الأورغانون الجديد
١
كان المنهج الأرسطي — إذن — ناقصًا معيبًا، وأراد «بيكن» أن يضطلع «بأورغانون جديد» يصطنعه الناس منهاجًا في تفكيرهم العلمي بدل «الأورغانون» الأرسطي.
لكنه آثر قبل إقامة البناء الجديد، أن يزيل ركام القديم وأنقاضه، وما ركام القديم إلا أنواع من الخطأ، لو زلَّ فيها المفكر، أدت به حتمًا إلى الخطأ في النتائج التي ينتهي إليها بتفكيره؛ وقد أطلق «بيكن» على أربعة هامة من تلك الأنواع اسم «الأوهام» أو «الأوثان» الأربعة، ولا بد لنا أن نقول كلمة مختصرة فيها، قبل الانتقال إلى وصف الجانب الإيجابي من منهجه.
أوهام الجنس٤
وهي أخطاء يقع فيها الإنسان بحكم طبيعته البشرية، فلا فرق في التعرض لها بين فرد وفرد، ومن أمثلتها سرعة الوثوب إلى الأحكام العامة قبل التثبت من الأساس المأمون الذي يبرر لنا تعميم الحكم؛ هذا التسرع نقص بشري عام في الجنس كله، ولئن كان خليقًا بالرجل من سواد الناس أن يبرأ من مثل ها النقص في أحكامه، فالعلماء أخلق بهذا في أبحاثهم، وفي ذلك يقول «بيكون»: «لا يجوز أن تسمح للعقل بأن يثب أو يطير من الحقائق الجزئية إلى القضايا العامة الشاملة … لا ينبغي أن تمد العقل بالأجنحة، بالأوْلى أن تثقله بالأغلال حتى تحول بينه وبين القفز والطيران».
ومن أمثلة الأوهام البشرية أيضًا ما يلوِّن أفكارنا من عواطف مختلفة كالكبرياء والأمل والقلق والشهوة، فانظر كم تأبى الكبرياء على باحث أن يعلن الصواب، بعد أن تورط في الخطأ، وكم سار باحث في بحثه مؤملًا أن ينتهي إلى نتيجة معينة، فيحدوه ذلك الأمل حتى ليميل به إلى تخير الطريق التي تؤدي إلى تحقيق ما يرجو أن يحققه، دون النظر المحايد إلى الحق وحده، وكم دفع القلق باحثًا أن يُسْرع الخُطى في بحثه حتى يفرغ منه في فترة وجيزة؛ ثم انظر فوق ذلك كله كم تُزَوِّق لنا الشهوات والرغبات آراء معينة نختارها وندافع عنها، لأنها تُشبع تلك الشهوات والرغبات، بغض النظر عن نصيبها من الصدق والحق.
وكذلك من أمثلة الأخطاء البشرية عامة، إسراف الإنسان في تبسيط الظواهر الطبيعية، ورؤية العالم على أنه منظم مُطَّرد أكثر مما هو في حقيقة أمره؛ فقد تكون الظاهرة التي نظنها بسيطة؛ غاية في التقعيد؛ وتتابع الظواهر الذي قد نظنه منتظمًا مطردًا قد يكون مليئًا بمواضع الشذوذ والاضطراب.
أوهام الكهف٦
«إن لكل إنسان … كهفًا خاصًّا به يعمل على كسر أضواء الطبيعة والتغيير من لونها» فلئن كان الجنس البشري كافة يشترك في طبيعة واحدة تؤدي إلى لون معين من الأخطاء، فإن كل فرد يعود فيضيف إلى تلك الطبيعة المشتركة ميولًا خاصة به، قد لا يشترك معه فيها أحد سواه؛ ثم يكون لهذه الميول بدورها أثر في طريقة تفكيره وطريقة نظره إلى الأمور؛ وإنما تتكون تلك الميول الخاصة بحكم عوامل البيئة والتربية والتغذية والمهنة الخاصة التي يشتغل بها؛ وإنه لمن تحصيل الحاصل أن نذكر هنا ما لا بد أن يكون كل قارئ مُلِمًّا بشيء منه، في كيفية تلوين البيئة الطبيعية والاجتماعية لوجهة نظر الإنسان، فالرجل من البيئة الزراعية له وجهة نظر تختلف في كثير من جوانبها عن الرجل من البيئة الصناعية، ومن نشأ في بيئة عوز وفقر وحاجة قد تتشكل آراؤه على غير ما تتشكل به آراء الناشئ في بيئة بحبوحة وعز وثراء؛ وصاحب المرض أو العاهة الجسدية تتكون لديه عقدة نفسية خاصة به قد يكون لها فيما بعد أكبر الأثر في توجيه حياته الفكرية؛ وهكذا وهكذا من مئات العناصر التي تصادف الشخص في حياته فتؤثر في توجيهه الفكري.
أوهام السوق٨
ولما كانت القضايا الميتافيزيقية كلها، تحدثنا عن فئات فارغة — ذلك بحكم تعريف الميتافيزيقا نفسه، لأنها أقوال تتحدث عما لا وجود له في الطبيعة — فإن كل قضية ميتافيزيقية يتساوى فيها الإيجاب والسلب، ومن ثم تستطيع أن ترى العبث الذي لا طائل وراءه في المناقشات الميتافيزيقية.
الأصل في كل كلمة من كلمات اللغة أن تشير إلى مدلولات جزئية، فإن كانت هنالك كلمة ليس لها مدلول جزئي يشار إليه، فهي لفظة فارغة زائفة، أشبهت في أعيننا وآذاننا صورة الألفاظ الحقيقية، فَرُحْنا نستعملها في كلامنا ومجادلاتنا، استعمالًا يستحيل أن يؤدي إلى نتائج علمية إيجابية، إلا إذا كان ظل الشيء كالشيء نفسه، له مادة ووزن وطعم ورائحة!
إن الكلمة لا ينفي عنها الزيف طولُ استعمالها في التفاهم بين الناس، فإذا مضينا في تشبيهنا الألفاظ الزائفة بالنقد الزائف، قلنا إن اللفظة الزائفة التي طال أمد استعمالها بين الناس، حتى ظنوا أن لها معنى، شبيهة بظرف مقبل ليس بداخله شيء، لكنه دار بين الناس مدة طويلة على زعم وهمي، وهو أن فيه ورقة من أوراق النقد، فظلت له هذه القيمة في التعامل حتى تشكك في أمره متشكك، وفتحه ليستوثق من أن له قيمته المزعومة، فلم يجد شيئًا، بل وجده فارغًا ولا «قيمة» له.
