين فرضًا لتنبني عليها كنتائج مستنبطة، على حين أن الآخر قد يجد أنه يستطيع أن يختصر هذا العدد، أو أنه يستطيع أن يجعل من النظريات ما هو بالنسبة لغيره مسلمات مفروضة، وهكذا، وعلى كل حال فالبناء الرياضي في كلتا الحالين هو في صميمه واحد.
ولا بد هنا من الإشارة إلى نقطة هامة، وهي انطباق البناء الرياضي على الواقع: أهو شرط لصدقه؟ والجواب هو ما قد ذكرناه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، من أنه حتى إذا وجدنا بناءً رياضيًّا معينًا ينطبق على الواقع المادي فليس ذلك بموجب أن نقول إن صدقه متوقف على ذلك الانطباق، لأنه قد لا ينطبق، ومع ذلك يظل صادقًا من الناحية الرياضية، التي هي سلامة استنباط النتائج من مقدماتها، فإذا وجدت الرياضة سبيلها إلى التطبيق الفعلي كانت رياضة تطبيقية — أي إنها تكون عندئذٍ جزءًا من العلم الطبيعي — وإذا لم تجد سبيلها إلى التطبيق الفعلي ظلت رياضة بحتة.
٢
والفكرة الثانية خاصة بضرورة استخدام الرموز في بحثنا المنطقي الذي نحاول به أن نستخرج الأصول الأولية للفكر، فليست تقتصر فائدة الرموز على تمثيلها للأفكار، بحيث يدل كل رمز على فكرة معينة، بل هي كذلك تعين على عملية الاستدلال، فالغاية الرئيسية من استخدامنا للرموز في المنطق هي أن نتمكن من عرض البناء الرياضي في صورة منطقية دقيقة، وأن نتمكن أيضًا من التمييز بين النتائج التي استنبطناها من جهة، وبين الفروض التي اضطررنا اضطرارًا إلى افتراضها بادئ ذي بدء لتكون أساس ما يأتي بعد ذلك من استنباط لتلك النتائج، من جهة أخرى.
والتطابق الذاتي بين المنطق والرياضة، أو إن شئت فقل كون الرياضة جزءًا من المنطق واستمرارًا له، هو من أهم ما تصدى رسل لبيانه في كتبه «أصول الرياضة» و«برنكبيا ماثماتكا» (أسس الرياضة) و«مقدمة للفلسفة الرياضية».
ذلك لأن الرياضة لون من الدراسة، إذا ما بدأنا فيها من أجزائها المألوفة كالأعداد مثلًا، استطعنا أن نسير من تلك الأجزاء في أيٍّ من الاتجاهين، فإما إلى الأمام وإما إلى الوراء؛ والاتجاه المألوف المعهود عند معظم الناس هو السير بها إلى أمام، فمن نقطة البداية — الأعداد مثلًا — نمضي إلى دراسة الكسور. ومن عمليتي الجمع والطرح نمضي إلى دراسة الضرب والقسمة وما يتركب منهما من عمليات تزداد تعقيدًا وتركيبًا كلما علونا في سُلَّم الدراسة الرياضية.
وأما الاتجاه الثاني في دراسة الرياضة — وهو اتجاه لم يألفه من الناس إلا قِلَّة قليلة — فيسير من نقطة البداية إلى وراء، إذ يأخذ في تحليل تلك البداية نفسها، على اعتبار أنها في ذاتها نتيجة لعمليات فكرية سابقة لها، وإذن فهو اتجاه يحفر تحت تلك البدايات ليهتدي إلى أسسها، وما دامت تلك البدايات هي الخطوة الأولى في «الرياضة» كما يعرفها معظم الناس، إذن فتلك الأصول التي يخرجها لنا التحليل من وراء تلك البدايات، تكون جزءًا من علم آخر غير الرياضة وهو علم المنطق؛ وهي أصول تنطبق على الرياضة وغيرها من العلوم التي تأتي بعد الرياضة في سُلَّم التعميم.
