وقفة عند ديكارت
أما الصدق في العلم التجريبي — في العلوم الطبيعية كلها — فهو مطابقة الكلام للواقع؛ ولذلك لا يتعدد الصدق هنا، فيستحيل أن يكون للحقيقة الواحدة أكثر من صورة واحدة صحيحة. والسؤال في المنهج التجريبي هو — كما قلنا — على أي أساس أحكم بأن ما أصف به الطبيعة يصور الواقع؟
فقد كان أرسطو من الحدسيين، عندما جعل وسيلة تعميم القوانين هي إدراك العلاقة بين موضوع القضية الكلية ومحمولها بالحدْس المباشر، وكان رجال العصور الوسطى من التقليديين حين وثقوا بما ورد في الكتب المقدسة وفي كتب الفلاسفة الأقدمين، وكان «بيكن» تجريبيًّا حينما اشترط المشاهدة الحسية أساسًا لجمع معلوماتنا الأولية التي نستخرج منها القوانين الطبيعية، وقد قدمنا لك كل هؤلاء. وسنقدم لك الآن ديكارت ممثلًا للعقليين بمنهجه، نقدمه لننقده، كما نقدنا أرسطو وكما نقدنا رجال العصور الوسطى، دفاعًا عن المذهب التجريبي الذي نعتقد فيه وندافع عنه.
الفكرة الرئيسية التي يدافع عنها الفلاسفة العقليون، هي أن إدراك حقائق الأشياء ليس مرهونًا بشهادة الحواس، بل هو مستند إلى مبادئ المنطق وحدها كما ترى في الرياضة مثلًا، إذ قد يستطيع عالم الرياضة أن يبني بناءه الرياضي كله، دون حاجة منه إلى استخدام حاسة من حواسه في تحقيق قضية أو بيان الصدق في استدلال، نعم إن الإدراك الحسي قد يأتي مؤيدًا لما يدركه الإنسان بعقله الخالص، لكن العيان العقلي ليس بحاجة إلى ذلك التأييد، وإذا جاء الإدراك الحسي منافيًا لما يحكم به العقل، نسبنا الخطأ إلى الأول، لاستحالة أن يخطئ الثاني.
فالقضية «أنا موجود» — مثلًا — صادقة صدقًا ضروريًّا بحكم «العقل» دون حاجة منا إلى شهادة الحواس، لأن إنكار هذه القضية يتضمن إثباتها، لأني إذا أنكر أني موجود، فإني بذلك نفسه أُثبت أني أشك، ولست أشك إلا إذا كنت موجودًا.
وقد صاغ «ديكارت» منهجه في أربع قواعد، سنعرضها فيما يلي عرضًا نقديًّا.
(١) القاعدة الأولى
«ألَّا أسلِّم بشيءٍ على أنه صدقٌ إذا لم أكن أعلم أنه كذلك، ومعنى هذا أن أحذر كل تسرع أو ميل مع الهوى، وألا أدخل في حكمي شيئًا أكثر مما كان حاضرًا أمام عقلي في وضوح وتميز، بحيث لا أجد ما يبرر لي الشك في صحته».
(١-١) تعليق
قد يسأل سائل: لماذا يشترط «ديكارت» ألا أسلم بشيء على أنه صدق إذا لم أكن أعلم أنه صدق حقًا؟ هل يمكن لإنسان أن يسلم بما هو باطل؟ والجواب بالإيجاب؛ ذلك لأن الإنسان قد يتسرع في أحكامه، لا لأنه يريد أن يسلِّم بما هو باطل، بل لعدم بذله العناية الكافية، وهو قد يميل مع الهوى في أحكامه مدفوعًا بحكم عادة تعودها، أو بدفعة شعور قوي يميل به إلى هذا الاتجاه أو ذاك، كالشعور الديني أو الشعور الوطني وما إليهما.
وكذلك من طبيعة الإنسان أن يعمم أحكامه تعميمًا مطلقًا، حتى في الحالات التي لا يثق فيها بأن الحكم ينطبق على «كل» الأفراد الذين يشملهم بحكمه، وقد يكون من أسباب ذلك نفور الإنسان من افتراض العجز العلمي في نفسه، أو كسله العقلي الذي يُهَوِّن عليه التعميم بغير عناء البحث.
ونحيل القارئ في ذلك كله على ما قلناه في «الأوهام الأربعة» عند «بيكن».
(١-٢) نقد
تبدأ القاعدة بهذه العبارة «ألا أسلِّم بشيءٍ على أنه صدق إذا لم أكن أعلم أنه كذلك …».
