الفصل الخامس

العلم التجريبي

تمهيد

(١) الوقائع الجزئية والقوانين

تتبدى الطبيعة لحواسنا في سلسلة من الظواهر، التي ما تنفكُّ متصلة بعضها ببعض، أو منفصلة بعضها عن بعض، في صورة لا نهاية لها ولا حصر؛ وإن الإنسان ليَتَوجَّه بانتباهه إلى هذه الظاهرة أو تلك بدافع من صالحه في البقاء واجتناب الخطر؛ فتراه يستبقي في ذاكرته طائفة مما شاهده من ظواهر، حتى إذا ما عبرتْ أمام حواسه ظاهرة كانت قد وقعت له في خبرته الماضية، أدرك علاقة الشبيه بين ما يحسه الآن وما يستبقيه في ذاكرته من خبرة الماضي، وجعل من المتشابهات كلها طائفة يطلق عليها اسمًا واحدًا، هو ما نسميه بالاسم الكلي، مثل: نهر، وجبل، وقط، وسحاب، وشجر، وحرارة، وضوء … إلخ.

ها هنا تتكون الخطوة الأولى من خطوات التفكير العلمي؛ لأن العلم — كما يقول «جفنز» — هو الكشف عن أوجه الشبه بين المختلفات،١ فمعرفتنا لجزئية واحدة لا تكون علمًا، لأن الجزئية الواجدة وهي معزولة عما عداها، لا تؤدي إلى إدراك لقوانين الطبيعة؛ وما العلم إلا أن ندرك القانون أو القوانين التي تقع الجزئية الواحدة وَفْقًا لها؛ وفي ذلك يقول «رسل»: «يبدأ العلم بدراسة الحقائق الجزئية، غير أن هذه الحقائق الجزئية لا تكون بذاتها علمًا؛ لأن العلم لا يكون إلا إذا كشفنا عن القوانين العامة التي تكون هذه الجزئيات تطبيقًا لها؛ فأهمية الحقيقة الجزئية هي أنها مَثَلٌ يدلنا على قانون من قوانين الطبيعة».٢ فالمقارنة بين الظواهر المختلفة التي نصادفها في سياق خبراتنا، ثم استخلاص ما بينها من نواحٍ مشتركة، نُطْلِقها عليها جميعًا، أو على طائفة منها، على سبيل التعميم، هو بعض ما نعنيه بالتفكير العلمي.

نقول إن حقائق العالم في ظاهرها مفككة متفرقة، والتفكير المنهجي هو الذي يربط هذه الحقائق بعضها ببعض في مجموعات متسقة الأجزاء، هي العلوم المختلفة؛ فعلم الفلك — مثلًا — هو مجموعة من قوانين، كل قانون منها يختصر وصفًا لحركات الأجرام السماوية كما شوهدت في جزئياتها وتفصيلاتها، وعلم النبات مجموعة من قوانين، كل قانون منها عبارة عن تعميم لخصائص وجدت فيما لوحظ من أنواع النبات المختلفة، وهكذا.

وفهمك لظاهرة جديدة معناه أن تجد رابطة بينها وبين ما تعرفه، أي وضْعها مع غيرها في واحد من تلك التعميمات، أو القوانين، التي وصلتَ إليها من مشاهداتك السابقة، وإذا لم تجد القانون الذي يضمها مع أشباهها من الظواهر، فستظل ظاهرة «غير مفهومة»، فالطبيب «يفهم» الظاهرة المرضية التي هو بصدد فحصها، إذا عرف في أي طائفة يضعها، والتاجر «يفهم» ارتفاع ثمن القطن في سنة ما، إذا وجد العلاقة بينه وبين حقائق أخرى كحالة العرض والطلب الموجودة في الأسواق العالمية.