•••
ونعود بالقارئ إلى ما ذكرناه له من خطوات إقامة البناء الصوري: فيبدأ الباحث بألفاظ يفرضها فرضًا بغير تعريف هي ما نسميه باللامُعَرَّفات. ثم بألفاظ أخرى هامة في موضوع بحثه يُعَرِّفها بواسطة اللامُعَرَّفات، ثم بطائفة من المسَلَّمات يفرض صدقها فرضًا على نفسه وعلى القارئ، يستخدم فيها الألفاظ التي بدأ بتحديدها، وبعد ذلك يأخذ في استنباط نظرياته، على أنه كلما استنبط نظرية، جاز له أن يستخدمها في استنباط نظرية سواها.
ومن أهم الألفاظ المنطقية، أعني الألفاظ التي تأخذها العلوم كلها بغير مناقشة معناها، والتي يكاد ينحصر عمل المنطق كله في تحديد معناها: «الإثبات»، ليس (أو النفي)، «و» «أو»، «يستلزم»، «يساوي»، «إذا» «كل»، «بعض».
ومن هذه الألفاظ المنطقية، بدأ كتاب «برنكبيا» بثلاثة، فرضها فرضًا بغير تعريف. هو لا يدعي أنها مستحيلة التعريف بغيرها، لكنه لم يحاول تعريفها، ثم استطاع رد سائر الألفاظ المنطقية إلى تلك الثلاثة المفروضة، أعني أنه عَرَّفَ سائر الثوابت المنطقية بتلك الألفاظ الثلاثة التي جعلها «لا مُعَرَّفَات» وبعدئذٍ فرض مصادرات طالب بتصديقها بغير برهان، والمصادرات مركبة من الألفاظ اللامُعَرَّفة والمُعَرَّفة معًا، وأخيرًا أخذ في استنباط نظرياته.
ويرمز للقضايا المثبتة بالرموز «ق» و«ك» و«ل» …
وتقرأ هكذا: قولنا إن القضية «ق» والقضية «ك» صادقتان، مساوٍ لقولنا إنه من الكذب أن يقال إما «ق» كاذبة أو «ك» كاذبة.
وبهذا أمكن تعريف الواو، بعلامتي النفي والبدائل.
ففي هذه العبارة يمكن الاستغناء عن أداة اللزوم على النحو الآتي:
وتقرأ هكذا: قولنا إن القضية «ق» يلزم عنها القضية «ك» مساوٍ لقولنا إنه إما أن تكون «ق» كاذبة أو تكون «ك» صادقة، وهو مساوٍ كذلك لقولنا إنه من الكذب أن يقال إن القضية «ق» تكون صادقة والقضية «ك» تكون كاذبة وي وقت واحد.
وبهذا أمكن تعريف «اللزوم» بعلامتي النفي والبدائل، كما أمكن تعريفه أيضًا بعلامتي النفي والعطف، والعطف بدوره يمكن تعريفه بعلامتي النفي والبدائل كما في تعريف (١).
ففي هذه العبارة يمكن الاستغناء عن علامة التطابق بعلامتي اللزوم والعطف [وهذان بدورهما كما رأينا في تعريف (١) وتعريف (٢) يمكن الاستغناء عنهما بعلامتي النفي والبدائل] على النحو الآتي:
وتقرأ هكذا: قولنا إن القضيتين «ق» و«ك» متساويتان، مساوٍ لقولنا إن «ق» يلزم عنها «ك»، وأيضًا «ك» يلزم عنها «ق».