ونحن مع قبولنا لهذه القاعدة، نرى أنه لا بد من تحديد المراد بكلمة «صدق» لأن الصدق قد يختلف معناه باختلاف نوع القضية التي توصف به.
ننتقل بالنقد إلى جزء آخر من القاعدة الأولى، وهو قوله: «… ألا أُدخل في حكمي شيئًا أكثر مما كان حاضرًا أمام عقلي في وضوح وتميز …»
هذا بغير شك شرط أساسي لكل منهج سليم، وهو ألا أجاوز حدود المعطيات حين أتناول بالبحث شيئًا لأصل فيه إلى النتائج الصحيحة؛ لكن ما المقصود بما يكون «حاضرًا أمام العقل»؟
أول ما نحب أن نذكره في هذا الصدد، هو أن كلمة «العقل» — شأنها شأن الألفاظ الكلية جميعًا — ليس لها مدلول قائم بذاته، سوى الجزئيات التي تجمعها معًا في طائفة واحدة، ونلخص أسماءها في اسم واحد؛ فكلمة «إنسان» — مثلًا — لا تدل في عالم الحقائق إلى على طائفة من الأفراد، هم زيد وعمرو وخالد … إلخ، دون أن يكون «للإنسانية» معنى وحدها غير هؤلاء الأفراد؛ وكذلك كلمة «العقل» فليس هنالك كائن قائم بذاته، مستقل عن الحالات الشعورية من إدراك حسي وتذكر وتخيل وما إلى ذلك، تَمْثُلُ أمامه تلك الحالات، كما يَمْثُلُ التلاميذ — مثلًا — أمام الأستاذ، أو المجرمون أمام القاضي، كلا، بل «العقل» هو نفسه مجموعة هذه الحالات، كما تكون السلسلة مجموعة الحلقات، ولا زيادة.
كل حالة شعورية تشغل الإنسان في لحظة معينة من الزمان، هي إحدى الحلقات، التي من مجموعها يتكون «العقل»؛ فحين تنظر إلى الكتاب الذي أمامك، وينطبع لديك إحساس بما ترى، يكون هذا الإحساس «عقلًا»، كما يكون زيد «إنسانًا»، وحين تتذكر حديثًا قاله لك صديق فيما مضى، تكون حالة التذكر «عقلًا» كما يكون عمرو «إنسانًا»، وحين تحس وجعًا في ضرسك يكون هذا الألم «عقلًا» كما يكون خالد «إنسانًا».
فإذا فهمنا الموقف على هذا النحو، ثم قيل لنا إن حالة معينة من تلك الحالات الشعورية المتتابعة «حاضرة أمام العقل»، علمنا أن عبارة «أمام العقل» يمكن حذفها بغير أن ينقص عنصر من عناصر الموقف، لأن قولك إن حالة «س» حاضرة، أو قائمة، مساوٍ لقولك إن حالة «س» حاضرة «أمام العقل» ونعود إلى تشبيه الحلقات والسلسلة، فافرض أن سلسلة ذات عدد كبير من الحلقات تشَدُّ أمامك بحيث ترى حلقة واحدة في كل لحظة، ثم تزول الحلقة لتحل محلها حلقة أخرى وهكذا، فهل تقول عن الحلقة الواحدة إنها حاضرة أمام السلسلة؟ إنها جزء من السلسلة، وليس للسلسلة وجود إلا بكونها مجموعة حلقات رتِّبت على نحو معين.
ونحو إذ نوافق «ديكارت» على هذا المبدأ من منهجه، وهو «ألا ندخل شيئًا في الحكم أكثر مما هو حاضر أمام العقل»، فإنما نفهمه على الوجه الذي شرحناه؛ وإذن فالمبدأ هنا معناه هو ألا نضيف إلى الحالة الشعورية القائمة حالة أخرى نتبرع بها من الذاكرة أو الخيال، ولا أن ننقص من مقومات الحالة الشعورية القائمة عنصرًا؛ بل نحدد أنفسنا في حدود «المعْطَيَات» إن كان ما أمامك بقعة صفراء، فقل بقعة صفراء، ولا تقل «برتقالية»، وإن كنت تسمع صوتًا، فقل صوت صفاته كذا وكيت، ولا تقل «هذا صديقي فلان قد جاء».