ولو عرفتَ ألوف الحقائق الجزئية عن الطبيعة دون أن تجد الروابط التي تسلكها في مجموعات من القوانين، فلست بالعالِم على الرغم من معرفتك لتلك الحقائق الجزئية كلها، فالقروي الذي يرى كسوف الشمس لا يكون برؤيته هذه عالمًا فلكيًّا، لأنه يدرك هذه الحقيقة الجزئية منعزلة عن سائر الحقائق الفلكية المرتبطة بها، كوضع القمر بالنسبة للأرض والشمس وما يستلزمه ذلك بناءً على قوانين الضوء وهكذا؛ وكذلك قد يشهد القروي سقوط المطر عشرات المرات، دون أن تجعل منه هذه المشاهدة عالمًا جغرافيًّا، لأنه في هذه الحالة أيضًا لا يربط بين قطرات الماء الهابطة من السماء، وبين حقائق أخرى سواها كحرارة الشمس وبخر الماء واتجاه الريح وتشبع الهواء بالرطوبة وهكذا.

فالحقائق الجزئية المعزولة وحدها لا قيمة لها البتة في العلم، كما أسلفنا، ما لم نربط العلاقة بينها وبين حقائق أخرى ربطًا يكون لنا بمثابة الكشف عن قانون من قوانين الطبيعة، نهتدي به في التنبؤ بأحداث المستقبل، فالرابطة التي يحاول العالم أن يكشف عنها في الجزئيات التي يجعلها موضوع بحثه، هي التي تمكنه من استدلال حقيقة لو عرف حقيقة أخرى، لما بين الحقيقتين من رابطة لاحظها وكشف عنها، وجدير بنا في هذا الموضوع أن نذكر أن الخرافة رابطة عرضية بين شيئين، سبق إلى الوهم أنها رابطة دائمة بين ذينك الشيئين، بحيث يصلح اتخاذها أساسًا للتنبؤ والاستدلال، كالتشاؤم مثلًا إذا نعق الغراب عند السفر، فذلك معناه إيجاد رابطة بين ظاهرتين قد تكون حدثت مرة أو مرتين، فظُنَّ أنها دائمة بينهما، كدوام اقتران هبوب الرياح العكسية مع سقوط المطر مثلًا.

وحين نقول إن المنهج العلمي هو ربط الحقائق المشاهدة بعضها ببعض بحيث يمكننا التنبؤ بوقوع بعضها إذا وقع بعضها الآخر، فإنما نعني بصفة خاصة أن يكون هذا الربط بين واقعة مشاهدة بالحواس، بغيرها مما يشاهد بالحواس أيضًا، لأنه ليس من المنهج العلمي في شيء أن نربط الظاهرة التي أمامنا، والتي نريد تفسيرها بأخرى مما لا يمكن مشاهدتها ولا إخضاعها للتجارب، كالحقائق الغيبية الخارقة للطبيعة.

وفي ذلك يروي «سير برْسي نَنْ» هذه القصة الآتية:٣ كان رحالة علمي التفكير متنقلًا على هضبة من جبال الأنديز، ومستصحبًا معه دليلًا من أهل الجبل فلاحظ الرجلان — وهما على قمة الهضبة — حين أرادا طهو طعامهما من البطاطس أن البطاطس لا تنضج بالرغم من غليان الماء، فعلَّل الدليل الظاهرة بأن وعاء الطهو قد حلَّت به الشياطين فمنعت البطاطس من النضج، وأما الرحالة ذو التفكير العلمي فقد وجد في هذه الظاهرة مثلًا واضحًا يبين كيف تتوقف درجة الغليان على ضغط الهواء، فلما كان ضغط الهواء على قمة الجبل العالية قليلًا، تطلَّب غليان الماء درجة من الحرارة أقل من الدرجة التي يغلي عندها وهو على سطح البحر، وهكذا ترى الرجلين إزاء موقف واحد من وقائع محسوسة، إلا أن كلًّا منهما ذهب مذهبًا يختلف عن مذهب زميله في التعليل. فواحد يربط المحسوس بالغيبي فلا يكون عالمًا، وآخر يربط المحسوس بمحسوس غيره فيتوافر فيه شرط المنهج العلمي.

ومن هنا لا نَعُد الأساطير علمًا، حتى وإن اتسقت أجزاؤها، لأنها تعلل الأشياء بقوى خارقة للطبيعة.

فالذي يميز العقل العلمي هو هذا المنهج، الذي يربط الظاهرة التي نريد تعليلها بظواهر أخرى مما يقع في التجربة البشرية، ربطًا يجعلها جزءًا من مجموعة واحدة مطردة الحدوث.