كم يزول عن صدورنا من أثقال الأخطاء والأوهام، إذا نحن ألقينا في اليمِّ بكل جملة فيها كلمة فارغة؟
- (١)
عبارات تتحدث عن أشياء جزئية حقيقية يمكن الإشارة إليها بالإصبع مثلًا، كما يمكن إدراكها بالحواس؛ مثل قولنا عن قطعة من السكر موضوعة أمامنا؛ هذه القطعة من السكر مربعة.
- (٢)
عبارات تتحدث عن كلمات لا عن أشياء، مثل قولنا: السكر كلمة مكونة من خمسة أحرف.
- (٣)
عبارات تتحدث عن أشباه أشياء؛ أعني أنها تتحدث عن كلمات فنظنها خطأ أنها تتحدث عن أشياء حقيقية؛ أي إنها تكون من النوع الثاني فنظنها خطأ أنها من النوع الأول. وفي هذه العبارات يقع معظم الكوارث من حيث الزلل والخطأ.
ذلك لأن كل عبارة فيها لفظة كلية هي من هذا النوع الثالث: كقولنا: السكر طعمه حلو.
فماذا لو استعملنا عبارة فيها كلمة كلية لا نجد لها الأفراد الجزئية التي تشير إليها تلك الكلمة؛ الجواب هو: تكون العبارة كلامًا فارغًا من المعنى وخاليًا من المدلول، إلا إذا أريد بها تفسير معنى كلمة، ولم نرد بها ذكر حقيقة عن العالم الذي نعيش فيه.
وانظر بعد ذلك في ضوء هذا التحليل إلى الفلسفة التأملية حين تسوق لنا كلامًا عن ألفاظ كلية لا جزئي لها تشير إليه؛ ورغم ذلك تراها تجسِّد تلك الألفاظ وتجعلها في ذاتها كائنات، تحكي عنها القصص والحكايات.
ترى العالِم الطبيعي يحدثنا فيقول: «الأكسجين عنصر بسيط». فإذا ما طلبنا إليه الشرح والبرهان، أشار بإصبعه إلى كميات جزئية من غاز معين، قائلًا هذا أكسجين؛ أو على الأصح «الأكسجين» مجرد رمز أستخدمه لأشير به إلى هذا الجزئي أو ذلك الجزئي مما نستطيع إدراكه بالحواس على وجه ما؛ ثم تراه يعرف لنا «العنصر البسيط» بأنه المادة التي مهما حللتها وجدتها هي نفسها قائمة أمامك، فلا يمكن رَدُّها إلى عناصر غيرها.
ويجيء الميتافيزيقي فينسج على غرار زميله العالِم، ويقول: «النفس عنصر بسيط» فتطلب منه أن يشير إلى الجزئيات كما فعل زميله العالِم، فلا يجد ذلك في مستطاعه؛ «النفس» التي يتحدث عنها بكذا وكيت، ليس في مستطاعه أن يرينا إياها لنعلم إن كان حديثه صادقًا أو كاذبًا؛ وبالتالي — طبعًا — لا يكون في مستطاعه أن يجد ما يحلله ليعلم إن كان لا يزال بسيطًا أم هو مركَّب — فِيمَ يتحدث إذن هذا الميتافيزيقي، ولماذا يحدثنا مثل هذا الحديث؟ هل ينقل لنا به خبرًا أم إنه يقول القول لنستمتع برنينه ووقعه في الآذان؟ إن كانت الثانية فمجاله الفنون التي توصف بالجمال أو القبح لا بالصدق أو بالكذب؛ وأما إن كانت الأولى، فالشرط الجوهري في الخبر أن يكون ممكن التحقيق.
أوهام المسرح١٤
«أوهام المسرح» اسم يطلقه «بيكن» على الأخطاء التي يزلُّ فيها الإنسان نتيجة اعتقاده في صدق فلسفات قديمة ومؤلفين قدماء؛ ويختلف هذا الضرب الرابع من ضروب الخطأ، عن الضروب الثلاثة الأولى، في أنه لا يتسرب إلى عقل الإنسان خلسة وعن غير وعي كما هي الحال في الثلاثة الأولى؛ بل يتطلب الإنسان جهدًا واعيًا حتى يحصِّل الفلسفات القديمة ويتفهم المؤلفين القدماء؛ فإذا ما وعى ذلك، أصبح من العسير عليه بعدئذٍ أن يتخلص من تأثير ما وعى، فيتلون فكره به.
ومن أوضح الأمثلة، على ذلك، ما حدث لجاليليو حين زعم لصحبه أن الحجرين المختلفين في الوزن إذا أُلقيا من عَلٍ، سقطا على الأرض في وقت واحد، فأنكر عليه زملاؤه ذلك استنادًا إلى ما قاله اليونان الأقدمون في الموضوع؛ فصعد جاليليو إلى برج بيزا المائل، وأسقط حجرين على مشهد من زملائه، أحدهما يزن عشرة أرطال، ويزن الآخر رطلًا واحدًا؛ فسقط الحجران على الأرض في لحظة واحدة؛ وكان ذلك يختلف عما يُعَلِّمه هؤلاء الزملاء — إذ كان جاليليو وزملاؤه هؤلاء أساتذة في جامعة بيزا — وكان هؤلاء يعلمون الموضوع على الصورة التي قالها أرسطو في علم الطبيعة، وهي أن حجرًا زنته عشرة أرطال يسقط في عُشْر الوقت الذي يسقط فيه حجر زنته رطل واحد، لو أُسقط الحجران معًا من ارتفاع واحد.
فوجئ زملاء جاليليو بهذه التجربة الحسية؛ فماذا قالوا؟ زعموا إزاء ذلك أن أعينهم لا بد أن تكون قد خدعتهم فيما رأوا، لأن أرسطو لا يخطئ؛ وأعجب العجب أن طلاب الجامعة عندئذٍ، كانوا يسخرون منه هو، لا من أولئك الزملاء، مما يعيد إلى الذاكرة شيئًا مما حدث لأينشتين في جامعة برلين.