فهل التزم «ديكارت» نفسه هذا المبدأ التزامًا دقيقًا؟ إنه أراد تطبيقه، فبدأ بحقيقة ذكرها على أنها هي «الحاضرة أمام عقله في وضوح وتميز» وهي حقيقة أنه موجود، قائلًا: «أنا موجود»؛ فماذا «حضر أمام عقله» فأطلق عليه كلمة «أنا»؟ إنه لم يشعر عندئذٍ إلا بحالة واحدة من الحالات الشعورية، وإذن، فهو حين قال كلمة «أنا» قد جاوز «الحاضر أمام عقله» — لأن «أنا» كلمة تطلق على الحالات الشعورية التي مضت جميعًا مضافًا إليها الحالة الشعورية الراهنة — ولم يكن حاضرًا أمام عقله في تلك اللحظة الواحدة كل تلك الحالات الماضية جميعًا، وإذن فقد تبرع من ذاكرته بأشياء أضافها إلى «الحالة الواحدة المعطاة»؛ وبالتالي فقد خرج على الشرط الذي اشترطه هو نفسه أساسًا للمنهج، والذي نقبله ونوافق عليه، ونريد له تطبيقًا أدق من تطبيق «ديكارت»، لأنك حين تلتزم الدقة في تطبيقه، سترى أنك من التجريبيين أردت ذلك أو لم تُرد.
لو أردنا أن نجعل هذا المبدأ المنهجي هاديًا نافعًا في البحث، وجب أن نتذكر الفرق بين طريقة السير في العلوم الاستنباطية كالرياضة، وطريقة السير في العلوم التجريبية كعلم الطبيعة.
تأتي بعد ذلك عبارة «الوضوح والتميز» المذكورة في القاعدة التي نناقشها؛ فليس الشرط الذي يشترطه «ديكارت» في قاعده الأولى، هو مجرد حضور الفكرة أمام العقل، بل يضيف إلى ذلك شرطًا فرعيًّا، وهو أن تكون الفكرة الحاضرة أمام العقل «واضحة متميزة».
وهو يرى هنا أيضًا أن فكرة «أنا أفكر» فيها هذا الوضوح والتميز المنشودان، حتى إنه ليتخذها مقياسًا يقاس عليه غيرها من الأفكار، فما كان في مثل وضوحها وتميزها، قبلناه على أنه بديهية لا تتطلب إقامة البرهان.
- الأولى: لسنا ندري على وجه
الدقة ماذا يراد حين يقال إن عبارة «أنا أفكر» واضحة
متميزة؛ أيكون المراد أنها واضحة بذاتها لا تحتاج إلى فكرة
سواها لكي تقوم دليلًا عليها؟ إن كان ذلك كذلك، فلسنا نأخذ
بهذا الرأي، لأنه على افتراض أن هنالك أقوالًا واضحة
بذاتها بحكم طبيعتها، فليست هذه العبارة منها، لأن القول
يكون واضحًا بذاته إذا كان نقيضه مستحيلًا، أما إذا تصورنا
إمكان وقوع النقيض، إذن فالأمر في صدق العبارة التي أمامنا
يكون متوقفًا على التجربة وحدها؛ فقولي — مثلًا — إن الشمس
تطلع كل يوم من الشرق وتغيب في الغرب، ليس واضحًا بذاته،
لأن نقيضه كان ممكن الوقوع ولم يمنعني من إثبات هذا النقيض
سوى أنه لم يقع في خبرتي، والذي دعاني إلى القول بأن الشمس
تطلع كل يوم هو أن ذلك ما وقع لي في خبرتي، وليس هنالك
مانع من مبادئ المنطق في أن يكون العكس هو الصحيح؛ إنما
المانع هو من التجربة.
كذلك عبارة «أنا أفكر» نقيضها ممكن الحدوث؛ فليس هنالك مانع منطقي يحول دون أن أكون كائنًا لا يفكر؛ والأمر محتاج إلى الخبرة، لأقرر أحد النقيضين.
إنه إذا كان المراد بالوضوح معنى الضرورة التي تجعل نقيض الشيء الذي نتصوره مستحيل الوقوع. سقط من حسابنا كل قضية إخبارية، مثل «المعادن تتمدد بالحرارة» و«الضوء يسير بسرعة كذا ميلًا في الثانية» وهلمَّ جرًّا، لأنها جميعًا مستمدة من الخبرة الحسية، وليس نقيضها مستحيلًا؛ بل كان ممكن الوقوع؛ ولم نحكم بعدم وقوعه إلا لأن الخبرة لم تدل عليه، كقولك عن صديقك في لحظة معينة إنه ليس في المنزل، لا لأن وجوده في المنزل أمر مستحيل بحكم مبادئ المنطق، بل لأن الخبرة هكذا وقعت، وكان يمكن أن تقع على غير هذه الصورة.