إن تعريف العلم هو أنه ما اصطنع هذا المنهج في البحث؛ فليس العلم موقوفًا على نوع الحقائق التي يبحثها العالم، لأن الحقائق التي يبحثها العلماء مختلفة، فعالم يجعل بحثه أفلاك السماء، وآخر يبحث في طبقات الأرض، وثالث في النبات، ورابع في الحيوان وهلمَّ جرًّا، وكلهم علماء رغم اختلاف موضوعاتهم، والذي جعلهم جميعًا علماء هو منهجم الذي اصطنعوه في البحث، لا مادتهم التي يبحثون فيها.

العلم طريقة أكثر منه طائفة من قوانين معينة وصلت إليها العلوم المختلفة، لأنه لو كان معنى العلم هو مجموعة القوانين التي بين أيدينا اليوم، لكان العلم ثابتًا جامدًا، لا يقبل تغييرًا ولا تعديلًا في هذه القوانين؛ لكنه متغير؛ نظريات اليوم ليست هي نظريات الأمس وقد لا تكون هي نظريات الغد، وذلك لا يجعلنا ننفي صفة العلم عن أصحاب النظريات التي تغيرت، فهم ما زالوا في نظرنا علماء إذا كان المنهج الذي اصطنعوه في بحثهم هو هذا المنهج العلمي.

وقد تكون ذا منهج علمي في حياتك اليومية نفسها، إذ ليس العلم مقصورًا على المعامل والأنابيب، بل هو أي تفكير منظم يستمد الحقائق من المشاهدة الدقيقة والتجربة ثم يرتبها ويربطها في نسق يضمها معًا فيفسرها، لأن أخصَّ خصائص التفكير العلمي — كما قدمنا — هو ألا تجاوز دائرة التجربة والواقع، وأن تنسق ما جاءك عن طريق التجربة من جزئيات.

(٢) حداثة العلم التجريبي

لم يدخل العلم التجريبي عنصرًا من عناصر الحياة الإنسانية إلا منذ عهد قريب نسبيًّا، إذا قيس بالفن الذي سار خطوات نحو التقدم قبل العصر الثلجي الأخير — ذلك إن صح أن يقال عن الفنون إنها تتقدم — إذ تدل الرسوم التي نراها على جدران الكهوف القديمة، على أن الإنسان القديم ساكن تلك الكهوف، قد عرف التعبير عن نفسه تعبيرًا فنيًّا حتى في ذلك العهد البالغ في القدم.

وكذلك يتصف العلم التجريبي بالحداثة إذا قيس بالدين، لأن الإنسان قد اعتقد وعَبَدَ منذ فجر التاريخ، فلست تجد بين المدنيات القديمة، مهما رسخت في القِدَم مَدَنيَّة خَلَتْ من الدين عنصرًا أساسيًّا جوهريًّا يصبغ كل آثارها بصبغته.

وأما العلم فيمكن القول بأنه لم يبدأ شوطه في حياتنا الإنسانية بصفة جدية إلا منذ النهضة الأوروبية؛ وعلى ذفك فعمره لا يزيد على ثلاثة قرون أو نحو ذلك، وحتى في هذه الفترة القصيرة، تراه قد اقتصر في نصفها الأول على العلماء وحدهم، بحيث لم يكد يتغلغل بتأثيره إلى عامة الناس في حياتهم اليومية؛ فلم يكن له هذا الأثر العميق في حياة الناس اليومية إلا في المائة والخمسين عامًا الأخيرة، واستطاع في هذا العمر البالغ في القِصَر أن يغيِّر من وجه الحياة الإنسانية بما لم تغيِّره القرون منذ كذا ألفًا من السنين قبل ذاك، فمائة وخمسون عامًا من حياة العلم، هي في حياتنا أعمق أثرًا من خمسة آلاف عام مضت، كادت ألا تعرف العلم في ثقافتها.