المصادرات
قدمنا ثلاثة ألفاظ أولية بغير تعريف هي: الإثبات (أو القضية) والنفي، و«أو» استخدمناها في تعريف ثلاثة ألفاظ أخرى، هي «و» و«اللزوم» (أو «إذا») و«التساوي» — وها نحن أولاء نذكر المصادرات — أي المسَلَّمات المفروضة بغير برهان. فنكون بذلك قد وضعنا الأساس الذي يمكننا من استنباط النظريات؛ ومما تجدر ملاحظته هنا، أننا لم نذكر «بديهيات»، لأن «البديهية» هي التي يستعيرها علمٌ ما من العلم السابق عليه، أما ونحن بصدد المنطق الذي هو أسبق العلوم كلها في سُلم التعميم، بل نحن الآن بصدد منطق القضايا بصفة أخر، وهو سابق على منطق الفئات، فليس هنالك علم سابق نستعير منه شيئًا نقول عنه إنه بديهية وعلى ذلك فالمسلَّمات هنا مقصورة على «المصادرات» التي هي أقوال خاصة بالعلم نفسه، الذي نكون بصدد بحثه، ويُطْلَب التسليم بها بغير برهان؛ والمصادرات المطلوب التسليم بها هنا خمس، هي:
وتقرأ هكذا: إذا صدق قولنا «إما «ق أو ق» فإن القضية «ق» تكون صادقة.
وتقرأ هكذا: إذا كانت القضية «ك» صادقة، فإنه يصدق تبعًا لذلك قولنا إما «ق» صادقة أو «ك» صادقة.
وبعبارة أخرى، إذا صدقت قضية، أمكن أن تضاف إليها أية قضية أخرى بأداة البدائل، لأنه ما دام معنى أداة البدائل — التي هي «أو» — هو أن أحد البديلين على الأقل صحيح، فلا ينفى صحة أحد البديلين أن نضيف إليه بديلًا آخر، مثال ذلك: إذا كان قولنا «المطر هاطل» صادقًا، كان من الصدق أيضًا أن نقول: «إما أن يكون المطر هاطلًا أو تكون الشمس طالعة».
وتقرأ هكذا إذا كان قولنا: إما «ق» صادقة أو «ك» صادقة قولًا صحيحًا، فإنه يلزم عن ذلك صدق قولنا إما «ك» صادقة أو «ق» صادقة.
وتقرأ هكذا: إذا صدق قولنا: إما أن تكون «ق» صادقة أو تكون العبارة القائلة «إما ك أو ل» صادقة؛ فذلك يقتضي صدق قولنا أيضًا: إما أن تكون «ك» صادقة أو تكون العبارة القائلة «أما ق أو ل» صادقة.
وتقرأ هكذا: إنه إذا كان «ك» يلزم عنها «ل» فإن ذلك يقتضي أن عبارة «إما ق أو ك» يلزم عنها «إما ق أو ل» بعبارة أخرى: إن إضافة أي بديل إلى المقدَّم والتالي معًا في القضية الشرطية، لا تغير من صدق هذه القضية.
النظريات
من التعريفات والمصادرات السابقة يمكن استخلاص كل النظريات المنطقية التي هي في الوقت نفسه أساس للبناء الرياضي من أوله إلى آخره.
وسنكتفي على سبيل التمثيل بالنظريات الآتية:
وتقرأ هكذا: إذا كانت «ق» تستلزم «لا − ك» فإن «ك» تستلزم «لا − ق».
مثال ذلك: إذا كانت الحرب تستلزم عدم الإنتاج، فإن الإنتاج يستلزم عدم قيام الحرب.
وتقرأ هكذا: إذا كانت «ك» تستلزم «ل» فإنه إذا كانت «ق» يلزم عنها «ك» فلا بد أن يلزم عنها كذلك «ل».
مثال ذلك: إذا كان العرب متصفين بالكرم، نتج عن ذلك أنه إذا كنت نسبة المرء إلى المصريين تجعله بالتالي منسوبًا للعرب، كانت نسبة المرء إلى المصريين تقتضي أن يوصف بالكرم.
وتقرأ هكذا: إذا كانت القضية «ق» تقتضي أن «ك» يلزم عنها «ل» فإن ذلك كله يستلزم أن تكون القضية «ك» مما يقتضي أن «ق» يلزم عنها «ل».