فإذا تذكرنا أن قضايا العلوم الطبيعية كلها، هي من هذا القبيل، كان اشتراط الوضوح بهذا المعنى — إن كان هذا هو المعنى المراد — قاضيًا عليها جميعًا بالبطلان.
أضف إلى ذلك ما زعمناه لك في موضع سابق،١٥ وهو أن ليس هنالك عبارة واحدة يمكن أن يقال عنها إنها بحكم طبيعتها واضحة بذاتها؛ إن البديهية تكون بديهية لأننا نحن أردنا لها أن تكون كذلك جزافًا، لكي يتسنى لنا أن نستنبط ما نريد استنباطه من نظريات، «فأي قضية يمكن اعتبارها بديهية، ما دمنا نستوفي بها شرطًا واحدًا، وهو أن كل القضايا الأخرى في النسق العلمي الذي نبنيه، يمكن استنباطها من مجموعة البديهيات المختارة؛ وعلى ذلك فليس كون القضية بديهية متوقفًا على خصيصة طبيعية باطنية فيما نقول عنه إنه بديهي، وليس هناك من علة في اختيارنا لقضايا معينة، وجعلها بديهية، إلا النفع العملي وسهولة السير في بنائنا العلمي».١٦ - الثانية: الحق أننا لا ندري على وجه الدقة مراد «ديكارت» من شرط الوضوح والتميز هذا، هبني — مثلًا — قد صورت لنفسي حيوانًا خياليًّا تصويريًّا واضح المعالم متميز القسمات، بحيث يُمَكِّنني وضوح الصورة وتميزها من تصويرها على الورق، أو من نقشها على الحجر، فهل يجوز لي بعد ذلك أن أصف مثل هذه الصورة باليقين، ثم هل يكون لهذا القول معنى مفهوم؟
- (١)
أن نفهم «الصدق» بمعنيين: معنى خاص بقضايا الرياضة والمنطق، ومعنى آخر خاص بقضايا العلوم الطبيعية، فهو في الحالة الأولى معناه عدم تناقض الأجزاء بعضها مع بعض، وفي الحالة الثانية معناه التطابق مع الواقع؛ والصدق في الحالة الأولى يقين، وفي الحالة الثانية احتمال.
- (٢)
أن نفهم «الحاضرات» بمعنيين: معنى خاص في حالة العلوم الاستنباطية، ومعنى آخر خاص في حالة العلوم التجريبية؛ فهي في الحالة الأولى عبارة عن المسَلَّمات المفروضة من تعريفات وبديهيات ومصادرات، وهي في الحالة الثانية معناها المعطيات الحسية.
- (٣)
ألا نفهم الوضوح والتميز بمعنى الضرورة التي يكون نقيضها مستحيل الوقوع.
(٢) القاعدة الثانية
«أن تقسم كل مشكلة نتناولها بالبحث، إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء، بمقدار ما تدعو الحالة إلى حلها على أكمل الوجوه».
(٢-١) تعليق
إن في كل مشكلة جانبًا مجهولًا، وإلا لما كانت مشكلة تتطلب التفكير والحل، وعلينا أن نكشف عن هذا المجهول، وأن نربط الصلة بينه وبين ما هو معلوم، فأهم ما نضطلع به إزاء المشكلة المعينة لحلها، هو إدراك ما يتصل بهذه المشكلة من عناصر، وإهمال ما لا صلة لها به.
والقاعدة لا شك مقبولة في أي منهج علمي: الاستنباطي منها والتجريبي على السواء.
(٣) القاعدة الثالثة
«أن أرتب أفكاري، بادئًا بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة، ثم صاعدًا خطوة بعد خطوة صعودًا متدرجًا، حتى أصل إلى معرفة ما هو أعقد؛ وإذا اقتضتني الحال، فرضتُ ترتيبًا معينًا بين الأفكار التي ليس من طبيعتها أن يتبع بعضها بعضًا».
(٣-١) تعليق
المراد بترتيب الأفكار أن تكون كل فكرة نتيجة لازمة عن الفكرة السابقة لها ومقدمة توجب الفكرة اللاحقة لها، حتى تكمل السلسلة التي تضم الأفكار كلها في الموضوع الذي نكون بصدد بحثه؛ فهندسة إقليدس — مثلًا — مرتبة بهذا المعنى، كل نظرية نتيجة تلزم عما سبقها، ومقدمة توجب ما بعدها.
ومن ثَم يتبين ضرورة حل المشكلة أولًا إلى عناصرها البسيطة، لأن هذه العناصر البسيطة هي التي سنعود — بناءً على هذه القاعدة الثالثة — إلى تركيبها وترتيبها على النحو المذكور.