وضع جاليليو منظارًا مقربًا، وطلب إلى زملائه الأساتذة أن ينظروا خلاله إلى الأقمار التي تدور حول المشترى، فرفضوا، وبنوا رفضهم على أساس أن أرسطو لم يذكر هذه التوابع المزعومة للمشترى، فمن ظن أنه رأى توابع للمشترى، كان واهمًا مخدوعًا.
إلى هذا الحد قد يتأثر الإنسان بما عرفه عن الأقدمين، حتى ليتنكَّر لما تراه عيناه احتفاظًا بالثقة في الأقدمين، ومما يجدر ذكره بمناسبة جاليليو، أن خصومه قدموه إلى محكمة التفتيش فحكمت عليه، فتستطيع أن تقول إن موقف جاليليو أمام محكمة التفتيش، هو التعبير الصريح عن الصراع بين منهجين: بين منهج الاستقراء الجديد، الذي يقيم بناءه على أساس المشاهدة الحسية، ومنهج الاستنباط القديم الذي لم يكن أمامه بُد من التماس مُسَلَّماته التي يستنبط منها نتائجه ونظرياته، عند تراث الأقدمين وفي الكتب المقدسة.
٢
يفرغ «بيكن» من ذكر الأخطاء الشائعة بين الناس، فينتقل إلى الجزء الثاني من الأورغانون الجديد، ليصف منهجه الإيجابي في البحث الاستقرائي، وهو يبدأ — كما بدأ أرسطو — بجمع طائفة كبيرة من الحقائق عن الطبيعة، يسميها «بالتاريخ الطبيعي».
لكن أرسطو يقف عند هذا الجمع للحقائق الطبيعية قانعًا، وأما «بيكن» فيضيف إلى تلك القائمة وصفًا للتجارب التي أجراها، باذلًا كل جهد في إثبات شكه حيث أحسَّ الشك، فلا هو تسرَّع بإثبات الصدق في المواضع التي شك فيها، ولا هو تسرَّع فحذفها لأن ما يكون موضعًا للشك اليوم، قد يجد من يحققه غدًا.
إن النقيصة الرئيسية في المنهج الأرسطي — فيما رأي بيكن — أنه اعتمد في الوصول إلى قوانين الطبيعة على طريقة الإحصاء البسيط للأمثلة الجزئية، أي إنه اكتفى بذكر عدد من الأمثلة الجزئية التي تؤيد القانون الذي يصل إليه، فلا هي اتسعت حتى شملت مجال البحث كله، ولا هي دلت على موضع الضرورة التي تجعل من القانون الطبيعي حكمًا عامًّا ينطبق في كل الظروف.
وأهم ما ينقض هذه الطريقة في رأيه، هو عملية العزل، فلا يكفي أن تختار الأمثلة التي تؤيد القانون، بل لا بد أن تبحث عن الأمثلة التي تنفيه، لأنك لو جمعت ألف مثل يؤيد صحة القانون، ثم وجدت مثلًا واحدًا ينقضه، كان هذا المثل الواحد كافيًا لنسخه.
ولم يكن «بيكن» مصيبًا كل الصواب في اتهامه لأرسطو أنه اعتمد في الاستقراء على جمع عدد من الأمثلة التي تؤيد القانون، لأننا قد رأينا عند الكلام على مذهب أرسطو في الاستقراء، أنه جعل طريقة جمع الأمثلة الجزئية جانبًا واحدًا من منهجه الاستقرائي، ولم تكن الأمثلة الجزئية عنده تساق لتؤيد القانون الكلي، بل لتكشف عنه للعقل، والحدس العقلي وحده — دون الجزئيات المحسة — هو الذي يدرك الرابطة الضرورية بين الأشياء والصفات، مما يجعل القانون قانونًا؛ كما أنه فوق هذا وذلك، اصطنع الطريقة «الجدلية» لمناقشة القوانين العلمية من حيث صلاحيتها منطقيًّا لأن تكون صحيحة مقبولة.
ولننظر الآن في منهج «بيكن»، الذي لا شك في أنه قد تلافى نقصًا في طريقة أرسطو، وجاء فاتحة عهد علمي جديد وضع البحث العلمي على منهاج سديد: يعتمد منهج «بيكن» الاستقرائي على مبدأ أساسي؛ هو أنه لا يمكن البرهنة على أي تعميم (أي قانون) بأي عدد من الأمثلة المؤيدة، لكن مثلًا واحدًا يكْفي لنقضه؛ فالأمثلة السلبية التي تنقض، هي عنده أهم في البحث العلمي من الأمثلة الإيجابية التي تؤيد؛ ويمكننا أن نتثبت — بطريق غير مباشر — من صحة القوانين الطبيعية التي يستحيل علينا أن نتثبت من صحتها بالأمثلة الإيجابية المؤدية مهما كثرت.
وشرح طريقته هو كما يأتي:
نستقصي الصفات التي تتلقاها حواسنا من الأجسام، كالحرارة واللون والطعم والثقل والصلابة … إلخ؛ ثم نحاول أن نرى كيفية التركيب الذري للجسم حين يكون متصفًا بصفة من تلك؛ كيف يكون تركيبه الذري حين يكون حارًا؟ وكيف يكون تركيبه الذري حين يكون حارًا؟ وكيف يكون تركيبه حين يكون حلوًا؟ وهكذا؛ ولاحظ أن التركيب الذري للجسم، لا يدل بذاته على الصفة التي تترتب عليه، لولا أننا نعتمد على المشاهدة والخبرة، لنرى ما الصفة التي تساير هذا التركيب، بعبارة ثانية، لو أننا لاحظنا جسمًا كيف تتركب ذراته، وعرفنا أن تركيبه الذري هو «س»، فلا نستطيع أن نتنبأ من ذلك وحده ما الصفة التي تصاحب ذلك: أهي اللون الأبيض أم اللون الأسود؟ أهي الحرارة أم البرودة؟ أهي الحلاوة أم المرارة؟ فالتجربة الحسية وحدها هي التي تنبئنا بأن التركيب الذري «س» مصحوب بالصفة «ص» وعندئذٍ فقط يتبين لنا قانون من قوانين الطبيعة: وهو أنه كلما كانت «س» صَحِبَتْها «ص» وكلما كان «ص» كانت «س» معها.