ولم يكن ظهور الروح العلمية الصحيحة أيام النهضة الأوروبية؛ ثم تطورها تطورًا سريعًا مدى ثلاثة قرون، مصادفة عمياء جاءت عرضًا في سير التاريخ، بل جاء ذلك نتيجة مباشرة لبذر بذور المنهج العلمي على يدي «فرانسس بيكن» أيام النهضة، وقد رأينا أن العلم إن هو إلا منهج في التفكير، بغضِّ النظر عن الموضوع الذي ندرسه بذلك المنهج.

(٣) موقف اليونان

ولا يسع قارئ الأسطر القليلة التي أسلفناها، سوى أن يعترض محتجًّا بالعرب وباليونان الأقدمين — ذلك إذا لم يدفعه حُبُّ الماضي إلى النظر إلى ما قبل العرب واليونان من شعوب شرقية قديمة — لا يسع القارئ سوى أن يعترض بما بلغه العرب واليونان من شوط لا بأس به في العلوم الطبيعية، ألم يكن بين علماء العرب الطبيعيين من اشتغل بالكيمياء والطب، ثم ألم يقل اليونان بالنظرية الذرية في تحليل الأجسام المادية؟ ألم يكونوا أصحاب النظرية التطورية والانتخاب الطبيعي الذي يجعل بقاء الكائنات الحية مرهونًا بصلاحيتها لبيئاتها؟ ولم يقفوا بنظرتهم العلمية عند حد الطبيعة وظواهرها، بل طبقوها كذلك على غير ذلك من مجال الفكر، فطبقوها على كتابة التاريخ، إذ لم يجعلوه سلسلة حوادث، يتبع بعضها بعضًا وكفى، إنما درسوه دراسة علمية مقارنة، وكذلك قل في دراستهم للنظم السياسية وللأدب والفن حين أخذوا يحللون آثارهما في النفس — فعلوا ذلك كله ولم نَقُلْ شيئًا بعد عن أروع ما صنعوه في الميدان العلمي، وهو ما بلغوه من شأو بعيد في العلوم الاستنباطية المجردة كالرياضة والمنطق؛ وحسبنا الآن أن نذكر لهم في ذلك هندسة إقليدس، ومنطق أرسطو.

إنه لمما يستوقف النظر حقًا، ما اختلف به اليونان عن الشعوب الشرقية القديمة في نظرتهم العلمية؛ فقد كان يكفي الشعوب السابقة لليونان أن تأخذ المعرفة عن العالم من أقوال الكهنة أو شيوخ القبائل؛ فلما جاء اليونان يطلبون تعليل ما يقال لهم عن العالم، كانوا أول رواد العلم بمعناه الصحيح، «فهم الذين ابتكروا الرياضة والعلم والفلسفة».٤
ولقد سبقهم المصريون — مثلًا — إلى بعض الحقائق الرياضية، لكنهم كانوا يقنعون من العلم بما يخدم الأغراض العلمية فحسب؛ كانوا مثلًا يعرفون أن الحبل إذا عُقِدَ على مسافات متساوية، ثم أُخِذَت من هذه الوحدات المتساوية أضلاعٌ قِوامها ٣، ٤، ٥ من هذه العقد على التتابع ووُضعت هذه الأضلاع على هيئة مثلث، كان لهم بذلك زاوية قائمة،٥ فكانوا يستفيدون بهذه الخبرة العملية في الزراعة والبناء والصناعة؛ حتى جاء «فيثاغورس» من اليونان، وطالب نفسه باستخراج النظرية التي تجعل هذه المسافات حتمًا مثلثًا قائم الزاوية، فكان له بذلك نظريته المعروفة باسمه في علم الهندسة، وهي أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوي يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين.

كذلك الآشوريون قد سبقوا اليونان في ملاحظة النجوم ومعرفة شيء عن ظهورها واختفائها؛ لكنهم لم يريدوا من وراء ذلك إلا خدمة أغراضهم العملية أيضًا: متى يجوز السفر، ومتى يصلح الزرع، ومتى يستحب الزواج وهكذا؛ أما اليونان فقد جاءوا بعد ذلك يرقبون النجوم للكشف عن قوانين ظهورها. واختفائها وسيرها، فكانوا بذلك هم واضعي أساس علم الفلك، بعد أن كان على أيدي الآشوريين «تنجيمًا».