أما العناصر البسيطة فندركها بالحدس المباشر؛ وبالتالي نضمن صدق الإدراك لكل خطوة على حدة؛ ثم إذا ما أدركنا مقدمتين على هذا النحو الحدسيِّ اليقيني، أمكننا أن نستنتج منهما النتيجة التي تلزم عنهما، فتكون النتيجة صحيحة أيضًا؛ ويمكن اتخاذها بدورها مقدمة لما بعدها، وهلمَّ جرًّا.
مثال ذلك: «أ» أطول من «ب»، «ب» أطول من «ﺟ» إذن «أ» أطول من «ﺟ».
(٣-٢) نقد
الخطوة الأولى في طريق السير — بعد فراغنا من عملية تحليل المشكلة إلى عناصرها البسيطة — هي الإدراك الحدسي المباشر لهذه العناصر البسيطة؛ ونحن نوافق على ذلك شكلًا، ونختلف موضوعًا؛ لأن هذه البدايات البسيطة في رأينا إذا ما كان البحث متعلقًا بعلم طبيعي كائنًا ما كان — لا بد أن تكون معطيات حسية مباشرة، أو صورها في الذهن؛ إذ يستحيل — كما يقول هيوم — أن يكون هنالك إلا انطباعات حسية وأفكار؛ وهو يعني بالأولى الانطباعات المباشرة على الحواس، وهو ما أسميناه نحن بالمعطيات الحسية، ويعني بالأفكار الصور الذهنية التي ندخرها في الذاكرة لما كان قد انطبع على حواسنا، فنستعيدها عند الحاجة إليها.
إن نقطة الخلاف الرئيسية بين المنهج التجريبي الذي نتشيع له (ما دام البحث خاصًّا بجانب من جوانب الطبيعة) ومنهج «ديكارت» العقلي، هي خطوة الابتداء: أنقيم بناءنا على مُعْطَيَات من الحس، أم على حاضرات عقلية؟ «ديكارت» يأخذ بالشطر الثاني، والمنهج التجريبي ينكر على هذه الحاضرات العقلية وجودها، ما لم تكن مستمدة من خبرة حسية سابقة.
الحواس السليمة الصادقة — لا المخطئة الخادعة — هي التي ترى البرج مستديرًا من بُعد، ومربعًا من قُرب، ولو سئلنا بعد ذلك: وما شكل البرج في حقيقته؟ مستدير من بُعْد، ومربع من قرب، وبغير ذلك لا نكون أمناء على الواقع.
وقل مثل ذلك أيضًا، عن الخطأ في الحكم الذي ينبني على الحواس الباطنة، فخطأ الشخص الذي يحس ألمًا في العضو المبتور، مصدره ظنٌّ منه بأنه ما دام قد أحس مثل هذا الألم من قبل مصحوبًا بإحساسات بصرية ولمسية للعضو المبتور، فلا بد أن يكون الألم الآن — بعد بتر العضو المريض — مصحوبًا بما كان مصحوبًا به من إحساسات بصرية ولمسية؛ فإذا نظر ولم يجد ساقه أو ذراعه التي توقع أن يراها، ظن أن الحواس قد خدعته، والخطأ في استدلاله لا في إدراكه الحسي.
أضف إلى ذلك أن الخطأ الذي نظن أن مرجعه إلى الحواس، نصححه دائمًا بالحواس نفسها، مما لا يتفق مع قولنا بأن الحواس خادعة؛ فإن كانت الحواس هي التي أدركت العصا مكسورة في الماء، فالحواس أيضًا هي التي أدركت أنها مستقيمة، وإن كانت الحواس قد أدركت البرج مستديرًا من بُعد، فهي نفسها أيضًا التي أدركته مربعًا من قُرب وهكذا … وحقيقة الأمر أن ليس هناك في هذه الحالات كلها خطأ وتصحيحه، بل كلها إدراكات صحيحة، وقد اختلفت إدراكاتنا للشيء الواحد، لأننا نحسه وهو في مواضع مختلفة وظروف مختلفة، فالعجيب هو ألا تتغير صورته المدركة حتى تتغير ظروفه، لا العكس.
(٤) القاعدة الرابعة
«ينبغي في كل حالة أن أقوم بالإحصاءات التامة والمراجعات الكاملة، بحيث أوقن أنني لم أُغفل من جوانب المشكلة شيئًا».
ونحن نذكر هذه القاعدة استيفاء للمنهج الديكارتي، وليس لنا من نقد عليها، إذ هي قاعدة مطلوبة للبحث التجريبي والبحث الرياضي على السواء.