ويطلق «بيكن» على التركيب الذري للجسم، الذي تصاحبه صفة ما من صفات ذلك الجسم، اسم «الصورة» فأيًّا ما كانت «الصورة» التي تصاحب الصفة «ص» في الجسم (الحرارة مثلًا) فلا بد أن تتصل بها على نحو يجعلها تحضر إذا حضرت «ص» وتغيب إذا غابت «ص»، وتزيد أو تنص إذا ما زادت «ص» أو نقصت.
والمشكلة الرئيسية هي كيف نعرف أن «الصورة» الفلانية هي التي تصاحب الصفة «ص»؟ إن مجرد إحصاء أمثلة إيجابية فيها «صورة» معينة مصحوبة بصفة «ص»، لا يكفي لكي أقول إن الواحدة متصلة بالأخرى اتصالًا ضروريًّا وعامًّا، بحيث أجعل من اتصالهم قانونًا من قوانين الطبيعة، إذ لا بد من أن أتأكد إلى جانب ذلك من أنه لو غابت تلك «الصورة» عن الجسم غابت عنه كذلك الصفة «ص»، ولو زادت أو نقصت، تأثرت «ص» تبعًا لذلك بالزيادة أو النقصان.
لا يكفي الاقتران في الحضور وحده، بل لا بد إلى جانب ذلك من العزل، فحيث لا يستطيع ألف مثال أن يثبت وجود الرابطة الضرورية بين «الصورة» المعينة والصفة «ص»، يستطيع مثل سلبي واحد أن ينفي وجود تلك الرابطة بينهما. ذلك هو أساس طريقته.
لنرمز لقائمة التركيبات الذرية للأجسام، أي لقائمة «الصور» بالرموز أ، ب، ﺟ، د.
ولنرمز للصفة التي نريد البحث في تعليلها واستخراج قانونها بالرمز «ص» ثم ننظر في كل تركيبة ذرية على حدة، حتى إذا ما وجدناها لا تطَّرد مع «ص» وجودًا وعدمًا ونقصًا وزيادة، عزلناها، أي حذفناها حذفًا، ونحن موقنون بأنها يستحيل أن تكون هي «الصورة» المصاحبة للصفة التي هي موضوع بحثنا؛ حتى إذا ما انتهينا إلى تركيبة ذرية معينة، توجد إذا وجدت الصفة «ص» وتغيب إذا غابت الصفة «ص» وتزيد أو تنقص بنسبة مطَّردة مع زيادة «ص» أون قصها كانت هي «صورة» الظاهرة التي نبحث في تعليلها، أي هي «سبب وجود» الظاهرة.
من ذلك ترى أن القانون الذي ننتهي إليه بهذه الطريقة، لا يستند يقينه إلى مجرد اطراد حضور «الصورة» مع الصفة حضورًا إيجابيًّا، بل يستند إلى الأمثلة السلبية التي تتفاوت فيها درجة «الصورة» زيادة ونقصًا.
- (١)
قائمة الحضور، أو الإثبات.
- (٢)
قائمة الغياب، أو النفي.
- (٣)
قائمة التفاوت في الدرجة.
ففي قائمة الحضور نضع الأمثلة التي جمعناها والتي تتمثل فيها الظاهرة موضوع البحث، وفي قائمة الغياب نضع الأمثلة التي جمعناها والتي يتمثل فيها انعدام الظاهرة موضوع البحث، وفي القائمة الثالثة نضع الأمثلة التي تتفاوت فيها الظاهرة زيادة ونقصًا.
والمثل الوحيد الذي ساقه «بيكن» توضيحًا لمنهجه، هوب بحثه عن «صورة» الحرارة، أي عن سببها، فقد اعتبر الحرارة «طبيعة بسيطة»، أي اعتبرها واحدة من الظواهر الأساسية في الطبيعة، وحاول أن يكشف عن القوانين التي تتحكم في توليدها وإشعاعها.
- فأولًا: نختار من الأمثلة التي جمعناها في مرحلة «التاريخ الطبيعي»، كافة الأمثلة التي تظهر فيها ظاهرة الحرارة، فيتكون لدينا بذلك «قائمة الإثبات»١٦ فمثلًا، نثبت في هذه القائمة أشعة الشمس والشهب ولهب النار والحيوانات وروث الخيل والفلفل، «وحتى البرد القارص الشديد ينتج نوعًا من الإحساس بالاحتراق» — وهكذا … وقد ذكر «بيكن» في قائمة الإثبات سبعة وعشرين مثلًا، ثم ترك مسافة خالية لعله يثبت غيرها.
-
وثانيًا: نُعِدُّ «قائمة النفي»،١٧ حيث نثبت من الأمثلة التي جمعناها، كافة الأشياء
التي تخلو من الحرارة — لغياب «صورة» الحرارة عنها — إذ لو
غابت «الصورة» غابت تبعًا لها «الطبيعة البسيطة» المترتبة
عليها.
ولما كانت الأمثلة التي تدل على انعدام الحرارة لا نهاية لها، فإنه يحسن أن نحصر أنفسنا في حدود الموضوعات الإيجابية المذكورة في قائمة الإثبات؛ فمثلًا قد ذكرنا الشمس في قائمة الإثبات على أنها مصدر للحرارة، فنحاول في قائمة النفي أنن ثبت جرمًا سماويًّا تنعدم فيه الحرارة، كالقمر والنجوم (فيما ظن بيكن وقد أحسَّ شيئًا من الشك، فاقترح إجراء تجارب بعدسة محرقة لنرى هل يمكن للحواس أن تدرك حرارة صادرة عن أشعة القمر والنجوم أو لا يمكن).
وإذا كان في قائمة الإثبات أنواع من الحيوانات قد ذُكِرَتْ على أنها مصدر من مصادر الحرارة، فنحاول في قائمة النفي أن نجد أنواعًا أخرى من الحيوانات لا تشع حرارة.
بمثل هذا النفي نستطيع حذف بعض الأمثلة من قائمة الإثبات، فنحذف الأجرام السماوية، لأن هنالك أجرامًا سماوية لا حرارة فيها؛ ونحذف الحيوانات لأن هنالك أنواعًا منها لا حرارة فيها وهكذا.