مثال ذلك: لو قلنا إن المرء حين يكون شابًا يكون كذلك صحيح البدن وبالتالي يكون سعيدًا، فإن ذلك يلزم عنه أن نقول إن المرء حين يكون صحيح البدن يكون كذلك شابًا وبالتالي يكون سعيدًا.
وحسبنا هذا القدر من نظريات «برنكبيا ماثماتكا»، لأن غايتنا من هذا الفصل هي توضيح الطريقة الاستنباطية في ذلك الكتاب، ونرجو أن نكون قد وفقنا إلى بلوغها.
٣
سنضرب فيما يلي مثلًا للبناء الرياضي ذلك الجزء من علم الحساب، الخاص بعمليتي الجمع والطرح، وعلاقتي «أكبر من» و«أصغر من» والألفاظ التي ستهمنا في البحث هي: «عدد»، «أصغر من»، «أكبر من»، «حاصل».
سنرمز بالرموز «س» «ص» «ط» … إلخ للأعداد، كل منها يرمز إلى عدد ما وسنرمز لطائفة الأعداد مجتمعة بالرمز «ن»، بحيث إذا فرضنا أن «س» عدد ما من طائفة الأعداد، كانت الصيغة التي تعبِّر عن علاقة «س» ﺑ «ن» هي:
كان معناها أن العدد «س» أصغر من العدد «ص»
كان معناها أن العدد «ص» أكبر من العدد «س»
وسنرمز لحاصل جمع عددين «س» و«ص» بهذه العلامة المألوفة «+» توضع بين العددين أو رمزيهما هكذا:
س + ص
وسنرمز بالعلامة «=» للتساوي، أو التطابق الذاتي بين حَدَّيْن.
(بديهية ١) بالنسبة لأي عددين «س» و«ص» (مأخوذين اتفاقًا من طائفة الأعداد «ن») لا بد أن تكون:
والآن سبيلنا أن نستنبط من هذه التعريفات والفروض والبديهيات، بعض ما يترتب عليها من نظريات:
(نظرية ١) العدد لا يكون أبدًا أصغر من نفسه:
البرهان: افرض خطأ هذه النظرية؛ إذن فسيكون هنالك عدد ما «س» يحقق الصيغة الآتية:
[أي: إذا كانت «س» أصغر من «س» إذن «س» ليست أصغر من «س»]
ومن السطرين (١)، (٢) ينتج أن:
(نظرية ٢) العدد لا يكون أبدًا أكبر من نفسه:
والبرهان هنا يتبع نفس الخطوات التي اتبعت في البرهان على (نظرية ١).
البرهان: أولًا يجب أن نبين أن الصيغتين:
صيغتان متساويتان، أعني أن الأولى تتضمن الثانية والثانية تتضمن الأولى. فلنبدأ بالصيغة:
بناءً على (بديهية ١) لا تخرج الحالة عن واحدة من الثلاثة الآتية، بالنسبة للعددين «س»، «ص»:
فلو كانت الحالة ها هنا هي أولى هذه الحالات الثلاث، أي لو كانت:
لكن هذه الصيغة تناقض (نظرية ١)، إذن:
وكذلك بناءً على (بديهية ٢) لا يمكن للصيغتين الآتيتين:
أن يصدقا معًا.
فبناءً على (١)، (٢)، (٣) يتحتم أن يكون:
فإنه ينتج — بحكم (بديهية ١) — أن.
وإذن ينتج أنه:
وهو المطلوب إقامة البرهان عليه
وتتبع هنا نفس طريقة البرهان التي اتبعت في (نظرية ٤).
(نظرية ٦) أي عددين «س» و«ص» لا بد أن يحققا حالة واحدة فقط من الحالات الثلاث الآتية:
البرهان: من (بديهية ١) ينتج أن حالة واحدة على الأقل من هذه الحالات الثلاث لا بد أن تتحقق [وقولنا «على الأقل» لا يتنافى مع وجود أكثر من حالة واحدة؛ فكأن (البديهية ١) لا تحتم وجود حالة واحدة فقط من هذه الحالات الثلاث].