الفرق بعيد بين رجلين: رجل يعرف كيف «يعمل» دون أن يعلم النظرية التي ينبني عليها ذلك العمل، ورجل يعرف كيف يعمل تطبيقًا لنظرية يعلمها؛ فقد تصادفك المرأة العجوز التي تصف لك الدواء الناجع لمرض ما، وقد يكون الدواء ناجعًا حقًا، ومع ذلك فلست تعد تلك المرأة العجوز من العلماء، لأنها عرفت بالخبرة كيف تعمل العمل الصحيح، لكنها لم تعرف «بتفكير علمي» ماذا يكون القانون، أو ماذا تكون النظري التي جاء دواؤها الناجع ذاك مَثَلًا قد يرتبط بأمثلة أخرى، فيجعلها جميعًا بمثابة الحالات التطبيقية لقانون ما أو نظري معينة.

وإذا أمكن أن يقال هذا كله عن اليونان وأن يقال شيء قريب منه عن العرب، فقد كان القارئ على حق حين اعترض على قولنا إن العلم حديث جدًّا في حياة الإنسان، وإن عمره لا يكاد يزيد على الثلاثة القرون الأخيرة، إذ ماذا نقول في هؤلاء السابقين وفيما صنعوه في سبيل التقدم العلمي؟

وجوابنا على ذلك هو أننا الآن بصدد الحديث في العلوم التجريبية؛ قد كانت براعة هؤلاء السابقين منصبَّة قبل كل شيء على العلوم الاستنباطية وحدها: الرياضة والمنطق. لقد بلغوا الأوج في التفكير الاستنباطي، حتى ليُعد كتاب الهندسة لإقليدس مثلًا كاملًا للتفكير الرياضي الكامل، كما بلغوا الأوج في التفكير المنطقي، حتى لقد جاء ما كتبه أرسطو في ذلك بداية أوشكت — لما بلغته من درجة بعيدة في دقة التفكير — أن تكون هي النهاية أيضًا، لولا أن قيَّضَ الله للمنطق رجالًا في هذا القرن الأخير، فتحوا له النوافذ فتجدد هواؤه وانبعث بعثًا جديدًا يبشر بالتطور والماء السريعين.

برع اليونان والعرب من بعدهم غاية البراعة في نوع التفكير الذي يبدأ مُسلَّمات المفروضة، ثم يستنبط منها ما يمكن استنباطه من نظريات، وفي مثل هذه الحالة تكون صحة التفكير متوقفة على صحة استدلال النظريات من المسلَّمات الأولى — البديهيات والمصادرات — ولا شأن لهم بعد ذلك بالطبيعة الواقعة، ولا حاجة بهم إلى ملاحظتها أو إجراء التجارب على أشيائها وظواهرها؛ إذ ما حاجتهم إلى ذلك ما دام «العقل» وحده كافيًا لإتمام البناء كله؟

وقد يجوز لنا أن نغتفر لليونان تقصيرهم في مجال الملاحظة الحسية والتجارب العلمية بعض المغفرة، وذلك لفقرهم في أدوات التجارب العلمية واعتمادهم على الحواس المجردة العارية؛ لكنهم من جهة أخرى مسئولون عن كثير من هذا التقصير، لأنهم كانوا يزدرون كل ما من شأنه استخدام الحواس؛ فما دمت تذهب إلى أن الإنسان قوامه شيئان: جسم وعقل، ثم ما دمت تضيف إلى ذلك عقيدة بأن العقل كائن روحاني خالد، بينما الجسم كتلة مادية فانية، فلا بد أن تترتب على ذلك أعمق النتائج في وجهة نظرك وفي تقديرك للأمور؛ من ذلك تقديرك لمن يستخدم عقله بأكثر مما تقدر به من يستخدم جسمه في عمله، وبذلك يكون «المفكِّر» أرفع منزلة من «العامل»؛ وبذلك أيضًا يكون المفكر النظري البحت، الذي يتأمل ويستنبط، دون حاجة منه إلى استخدام يديه وحواسه، أولى بالتقدير من المفكر العملي الذي ينظر بعينيه ويجري التجارب بيديه؛ فلا غرابة بعد ذلك كله أن نجد رجلًا مثل أفلاطون، يقترح أن يتولى قيادة الإنس «فيلسوف»، ويجعل من أفحش الأخطاء السياسية أن يشترك «عامل» في إدارة الحكم.