-
ثالثًا: نُعِدُّ قائمة التفاوت في الدرجة؛١٨ فنجمع أمثلة تكون فيها الحرارة حاضرة بدرجات
متفاوتة، فليست أمثلة اللهب كلها ذات حرارة واحدة، وليست
الحيوانات كلها متحدة في درجة الحرارة التي تشع منها، فهي أكثر
حرارة إذا تحركت منها وهي ساكنة، وإذا أصابتها الحمى منها وهي
سليمة وهكذا، وليست الأجسام وهي تغلي كلها ذات درجة واحدة من
الحرارة، فالرصاص المغلي أكثر حرارة من الماء المغلي
وهكذا.
فإذا وجدنا في قائمة الإثبات مصدرًا للحرارة لا ينفيه شيء في قائمة النفي، راجعناه على قائمة التفاوت، لنرى هل تزيد فيه الحرارة وتنقص بزيادة درجة «الصورة» ونقصها أو لا تزيد.
وقد انتهى «بيكن» من بحثه في الحرارة، إلى أن الحركة موجودة في كل جسم حار، وهي تزيد وتنقص في درجتها مع زيادة درجة الحرارة ونقصها. وبذلك تكون الحركة هي «صورة» الحرارة.
ذلك لأن الصورة الشكلية لطريقته هي:
«ح» إما أن تكون «أ» أو «ب» أو «ﺟ» أو «د»
«ح» ليست «ب» وليست «ﺟ» وليست «د»
وهو قياس شرطي كما ترى.
لكن «جوزف» في نقده هذا، قد فاته أن المقدمة الأولى («ح» إما أن تكون «أ» أو «ب» أو «ﺟ» أو «د»)
مستمدة من المشاهدة الحسية — وهو صميم المنهج الجديد.
٣
طريقة الاتفاق
إن أهم ما يعيب طريقة «التعداد البسيط» التي تكتفي بملاحظة طائفة من الأمثلة الجزئية فتعمم الحكم بأن «كل أ هي ب»، هو إغفال الجانب السلبي، ولو أكملت نفسها لأضافت إلى قولها «كل أ هي ب» أحد أمرين، فإما أن تضيف الظروف والعوامل التي لا بد من توافرها في «أ» و«ب» لكي يقترنا، كأن تقول مثلًا عند حكمها بأن «الماء سائل» إن الماء والسيولة لا يجتمعان إلا في كذا وكذا من ظروف الحرارة والضغط، وإما أن تنص صراحة على أن «كل أ هي ب» بغض النظر عن أي ظرف خارجي.
ولكي نوقن بأن «كل أ هي ب» مهما كانت الظروف والعوامل الأخرى لا بد أن نغيِّر من الظروف التي تحيط بعاملي «أ» و«ب» لنرى هل يظل العاملان مقترنين رغم تغير ما يحيط بهما، أم أن هنالك من العوامل ما لو أضيف إلى الموقف امتنع اقترانهما وارتباطهما معًا. ولو كان الأمر كذلك كان القانون العام الذي ننتهي إليه من أن «كل أ هي ب» محتاجًا إلى التقيد بشروط.
فافرض أنني اخترت أربع حالات مما تُلاحظ فيها «أ» و«ب» معًا وراعيتُ فيها أن تكون مختلفة، وحلَّلْتُ عناصرها فوجدتها كما يأتي:
-
(١)
أ١ ب١، ﺟ١، د١، ك١
-
(٢)
أ٢ ب٢، ﺟ٢، د٢، م٢
-
(٣)
أ٣ ب٣، ﺟ٣، م٣، ن٣
-
(٤)
أ٤ ب٤، ك٤، ل٤، ن٤
لا يمكنني أن أقول إن «كل أ هي ﺟ» لأنها ليست كذلك في الحالة الرابعة، ولا أن أقول إن «كل أ هي د» لأنها ليست كذلك في الحالتين الثالثة والرابعة — وهكذا؛ لكن «أ» و«ب» متلازمتان دائمًا في الحالات الأربع، رغم تغير سائر الظروف والعوامل.
ولعلك تلاحظ كيف تزيد طريقة الاتفاق هذه، عن طريق التعداد البسيط في درجة التعقيد والتركيب؛ لأننا في طريقة التعداد البسيط لا نلتفت إلا إلى عنصري «أ» و«ب» فإذا وجدناهما معًا، قلنا «كل أ هي ب» — أما ها هنا في طريقة الاتفاق، فننظر كذلك إلى العناصر الأخرى التي تحيط بعاملي «أ» و«ب» لنوقن بأن «ب» وحدها دون غيرها هي التي تصاحب «أ» دائمًا، وفي كل الظروف؛ ولذلك ينبغي في اختيارنا للعينات التي نجمعها للفحص والاختبار، أن نتعمد اختيار الأمثلة المنوعة المختلفة للظاهرة التي نضعها تحت البحث، لعل هذا التنوع يُظهرنا على عامل آخر مصاحب ﻟ «أ» غير «ب».
- (١)
كل أ هي ب مهما تغيرت الظروف الأخرى.
- (٢)
في كل مرة نجد فيها «أ» و«ب» معًا، نجد كذلك ظروفًا أخرى مثل ﺟ، د لكنها لا تَطَّرِد ظهورًا في كل الحالات.
- (٣)
أ، ب هما وحدهما العاملان اللذان يطَّرد وقوعهما في جميع الأمثلة المبحوثة.
- (٤) ليس هنالك حالة واحدة تقع فيها «أ» وحدها من غير «ب» — وهذا معناه أن ليس هنالك حالة نفي بين حالات الإثبات التي جمعناها.٢٦
ولطريقة الاتفاق هذه عيوب واضحة، على الرغم من أنها أكثر دقة من طريقة التعداد البسيط، على نحو ما شرحنا فمن عيوب طريقة الاتفاق أننا ما نزال فيها نتعقب الأمثلة التي تؤيد الارتباط بين «أ» و«ب» في قولنا: «كل أ هي ب» نعم نحاول أن نلتمس أمثلة فيها إلى جوار «أ» و«ب» عناصر أخرى مختلفة، حتى نستوثق من أن «أ» و«ب» متلازمتان بغض النظر عن سائر الظروف؛ لكننا في الوقت نفسه قد نكون مُغْرضين ونحن لا ندري، فترانا نُغْضِي عن الأمثلة التي تغيب فيها «أ» مع أنها قد تكون مشتملة على «ب»؛ وعندئذٍ يفوتنا هذا الجانب الهام، ونعمم القول مما شاهدناه، زاعمين أن «كل أ هي ب» وأنهما لذلك مرتبطان ارتباطًا سببيًّا، مع أن هذا الارتباط لا يتوافر إلا إذا علمنا كذلك أن غياب «أ» يقتضي غياب «ب».