ولكي نبرهن على أنه — بالنسبة لأي عددين — تكون الحالتان الآتيتان مستحيلتين معًا.
وكذلك يمكن بيان استحالة الجمع بين:
وأخيرًا نبين أن الصيغتين:
لا يمكن صدقهما معًا، لأنه — بمقتضى (نظرية ٣) — لو صدقت هاتان الصيغتان معًا، ينتج أن:
صادقتان معًا. وهو ما يناقض (بديهية ٢).
وعلى ذلك، فأي عددين «س» و«ص» لا بد أن يحققا حالة واحدة فقط من الحالات الثلاث المذكورة آنفًا.
وعلى ذلك فالصيغة:
تقرأ هكذا: («س» إما أن تكون أصغر من «ص» أو تكون مساوية ﻟ «ص»).
البرهان: هذه النظرية تنتج مباشرة عن (نظرية ٦)
لأنه إذا كانت الصيغة:
وكذلك إذا كانت الصيغة:
صادقة، فلا بد أن تصدق أيضًا العبارة الآتية:
ومن هذه العبارة ينتج — بحكم (تعريف ١) — أن:
لا بد أن تكون صحيحة.
وعلى ذلك فالصيغتان:
البرهان:
إذا كان:
إذن فبحكم (تعريف ١) ينتج:
أي إن قولنا عن «س» إنها أصغر من «ص» يمكن منطقيًّا ألا يتعارض مع قولنا إن «س» إما أن تكون أصغر من «ص» أو تكون مساوية ﻟ «ص».
فإذا استبعدنا حالة تساوي «س» و«ص»، فلا يبقى لنا إلا حالة واحدة وهي أن «س» أصغر من «ص».
قوانين الجمع والطرح
فرغنا من النظريات الخاصة بعلاقتي «أكبر من» و«أصغر من» في علم الحساب، ونتناول الآن جزءًا آخر من ذلك العلم وهو الجزء الخاص بعمليتي الجمع والطرح. وهو كأي جزء آخر من أي نسق استنباطي، يبدأ بمسَلَّمات يستخلص منها نظرياته.
وها نحن أولاء نذكر «البديهيات» الخاصة بهذا الجزء من علم الحساب، وسنرقمها بادئين من (٦) استمرارًا للبديهيات الخمس التي صدَّرنا بها الجزء السابق.
(بديهية ٦) بالنسبة لأي عددين «ص» و«ط» لا بد أن يكون هنالك عدد آخر «س» بحيث نجد أن:
س = ص + ط
(بديهية ٧) س + ص = ص + س.
(بديهية ٨) س + (ص + ط) = (س + ص) + ط.
(بديهية ٩) بالنسبة لأي عددين «س» و«ص» لا بد أن يكون هنالك عدد آخر «ط» بحيث نجد أن:
س = ص + ط
وفيما يلي النظريات التي يمكن استنباطها من تلك البديهيات — بادئين برقم (٩) استمرارًا للنظريات الثمان التي ذكرناها عن علاقتي «أكبر من» و«أصغر من».
(نظرية ٩) س + (ص + ط) = (س + ط) + ص.