وإنه لمما يجدر ذكره في هذا الصدد، أن «أرشميدس» (٢٥٧–١٢٢ق.م.) قد مهر في العلوم التجريبية، فاستخدمه ابن عمه أمير سرقصة في اختراع آلات حربية يستعين بها في حماية مدينته من هجمات الرومان المغيرين؛ فترى المؤرخ اليوناني «فلوطوخس» (بلوتارك) حين يؤرخ لأرشميدس، يعتذر عن اشتغاله باختراع الآلات، كأنما أحسَّ أنه عمل لم يكن يليق برجل مهذب من علية القوم أن يعمله؛ فيلتمس له العذر في ذلك قائلًا إنه اضطر إلى ذلك اضطرارًا ليعاون قريبه الأمير في ساعة الخطر.

ومما يلفت النظر في «أرشميدس»، أنه — رغم براعته في الجانب العملي من العلوم — كان في تفكيره العلمي متأثرًا أيضًا بالطريقة الاستنباطية التي غلبت على اليونان جميعًا، والتي باعدت بينهم وبين إجراء التجارب، فهو يحاول — مثل إقليدس في هندسته — أن يقيم بناءه العلمي على بديهيات يفرض فيها أنها «واضحة بذاتها» والتسليم بها محتوم بغير برهان نستمده من ملاحظة أو تجربة؛ ولم يكن «أرشميدس» عالمًا تجريبيًّا بالمعنى الذي نفهمه اليوم من هذه الكلمة، إلا في كتابه عن «الأجسام الطافية» الذي قيل إنه كتب بمناسبة مشكلة قامت حول تاج الملك «هيرو»؛ فقد حامت الريبة حول ذلك التاج، ألا يكون ذهبًا خالصًا، وفكر المفكرون فيما يمكن عمله للبرهنة على أن التاج مصنوع من الذهب الخالص، أو على أنه لم يكن كذلك، وكلنا يعلم كيف أشرقت الفكرة على «أرشميدس» وهو في الحمَّام، إذ رأى سطح الماء يعلو بحلول جسمه فيه، فأدرك أنه لا بد أن تكون هنالك علاقة في الوزن النوعي بين الجسم الحال وبين الماء المزاح؛ وبالتالي نستطيع أن نعرف إن كان التاج ذهبًا خالصًا أو لم يكن، بوضع سبيكة من الذهب الخالص بمثل وزنه، في وعاء به ماء، ثم نضع التاج بعدئذٍ في الوعاء، لنرى هل يرتفع الماء في الحالتين إلى درجة بعينها، أم أن ارتفاعه في الحالة الأولى يختلف عنه في الحالة الثانية. لكنه رغم هذه البراعة التجريبية، تراه حتى في هذا الكتاب، يبدأ بفروض ثم يسير من الفروض إلى النظريات التي يمكن استنباطها منها؛ غير أننا نرجح أنه قد أثبت الفروض في ذلك الكتاب مستندًا إلى تجربة، وإن لم يذكر التجربة التي استند إليها في ذلك.

فنحن إذ نزعم لك أن العلم قد بدأ شوطه منذ عهد قريب، مستبعدين بذلك ما تمَّ على أيدي اليونان، لم نَنْسَ نبوغهم في التفكير الرياضيِّ، لكننا كذلك لم نَنْسَ قصورهم وتقصيرهم في العلوم التجريبية، والعلوم التجريبية الطبيعية هي الآن موضوع الحديث.

١  Jevons, W. S., Principles of Science، ص١.
٢  Russell, B., The Scientific Outlook، ص٥٩.
٣  Nunn, Sir Percy, the Aim and Achievement of Scientific Method، ص٤٦.
٤  Russell, B., History of Western Philosophy، ص٢١.
٥  Ritchie, A. D., Scientific Method، ص٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