ومن عيوبها كذلك أننا قد نخطئ في تحليل عناصر الموقف الذي نبحثه، فَنَغْفَلُ عن عنصر موجود، وبذلك يخرج من حسابنا، مع أنه قد يكون ذا علاقة سببية بما نحن بصدد بحثه؛ فقد يشعر إنسان بألم في جوفه — مثلًا — إثر كل عشاء، ويأخذ في تحليل الأمر إلى عناصره، ليجد أن العنصر الذي يطَّرد حدوثه كل ليلة هو الماء، وأما سائر الصنوف من طعام وشراب فتتغير، فينتهي إلى النتيجة الآتية، وهي أن شرب الماء مع العشاء والألم الذي يشعر به في جوفه مرتبطان ارتباطًا سببيًّا. مع أن العلة قد تكون راجعة إلى عدم المشي مثلًا، وفاته أن يضع هذا العنصر وهو يقوم بعملية التحليل.
طريقة الاختلاف
من أمثلة ذلك تجربة أجريت حديثًا للتأكد من صدق الفكرة القائلة بأن الماشية تميز فيما يقدم لها من طعام على أساس قيمته الغذائية، فتنتقي — مثلًا — العشب إذا كان ذا نسبة عالية من النيتروجين؛ فها هنا «أ» — في صورة القانون «كل أ هي ب» — يكون معناها وجود النتروجين في العشب، و«ب» يكون معناها إقبال الماشية على أكله.
ولو وضعنا صورة رمزية شاملة للجوانب الهامة من طريقة الاختلاف، كانت كما يلي:
فنحن في هذه الصورة الرمزية إزاء حالتين أو جانبين من البحث: الأول جانب عرفنا فيه أن «أ» (ومعناها وجود مادة النيتروجين) و«ب» (ومعناها إقبال الماشية على الأكل) متلازمتان في ظروف رمزنا لها بالرموز ﺟ، د، ﻫ مثل درجة الرطوبة والكمية وما إلى ذلك.
وفي الجانب الثاني عرفنا أن عدم وجود «ب» مصاحب لعدم وجود «أ» مع قيام العناصر ﺟ، د، ﻫ نفسها التي كانت قائمة في الحالة الأولى.
وتتعرض هذه الطريقة للخطأ إذا أخطأنا في التحليل، بحيث ظَنَنَّا أن ما أضيف إلى الموقف المعين عنصر واحد، أو ما حذف منه عنصر واحد، مع بقاء سائر الظروف كما هي بغير تغيير، على حين تكون حقيقة الأمر أن ما أضيف أو حُذِفَ أكثر من عنصر، وفي مثل هذه الحالة قد نخطئ في تعيين الارتباط الحقيقي بين الحوادث.
إن «الحاوي» حين يضيف إلى موقف معين كلمة ينطق بها، مثل «جلا جلا» وبعدئذٍ يَخْرُج أرنبٌ من الصندوق الذي بيده، إنما يعتمد على مثل هذا الخطأ فينا، لأن الرائي قد يقول لنفسه: إن ما أضيف إلى الموقف عنصر واحد، هو نطق هذه الكلمة، مع بقاء سائر العناصر ثابتة كما هي، وإذن فخروج الأرنب من الصندوق هو نتيجة مباشرة لما نطق به.
«تلقيت يومًا في معملي أرانب من السوق، فوضعتها على منضدة، حيث بالت؛ ولاحظت أن البول كان صافيًا حامضًا، فاندهشت للأمر، لأن بول الأرانب يكون في العادة عكرًا قلويًّا، إذ إن الأرانب من أكلة الأعشاب، في حين يكون البول في أكلة اللحوم — كما هو معلوم — صافيًا حامضًا، فأدى بي ما لاحظته من حموضة البول لدى الأرانب إلى الاعتقاد بأن هذه الحيوانات لا بد أن تكون في نفس الحالة الغذائية التي تكون عليها أكلة اللحوم، فظننت أنها ربما لم تأكل منذ زمن طويل، وأن الصيام قد حولها إلى أكلة لحوم حقيقية تتغذى من دمها هي، وكان من السهل جدًّا التحقق تجريبيًّا من صحة هذه الفكرة السابق تصورها، أو من صحة هذا الفرض فقدمت العشب للأرانب فأكلته، ولاحظت بعد بضع ساعات أن البول أصبح عكرًا قلويًّا، ثم حبست الطعام عن هذه الأرانب عينها، فلاحظت بعد مضي أربع وعشرين ساعة، أو ست وثلاثين ساعة على أكثر تقدير، أن البول قد أصبح من جديد صافيًا وشديد الحموضة، ثم عاد البول قلويًّا بعد أن أطعمت الأرانب عشبًا وهكذا دواليك؛ فأعدت هذه التجربة البسيطة عدة مرات على الأرانب، وكانت النتيجة دائمًا هي هي؛ ثم أجريتها على الفَرَس، وهو من أكلة الأعشاب، وبوله أيضًا عكر قلوي، فوجدت أن الصيام يحدث فيه، كما يحدث في الأرانب حموضة سريعة في البول. فكانت نتيجة تجاربي هذا الحكم العام الذي لم يكن معروفًا من قبل، وهو أن جميع الحيوانات الصائمة تتغذى باللحم بحيث يكون بول أكلة الأعشاب شبيهًا ببول أكلة اللحوم … ولكي أبرهن على أن الأرانب الصائمة كانت فعلًا من أكلة اللحوم، كان من الضروري القيام بتجربة عكسية، وهي اصطناع التجربة لتحويل أرنب إلى حيوان يأكل اللحم، وذلك بإطعامه لحمًا، لكي نرى هل يصبح بوله صافيًا حامضًا … كما يحدث في حالة الصيام؛ وتحقيقًا لهذا الغرض، أطعمت الأرانب لحم بقر مسلوقًا باردًا … وتحقق فرضي هذه المرة أيضًا، فكان بول الأرانب طوال مدة هذه التغذية الحيوانية صافيًا حامضًا.