البرهان: من بديهيتي (٧) و(٨) نحصل على ما يأتي:
ط + ص = ص + ط … (١)
س + (ط + ص) = (س + ط) + ص … … (٢)
وبناءً على قانون «ليبنتز» نستطيع وضع أي صيغة مكان الصيغة التي تساويها، فبناءً على (١) نستطيع في (٢) أن نضع «ص + ط» مكان مساويتها «ط + ص» فينتج أن:
س + (ص + ط) = (س + ط) + ص
(نظرية ١٠) إذا كانت «ص = ط» إذن يكون:
س + ص = س + ط
البرهان: ما دمنا قد سلَّمنا بوجود العدد «ص» فبناء على بديهية (٦) يحق لنا أن نسلم أيضًا بوجود العدد «س + ص»؛ وبناء على قانون الذاتية يكون:
س + ص = س + ص (أي الشيء يساوي نفسه)
ولما كانت «ص» بحكم الفرضية مساوية ﻟ «ط»، إذن يحق لنا أن نضع في هذه المعادلة الأخيرة: «ط» مكان «ص» فتكون:
س + ص = س + ط
ومن عكس النظرية السابقة (١٠) تنشأ نظرية أخرى، كما يأتي:
(نظرية ١١) إذا كانت س + ص = س + ط
إذن تكون ص = ط
البرهان: افرض خطأ هذه النظرية، ينتج لك أنه بالنسبة للأعداد الثلاثة «س» و«ص» و«ط»:
س + ص = س + ط … (١)
ومع ذلك تكون:
ولما كانت «س + ص» و«س + ط» عددين (بمقتضى بديهية ٦) فإنه ينطبق عليهما ما قلناه في (نظرية ٦) وهو أنه لا بد أن تصدق حالة واحدة فقط من الحالات الثلاث الآتية:
س + ص = ص + ط
[أي إنه بالنسبة لأي عددين، لا تخرج الحالة عن أن تكون واحدة من ثلاثة: أن يكون عدد منهما مساويًا للآخر، أو أن يكون أصغر منه، أو أن يكون أكبر منه].
وبناء على (١) الحالة الأولى من هذه الحالات الثلاث هي الصادقة؛ وإذن فالحالتان الثانية والثالثة كاذبتان، أي إن:
[أي إن العدد الأول لا هو أصغر ولا هو أكبر من العدد الثاني].
ونعود مرة أخرى إلى تطبيق (نظرية ٦) فنجد أننا من اللامعادلة رقم (٢) السابقة يمكن أن نستنتج أن:
أو أن:
[أي إنه ما دامت «ص» لا تساوي «ط» فهي إما أن تكون أصغر منها أو أكبر منها].
ومن ثم ينتج لنا بمقتضى بديهيتي (١٠)، (١١) أن:
لكن (٤) تناقض (٣)، وإذن فالفرض الذي انتهى بنا إلى هذا التناقض — وهو افتراضنا خطأ النظرية من أول الأمر — لا بد أن يكون فرضًا خاطئًا ولا بد بالتالي أن تكون النظرية صحيحة.
والبرهان على هاتين النظريتين يجري على نسق البرهان على (نظرية ١) ونكتفي بهذا القدْر من النظريات الخاصة بعملية الجمع، ونضيف نظرية أخرى نبين بها العلاقة بين عمليتي الجمع والطرح.
(نظرية ١٤) بالنسبة لأي عددين «ص» و«ط» لا يكون هنالك إلا عدد واحد «س» بحيث نجد أن:
ص = ط + س
البرهان: بناءً على (بديهية ٩) يتأكد لنا وجود على الأقل عدد واحد «س» بحيث يحقق لنا هذه الصيغة:
ص = ط + س
وعلينا الآن أن نبين أنه لا يوجد غير هذا العدد الواحد محققًا للصيغة المذكورة أو بعبارة أخرى: لو وجدنا رمزين «م» «ن» كل منهما يحقق الصيغة المذكورة، كان كلاهما دالًا على عدد بعينه.
فافرض أن:
ص = ط + م (وأيضًا) ص = ط + ن
فهذا يتضمن أن:
ط + م = ط + ن
ومن ذلك نستنتج بمقتضى (نظرية ١١) أن:
م = ن
وإذن فهنالك عدد واحد «س» هو وحده الذي يحقق الصيغة الآتية:
ص = ط + س
وهذا العدد الواحد والوحيد «س» المشار إليه في النظرية السابقة، قد ندل عليه بالعبارة الآتية:
ص − ط
وبهذا نحصل على تعريف لعملية الطرح، وهو:
(تعريف ٢) نقول إن «س = ص − ط» في حالة واحدة فقط وتلك حين تكون «ص = ط + س».
راجع Stebbing, S., A Modern Intr. to Logic، ص١٧٤.