وتكملة لتجربتي هذه، قمت بتشريح هذه الحيوانات، لأعرف هل يحدث هضم اللحم في الأرانب كما يحدث في أكلة اللحوم، فوجدت فعلًا أن جميع الظواهر الدالة على حدوث هضم جيد جدًّا، كانت ممثلة في جميع التفاعلات المعوية …»
-
(١)
بدأ البحث بالمشاهدة الحسية لظاهرة معينة، وهي أن الأرانب رغم كونها من أكلة العشب، قد بالت بولًا صافيًا حامضًا مثل أكلة اللحوم — فلفتت هذه الظاهرة نظر الباحث، وأراد أن يلتمس القانون الذي تجيء هذه الظاهرة تطبيقًا له.
-
(٢)
فرض الباحث فرضًا ليأخذ في تحقيقه، وهو أن الأرانب لا بد أن تكون في نفس الحالة الغذائية التي تكون عليها أكلة اللحوم — أي ليثبت بغير طعام مدة، فأخذت تأكل من دم نفسها.
-
(٣)
لجأ الباحث إلى طريقة الاختلاف بوجهيها:
- (أ)
أزال عنصرًا ليرى ما ينتج، وذلك بأن منع عن الأرانب العشب فكانت دائمًا في هذه الحالة تبول بول أكلة اللحوم.
- (ب)
أضاف عنصرًا ليرى ما ينتج، وذلك بأن أعطى العشب للأرانب، فكانت دائمًا هذه الحالة تبول بول أكلة الأعشاب.
- (أ)
-
(٤)
أجرى التجربة عدة مرات، ليثق بأن الملاحظة لم تخطئ.
-
(٥)
لجأ إلى طريقة الاتفاق في حالة واحدة مع تغيير سائر الظروف، وذلك بأن أجرى التجربة على فرس، بحيث أعطاها العشب مرة، ومنعه عنها مرة، فكانت النتيجة هي نفسها التي ظهرت في حالة الأرانب.
-
(٦)
وصل في النهاية إلى حكم عام جديد، وهو: أن جميع الحيوانات الصائمة تتغذى باللحم بحيث يكون بول أكلة الأعشاب شبيهًا ببول أكلة اللحوم.
-
(٧)
قام بتطبيق استنباطي تحقيقًا لقانونه الذي وصل إليه، إذ قال لنفسه لو كان القانون صادقًا، لوجدت بول الأرانب صافيًا حامضًا حين أطعمها اللحم فعلًا … وقام بالتجربة فتبين صدق النتيجة.
-
(٨)
ثم قام بتطبيق استنباطي آخر تحقيقًا لقانون، إذ قال لنفسه: لو كان القانون صادقًا، لوجب أن تكون التفاعلات المعوية للأرنب وهو يتغذى باللحم شبيهة بالتفاعلات المعوية عند أكلة اللحوم … وقام بالتشريح فتبين صدق النتيجة في هذه الحالة أيضًا.
طريقة التغير النسبي
طريقتا الاتفاق والاختلاف تتوقفان كلاهما على إضافة عامل بأسره أو حذف عامل بأسره لنرى ارتباطه مع عامل آخر، لكي أوقن بأن «كل أ هي ب» التمسهما مجتمعين في ظروف مختلفة، فأكون بذلك مصطنعًا لطريقة الاتفاق، ثم أعزل أحدهما لأرى هل يزول الثاني تبعًا لذلك، فأصطنع بهذا طريقة الاختلاف.
لكن هناك حالات يستحيل فيها التحقق من ارتباط عنصري «أ» و«ب» بحضورهما جملةً؛ أو غيابهما جملةً، فافرض — مثلًا — أننا نريد أن نعرف مدى الارتباط بين الكلسيوم في طعام الأطفال [ولنجعل هذا هو عنصر «أ»] ونمو أسنانهم [ولنجعل هذا هو عنصر «ب»] — فها هنا ليس في مستطاعنا أن نركن إلى وجود الكلسيوم في طعامهم مقترنًا بنمو أسنانهم، ولا أن نركن إلى حذف الكلسيوم من طعامهم لنرى هل يقف نمو أسنانهم تبعًا لذلك؛ لأن أسنان الأطفال لا يتوقف نموها على الكلسيوم وحده، فإذا حذفناه حذفًا تامًّا من طعامهم، نَمَتْ أسنانهم، لكن بدرجة أقل من نموها في حالة وجود الكلسيوم في الطعام.
فقد نجد أنه كلما زادت «أ» بمتوالية عددية، زادت «ب» بمتوالية عددية كذلك؛ بحيث تكون الصورة الرمزية كما يأتي:
أي إن مضاعفة «أ» تؤدي إلى مضاعفة «ب»، وثلاثة أمثال «أ» تؤدي إلى ثلاثة أمثال «ب» وهكذا.
وقد نجد أنه كلما زادت «أ» بمتوالية عددية، زادت «ب» بمتوالية هندسية بحيث تكون الصورة الرمزية كما يأتي:
وقد نجد أحيانًا أخرى أنه كلما زادت «أ» نقصت «ب» بنسبة مطردة — ففي هذه الحالات جميعًا نحكم بارتباط سببي بين العنصرين.
وأهمية طريقة «التغير النسبي» هي في التقدير الكمي للعوامل المرتبطة؛ فهي في معظم الحالات طريقة نلجأ إليها بعد الفراغ من تحديدنا لأي العوامل يرتبط بالآخر، تحديدًا نعتمد فيه على الطريقتين الأخريين، الاتفاق والاختلاف؛ فقد نعلم أن المعادن تتمدد بالحرارة بطريقة الاختلاف مثلًا، لكننا بطريقة التغير النسبي، نعلم فوق ذلك مُعامل التمدد؛ بعبارة أخرى، طريقة التغير النسبي هي التي تهيئ لنا سبيل التعبير الرياضي عن قوانين الطبيعة.
- (١)
كل مثل يؤيد الارتباط بين العنصرين، يدل على أن زيادة (أو نقصًا) في «أ» لا بد أن تتبعها زيادة (أو نقص) في «ب».
- (٢)
كل عناصر الموقف — فيما عدا «أ» و«ب» — تظل ثابتة.
ومما تجدر الإشارة إليه لتنبيه الباحث بهذه الطريقة إلى نوع من الخطأ قريب الوقوع أن التغير النسبي بين عاملي «أ» و«ب» قد يغير اتجاهه بعد حد معين؛ فمثلًا كلما نقصت حرارة الماء قلَّ حجمه، حتى إذا ما وصل إلى حدٍّ معينٍ، أخذ نقص الحرارة يزيد من حجم الماء؛ ومن هذا القبيل أيضًا أنه كلما زاد الضغط على غاز قَلَّ حجمه، حتى إذا ما بلغ الضغط حدًّا معينًا، تحول الغاز إلى سائل.
وفي الاقتصاد قانون معروف يطلق عليه اسم «قانون تناقص الغلة» مؤداه أن الإنتاج يزيد زيادة مطردة مع زيادة النفقات على تحسين وسائل الإنتاج، كالمخصبات في حالة الزراعة، والإعلانات في حالة التجارة وما إلى ذلك — لكن هنالك حدًّا معينًا يبدأ عنده الإنتاج في تغيير نسبته بالقياس إلى زيادة المصروفات.
ومن ذلك كله يتبين مقدار ما تتطلبه هذه الطريقة من حذر وحرص، حتى لا ينخدع الباحث باطراد الزيادة أو النقص بين عامل «أ» و«ب» فيعمم الحكم على صورة قانون، مع أن ذلك الاطراد ينقطع بعد حين.
هذا مثل يبين لك أيضًا كيف يتعرض الباحث بهذه الطريقة للخطأ؛ إذ قد يجد ارتباطًا نسبيًّا بين عامل «أ» و«ب» فيربط بينهما ربطًا سببيًّا، مع أن الأمر قد لا يكون كذلك؛ ففي هذا المثل الذي أمامنا، مثل وباء الكوليرا وتعليله، قد تطلب الأمر بعد ذلك عناء طويلًا في البحث العلمي القائم على استخدام الآلات المكبرة الدقيقة، حتى استطاع العالم البكترويولوجي الألماني «روبرت كوخ» أن يكشف عن الجراثيم العضوية التي تصيب ماء الشرب فتفسده وتكون بذلك سببًا في الوباء.
معامل الارتباط٣٢
بلغت طريقة التغير النسبي التي بسطنا جوانبها فيما سلف، والتي كانت إحدى طرق البحث التي ذكرها «مل» كما ذكرها «بيكن» من قبله، حدًّا بعيدًا من الدقة في العصر الأخير، بفضل الطرق الإحصائية التي شاع استعمالها خصوصًا حين تتنوع العينات المراد بحثها وتتعدد إلى درجة يصعب معها إدراك الارتباط بين العوامل بغير عملية حسابية، لا سيما إذا كان مجال البحث متصلًا بموضوع يستعصي على تجارب المعامل، كعلمي الحياة والاجتماع — فعندئذٍ يقوم البحث الإحصائي مقام التجارب في العلوم الطبيعية، لأن كلًّا منهما طريق يؤدي إلى التقدير الرياضيِّ الذي يُصَوِّر الارتباط بين ظاهرتين.
وتطلق عبارة «مُعامل الارتباط» اسمًا للقيم الرياضية التي تمثل الارتباط بين الظواهر الإنسانية والاجتماعية بصفة خاصة؛ فنقول إن «معامل الارتباط» بين ظاهرتين هو «+١» حين يكون الارتباط إيجابيًّا كاملًا بين أفراد المجموعتين اللتين منهما تتكون الظاهرتان الموضوعتان تحت البحث؛ فافرض — مثلًا — أننا نريد معرفة العلاقة بين قدرة الطالب في اللغات الأجنبية كالإنجليزية وقدرته في العلوم الرياضية كالهندسة، فنتخير مجموعة اختيارًا عشوائيًّا من بين الطلاب، ونقارن بين قائمة درجاتهم في اللغة الإنجليزية وقائمة درجاتهم في الهندسة، فإذا وجدنا أن ترتيبهم في القائمة الأولى هو بعينه ترتيبهم في القائمة الثانية، بحيث كان الأول في قائمة هو نفسه الأول في القائمة الأخرى، والثاني هو الثاني … والأخير هو الأخير، قلنا إن «معامل الارتباط» بين قدرة الطلبة في اللغة الإنجليزية وقدرتهم في الهندسة يساوي +١، أي إنه ارتباط إيجابي كامل.
ونقول عن «معامل الارتباط» بين ظاهرتين إنه «−١» إذا كانت النسبة بين أفرادهما سلبية كاملة، وللسلب الكامل معنيان: فإما أن يكون معناه أنه كلما حضرت ظاهرة منهما اختفت الأخرى، فلا يلتقيان أبدًا، وإما أن يكون معناه في حالة حضور الظاهرتين معًا. أن الزيادة في إحداهما تستلزم نقصا موازيًا له في الأخرى؛ فإذا بحثنا — مثلًا — في مجموعة من الطلب اختير أفرادها اختيارًا عشوائيًّا، لنعلم مدى الارتباط القائم بين السن والقدرة على الحفظ، فظهر أن أكبر المجموعة عمرًا هو أقلها في عدد الكلمات التي استطاع حفظها في فترة معينة من الزمن، وأن أصغرها عمرًا هو أكثرها حفظًا، وأن الثاني في قائمة الأعمار هو من يجيء قبل الأخير مباشرة في قائمة القدرة على الحفظ، والثالث في الأول، هو الثالث من أسفل في القائمة الثانية وهلمَّ جرًّا، كان الارتباط بين الظاهرتين — السن والقدرة على الحفظ — سلبيًّا كاملًا، وقلنا إن «مُعامل الارتباط» يساري «−١».
ومُعامل الارتباط يكون صفرًا حين لا يكون ثمة ارتباط بين الظاهرتين، فإذا حضرت واحدة جاز أن تحضر الأخرى وجاز ألا تحضر على حد سواء، وإذا زادت الأولى، جاز أن تزيد الثانية أو تنقص على حد سواء.